سبحة الأستاذ بقلم:فاطمة يوسف عبد الرحيم
تاريخ النشر : 2009-06-07
سبحة الأستاذ

اعتدت منذ طفولتي النوم على شجو صوتك الحنون،تقصين مسرود ما قبل النوم من حكايات الطفولة ،وتصرّين على استخلاص القيمة الأخلاقية التي اتسمت بها القصة ، وأغفو على صوت ابتهالات الأم الرؤوم, و بالدعاء لي بمستقبل زاهر , لما تبنيه عليّ من آمال عريضة في المستقبل الواعد .
اليوم وأنا على أعتاب الشباب تصرّين على شرب كأس الشاي الساخن قبل النوم ،مقنعة إياي أنه يريح أعصابي ويجعل نومي عميقا وذهني صافيا لتقبل المواد التعليمية في الغد ، أصبح شرب الشاي أمرا اعتياديا ،ومفروغا منه . ولكن مع الأيام أخذت أشعر بدوار، عللت ذلك بسبب الإجهاد في الدراسة ، لكنني قررت تلك الليلة أن لا أ شرب الشاي فسكبته في مكان ما ،أوحيت إليك أن شاي الليلة لذيذ ، تمددت في فراشي بعد أن أنهيت دروسي استعدادا للنوم ،أطفأ ت النور، لكن الأرق أخذ يناورني أخذت أتقلب في فراشي مثل ريح تلوح بغصن غضّ .
إذا بصوت مفتاح الباب الفاصل بين غرفتي وغرفة نومك وبين أجزاء البيت الداخلية يصل إلى أذنيّ معلنا أنه يغلق بإحكام , ألف علامة استفهام اخترقت رأسي، وهوت بي إلى قيعان الشك والغرابة ، وأخذت أستعيد مواقفها وسلوكياتها لماذا نقلت غرفة نومها إلى مدخل الشقة؟ لماذا جعلت الباب حاجزا بين غرفتها وبين أجزاء البيت ؟لم تصر علىّ أن أشرب الشاي قبل النوم؟ ولم أستطع النوم الليلة أيوجد في الشاي مادة منومة ؟ أسئلة كثيرة طرقت رأسي، صوت المفتاح جعل النوم يرحل إلى آفاق بعيدة والوساوس تنخر رأسي .
خبرتي في الحياة قليلة ،الطفولة مازالت تنسحب من عمري والشباب يتدفق في حناياه ،السكون يلف المكان ،حركة دائبة في غرفتها ، طرقات خفيفة على الباب الخارجي، صريره يعوي في أذنيّ ، همسات، وشوشات ، بروق تحرق أنفاسي، شيء ما يحدث في الخارج ،ضحكات ،تأوهات،أدركت قذارة ما يحدث ، لكن عقلي لا يقبل الذي يحدث وراء الباب ، خيالي ينسج صورا مرعبة ، بكيت بمرارة ، كمن فقد أغلى ما يملك. أليست هي في قدسيتها أغلى ما أملك ، لكنها دنست طهارتها بهذا الفعل ، بصاق يتدفق على كل محتويات المكان ، قهر يدوس كل المعاني الحلوة ، تمنّيت أن تحضنني يد الموت الرؤوم ، أما هي فيد نتنة رائحتها تقتحم المكان والزمان.
بكاء الصغيرة يدمر السكون ، صوت الباب الخارجي يغلق كجرح التأم على أعظم مفسدة ، يا رياح القهر دوّي زلزلي كل ّ المساحات المضيئة في عمري، صوت ريم الصغيرة يعلو، رعب ما اكتنفها في العتمة ، الغد أظلم ، الكآبة تحتضن الأيام القادمة ، صككت أسناني على صرير صوت المفتاح ، تناومت ، نادت غاضبة على أختي الكبرى :سلوى ألا تسمعين بكاء أختك يا خبيثة لا تريدين أن أهنأ بنومي ،خادمة في النهار ومربية في الليل ،ردّت سلوى-: خالتي النوم صمّ أذنيّ ،سامحيني لم اسمعها لعلها تريد ماء ، سأتولّى أمرها تابعي نومك ، قهقهت ملء داخلي ، أنه نوم الأبالسة والأفاقين، لا يصدق ما حدث.
هذا الجرم قلب لديّ كّل المفاهيم، بعثر القيم، حول المدركات إلى أوهام، كل شيء حولي أضحى مسلوبا من عالمه ،كتمت الأمر في نفسي، فكّرت للحظة أن أعطيها مبررا ، لأن والدي في حالة سفر دائم ، أو بسبب العيون التي تغزو جسدها فتثير فيها العواصف الخامدة ،لم تكن جميلة ،لكن أنوثتها طاغية مجريات تلك الليلة أبعدتني عن الدراسة، ورمتني في دوامة الشرود.
أستاذ التربية الإسلامية يتقرب إليّ، يقتحم عليّ خلوتي، شرودي أثار فضوله ،وبلا تردد أفضت ما لديّ على مسامعه، وكان لسبحته المتموجة بريقا يسلب كل ما رأيت وما سمعت وما فّكّرت به، أصبحت رهينة لدى هذا الفاضل ،أعلنت أمامه أنّي سأقتلها لأتخلص من عارها ،قال الأستاذ ناصحا: يا بني، بل العار سيصمك إلى أن يبيض شعرك ويغضن الزمان أخاديد وجهك والقاتل مصيره جهنم – والله أعلم – وأين برّ الوالدين ؟ لا يا يني بل ادعوها إلى التوبة وأعطني فرصة لإرشادها إلى طريق التوبة ، أجبت : حاضر،تركته وأنا أحدق في تلك السبحة .
وصار همّي مراقبتها واجهتها عندما شممت رائحة عطر جارنا في فراشها ، حاصرتها عندما عثرت على منديل السائق العمومي ورفعت يدي عاليا لأضربها عندما التقطت بيدي غليون مدير البنك الذي يصرف لها شيكات والدي المرسلة من الخليج ، كان إغوائها يذيب كل قيم الفضيلة عند من توقعهم في مصيدتها، صوّبت سكينا نحو صدرها:- كل ما تقترفينه حرام هذه نار تحرقنا ،ألقت بكل سلاح للإنكار وفتحت هوة الجحيم حين اعترفت: بأفعالي هذه انتقم لكرامتي من والدك ،أذهلتني كلماتها:-لكنك تسحقين بخطيئتك كل معنىً للكرامة الإنسانية ،فتحت لي كل ملفات الزمن السحيق حين سردت : منذ سبعة عشر عاما احتل والدك حياتي حين قيدني باسم الزواج بعد أن عقد صفقة مع والدي مقابل التنازل عن قطعة أرض وكان عمري لا يتجاوز الأربعة عشرعاما،وهو يكبرني بعشرين عاما ورضيت به وهو يحمل على كتفه ابنته الوحيدة سلوى من زوجه التي لم تطق الحياة معه ,سحبني معه إلى بلاد بعيدة أعاني مرارة الفقر والغربة وبدائية الحياة البدوية .
أما حياتي الأسرية فكانت حياة مشتركة مع عائلة أخيه ، وزوجة أخيه المتسلطة ،ولاؤه المطلق لها ، معاملته لي كطفلة غريرة ، وانفرادها به يوميا في غرفتها المبردة وأنا أتقلب عل جمر الغيرة والحيرة وارتفاع الحرارة في صحن الدار وعندما أردت أن أسأل عمّا يدور في تلك الغرفة المبردة ، أرجعني مع الصغارإلى بلدي وأسكنني غرفة في حيّ فقير يرسل لي النذر اليسير من النفقة والكثير ينفقه عليها في الغرفة المبردة .
وصار يزورني كل سنتين شهر ،وكأني قطة يتربصها قطّّ شرس في موسم التزاوج ويقضي معظم وقته مع الأهل والأقارب ،ويسافر ثم يرسل رسالة مختصرة يسأل فيها عن الحمل الجديد، صرخت بعصبية:- أنا لست وعاءً لبذوره!!! وهكذا إلى أن أصبح عددكم سبعة ، سؤال اقتحم الحصار-: وهل نحن أبناء زنا،ردّت بقوة -: كلا هذه الحقيقة الوحيدة في حياتي، أنتم أبناؤه ،توسلت إليها- : التوبة يا أماه , التوبة يا أماه ،وإلا سأعلم أبي بما يحدث هنا ،-: أنتم الخاسرون ، ستعصف بحياتكم ريح التشرد ،أنا لم أقصر في حقكم ،كنت لكم مثال الأم المربية والخادمة وسمعتكم مصانة ، أنا حريصة كلّ الحرص على أن لا يعلم بعلاقاتي أحد ،هذه حياتي الخاصة .
انبريت لها غاضبا -: لكنني عرفت ،-:هذا من سوء حظي ، تجاهل هذا الأمر ، ضحكت من كلامها -: أمي أني احترق ،سددت كل الطرق أمامي ،-: رغبتي في الانتقام من أبيك مع حاجتي كـأنثى هدف في حياتي ، ما دام في الغرفة المبردة مع زوجة أخيه وأنا في صحن الدار ألتهب حريقا، أختار ما يناسبني من الرجال ، :-أستاذ التربية الإسلامية يقول أن ما تفعلينه حرام ومن الكبائر :- أستاذك هذا رجل ويحكي بمنطق الرجال ،غرقت في لجة من البكاء وهمست لنفسي-: لا أستطيع أن أكون رجلا ولا أستطيع أن أعود إلى طفولتي للخروج من هذه الدائرة المظلمة، هددتها بقتلها وقتل نفسي ،هدّأت اللعبة قليلا، لكنها لم تقلع ، أخذت الأسئلة تطنّ في رأسي ، ما سبب سقوط أمي ، هل هي شهوة الجسد التي اكتسحتها كوباء, أم لأن جدي تعامل معها كصفقة حين تجاهل انسانيتها ، أم هذا الزوج الأرعن الأناني الذي حقدت عليه، أبي ،دوامة غرقت في لجتها ،أم الفساد الذي استشرى في المجتمع ، أحاول أن أجد لها عذرا ، لكن شرقيتي أبت أن تبرر فعلتها وبنوتي تخاذلت عن التنكيل بها.
لاحظت أختي سلوى أن مقتنيات البيت الثمينة بدأت تختفي شيئا فشيئا من البيت ،هناك سرّ هل تعرف شيئا ، قلت :لا ،همست لنفسي أشم رائحة خطة للهروب لاحظت ذلك من خلال تحركاتها ، قررت أن أفعل شيئا ، اقتنيت مسدسا ، أريد ضبطها بجريمة الزنا ، سكبـت مفتاحا لباب غرفتها وأخذت أراقبها دون أن تشعر .
عند ساعة الصفر اقتحمت عليها الوكر، لكنها كانت أسرع مني ، تسرّب العشيق بسرعة أفعى تنفث السّم في كل مكان، تسمّرت في مكاني ، ودققت في أثر الجريمة ، أني أعرفها ، سبحة الأستاذ ، ضحكت ضحكا هستيريا ، وقعت يدي على المسدس ، ودائما هي الأسرع ، حملت حقيبة ملابسها وولت إلى الخارج ،القهر سحقني كان لا بدّ أن أفعل شيئا، صوّبته نحو رأسي وأطلقت ، ولم يرجعها صوت الرصاص وسلكت طريقها .
(في اليوم التالي نشر في الصحف عن انتحار شاب في ربيع العمر لأسباب مجهولة )