صفعة فوق عاتق الطفوله
بقلم سهام البيايضة
أمام صف المحلات , التي تطل على ساحة موقف السيارات ,وقفت أنتظر إبنتي الصغيرة ,التي إعتدت وعلى مدار أشهر الصيف, على إصطحابها الى المركز الثقافي, لمراجعة مواد الثانوية العامة ,كما يفعل كل الاباء والامهات ,ومع إشتداد حرارة الجو بسبب الموسم الصيفي, وكذلك الازدحام والسيارات التي تملأ المكان .أغلقت نوافذ السيارة وأدرت المكيف لأتمكن من تحمل وقت الإنتظار, الذي أحيانا يطول ,وقد نسيتني إبنتي في إنغماسها بحديث الامتحانات وأوراق أسئلة الاعوام الماضية مع زملائها في المركز.
حاولت أن أبحث عن ابنتي بين السيارات وبين جموع الطلاب والمارة لم اجدها ,ثم حملت جوالي لأتصل بها مذكرتا اياها أني في إتظارها فلا فتختصر الحديث .وفي غمرة إنشغالي بأزرار الهاتف الجوال ,سمعت طرق أصابع على شباكي المغلق , نظرت بسرعة ,وقد تفاجأة بطفلة صغيرة عيناها تكادا أن تظهرا فوق حافة الشباك السفلية ,وقد ارتفع شعرها الاشعث الخشن المنفوش ليكلل محيط وجهها الذي ضاع لونه تحت آثار السخام الأسود ,المنطلق من السيارات و إهمال الغسل والإغتسال الذي يظهر أنه ليس ,على جدول رعايتها ,أو أولويات عيشها ووجودها .
إنها مجرد طفلة صغيرة ,لم تتجاور السبعة أعوام بعد , وضعت يديها الصغيرتين على حافة باب السيارة وقد إقتربت أكثر من الشباك وفي عينيها إصرار, على أن انتبه لها وأفتح لها الشباك ,لتسمعني كلماتها وقد أمالت رأسها وظهرت على تقاطيعها المسكنة والحاجة ,تعابير حزينه ,تستدرج العطف , انطبعت فوق تقاطيع وجهها البريء .
فتحت الشباك بهدوء ونظرت اليها بصمت فلا داعي لسؤالها عما تريده .أعادت من جديد كل ما قالته لي من خلف الشباك لتتاكد أني سمعتها , تكرر نفس الكلمات ,مرة وثانيه وثالثة, وانا لازلت صامته أتفحصها ..إنها صغيرة جدا,نحيلة جدا ,وقذرة جدا لدرجة البؤس والمأساة.
رغم إرتفاع درجة الحرارة ,فهي ترتدي قميص قطني ثقيل يظهر من تحت الأكمام والقبة قميص آخر مخطط بكل الألوان,وبنطال جينز, يكاد لونه الاصلي أن يكون أزرق ,ومن تحته وعند الخصر ظهرت طيات بنطلون قطني آخر, وقد رفعته فوق بطنها, و ضيقت عليه حول خصرها ببنطلون الجينز ,الذي لم يمنحها اي زيادة بالوزن
رغم كومة الملابس التي ترتديها ظهرت نحيلة وكانها تقف على عكازتين صغيرتين من الخشب.
لم يسعفني المشهد الذي أمامي بكلمة ,ولا حتى بحرف ,وهي تستجديني :مشان الله شلن صدقه عن اولادك ...الله يخليكي شلن..الله يخليلك سيارتك شلن..مشان الله شلن!!!
لا يوجد معي فكة ,حقيبتي فارغة من النقود ,فلم أعد أحملها منذ سنوات .إلا ما أضعه أحيانا, في منفضة السيارة إحتراز من تعرضي لمتسولي الإشارات الضوئية ,ومفارق الطرق ببضائعهم المتنوعة احيانا, وبسيقان الخيزران الاخضر,وقد تطورت أعمالهم, ومن جديد بدأت أجد الورد والنرجس ,وفي الغالب علب المحارم التي يسهل على المارة شرائها بدينار أو نصف دينار ,
بحثت في منفضة السيارة التي استعملها للفكة احيانا ولحفظ الاشياء الصغيرة , لم اجد مليما أحمر,أدخلت أصابعي من تحت النابض لابحث أكثر,ثم نزعت المنفضة من مكانها حتى تراها فارغة فلا أريد باي شكل من الأشكال أن أمنع عن طفولتها ,ذلك الشلن .
نظرت إليها من جديد, لقد فهمت من حركات يدي أنني لم أجد لها شيئا,ثم ناولتها علبة العلكة التي وجدتها في المنفضه,اخذتها لتبتعد وعيني ترقبها الى إين تتجه ,وقد بدأت الشمس تغوص في مغيبها السرمدي القاني .
ركضت نحو الرصيف وقبل أن تصل الى حافته .شاهدت صبي لا يختلف حاله عن حالها , نحيل جدا ومتسخ جدا ,أخذت تحجل على قدم واحدة كما يفعل الأطفال السعداء في رشاقة وحبور, وكانها فرحة برؤيته,أو ربما كان المؤشر على إنتهاء جولتها النهارية.
عندما إقتربت منه شدها ليجلسها على عتبة احد المحلات ,جلس بقربها ,دار بينهما حديث تخلله بعض الصراخ وهي تفرك بيدها عينها.عيوني لا زالت ترقب وعقلي يترجم ,مدت يدها الى جيبتها وأخرجت ما أكتنزته من غلة النهار كله أو بعض النهار ,لتقتسمه مع هذا الصبي .الذي اخرج من جيبة بعض "القلول" الصغيرة وعلى بلاط الرصيف أخذ يرتبها ويطلق بعضها لتتفرق على بلاط الرصيف, مستمتعا بلعبته ,وعندما كان احدها يبتعد اكثر من مدى وصوله , كان يؤشر لها لتحضره, غير مبرح لمكانه ,وقد انفرجت رجلاه ليركز في اصطيادها مستمتع بصوت قرقعتها وهي تتصادم مع بعضها البعض, وعندما كانت الطفلة تحضر الشارد من القلول كانت تحاول ان تشاركه في رمي القل ,الا انه كان يصرخ بها مانعا اياها من مشاركته متعته ,واقتصر عليها متعة الذهاب والاياب في احضارها له ليبقى مستمتعا سعيدا , هو لا يزال جالس في مكانه, وفي اشارة منه جمعتها له ,ووضعها في جيبه ثم انطلقا باتجاه الرصيف الأخر ,واثناء المسير كان يقترب منها ويشدها من شعرها,وقبل ان يختفيا بين المارة رايت يده وقد انهالت على عاتقها محدثة صفعة ,إرتجفت لرؤياها من بعيد....
فاجأني إبنتي عندما فتحت باب السيارة قائلة:عذرا أمي ..هل مللت إنتظاري؟؟
بصمت , و بحركة من راسي ..اشرت لها بالنفي!!
صفعة فوق عاتق الطفولة بقلم سهام البيايضة
تاريخ النشر : 2009-05-24