الطيب صالح شكلانية الموت قراءة في موسم الهجرة إلى الشمال: بين الاستثناء والامتلاء بقلم:رامي أبو شهاب
تاريخ النشر : 2009-03-18
الطيب صالح شكلانية الموت قراءة في موسم الهجرة إلى الشمال: بين الاستثناء والامتلاء بقلم:رامي أبو شهاب


الطيب صالح شكلانية الموت

قراءة في موسم الهجرة إلى الشمال

بين الاستثناء والامتلاء

رامي أبو شهاب

حين يواري الغياب جسدا، فإن ذلك لا يعني سوى شكلانية الموت، إذ يُغيّب حضور الفيزياء ، ولكن هنالك ما يبقى، على حين يفنى كل شيء..... تبقى اللغة، التي تخلق الأشياء، بينما لا تخلق الأشياء اللغة، فما العالم سوى وجود لغوي نحن لا نمتلك منه في النهاية سوى ركام من الرموز والحروف التي تعني كل ما كان، وما سيكون. فهناك من يخلّف بضعا من لغة على شاهد قبره، وهناك من يخلّف أفقا مشعا و سرمدياً، فاللغة كما يقول رولان بارت: ليست مجرد زادٍ من الكلمات بقدر ما هي أفق.

رحيل الطيب صالح لا يعني سوى فناء الجسد- وإن كان موجعا- فإن لنا منه الكلمات المرقومة على الصفحات البيضاء...و هي ذاك الحضور الحائر والعميق... وهي التأويل لفلسفة الحياة وعبثيتها.

القراءة استثناء وامتلاء

أدرك الطيب صالح حساسية جديدة للرواية، حين اختار أن تكون رواياته ضمن عنف الكتابة في التعبير، هي تلك الروائح والأصوات، هي الأرض والإنسان، وتلك الحقيقة التي تختبئ على شرفات النيل، يسحبنا عميقا إلى معنى خصوصية المكان، حين يجعل المكان متعاليا لا بماديته، إنما بتجسيد صورته التي لا تُرى إلا للعيون التي تحب هذا المكان، تدرك جمالياته و آلامه، لتنسج منها خطابا يتعالى.

هي رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" رائعة الراحل الطيب صالح، رواية استطاعت أن تؤسس بذاتها عالميتها الخاصة، كما هو مبدعها، وإن لم تنل صكوك العالمية.... عالمية نوبل، لأن العالمية ما هي- في الحقيقة- سوى حركة مضادة تتمثل بخرق مركزية الثقافة الغربية، فما أعمال درويش، وناظم حكمت، ولوركا، و فرانز فانون، وإيمي سيزار، وسنغور، سوى دلائل على ذلك.

استثناء مبرر

إن التساؤل حول جاذبية موسم الهجرة إلى الشمال،- وهي الرواية الصادرة في ستينيات القرن العشرين- نابع من كونها حققت اختزالا زمنيا من حيث القيمة الفنية و الموضوعية، فثمة الكثير مما يمكن أن يقال حول هذه الرواية، التي وضعت كاتبها الراحل، أو وضعها كاتبها... في دائرة الامتياز والاستثنائية، إذ حققت الكثير من الامتلاء في المشهد العربي الروائي المنقوص بدونها منذ تخلقه إلى لحظة وجودها.

التساؤلات .........

تنبثق عدة تساؤلات لدى القارئ عن سر هذا الاستثناء الذي حققته هذه الرواية، مع الإشارة إلى وجود الكثير من الأعمال الروائية المتميزة للطيب الصالح، ولكن موسم الهجرة إلى الشمال كانت بمثابة ماسة ثمينة لم تتوقف يوما عن اللمعان، فهي تمتلك شيئا خاصا، يدفعها إلى أن تبقى حاضرة في وعي المتلقي، هذا التميز هو حالة خاصة، ضمنها الكاتب في عمله، وقد تولدت من حيثيات كثيرة، فما هي هذه الحيثيات؟

رواية موسوم الهجرة إلى الشمال تقدمت لتضع الذات مركزا لها، ولعل خصوصية هذا التقديم، قد قدم لها بدايةً أسرار التميز، فالطيب صالح انطلق من ذاته أولا، وهنا الذات تبدو إشكالية، كونها وضعت عناصر وأطيافاً كثيرة، تبلورت كلها حول الذات ، هذه الذات تشمل بعدا جغرافيا، وآخر عرقيا، وآخر قوميا، وآخر ثقافيا، وآخر تاريخيا. هذا مما يعني بالمحصلة النهائية قدرتها على أن تصيب حيث أرادات في وعي المتلقي .

والمتتبع لعنوان الرواية، يلمح ذلك في عتبتها النصية، فهي تنطلق من ثنائية الجغرافيا، حيث الهجرة إلى الشمال، مما يعني ثنائية الطرف الغائب عن العنوان، وهو الجنوب، وهذا الجنوب متسع جدا ليشمل كل جنوب في مواجهة كل شمال، ومن ثم تتسع الرواية، حين نرى بعدا عرقيا، يتمثل ببطل الرواية مصطفى سعيد، وهو أسود البشرة، مما يفتح اتصالاً مع القراءة الكولونيالية، التي تقوم على الفارق العرقي القائم على تفوق الأبيض، وهنا نلحظ اتساع الدائرة، فتبدو ذاتاً شمولية كونية، تتعالق بدورها مع البنية الثقافة، ونعني هنا الثقافة العربية الإسلامية، كون بطل الرواية أي مصطفى سعيد، هو سوداني... أي عربي- إفريقي مسلم. وهكذا تبدو الدائرة آخذة بالاتساع، فتصبح الرواية كأنها طبقات جيولوجية من الأبعاد الثقافية، ولعل بعدا جديدا وقراءة جديدة تصبح مستحقة، حين نرى الشمال ممثلا ببريطانيا، وهي جزء من كل، باعتبارها مركز الإمبريالية في بداية القرن العشرين، وهي التي استعمرت أجزاء كبيرة من العالم، ومنها الرقعة العربية... هكذا تبدو رحلة مصطفى سعيد نحو الشمال، هي رحلة نحو الرجل الأبيض، والمستعمِر، والمتسلط، والمستعلي، فلا غرو أن نتذكر عبارة مصطفى سعيد، وهو يقول: إني أسمع قعقعة خيول اللنبي وهي تطأ أرض القدس.

هذا التشابك الذي أحدثه الطيب الصالح على صعيد معالجة الذات، كان بمثابة تقنية فنية عملت على تكوين دائرة تتسع مدراتها، مما أوجد بنية متواشجة مع العديد من القضايا والتقاطعات الفكرية والثقافية والاجتماعية على حد سواء.

ومن هنا تُبنى الرواية على ركنيين أساسيين؛ يتمثلان بالبعد التاريخي والسياسي، خاصة بين المستعمِر والمستعمَر، وهنا نلجأ إلى تقنية منظري الكولونيالية، وهي نظرية التمثيل السردي، حيث نجح الطيب صالح في تحقيق بناء صورة الآخر. فنحن نطالع بناء للذات ضمن ثنائيات متعددة، وهي ذات المستعمِر والمستعمَر، والأبيض والأسود، و العربي والغربي، الأوربي والإفريقي، الغني والفقير، كل هذه الأطراف تبدو حاضرة في نسيج الرواية، التي اتسمت بقدرة عالية على بناء تلك التصورات، فمصطفى سعيد ارتحل نحو الغرب، ولكنه عاد إلى عمق السودان، وقرر أن يكون مصيره في ماء النيل كدلالة على الانحياز- وعلى كل حال- فإنه قبل كل ذلك، ساهم في البناء، أو التمثيل عبر رحلته نحو الشمال، إذ أوجد تصورا شموليا للآخر، حين واجه الآخر، و واجه معه تصورات مسبقة، إذ اُختزل (سعيد) بمفاهيم، منها، كونه آلهة جنسية بالنسبة للأنثى البيضاء، التي سُحرت بأجواء إفريقيا، ورائحة البخور. وقد عنى سعيد للآخر بأنه البعيد والسحري والغامض، و هو تجسيد لرمزية الأرض القابلة لأن تكون مصدرا لتغذية المصالح الإمبريالية المخبوءة، إن مفهوم الاستلاب أو الانتقام، كان متوفرا في مشهد الغزو المضاد، الذي قاده مصطفى سعيد، ولكن حينها، طُلب منه أن يتنازل عن رموزه الثقافية. ولم يكن لدى سعيد إلا أن يصرخ رافضا هذا التمثيل حين قال: " أنا لست عطيل، عطيل أكذوبة، اقتلوا الأكذوبة".

مما لا شك فيه، أن الفضاء الثقافي الذي اختلقه الطيب الصالح في روايته، قد أدخلها في تعدد القراءات، ونحن نحاول أن نقبض على شخصية مصطفى سعيد، وتحليلها ينبثق البعد النفسي المتكئ من منطلق التحليل النفسي القائم على سبر أغوار الشخصية المركزية في الرواية، ولا سيما ونحن نقرأ توترات تلك الشخصية في طبيعة تعاطيها مع الأشياء، والأماكن، والأشخاص، فنقرأ توتر علاقة مصطفى سعيد بأمه، ومع المرأة، ومع القرية، والتقاليد، والثقافة، فتبدو الشخصية ذات قابلية للبحث والآخذ والعطاء، ضمن هذا المستوى.

إن هذا التداخل على صعيد المعالجة الموضوعية للرواية، جعلها على صغر حجمها محملة بما يمكن أن يقال لدى كل متلق، ولكل ناقد، حين ينطلق كلٌ من منهجه الخاص، ومن رؤيته وزاويته الخاصة. ونتيجة لذلك، تبقى الرواية متميزة على صعيد البنية الفنية التي شكل من خلالها الطيب الصالح تقدمية وثورية عالية المستوى، إذ نسج الرواية بتقنية سردية اتخذت من الراوي المشارك في الحدث أسلوبا، وهنا تبدو الرواية قائمة على ثنائية أخرى، وهي السارد المتقاطع والمتوازي مع مصطفى سعيد، فندخل في لعبة سردية، حين نتعرف على أحداث الرواية عبر الراوي، الذي يستمع لجزء من القصة من مصطفى سعيد نفسه، ولكنه يكمل باقي القصة، حين يعود إلى منزل مصطفى سعيد في القرية، ويعثر على ما يمكن أن تكتمل القصة به، هذه التقنية ثورية في التقديم السردي، الذي نستحضره لدى الروائي الفلسطيني "جبرا إبراهيم جبرا" في روايته " البحث عن وليد مسعود "، حين ترك شريطا ( كاسيت ) في مسجلة السيارة، كي يقوم بمهمة سرد وبناء شخصية وليد مسعود في النسيج الروائي.

إن السارد أو الروائي، وهو هنا شخصية محورية في الرواية، عمل الطيب صالح على تغييب اسمهه في الرواية، فبدت كمدخل موفق في وضع الرواية ضمن بؤرة مركزية، ولكن هذه البؤرة كانت وهمية، فما هي إلا انعكاس فقط لشخصية مصطفى سعيد، حيث أراد الطيب صالح، أن تبدو أي شخصية سعيد عبر الشخصية الأخرى ( السارد المغيب الاسم)، وهنا نستحضر مطلع الرواية حين يقول السارد : " عدت يا سادتي بعد غيبة طويلة ...." ، فهل الذي يتحدث هنا هو شخصية الراوي أو السارد فعلا ؟ على ما أعتقد فإن عنف العبارة، يشي باختزال كبير لمفهوم الرواية، حين تكسر حلقة الهجرة نحو الشمال، بالتأكيد على العودة، ولو بعد غيبة طويلة، وهذه العبارة ما هي إلا صوت مصطفى سعيد المتواري خلف شخصية الراوي، فالشخصيتان تتقاطعان، ولكن في النهاية تبدو شخصية الراوي ( السارد)، حالة امتداد لشخصية مصطفى سعيد، وهي في المحصلة النهائية تصويب مسار ما خطه سعيد، أو هي نكوص نحو هجرة معاكسة، فتصبح الرواية معكوس الحدث، ونعني هنا العودة و هي الصيغة النهائية، فقد كانت هي نقطة البدء على اعتبار أن الاختيار المكاني لبدء السرد، قد بدأ من الجنوب، وهو الاقتران اللغوي بعبارة " عدت يا سادتي بعد غيبة طويلة، وهذا ما يفسر قيام شخصية الراوي بحرق ماضي مصطفى سعيد، كدلالة على بتر ما كان يمثله سعيد، الذي بدا مرآة لشخصية السارد حيث لم يجد بدا إلا بالتخلص مما تحتويه من إرث، طالما شكل عامل ضغط على هذا الراوي – السارد ( المجهول ) .

وفي جانب الرؤية الفنية يبدو الجنس كأحد الموضوعات التي عملت على وضع الرواية في دائرة النقاش والجدل، حين قدمت في بنيتها اللغوية تحديدا كسراً للتابو الجنسي، فبدا الجنس في بضع المواقع طاغيا لمن لا يتقن فهم الحاجة إلى هذا التوظيف، كون الرواية تتكئ على ثيمة الجنوسة النابعة من العمق الثقافي للصراعات الحضارية بين الأعراق، فغالبا ما تم اللجوء إلى التمثيل الجنسي، ولا سيما في آداب المستعمرين، فثمة دور يمارسه البعد الجنسي، كما تنص بعض أدبيات الآخر، ومنها تصوير المرأة الشرقية على أنها شهوانية تتوق إلى الفحولة الأوروبية، أو السيد الأبيض المهذب، و هنالك تمثيلات أخرى عمدت إلى تصوير الشرقي بأنه شهواني وعصبي المزاج، وغير ذلك من تمثيلات آداب الآخر، ولعل في كتاب " آنيا لومبا" نظرية ما بعد الاستعمار الأدبية تفصيلا كبيرا حول هذا الموضوع، يمكن العودة له.

في المحصلة النهائية فإن توظيف الجنس كثيمة في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، قد أضفى عليها سحرا خاصا، هذا السحر عائد إلى قدرة هذه الثيمة على رفد المقولات الثقافية التي احتوتها الرواية، والتي لم تكن لتكتمل، لولا هذه الجرأة في المعالجة السردية، فجاءت المحمولات اللغوية المعبرة عن الجنس في سياقها الخاص، ولم تكن فقط أداة للجاذبية، بقدر ما كانت تحقق جاذبية صدوقية الأداء اللغوي لشخصيات الرواية، وهي تتسم بطبيعة حسية محملة بشفافية فكرية عميقة، على اعتبار أنها مشكل فكري، وثيمة محورية في العمل الروائي.

تبقى موسم الهجرة إلى الشمال علامة من علامات التميز العربي على الصعيد الروائي العالمي، ويبقى منشؤها الراحل الطيب صالح عبقرية، مارست تغذية جماليات وفكر المتلقي العربي بمجموعة من الأعمال الأدبية، التي خطها الراحل، حيث ستبقى كلماته ولغته حاضرة، وإن غاب....

[email protected]