قراءة في كتاب" أبو المسك كافور "بقلم: محمد عبده العباسي
تاريخ النشر : 2009-03-16
قراءة في كتاب

اسم الكتاب : أبو المسك كافور

المؤلف : ابراهيم الإبياري

الناشر :دار الفكر العربي

الطبعة الأولي : 1383هـ / 1962م

ــــــــــــــــ

في خلال رحلة طويلة من تاريخ مصر ، جاءت صفحات هذا الكتاب التي استغرقت مئة وثلاث وستين صفحة من القطع المتوسط ، اجتاز بنا المؤلف ابراهيم الإبياري مراحل تاريخ مصر منذ الحقب الطويلة التي امتدت بامتداد الحكم المصري في دوله الثلاث : القديمة والوسطي والحديثة يؤكد المؤلف " أن مصر كما لم تُعط الفرس لم تُعط الرومان عن رضي ، ولم تدخل في حياة الفرس كما لم تدخل في حياة الرومان لساناً وفكراً وعقيدة ، كما دخلت في حياة العرب لساناً وفكراً وعقيدة ، ولم تخلط حياتها بحياة الفرس والرومان كما خلطتها بحياة العرب ، ولم تنس مالها بما للفرس والرومان كما نسيته بما للعرب ولم تسع لأن تجعل من حياتها مع حياة الفرس والرومان حياة واحدة كما فعلت مع العرب ، عاشت مع الغزو الفارسي ومع الغزو الروماني أمة مقهورة تسعي للخلاص ما وسعها السعي ، علي حين استقبلت العرب تصل حبلها بحبلهم بعد أن أستقبلت لغتهم ومعتقدهم وفكرهم فإذا هي وإياهم أمة واحدة أُنسي فيها الغالب والمغلوب ، وذكر هؤلاء وهؤلاء أنهم شعب واحد تربط مابينه روابط قديمة ، فصل الزمن مابينها حيناً ثم عاد فربط مابينها برباط وثيق ".

يستهل المؤلف كتابه بإهدائه " إلي الذين يعنيهم ماضيهم ليفيدوا منه في مستقبلهم "

ويمهد المؤلف للكتاب موضحاً بأنه صفحة من تاريخ مصر الخاص حسب أنها من تاريخها العام وأوضح لمن أراد أن يعرف تاريخ مصر أن عليه السعي لمعرفته بلونيه الخاص والعام.

يضم الكتاب بين دفتيه 18 فصلاً استهلها المؤلف بتعريف ما لمصر من مكانة ، وأشار بما لأقباط مصر من أيادٍ بيضاء في جزيرة العرب ، فحين اجتمعت قريش لبناء الكعبة وهم علي جاهليتهم قبل بعثة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بما يقرب من خمس سنين كان من بين القرشيين قبطُ بمكة يحترفون صناعات ، ومن بينهم نجار وكّلت إليهم قريش أمر تسقيف الكعبة ..

كما ويحدثنا الكتاب عن وصول عمرو بن العاص إلي الإسكندرية وحضوره أحد أعياد المصريين حيث هم فيه يترامون بكرة بينهم فمن تقع الكرة في حجره كان مُلك الإسكندرية له .

فكما دخل ذلك القبطي في حياة العرب وشاركهم في بناء البيت ، دخل عمرو العاص في حياة المصريين فشاركهم في المُلك ، بعد أن داءها فاتحاً يحمل وهو يحمل لواء الإسلام إليها لينتشر بعد ذلك في كل شمال أفريقيا وربوعها..

تحدث المؤلف عن علاقة رسول الله صلي الله عليه وسلم الوطيدة بمصر وقصة زواجه من السيدة مارية القبطية التي أنجبت له إبنه إبراهيم الذي مات طفلاً ، وكيف أوصي الرسول الكريم بأهل مصر خيراً فقال

ـ : إذا دخلتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً ..

وذكّر به الحسن بن علي رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان فجعله يضع عن أهل حفن من كورة أنصنا ـ حيث ولدت السيدة مارية القبطية ـ خراج الأرض .

وعن فتح مصر علي يدي عمرو بن العاص في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوضح المؤلف كيف مد المصريين أيديهم وهن يرحبون بالفتح الإسلامي الذي خلصهم من حكم الرومان ، وبيّن كيف استقام اللسان المصري مع اللسان العربي ، وكيف استقبلت مصر ولاة آخرين من أمثال عبد الله بن أبي السرح وابن أبي حذيفة وقيس بن سعد والأشتر بن مالك ومحمد بن أبي بكر .

وولج بنا المؤلف إلي فترة الحكم الأموي ثم انتقل إلي زمن الحكم العباسي وتناول مسألة انتقال الحكم من والٍ إلي آخر حتي استقر الأمر لأحمد بن طولون الذي بني القطائع ثم أورث مصر لأبنائه من بعده ، لتنتقل المسيرة من بعدهم إلي محمد بن طغج الأخشيد الذي تولي حكم مصر بعد موت تكين ، ويفرد المؤلف الصفحات لتعريف القارئ بشخصية الإخشيد الذي ينسب إلي فرغانة وهي كورة فيما وراء النهر متأخمة لتركستان ، ويقدم تعريفاً للقبه الذي هو لقب ملوك فرغانة كما أن ( أصبهبذ ) لقب ملوك طبرستان ، (صول ) لقب ملوك جرجان ، و( خاقان ) لقب ملوك الترك ، و(الأفشين ) لقب ملوك الروم ، و( كسري) لقب ملوك العجم ، و( النجاشي ) لقب الحبشة ، وفرعون لقب ملوك مصر كان لقب محمد بن طغج هو الأخشيد ، الذي يصفه المؤلف بقوله " وما كان محمد بن طغج رجلاً خاملاً لا يفيد من الظروف المتاحة له ، بل كان يقظاً وكان حازماً وكان مدبراً".

وأورد المؤلف في الكتاب قصة الطائر الذي حلق فوق رأسه ذات يوم ثلاث مرات وهو يومئذ في دمشق وقال نفر من الناس وقتها أن من تمني من الله أمنية ساعتها تحققت له ، وأكد البعض بأنه أحد الناس سمع محمد بن طغج وهو يتمني أن يصبح له مُلك مصر.

وبوصول ابن ظغج إلي سدة الحكم في مصر سعي لتعضيد ملكه فقام بتزويج ابنته إلي إبن أبي الفضل الذى كان يتمتع بمكانة كبيرة عند الخليفة العباسي في بغداد وحمّله الأخشيد الهدايا والخُلع رغبة في نيل رضا الخليفة في بغداد وتعبيراً عن انضوائه تحت اللواء العباسي ..

وقتها فضّل الإخشيد ولاية مصر عام 323هـ م عن عرض قدمه له الخليفة المستكفي بتولي إمارة بغداد التي رفضها ، واستمر قرابة اثنتا عشرة عاماً جالساً علي سرير الحكم فيها ، حتي مات في ذي الحجة من عام 334هـ وتركها من بعده لإبنه أونوجور الذي كان في وقتها قد بلغ الخامسة عشرة من عمره بالكاد ، ونظراً لصغر سنه فقد كادت الأمور أن تفلت من يده لتقع في يد عمه الحسن بن طغج الذي رأي أنه أكثر استحقاقاً لولاية مصر من ابن أخيه ، لولا أن وجد الصغير العون من قبل الخليفة في بغداد إضافة إلي أن الخليفة المتقي قدعهد الولاية من قبل لأبيه ، ووجد الصبي إلي جواره رجالاً عضدوا من ملكه وساندوه كان منهما رجلان أولهما يدعي الماذرائي وهو أبي بكر محمد بن علي والثاني هو كافور الإخشيدي .

والماذرائي كما يقول المؤلف كان أحد أفراد أسرة نزحت من ماذرايا وهي قرية قرب البصرة بالعراق ، استطاعت هذه الأسرة أن تكون صاحبة يد طولي في مصر لفترة طويلة من الزمن ، فالجد الأكبر قدم إلي مصر زمن أحمد بن طولون وتولي الخراج بها واستطاع هذا الجد أن يلم من حوله أهله فأغدق عليهم المال الكثير فقد كان مطلق السراح في إدارة مصر ، وحين وافته المنية وكل الأمر لإبنه الذي كان وزيراً لخمارويه بن أحمد بن طولون ، وكان خمارويه هذا قد استولي علي الأموال التي كان يحتفظ بها أبيه في حوزة ابن مهاجر وجعلها في يد الماذرائي الجديد .

وفي تلك الأثناء كتب كافور الإخشيدي للماذرائي وهو يومئذ بالشام ثم قدم إليها وأونوجور وقتها علي حكم مصر والشام مدة 15 عاماً انتقل الحكم فيها لأخيه علي الذي اعتلي سدة الحكم علي أكتاف كافور وهو غُر في الثالثة والعشرين من عمره ، وأقر له الخليفة في بغداد بالولاية وبما رآه كافور نفسه ، وهنا سنحت الفرصة لكافور في أن تصبح مقاليد الحكم في يده كما سبق وأن كانت كذلك علي الرغم من وجود أونوجور نفسه ..

وأصبح كافور الإخشيدي علي رأس الحكم في مصر بعد أن مات علي عام 355هـ ، وقيام كافور بعد ذلك بإقصاء ابن لعلي كان صغيراً اسمه أحمد بن علي .

ويروي أن أبا المسك كافور لم يكن ليتيح لأونوجور هذا الفرصة كي يمرن نفسه علي الحكم فيفيد منه ولم يكن ليدعه يظهر للناس حتي لا يعرفونه ، أفل نجم أونوجور سريعاً ليسطع نجم كافور الذي دعا له الخطباء علي المنابر دون أونوجور ، في الوقت الذي كان ينال فيه أونوجور ما خصصه له كافور من مال بلغ أربعمائة ألف دينار في العام.

وآلت الأمور لأبي المسك كافور الذي ملك السلطة والمال في يده ، وضاق الأمر بأونوجور وقتها فترك العاصمة وادعي بأنه سيخرج للهو والصيد ، فاتجه إلي ناحية الرملة بأرض فلسطين ليمكن نفسه ويجمع شتات من حوله ومن هم برمون بأبي المسك ، وفي قرارة نفسه ونيته انتزاع ما سُلب من ملكه ، ولكن أماً لأونوجور كانت أبصر من ابنها رأت بأن الضجر بأبي المسك لم ينته إلي قلوب كثيرة من ذوي النفوذ ، والجند علي الدوام رهن بأرزاقهم يعطون قلوبهم حيث يضمنونها ، ورأت أن مافي خزائن ابنها لا يكفي فهو شئ قليل لا يكاد أن يكفي ماهم طامعون فيه ، فحذرت ابنها من مغبة الهزيمة ، ورأت في الوقوف إلي جانب أبي المسك مزية ومكسباً لأسرتها ، وهنا نجد أن كافور قد تنازل عن جانب من كبريائه وبطيب خاطر كتب لأونوجور يسترضيه ويمنيه ، ولكن الملك الصغير كان قد نسي مسألة الملك هذه وقنع بما يصله من دريهمات ، وهنا أصبحت الأمور جادة وبقي كل شئ في يدي أبي المسك من جديد ، وظل الأمر هكذا حيث مات أونوجور عن عمر يناهز الثلاثين عاماً وذلك في سنة تسع وأربعين ومائتين من الهجرة عاش منها أبي المسك كافور في ظل أونوجور سلطاناً حقيقياً ممسكاً بكل مقاليد الحكم مدة أربعة عشرة عاماً ، وقيل أن كافور دس له السم ليستريح منه وليزيحه من طريقه ، فتولي من بعده أخوه علي بن الإخشيد الذي كانت نفسه تمتلئ رعباً من سطوة كافور وشدة بأسه ، وكافور يعطي لعلي بن الأخشيد مثلما كان يعطيه شقيقه أونوجور في السابق ، ولكن السلطة التي قبض عليها كافور بشدة جعلته يُضيق الخناق عليه فلم يتركه يظهر للشعب مما جعل الصبي ينحدر إلي حياة اللهو والدعة ثم اتجه للإنقطاع للعبادة يجد فيها سلواه ، حتي إذا أرهقته العبادة شمر عن ساعديه ليبحث عن حقه المسلوب يطلبه ، فما كان من كافور إلا أن عجل بموته بعد أن دس له السم أيضاً .

ومن خلال صفحات الكتاب يقدم لنا المؤلف سيرة حياة كافور الذي قدم لمصر مع من جلبوا إليها من عبيد يباعون في أسواقها من السودان أو النوبة وهو بين العاشرة والرابعة عشرة .

ولم يكن كافور علي سواده وسيماً بل كان دميماً قبيح الشكل مثقوب الشفة السفلي مشوه القدمين بطيئاً ثقيل القدم ، لم يعرف حياة القصور ، فوقع في يد أحد تجار الزيوت فسخره في شئون شتي .

وقاسي كافور الأمرين وهويعاني من أحمال ناء بها كاهله ، فبين نير معصرة الزيت التي يديرها ، يدوس برجليه الكُسب ثم يقوم بحمل الأواني علي منكبيه ليجر بعدها العجلات بيديه في عمل يومي شاق ، يفترش الأرض بعدها لينام في النهاية كأنما قد كتب عليه أن يظل متمرغاً في الزيت بلا نهاية ، بل ولقي الكثير من العنت من سيده .

كل هذا العناء جعل من كافور رجلاً قوياً وقادراً علي مواجهة الصعاب بل وشد من أزره حتي إذا خرج من تحت قبضة الزيات وقع في يد محمود بن وهب بن عباس الكاتب ، وهنا بدأ الحظ يبتسم له ..

كانت تلك النقلة هي أول الطريق نحو المجد الذي أفضي به إلي الخير فعرف كافور السبيل نحو القراءة والكتابة فنفض يديه متاعب المعصرة وأدران الزيت فالسيد الجديد ابن عباس الكاتب هذا كان موصولاً بمحمد بن طغج ويعرفه منذ كان قائداً من قادة تكين أمير مصر وقتها وقبل أن يصبح ابن طغج علي حكم مصر .

شاءت المقادير أن يحمل كافور هدية من مولاه إلي ابن طغج ، وحين رأه الإخشيد انفتح له قلبه من أول وهلة ، فسعي لشراء هذا الصبي الأسود مقابل ثمانية عشرة ديناراً دفعها ثمناً له..

وهنا بدأت المسيرة التي كان الجد والإجتهاد شعار صاحبها والسبيل لبلوغ مرادها ، فمنذ أن حل كافور بمصر وهو يملك نفساً كبيرة ويحمل بين جوانحه قلباً كبيراً وآمالاً عريضة ، لم لا وهو الذي راوده الحلم وهو عبد صغير يباع ويشتري ، ولم يكن حلم مثل هذا الدميم القبيح أكثر من أن يجد في كنف أي سيد يملكه سوي سكن يأويه ولقمة يسد بها جوعه ، وشربة ماء يروي بها ظمأه ..

ويروون عن كافور وقت أن جلب إلي سوق النخاسة أنه مر ذات يوم بسوق من الأسواق بصحبة عبد مثله ، وسارا معاً يتطلعان فقال له صاحبه :

ـ أتمني لو اشتراني طباخ فأعيش عمري شبعان بما أصيب من مطبخه .

ولكن أبا المسك قال : ـ أتمني أن أملك هذه المدينة .

وزاد الرواة فقالوا :

ـ إن أبا المسك بعد أن أصبح ملكاً مر بتلك السوق ، فرأي صاحب الأمس يحتويه دكان طباخ ، فضحك وقال : لقد أدرك كل منا ما تمني .

ومن هنا نجد أن من الخصال التي تميز بها كافور هي أخذ الأمور مأخذ الجد ، وحدث أن انفرد كافوربأحد المنجمين لينظر له في نَجمه ،فما كان من المنجم إلا أن بشره بأنه سيصير ذات يوم جليل القدر ، وسوف يبلغ مبلغاً عظيماً ، ولو لم يكن كافور يمتلك اصراراً وعزيمة لأستهان برؤية المنجم ووجد فيها ما يظنه عبثاً ، ولكن الكلمة راقت لأبي المسك وصادفت في نفسه هوي كثيراً ، فأخرج ما في جيبه دراهم وقتها ليعطيه للمنجم الذي أمسك بالدرهمين وراح يبكته بعد أن وجدهما بخساً في حقه ثم قال له :

ـ أبشرك بشري عظيمة وتجازيني عليها دراهم قليلة ؟.

وقتها شعر كافور بالخجل فلم يكن يملك المزيد ، ولكن المنجم رغم هذا البخس عاد ليخبره :

ـ وأزيدك أنك سوف تملك هذا البلد .

كل هذا بالطبع يذكرنا بعمرو بن العاص حين سقطت الكرة في حجره وما كانت لتقع إلا في حجر من يملك مصر ، ومثل ما حدث لإبن طغج أيضاً حين حام فوق رأسه طائر معروف وماكان هذا الطائر ليحوم إلا حول رأس من يجاب إلي ما يتمني ، وأخيراً نجد أن الأمر قد اختلف ، فهاهو المنجم يقول كلمته .

وجرت الكثير من القصص عن أبي المسك علي ألسنة الناس منها طرد سيده له ، وراح يهيم علي وجهه في الطرقات لا يجد ما يقيم به أوده وألجأه الجوع إلي طباخ ضاق ذرعاً به فضربه بمغرفة ساخنة كانت بيده ضربة شديدة ، فوقع كافور علي الأرض مغشياً عليه من شدة ما يتضور به من الجوع ..

ومما يذكره المؤلف عن أبي المسك وصفه بقوله " وما نشك في أن أبا المسك كان ذكياً وكان فطناً وكان لبقاً ، أدرك فيه ذلك مولاه الإخشيد ، لم يدركه رجماً بالغيب وإنما أدركه عن اختبار، فإذا هو يقول بعد هذا الإختبار : والله لأورث دولة ابن طغج غير هذا العبد ، وهو يعني أبا المسك ".

كان محمد بن طغج الأخشيد يحب أبا المسك حباُ جماً كما يحب أولاده تماماً ، ولم يقل مقولته السابقة إلا اعترافاً بما امتلأ به وجدانه وأملاه عليه حسه تجاه كافور ..

ومما أورده الرواة أن الأخشيد قد جلس يوماً للفرجة علي فيل وزرافة ، ونظر الإخشيد من حوله فوجدعبيده من حوله قد انشغلوا جميعاً بهذا الأمر إلا واحداً فقط ، ولم يكن هذا الواحد سوي كافور نفسه الذي ظل نظره معلقاً بمولاه كأنما هو يخشي أن ينشغل عن أمر شغل سيده ولم يجد نفسه طوع أمره ،فامتلأت نفس الإخشيد إعجاباً به .

كل هذا جعل الإخشيد يقول : ليكونن لهذا العبد شأن .

ويروي المؤرخون أن الإخشيد اشتهي ذات يوم نوعاً من الطعام ، فأبي كافور إلا أن يحمله إليه بنفسه فقد أدرك بوعيه وحسن فطنته مدي مايرضي الملوك فكما تشبع نفوسهم كذلك تشبع بطونهم ..

ومن هنا ملأ أبو المسك علي الإخشيد جل أمره فلم يكن يدعه في يقظته كما لم يتركه حتي في منامه .



وروي الرواة أيضاً أن الإخشيد رأي في منامه كأنه أسلم إلي غلام من أكبرغلمانه شيئاً فلم يقم به فنقله إلي غيره فلم يقم به أيضاً حتي أسلمه إلي أبي المسك في النهاية فقام به .

وآل الأمر لكافور ، وكما أرضي مولاه ، أرضي الناس بلين جانبه وعطفه فملك منهم قلوبهم فذكروا محاسنه وكرمه وعدله ونسوا في المقابل رقه وعبوديته ، ومن حول أبي المسك يعينونه ، فمضت الأيام في رخاء يعطيهم ويعطونه ، فقد كان سماط أبي المسك يُمد في كل يوم لمن حوله ينالون منه طعاماً ، وكان يحتوي علي مائتي خروف من الخراف الكبيرة ، ومائة أخري من الخراف الصغيرة ، غير مائتي وخمسين إوزة وخمسمائة دجاجة وألف طير من الحمام ، ومائة صحن من الحلوي في كل صحن منها عشرة أرطال إلي جانب مائتين وخمسين قربة من شراب الليمون المحلي بالسكر ..

وكان يرسل في كل ليلة عيد حِمل بغل من المال في صُرر كتب علي كل صُرة منها اسم صاحبها بين عالم وزاهد وفقير ومحتاج ، كما كان يرسل مع الحجيج في كل عام مالاً وطعاماً وثياباً ليتم توزيعها علي المعوذين وآل البيت ..

وكان من سخاء كافور ورحابة عطائه أنه لم ينس حين رأي في المنام المنجم الذي بشره بحكم مصر ، فحين أصبح جد في البحث عنه حتي عرف أنه قد غادر الدنيا فراح يبحث عن أولاده فإذا هو يعرف أن له بنتان إحداهما تزوجت والأخري لم تزل عذراء فأمر لهما بدار وقدم للصغيرة مائتي دينار هدية عرسها ..

لم يكن كافور لينكر جميلاً أسدي له فكان رجلاً سليم النفس برئ القلب في عزه كما كان في مهانته لم يبطره سلطان .

ويروون أن أبا جعفر مسلم بن عبيد الله بن طاهر وهو من العلويين كان يساير أبا المسك يوماً وخلفهما بغال عليها أمتعة ومال ، وبينما هما يمضيان سقطت مقرعة لأبي المسك ولم يرها أحد من خدمه أو حاشيته فنزل هذا العلوي بعد أن رآها وحملها إلي كافور وسلمها له ، فما من كافور إلا أن قال لهذا العلوي معاتباً :

ـ أيها الشريف أعوذ بالله من بلوغ الغاية ، ماظننت أن الزمان يبلغني إلي أن يُفعل بي هذا ..

وحين بلغ أبو المسك قصره والعلوي يودعه فما كان من أبي المسك إلا أن أرسل في إثره البغال بما عليها من متاع ومال قيل أن حِملها كان يزيد عن خمسة عشر ألف دينار.

قد يظن أحدأ أن كافور بفعلته تلك كان ضعيفاً أو يراوده إحساس بالضعة وقلة الأصل ، بل فعل ذلك بنفس عالية واستقامة همة تنم عن حسن الطوية ، تلك النفس التي رأت وهي في قمة الصفاء بحكنته أيضاً أن أولي الناس بخيرها هو عدوها ، وخير صورة لذلك قصة هذا الرجل الي سيق إلي كافور وكان يعرض به قبل ذلك في الأسواق ، وراح يشرح للناس مدي هوان هذه الدنيا علي الله تعالي مخبراً إياهم بأن إقبال الدنيا علي أمثال ابن بويه في بغداد وهو أشل ، وإلي كافور بمصر وهو عبد مخصي خير دليل علي ذلك، فلم يبطش به وهو القادر ، بل عفا عنه وقام علي مكافأته بمائة دينار وأعلن للناس أن فعلة الرجل تلك لم تكن إلا لجفوة منه نفسه ، وصدّق الناس بعدها قول الرجل :

ـ ماأنجب من ولد حام إلا ثلاثة : لقمان وبلال المؤذن وكافور ..

وكان كافور بعد أن يفرغ من قضاء حوائج الناس يتهجد وهو يسجد لله شاكراً وهو يقول :

ـ اللهم لا تسلط علّي مخلوقاً ..

ولقي أبو المسك ربه في جمادي الأولي سنة سبع وخمسين وثلثمائة من الهجرة بعد انفرد بالحكم وحده مدة سنتين وأربعة أشهر.

وقد شغل أبا المسك كافور دولة بني الإخشيد قرابة واحداً وعشرين سنة أوتزيد قليلاً كانت هذه الدولة قد دام حكمها لمصر مدة أربعاً وثلاثين عاماً ، عاش كافور يدبر أمور الحكم فيها مع مولاه ، حتي لقد قيل ان هذه الدولة ماحكمت بقدر ماكان الحكم فيها لكافور ذاته ، بل ويمكن القول أن دولة بني الإخشيد هي التي سوت الطريق وجعلته ممهداَ ليفتح سبيل حكم مصر أمام هذا الرجل ، الذي ملأ مكانه كما لم يملأه أحد من قبله ، حتي أنه شغل شعرائها فنجد شاعراً بقامة أبي الطيب المتنبي مدح كافور فأنصفه ، وحين انقلب عليه وهجاه لم ينصفه ، فحين مات كافور ودُفن بالقدس بعد أن حُمل جثمانه إلي هناك وجد مكتوباً علي شاهده شعراً للمتنبي قال فيه :

مابال قبرك ياكافور منفرداً

بالصّحصح المرت بعد العسكر اللجب

يدوس قبرك أحاد الرجال وقد

كانت أسود الشري تخشاك في الكتب .

كما وجد مكتوباً علي قبره :

انظر إلي غير الأيام ما صنعت

أفنت أناساً بها كانوا وما فنيت

دُنياهم ضحكت أيام دولتهم

حتي إذا فنيت ناحت لهم وبكت

وهكذا استطاع رجل مثل أبي المسك أن يترك ذكراً طيباً في نفوس المصريين رغم حقد الحاقدين حيث كتب عنه المتنبي هجاءاً مقذعاً في قصيدة له حين غادر مصر حانقاً علي كافور وهو الذي كتب في كافور مادحاً:

وفي الناس من يرضي بميسورعيشه

ومركوبه رجلاه والثوب جلدهُ

ولكن قلباً بين جنبي ماله

مدي ينتهي بي في مرادٍ أحدهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد عبده العباسي