خلف عتبات المخيم بقلم: نعيم عودة
تاريخ النشر : 2009-02-18
خلف عتبات المخيم- كتبها – نعيم عودة


كانت طفولة معذبة تلك الطفولة التي عاشها خميس ، وفي ركن قصي من المخيم يقبع بيت من غرفتين وحمام وساحة ترابية، قد بني من الطين والقش ، في إحدى الغرفتين يرقد الأب وزوجته وفي الأخرى تتحلق مجموعة كبيرة من الأطفال.. بنين وبنات أكبرهم خميس، بتناقشون دائما في فوضى عارمة ثم يتمطون عند الظهيرة وقد اشتدّ الحر وغدا لا يطاق، حتى أن الذباب لا يطيقه فينتشر في فضاء الغرفة يئزّ أزيزا يمنع النوم من أن يسكن الجفون حتى وإن كانت مرهقة.



عندما يحل المساء وتغرب شمس أريحا خلف الجبل ، كنا نظنها تسقط في القدس، يستأذن خميس أمه المكدودة كي يشعل السراج فتصيح فيه: بدري ، مفيش كاز. وينتظرون حتى تحل الظلمة الحالكة فيشعلون السراج ويتحلقون حول أقراص الفلافل وأرغفة من الخبز السميك ينهشونها في سرعة هبوب الريح العاتية. ما هي إلا لحظات حتى ينهض خميس حاملا حصيرا يطرحها في ساحة الدار الرملية ويتمطى على ظهره شاخصا نحو السماء يعدّ نجومها. سماء الصيف صافية ونجومها لا تعدّ ولا تحصى . وخميس لا يعدّ النجوم على أصابعه خشية أن تطلع له ثواليل في كل مكان يعدّ فيه نجمة من نجوم السماء. وتهب نسمة طرية قادمة من الغرب، ما أطيب رائحة القدس.



شمس الصيف تصحو قبل خميس.. تشرق وتسطع على وجهه فيغطيه بالبطانية لكن أشعة الشمس تخترق البطانية العتيقة ثم تحيلها إلى فرن حار، ينتفض خميس ويقفز مقطبا ويلعن المخيم وأهل المخيم ومدير المخيم, لا يغسل وجهه وإنما يتجه إلى حقيبة صنعت من القماش الأزرق، فيها قلم رصاص وبعض الكتب والدفاتر التي وزعتها وكالة الغوث على طلاب المدارس. يضع حزام الحقيبة على كتفه ويتجه نحو المدرسة البعيدة، طبعا سيرا على الأقدام، والحذاء – أيّ حذاء- صندل عتيق .. شبشب.. حافيا مرات عديدة.



الأستاذ عفيف .. كان نحيلا طويلا .. وعصاه أطول منه.. يلّوح بها لمن يتأخر، وخميس يتأخر كل يوم.. إيدك.. طاخ .. طاخ. أدخل.

يسب خميس الأستاذ عفيف ويلعن مادة الفيزياء التي يدرّسها ، ويقف في آخر الطابور مائلا بكتفه الأيمن في لا مبالاة وقرف.



داخل الصف ، كان خميس شخصا مختلفا، يتحرك من مقعد إلى مقعد، يقرص هذا ويضرب ذاك ويضحك بصوت عال، لا يهمه فهم أم لم يفهم، وهو لم يفهم قط. في أحد امتحانات آخر السنة

جاء سؤال الأحياء كالتالي: كيف نكافح الذباب والبعوض؟ وجاء جواب خميس مكتوبا: نكافح الذباب والبعوض بالرشاشات والبنادق. وفي موضوع التعبير كتب: رأى الراعي مغارة فشـ ..

فيها. ولما غضب الأستاذ عزمي وهدده وعنّفه ، سأله خميس: لماذا تعنفني؟ فأراه الاستاذ ما كتب، فضحك وقال: إنما أردت أن أكتب- رأى الراعي مغارة فخشّ فيها. ضحك الاستاذ عزمي طويلا وضحك الصف كله. كان خميس مغامرا يتخلص من العقاب بطرق لولبية.



لم يكمل صاحبي دراسته.. بعد الصف الثالث الإعدادي خرج من المدرسة كافرا بالكتب والأقلام والحقائب وقلة المصروف، (تعريفة) كل أسبوع لا تقي بردا ولا تدفع حـرا.. خرج من المدرسة غير آسف واختفى من حياتنا تماما. أراد أن يشقّ لنفسه طريقا غير طريق العلم التي تؤدي عادة إلى مستنقع الوظيفة وذلّ الخضوع للمسؤولين وانتهاء بالفقر.

سارت الأيام كما تسير الجداول ، نصحو مبكرين نتجه إلى المدرسة وكثيرا ما نتوقف خلف الجدران وتحت الشبابيك لنسمع أغنية جميلة ولا نتحرك حتى تنتهي ، بينما الأستاذ عفيف النحيل الطويل ينتظر بعصاه الطويلة ويلوح بها من بعيد.



كثرت الأيام وغدت سنينا، تخرّجت دفعتنا في الثانوية وتفرّق الرفاق، كلّ في مركب ، زرعتنا الرياح الهوج في مواقع شتى من أطراف الكوكب العظيم، وبعد سنوات الجامعة أصبحنا نلتقي في المطارات وعلى الحدود. نزلت من الطائرة في مطار المكــلا ، مطار ترابي ذكرني بساحة بيت خميس في المخيم. كنت أعتقد أنني الوحيد الذي يصل إلى المكلا في منتصف الستينيات.. ولشد ما عجبت أنني رأيت ستة من أصدقائي في انتظاري، وعندما وقفت على سلم الطائرة كانوا يشيرون : ها قد وصل، ها قد وصل.



ودارت الأيام كعادتها، وغادرت المكـلا، اغتربت إلى بلد خليجي آخر. نحن ننتقل من محطة إلى أخرى، نحن نسكن قطارا لا يتوقف أبدا، هنا طالت غربتي، قابلت الكثيرين من الصحاب القدامى، كلهم يعملون هنا: عدنان شلبي وساطي شبيطة ( يرحمهما الله ) ويوسف بدر وخليل سيف والأبجر محمود سرحان وغيرهم كثير. وعلمت من بعضهم أنّ خميسا يشتغل كهربائيا في المستشفى العام. إذن .. خميس خرج من المدرسة وصار كهربائيا، وهو الآن يعمل ويقبض راتبا شهريا محترما وله زوجة وأبناء.. وأين أيام التعريفة .. لقد ولّــــت.



سعدت كثيرا عندما علمت بذلك، استذكرت أيامه وهو يقطع شوارع المخيم جيئة وذهابا يلعن ويشتم ويضحك بأعلى صوته، والبنطلون المرقع من الخلف ومن الأمام عند الركبتين، أيام زمان. ولم أقابله بعد.

ذات صباح فتحت الجريدة ، وكان العنوان( حريق هائل في مستشفى بسبب ماس كهربائي) شدني العنوان، خميس هو الكهربائي المسؤول ، هل يتحمل صاحبي أية مسؤولية عن الحادث الرهيب!! وقرأت التفاصيل:

اندلع حريق هائل في المستشفى مساء أمس في غرفة القواطع الرئيسية وامتدت ألسنة النار إلى الأجنحة المجاورة وإلى غرف المرضى.. هرب الناس ومن استطاع من المرضى. لم يستطع أحد أن يفعل شيئا، والناس يتساءلون: من يستطيع أن يدخل غرفة القواطع وهي على حالها قطعة من نار جهنــم!!

ومن بين جموع المشدوهين انطلق جسم دقيق كأنه النيزك، اخترق النيران وانقضّ على القاطع الرئيسي وأغلقه، لكنه لم يستطع أن يغادر المكان!!



بعد ساعات توقف كلّ شئ وهدأ المكان . دخل رجال الإطفاء غرفة القواطع، كان هناك جســـم ممــدد بين الأرض والقاطع الكبير وقد ذاب كأنه قطعة من البلاستيك.

هــذا هــو خميـــس، رحمه الله.