للمختصّين في علم النـّـفس فقط؛ الفصل الأوّل من كتاب سيكولوجيا العواطف بقلم:عزالدّين بن عثمان الغويليّ
تاريخ النشر : 2008-10-15
سيكولوجيا العاطفة

ملاحظة: أرجو من علمائنا الأجلاّء أن يصوّبوني إن وجدوا خطأ في هذا الفصل ولأكوننّ من الشـّـاكرين. وأرجو أن يساعدوني في ترجمة كلمتي: amigdala و Vagus Nerve

تمهيد:

العاطفة كما نعلم تتمثـّـل في مختلف المشاعر والأحاسيس الحسنة والسـّـيئة على حدّ سواء لكنّها في العربيّة لا تشمل عدا الأحاسيس الجميلة. عَطـَـفَ على فلان، حسب الصّحاح في اللـّـغة وكذلك القاموس المحيط، أي أشفق عليه ورقّ وحنّ إلاّ أنّ العواطف قد تكون إيجابيّة أو سلبيّة بما أنـّـها أحاسيس ذاتيّة. ويعرّف قاموس تشامبرس العاطفة بأنـّـها إثارة الذهن وبأنـّـها ظواهر مختلفة نابعة من الذهن ومتعلـّـقة به كالغضب والفرح والخوف والحزن وهذه كلـّـها حالات نفسيّة تتجسـّـد في أعراض جسمانيّة تدلّ على الشـّـعور والإحساس المختلفين عن الإدراك والإرادة وعلى إثارة وتحريك الجهاز العصبيّ ممّا يؤدّي إلى نتائج معيّنة. هذا التـّـعريف يبقى إلى حدّ الآن غامضا لأنـّـه لا يبيّن لنا بالضّبط من أين تتأتـّـى العواطف والأحاسيس والمشاعر وكيف تختلف عن الإدراك ومختلف التـّـصوّرات. لهذا السّبب عُـني كلّ من علم النـّـفس والفلسفة بهذا الموضوع إلاّ أنّ العواطف لها بعد اجتماعيّ أيضا فقد تحدّث علم النـّـفس الإجتماعيّ عمّا أسماه "العواطف السّليمة" وهي العواطف المطابقة لأحاسيس المجتمع؛ عندما يشاهد الشـّـخص عرضا مسرحيّا هزليّا من الصّواب أن يسعد وأن يضحك فإذا ما ارتفع صوته بالبكاء حُـزنا اعتبره المتفرّجون غريب الأطوار وثاروا عليه، وهذا المثال ينبئنا بأنّ الجمهور له عواطف متماثلة. الحقيقة هي أنّ العاطفة إحساس عقليّ ذاتيّ أو شخصيّ (نابع من الذات) ولذلك هي موضوع رئيسيّ من مواضيع علم النـّـفس. أمّا عامّة النـّـاس فتصفها بأنـّـها، في جوهرها، إمّا سارّة أو غير سارّة، خفيفة، سطحيّة، أو شديدة عميقة، عابرة أو دائمة (كالتـّـرح مثلا) لكنّ الكثير من النـّـاس غير واعين بأنّ العواطف تتدخـّـل في السـّـلوك وقد تحدّده أو تحسّنه أو تغيّره. وفي هذا التـّـقديم أشير إلى أنّ بعض العواطف قد تكون أعراضا مرضيّة كالغيرة والكره مثلا.

وصف جيمس دريفر (James Drever)، دكتور الفلسفة المحاضر في علم النـّـفس بجامعة إيدنبورغ، في كتابه "قاموس علم النـّـفس" العاطفة بأنـّـها حالة معقـّـدة يمرّ بها جسم الكائن البشريّ تتمثـّـل في تغيّرات جسديّة تحدث على نطاق واسع، وبهذا التـّـعريف جعل العاطفة أقلّ ذاتية إذ أكـّـد أنّ الشـّـخص على المستوى العقليّ يـُـبدي أحاسيس ومشاعر ودوافع قويّة تجعله يتصرّف بطرق معيّنة. معظم علماء النـّـفس، كما سأبيّن شيئا فشيئا، عرّفوا العاطفة بأنـّـها حالات نفسيّة ناتجة عن مثيرات ودوافع تؤدّي إلى نتائج معيّنة لكنّ جيمس دريفر أضاف إلى مكوّنات العاطفة عنصرين إثنين: الحالات الجسميّة والسـّـلوك. أمّا ما يدلّ على العواطف أو ما يثبتها فهي التـّـغيّرات الفيزيولوجيّة كاحمرار الوجه وارتفاع حرارة الجسم وتسارُع النّبض وخفقان القلب والعرق والإرتعاد، وممّا لا شكّ فيه أنّ العاطفة تـُـترجم في سلوك معيّن مثل العراك والإقتتال عند الغضب أو الفرار عند الخوف وقد تؤدّي فقط إلى مجرّد تعبيرات تظهر على الوجه والجسم. العاطفة تغيّر السـّـلوك أيضا أو تحدّده، ويأخذ التـّـغيير هذا أبعادا متعدّدة فقد يكون تغييرا كبيرا أو طفيفا وقد يكون حادّا أو مزمنا وبذلك يؤدّي إلى نتائج متعدّدة. غير أنّ الشـّـخص عندما يتحدّث عن عواطفه السـّـلبيّة قد لا يعرّفها تعريفا دقيقا وإنـّـما يصف الوضعيّة والبيئة الذين أدّيتا إلى تلك العواطف أو يقدّم أمثلة وبذلك يحيد عن التـّـعريف الدّقيق بطريقة شعوريّة أو لاشعوريّة، وحتـّـى بعض العواطف الإيجابيّة، مثل الحبّ تجاه امرأة، قد يتهرّب من الحديث عنها معظم الأشخاص لأنّ الأحاسيس والمشاعر شخصيّة ذاتية خاضعة في معظم الأحيان لمعايير المجتمع.

العاطفة إحساس يؤدّي إلى حالة جسميّة متكوّنة من عدد من العناصر تمثـّـل بنى فيزيقيّة لها خصائصها التي تنتج سلوكا. وتحدث العاطفة في وضعيّة معيّنة مركـّـبة من عدد من الأطراف تشكـّـل البيئة والوضع العطفيّ. وعندما يستعمل النّاس هذا المفهوم (العاطفة) فإنـّـهم لا يعنون كلّ هذه العناصر (البيئة، المثير، التـّـغيّرات الفيزيولوجيّة، السّلوك) بل واحدا منها أو بعضها فقط، كما أنّ العاطفة تختلف من شخص إلى آخر ممّا يجعل الدّراسة الأكاديميّة للعاطفة عسيرة جدّا. بعض المنظـّـرين يشدّدون على العوامل النـّـفسيّة التي تنقسم إلى قسمين، عوامل سلوكيّة وأخرى ذاتيّة، وبعض آخر يركـّـز على قطبي العواطف، المثيرات والنـّـتائج، وآخرون يقولون إنّ العواطف تصبغ السـّـلوك فسحب ولذلك يدرسونها في إطار دراستهم للسّلوك. ليس هناك تطابق في وجهات النـّـظر؛ بالتـّـالي، لازالت العاطفة تتحدّى كلّ التـّـعريفات، ولهذا السّبب أقول منذ البداية إنّه لا يمكن تكوين استنتاجات قطعيّة حول هذا الموضوع انطلاقا من أفكار وأبحاث تتعلــّـق بجانب أو بآخر من هذا الموضوع. جوانب الموضوع التي أتحدّث عنها هنا هي خصائصه المتباينة التي لا تخوّل لنا التـّـوصّل إلى استنتاجات شموليّة تمكـّـننا من التـّـجميع والتـّـوليف. وفي هذه اللـّـحظة لا أريد أن أضيف إلى تعقيد الموضوع تعقيدا آخر بطرح تعريفي الخاصّ للعاطفة ولكنـّـي أكتفي بالقول إنّ هذا الكتاب يـُـعنى، في معظم فصوله، بوصف العواطف وليس بتعريفها لأنّ الغرض من وراء هذا العمل أن أجعل القارئ يلمّ بجوانب الموضوع ويكوّن تعريفه الخاصّ به.

بعض المقاربات التـّـاسيسيّة في دراسة العاطفة:

في عدد من النّصوص، وخاصّة في دراسة عنوانها "نظريّة التـّـحفيزيّة المتعلـّـقة بالعواطف تعوّض العاطفة كجواب غير منظـّـم" (1948) وفي دراسة لاحقة عنوانها "بعض التـّـطويرات الضّروريّة في النـّـظريّة التـّـحفيزيّة الخاصّة بالعواطف" (1965) (1)، طرح روبارت ليبر، فرضيّة مثيرة للإهتمام لصالح المذهب العقلانيّ القائم على الحسّ السّليم الذي يشرح المشاعر والعواطف والذي طوّره الفلاسفة الأوائل. ذلك المذهب، باختصار، أقام تناقضا بين العقل والعقلانيّة وبين العواطف والمشاعر من خلال الإقتراح القائل بأنّ الإنسان متعلـّـم (اسم فاعل) وعقلانيّ يقلـّـل ويخفـّـض من العناصر العاطفيّة الأقلّ أهمّيـة الموجودة فيه ويعمل على تحاشيها لصالح التـّـفكير والتـّـصرّف العقلانيّ. هذا التأكيد جعل العقلانيّة مساوية للإختيار معبّرة عن الإرادة ونظر إلى العواطف على أنـّـها بناء داخليّ (جزء من تركيبة الإنسان) تبرز كاستجابة لمنبّهات البيئة الهامّة أو لمؤثـّـراتها. بهذه الكيفيّة تكون العواطف انفعالات داخليّة أو ذاتية تحرّكها مثيرات البيئة: عندما يحسّ شخص أنّ حريقا قد اندلع في الطـّـابق السّفليّ من منزله يخاف ويسارع إلى الخارج بدل أن يفكـّـر بكلّ هدوء في الأغراض التي قد يجمعها من بيته قبل هربه، وعندما يسمع زئير أسد يخاف أيضا ويفرّ عوض أن يفكـّـر في هدوء في أخذ صورة لذلك الحيوان الضّاري.

حاول روبارت ليبر التـّـدليل على وجود اتـّـجاهات متوازية في التـّـفكير اليوميّ حول العواطف وخاصّة خلال دراستها في الحقبة ماقبل العلميّة فقال إنّ تلك الإتـّـجاهات متأتـّـية من التـّـأكيد على العوامل الملموسة في كلّ حقل جديد من البحث. العوامل الملموسة في أيّ موضوع مدروس عادة ما تكون واضحة وثابتة للغاية وتـُـبرز العلاقة المتينة بين السّبب أو العلـّـة والأثر الذي تحدثه. عبّر روبرت ليبر عن اعتقادة بأنّ العوامل الملموسة هي التي تمّ التـّـركيز عليها في الحقبة ما قبل العلميّة وعلى الوعي والمشاعر المكثـّـفة خاصّة منها تلك التي تمتاز بقدرة فائقة على التـّـعبير عن نفسها. كلّ سلوك يحمل في ثناياه عواطف (ومشاعر)، وفي كلّ سلوك تكمن العواطف وهذا، كما يؤكـّـد روبارت ليبر، جعل الدّارسين الأوائل ينظرون إلى العاطفة من خلال تأثيراتها فرأوا أنّ التـّـأثيرات تنشأ عن الزّيادة في كثافة ومدّة السّلوكيات البدائيّة مثل العراك والأعمال غير المسؤولة إجتماعيّا. وانطلاقا من هذه الملاحظات حول جزئيّة الدّراسات القديمة للعاطفة يؤكـّـد روبرت ليبر أنّ الدّراسة العلميّة الحديثة للعاطفة لازالت منحصرة في هذه الفلسفة الأساسيّة. يذكر ليبر، على سبيل المثال، أنـّـه لا يوجد الكثير من المصداقيّة الممنوحة للعواطف اللاّواعية بالرّغم من الأعمال الهامّة التي حاولت دراسة اللاّوعي وبالرّغم من تأكيد فرويد على أنّ العواطف تتشكـّـل في اللاّوعي. وإلى يومنا هذا ينطلق الباحثون في دراستهم للعاطفة من التـّـسليم بأنّ العواطف تجارب ذاتية قويّة وفي كلّ الدّراسات تـُـحضى العواطف السّلبيّة بالأهمّية القصوى. العواطف، بالتـّـالي، حسب روبارت ليبر، مازالت تـُـعتبر، بصفة أساسيّة، في تناقض مع وظيفة التـّـكيّف الواقعيّ. معنى هذا القول أنّ العواطف لها وظيفة تساعد على التـّـكيّف مع الواقع أو التـّـأقلم معه.

بالرّغم من أنّ الفلسفة العقلانيّة للعاطفة قد بدأت مع أفلاطون وأرسطو فقد حُضيت بعناية فائقة من رينيه ديكارت (1596 ـ 1650)، في النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر، إذ شكـّـلت محور فلسفته الثـّـنائيّة التي فصلت بين العقل والبدن. وتماشيا مع المسيحيّة الكاثوليكيّة التي كان يدافع عنها والتي تقول إنّ الحيوان لا روح له قال ديكارت إنّه لا توجد عواطف في الحيوان بل مجرّد مُدخلات بيئيّة (inputs) ومجرّد إنتاجات جسديّة (outputs). أمّا في الإنسان فإنّ العقل أو الإختيار، حسب ديكارت، يلعب دورا رئيسيّا: العواطف (المشاعر الشّديدة أو أشكال الشّغف passions) عند الإنسان حيويّة بالنـّـسبة لنظرته ومواقفه لأنّها تغيّر من تدفـّـق الأرواح الحيوانيّة وهي المحدّدات الرّئيسيّة للأفعال. في هذا الصّدد أذكـّـر القارئ أنّ ديكارت آمن بوجود نوعين من الذاكرة لدى الإنسان: ذاكرة ماديّة يتقاسمها مع الوحوش وذاكرة عقليّة محضة غير موجودة في الحيوانات والوحوش. أوّل أعمال ديكارت عملٌ عنوانه "دراسة الإنسان"، De Homine باللاّتينيّة أوTraité de l'Homme بالفرنسيّة كتبه نحو 1633 أي في السّنة التي أدانت فيها الكنيسة غاليليو لكنّه ما إن علم بما حدث لغاليليو حتـّـى رمى به جانبا ولم يقم بنشره. ذلك العمل كان أوّل دراسة في علم النـّـفس الفيزيولوجيّ لكنّه لم يـُـنشر إلاّ بعد موت مؤلـّـفه. في ذلك العمل اقترح ديكارت ميكانيزم ردّ الفعل الأوتوماتيكيّ كاستجابة لأحداث خارجيّة. ووفقا لاقتراحه، الأحداث الخارجيّة تؤثـّـر على أطراف السـّـليْـكات العصبّية الموجودة في محيط الدّماغ التي تحرّك بدورها مركز الدّماغ. هذه العمليّة الميكانيكيّة تعيد تنظيم الأرواح الحيوانيّة الموجودة في الذاكرة التي يتقاسمها الإنسان مع الوحوش. هذه النـّـظريّة تـُـعدّ الآن قديمة ومغلوطة لكنّها هي التي جعلت ديكارت أوّل من تحدّث عن الإستجابة للمثيرات (ردّة الفعل المنعكس لبافلوف). تقاطع العقل والجسم في مناطق من الدّماغ يجعل الرّوح العقليّة كينونة مختلفة عن الجسد تتـّـصل بالجسد في الغدّة الصّنوبريّة (pineal gland) ممّا يؤدّي إلى الوعي. وكما هو معلوم اختار ديكارت الغدّة الصّنوبريّة لاعتقاده أنـّـها العضو الوحيد الموجود عند الإنسان دون الحيوان لكنّ ثنائيّته خلقت نوعا من الفوضى الفكريّة.

المهمّ هو أنّ ديكارت حدّد ستّ أنواع من العواطف البدائيّة: الإعجاب والحبّ والكره والرّغبة والفرح والحزن. هذه كلـّـها تتمازج لتشكـّـل مشاعر موجـّـهة نحو الدّاخل أو نحو الذات نسمّيها عاطفة؛ إلاّ أنّ ديكارت لفت الإنتباه إلى دور الفيزيولوجيا ووظائف الجسم في تشكيل العاطفة. لقد اعتبر السّلوك العاطفي المفتوح يتشكـّـل كنتيجة للمحاولات الغريزيّة الهادفة إلى تكوين ردود فعل مناسبة على الظـّـروف البيئيّة أو على عناصر المحيط وجعل للعاطفة أربع وظائف:
أوّلا: تغيير تدفـّـق الأرواح الحيوانيّة (2) في الجسم.
ثانيا: جعلُ الجسم مستعدّا لتغيّرات المحيط ولكلّ الظـّـروف التي قد تعترض سبيله.
ثالثا: تمكين الرّوح من اشتهاء أشياء مادّية نافعة.
رابعا: جعل الرّغبة دائمة أو متشبـّـثة باشتهائها لتلك الأشياء.
نفهم من هذا أنّ ديكارت جعل العواطف تنشأ انطلاقا من أشياء مادّية موجودة في المحيط أو في الطـّـبيعة الخارجيّة وذلك عبر الأعضاء والأعصاب التي تخلـّـف انطباعا على الغدّة الصّنوبريّة. هذا التـّـفاعل حسب ديكارت يجعل الرّوح تستجيب للمؤثـّـرات ممّا يحرّك الأرواح الحيوانيّة التي تؤثـّـر بدورها على الغدّة الصّنوبريّة فتكون النـّـتيجة النـّـهائيّة نشوء العواطف. وقد ميّز ديكارت بين العواطف الخاصّة بالرّوح والعواطف الخاصّة بالجسم وهي حركته أو الأفعال التي يقوم بها. وكما قلت، بالرّغم من أنـّـه أكـّـد على أنّ العاطفة أساس السـّـلوك فإنّ أفكاره الفيزيولوجيّة خاطئة إلاّ أنّ نظريّته توحي بأنّ العواطف تتدخـّـل فيما بين المؤثـّـر وردّة الفعل فتجعل النتائج أو السـّـلوك أقلّ عقلانيّة ممّا يتصوّر الإنسان.

بعد ديكارت، تمثـّـل أهمّ عمل درس العواطف في الإنسان والحيوان في كتاب تشارلز داروين "التـّـعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان" (1872) وفيه أكـّـد أنّ الأفعال خصائص بيولوجيّة للعاطفة وشدّد على أهمّية السّببيّة (أو العلـّـية) في الإثارة البيئيّة. حاول داروين في ذلك الكتاب (The Expression of Emotions in Man and Animals)، وهو كتاب مدعـّـم بمئات الصّور، أن يشرح كيفيّة التـّـعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان فكانت أراؤه امتدادا لنظريّة الإرتقاء عبر الإنتخاب الطـّـبيعيّ التي وضعها في كتابه "أصل الأنواع". لاحظ داروين الطـّـابع الشـّـموليّ لتعابير الوجه عن العواطف والأحاسيس لدى الإنسان والحيوان على حدّ سواء فأكـّـد طابع الشـّـراكة في الخصائص بين الإنسان والحيوان: الإنسان، من خلال دراسة العواطف لديه، استمرار للحيوان. وقد تحدّث داروين عن مبادئ ثلاث تعطي معنى لكلّ الحركات غير الطـّـوعيّة وكلّ الإيماءات والتـّـعابير عن المشاعر عند الإنسان والحيوان هي:
ـ أوّلا: أنّ بعض العواطف تعبير عن عادات خدميّة مرتبطة بحالة ذهنيّة (Serviceable Associated Habits): عندما يكون العمل مفيدا أو ضروريّا في إطار حالة ذهنيّة معيّنة يتمّ تكراره فتحدث نفس الحالة الذهنيّة مجدّدا. الكلب مثلا يدور حول نفسه مرّات عديدة قبل أن يقع على الأرض لينام وهو فعل موروث من الحقبة الذي كان ينام فيها في الخلاء.
ـ ثانيا: بعض الحالات تكون تعابير عكسيّة (Antithesis) عن الحالة الطـّـبيعيّة؛ الكلب عندما يشاهد شخصا ما يتحفـّـز للهجوم لكنّ تلك الحالة تنعكس ما إن يتبيّن أنّ ذلك الشـّـخص إنـّـما هو مالكه (أي أنـّـه يرحّب به).
ـ ثالثا: بعض الأفعال التي تعبّر عن حالات ذهنيّة تنشأ كنتيجة لتركيبة الجهاز العصبيّ أي أنـّـها مستقلـّـة عن الإرادة والعادة مثل الإرتعاش عند الخوف مثلا.

ما أكـّـده داروين هنا هو أنّ العواطف تمتاز بكونها شموليّة والتـّـعبير عنها شموليّ أيضا لكنّ بعض التـّـعابير عن العواطف الإنسانيّة لا نجدها عند الحيوان مثل احمرار الوجه مثلا عند الخجل. ولم يكن داروين معنيّا بتبيان التـّـشابه في عواطف الإنسان والحيوان إلاّ بقدر ما يخدم نظريّته الإرتقائيّة غير أنّ القول بأنّ العواطف البشريّة الأكثر حميميّة ناتجة عن البيولوجيا وحدها أو عن التـّـجارب الذاتية لا يمكن إثباته عن طريق الأدلـّـة العلميّة وحدها. لهذا السّبب كان كتاب داروين حول العواطف ممزوجا بالإيديولوجيا إلى حدّ كبير ففي عهده كان النـّـقاش دائرا بين القائلين بـ"أحادية الأصل" (monogenists) الذين يصرّون على أنّ البشر وكلّ الكائنات تعود لأصل واحد وبين القائلين بـ"تعدّد الأصول" (polygenists) الذين يصرّون على أنّ كلّ شعب قد نشأ على حدة. هاجم داروين القائلين بتعدّد الأصول ليس لإيمانه بأنّ كلّ البشر على قدم المساواة بل إنّ نظرية التـّـطوّر عنده تعبّر عن إيمانه بتقدّم الشـّـعوب الأروبيّة على غيرها. الصّراع من أجل البقاء عنده خلق أعراقا غير متساوية ولذ اعتبر الإستعمار الأروبيّ لباقي الشـّـعوب متماشيا مع قوانين ذلك الصّراع ومع قوانين الإنتخاب الطـّـبيعيّ. كتب استاذ العلوم السّياسيّة بجامعة سرّي (Surry) كينّن مالك (Kenan Malik)، في مقالة نشرتها الإندبّندنت في 1 فيفري 1998، إنّ صعود الدّاروينيّة الإجتماعيّة العنصريّة جعل علماء النـّـفس وعلماء الأناسة الثـّـقافيّة يستبعدون كلّ التـّـفاسير البيولوجيّة ويعتبرون السّلوك البشريّ نتاجا ثقافيا تشكـّـله التـّـجارب الشـّـخصيّة لكنّ التـّـفاسير الثـّـقافيّة لا تستند إلى أدلـّـة صلبة. المهمّ هو أنّ داروين من خلال دراسته للعواطف أرد أن يثبت أنّ الإنسان منحدر من الحيوان لكنّ جعْـلـَه العواطف ناتجة عن عوامل طبيعيّة وبيولوجية يهمل خصائصها الإجتماعيّة.

شرح لكلمتي Monogenesis و Polygenesis: يـُـستعمَل مصلح "تعدّد الأصول" في علم الأحياء وفي علم الأناسة ليُرجع نشوء البشر إلى جذور مختلفة. لكنّ مصطلح "أحاديّة الأصل" يُرجع نشوءهم إلى أصل واحد، وهو مصطلح مستمدّ من الكتب الدّينيّة ومن سفر التـّـكوين بالتـّـحديد. التـّـفرقة بين هذين المذهبين لا زالت قائمة اليوم لأنّ الثـّـقافات هي التي تقوم بتغذيها.


لم يقدّم كلّ من ديكارت وداروين في دراستهما للعواطف تفسيرا نفسيّا صرفا. لأنّ الأوّل كانت تقوده رغبة في الدّفاع عن المسيحيّة والثـّـاني تقوده رغبة في إثبات نظريّته التـّـطوّريّة. ويُجمع الباحثون على أنّ أوّل تفسير نفسيّ للعواطف جاء على يد ويليام دجيمس في مقال عنوانه "ما هي العاطفة" (What is an Emotion?) نشر سنه 1884 في العدد 9 من مجلـّـة Mind وفيه قدّم نظرة توفيقيّة بين ديكارت وداروين. أشار ويليام دجيمس إلى أنّ إدراك المؤثـّـرات العاطفيّة يؤدّي إلى ردود فعل أحشائيّة وعضليّة في نفس الوقت (أحشائيّة أو حشويّة visceral تشير للإفرازات التي تحدث في الأعضاء الجسميّة مثل القلب والمعدة). الإحساس بردود الفعل هذه يتمّ عبر التـّـغيّرات القشريّة أو اللـّحائيّة للأعضاء: (cortical منCortex وهي القشرة الخارجيّة لأعضاء الجسم، عكس Medulla وهي الجزء الدّاخلي للعضو). الإحساس بردود الفعل في أعضاء الجسم هو ما يسمّى، حسب ويليام دجيمس، عاطفة أو تجربة عاطفيّة. المؤثـّـر ما إن يتمّ إدراكه حتـّـى يؤدّي إلى ردود فعل في الجسم تؤدّي إلى العاطفة كتجربة. هنا بالتـّـحديد تكمن أهمّية النـّـظريّة التي وضعها ويليام دجيمس: ربطه المؤثـّـر العاطفيّ بالتـّـجربة العاطفيّة والسـّـلوك العاطفيّ، مُزيحًا بذلك التـّـشديد السـّـابق على كيفيّةعمل المشاعر. وسأتناول بشيء من التـّـفصيل نظريّة ويليام دجيمس لاحقا (النـّـظريّة المعروفة باسم "نظريّة دجيمس ـ لانغ".

لكنّ أهمّ محاولة في تفسير العواطف جاءت على يد سيغموند فرويد الذي كان يطمح إلى جعل السّيكولوجيا علميّة فقد رأى أنّ طبيعة العواطف متجذرة في الدّوافع اللاّواعية. في دراسة مطوّلة له عنوانها "اللاّوعي" (1915) قال فرويد إنّ العواطف نابعة من اللاّوعي ولكنـّـها ليست لاواعية وإنّما هي حالات واعية. بالرّغم من ذلك ذكر أربع أنواع من العواطف اللاّواعية: العواطف المنحّاة أو المُـزاحة، العواطف الممسوخة كيفيّا، العواطف المقموعة، العواطف كإفراغات تترتـّـب عن الدّوافع الجسميّة الغريزيّة الغير مُدركة. وصف فرويد تدفـّـقات الطـّـاقة التي تتراكم فتسعى إلى التـّـحرّر فأكـّـد أنّ تلك التـّـراكمات تؤدّي إلى توتـّـر لا يمكن حلـّـه إلاّ عبر الإفراغ أو التـّـنفيس أو التـّـصريف (catharsis). هذه القوى المتصارعة أصلها عضويّ ولكنّها تأخذ شكل صور وأفكار ذات صبغة عاطفيّة. اللاّوعي عند فرويد خزّان الدّوافع الغريزيّة والرّغبات والأفكار المقموعة التي تصبح قوى مثيرة أو مهيّجة. الصّور العقليّة الممثـّـلة للغرائز أو الدّوافع الغريزيّة تكوّن شحنا طاقيّة يتمّ تنفيسها كلـّـما تراكمت. وقد تحدّث فرويد بادئ الأمر عن دافعين غريزين، اللّيبيدو (الشـّـهوة الجنسيّة) والنـّـزعة العدوانيّة (aggression)، ثمّ استعاض عن نظرته الطـّـوبوغرافيّة بنموذج بنيويّ ثلاثيّ الأقسام للذهن : الأنا (الأنا الغريزيّ) والهو (الأنا الواقعيّ) والأنا الأعلى (Id, Ego, Superego).

ما حاولت تبيانه باقتضاب هو أنّ الدّراسات التي عُنيت بالعواطف منذ القديم أولت اهتماما خاصّا بتعابير الوجه والجسم وبدور الحواسّ والإدراك في تشكيل التـّـجارب العاطفيّة ومقارنة الإنسان بالحيوان مذ ظهرت أعمال داروين. ارتباط العواطف بالإدراك وبالحالات الذهنيّة جعل هذا الموضوع يفتقر إلى منهج موحّد فالبعض يرون أنّه موضوع خاصّ بعلم الأعصاب وآخرون يرون أنّه موضوع فلسفيّ خاصّ بفلسفة الذهن. ذهبتْ بعض الأبحاث إلى أنّ المخّ يتأثـّـر بالعواطف في اتـّـخاذ القرارات أو أنـّـه يعتمد على التـّـجارب العاطفيّة في اتـّـخاذ القرارات، وهذا يجعل الإدراك حالات ذهنيّة نفسيّة أيضا، لكن لا أحد يعلم، حتـّـى اليوم، كيف يحدث التأثـّـر أو الإعتماد ولماذا. وليس هناك علم قائم بذاته يدرس العواطف والمشاعر بل إنّ نظريّات العواطف والأحساس هي عبارة عن أجزاء نظريّة موجودة في ميادين بحثيّة وأكاديميّة عديدة يصعب الإتيان عليها كلـّـها ولذلك رأيت أنّ المنهج الأنسب هو أن أتعرّض إلى بعضها شيئا فشيئا. العاطفة جزء من النـّـسيج النـّـفسيّ ولكنّها في الاستعمالات اليوميّة تدخل في الإنقسام الموجود بين عالم القلب وعالم الدّماغ؛ أمّا في الأوساط الأكاديميّة فكلّ المقاربات تقريبا جعلتها جزءا من نظريّات التـّـطور البيولوجيّة.

المقاربات الحديثة للعواطف:

مذ نشر عالم النـّـفس ويليام دجيمس (أخو الرّوائيّ الأمريكيّ هنري دجيمس) نظريّته عن العواطف اتـّـخذ التـّـنظير حول هذا الموضوع أشكالا متنوّعة؛ لكنّ أهمّ شكل تمثـّـل في إخضاع العواطف للمقاربات التـّـجريبيّة والمناهج الأمبيريقيّة. وقد شرح عالم النـّـفس الكندي دالبير بيندرا ( 1922-1980 Dalbir Bindra ) المقاربات التـّـجريبيّة للإحساس كاستجابة لمؤثـّـرات تفرز عواطف، في دراسة عنوانها "العاطفة والنـّـظريّة السّلوكيّة" (Emotion and Behavior Theory)، 1970. المقاربات البيولوجيّة والإدراكيّة هي الأكثر شيوعا في دراسة العاطفة، وقد ربطت كلـّـها العاطفة بالمؤثـّـر الذي تترتـّـب عنه نتيجة: عندما يشاهد سبّاح قرشا يسبح بالقرب منه، ما إن يدرك ذلك المثير حتـّـى تحدث في جسمه تغيّرات تشمل قشرة المخّ الذي يرسل الأوامر للجهاز العصبيّ فيحدث تغيّر يشمل العضلات. أمّا ما ينتج عن هذا فهو الخوف الذي هو حالة ذهنيّة نفسيّة معيّنة تجعل السّبـّـاح يلوذ بالفرار. دالبير بيندرا نفسه أقترح في أعماله نموذجا يُـدمج المشاعر العاطفيّة والمؤثـّرات؛ هذه المقاربة تسمّى "حالة الدّافع المركزيّ" (Central Motive State أو باختصار CMS ) التي هي حالة مترتـّـبة عن مؤثـّـرات المحيط والفعل الفيزيولوجي على الخلايا العصبيّة. تنشيط الخلايا العصبيّة يؤدّي إلى إفراغ شحنات تساعد على التـّـصرّف والتـّـعامل مع المحيط الخارجيّ (الإنتاج المحرّكيّ المنظـّـم Organized Motor Output). حالة الدّافع المركزيّ ليست دافعا في حدّ ذاتها وليست مستقلـّـة عن العوامل الخارجيّة وقد تحتوي على عناصر وراثيّة (بيولوجيّة) لكنّ التـّـجربة الشـّـخصيّة قادرة على تغييرها. هذه الخاصيّة لنموذج بيندرا تعني أنّ التـّـجربة المترتـّـبة عن حالة الدّافع المركزيّ تساعد على التـّـكييف أي أنّ الجسم يمكن تدريبه بواسطتها على ردود الفعل تجاه مؤثـّـرات معيّنة (ربّما بهذه الكيفيّة تساعد العواطف في الصّراع من أجل البقاء).

انطلاقا ممّا سبق يمكن القول إنّ نظريّة دالبير بيندرا قد مهـّـدت الطـّـريق للنـّـظريّات السّلوكيّة التي تعتبر أنّ العاطفة خاضعة لطبيعة المؤثـّـر المُـطبـّــَـق وهذه هي نظريّة التـّـكييف التـّـقليديّة. المقاربات السّلوكيّة غير معنيّة بالوظائف الإدراكيّة في التـّـجارب العاطفيّة لكنّ كتـّـابا من أمثال واطسون وهارلو (Watson, Harlow) وضعوا الأدوات المناسبة لقياس العواطف. كلّ المقاربات الحديثة بما في ذلك المقاربات السّلوكيّة أكـّـدت عددا من الأراء يمكن تلخيصها في النـّـقاط التـّـالية:
ـ أنّ العواطف حلات نفسيّة فيزيولوجيّة ومشاعر وانـّـها تحدث استجابة لمؤثـّـرات تنتج العاطفة.
ـ أنّ التـّـجربة العاطفيّة (التي هي عبارة عن إدراك) تعني أنّ العواطف والمشاعر ذاتية، نابعة من تركيبة الشـّـخص لكنّه يسقطها، عبر الاستنتاج، على غيره من الأشخاص وعلى الحيوان.
ـ أنّ الإثارة العاطفيّة تفرز تغيّرات في العمليّات الجسميّة الدّاخليّة وفي الوظائف الأحشائيّة، الجسديّة (somatic)، العصبيّة.
ـ أنّ الفعل العاطفيّ يتمثـّـل في ردّة فعل معيّنة لها نمط معيّن يتمثـّـل في السـّـلوك عينه.
ـ أنّ المؤثـّـر العاطفيّ ناشئ من البيئة والمحيط ولذلك قد يكون طبيعيّا أو اجتماعيّا وهو الذي يُـنتج إثارة عاطفيّة وتجربة عاطفيّة وفعلا عاطفيّا. لكن يعسر تعريف المؤثـّـر من دون تناوله في إطار التـّـجارب العاطفيّة ككلّ.
هذا النـّـمط التـّـحليليّ يحمل في طيّاته إشكاليّة واضحة تتمثـّـل في دائريّته وفي العلاقات السّببيّة التي تجعل تعريف المؤثـّـر مستحيلا من دون ربطه بردود الفعل العاطفيّ (أنظر الرّسم رقم 1). الجدير بالذكر هو أنّ التـّـطوّر الذي حصل في النـّـظرة إلى العواطف تمثـّـل في نوعين من الإستراتيجيا البحثيّة: الأولى عُـنيت بالبحث في مختلف النّتائج التي تترتـّـب عن مثيرات معيّنة إنطلاقا من الفكرة القائلة بأنّ نفس المؤثـّـرات تؤدّي إلى نفس النـّـتائج. والثـّـانية تمثـّـلت في البحث الكلينيكيّ الذي كان انتقائيّا إذ كان ينتقي عددا من المثيرات يقوم بتطبيقها على أنماط جسميّة مختلفة (في ظلّ تغيير هرمونيّ مثلا) من أجل إبراز ردود الفعل التي تحصل. نظريّا يمكن القول إنّ الهدف البحثيّ منذ ظهور علم النـّـفس السّلوكيّ تمثـّـل في محاولة تعريف العواطف وإيجاد مكان لها في النـّـظريّات السّلوكيّة.




التـّـاقلم (Adaptation) عمليّات معقـّـدة مستمرّة ولا يمكن أن تكون دائريّة فحسب، كما يبيّن الرّسم. المحيط يؤثـّـر في الأشخاص ويؤدّي إلى الإدراك الذي يمكـّـن من تقييم التـّـجارب وتذليل المصاعب والتـّـعديل في المخطـّـطات وفي التـّـجارب نفسها ممّا يُـنتج مهارات تجعل الأشخاص قادرين على تغيير المحيط (آداء). التـّـجارب العاطفيّة والأفعال العاطفيّة ناتجة كلـّـها عن الإدراك وقد تكون سلبيّة ولذلك لا وجود لتأقلم ناجح أو دقيق بصفة مطلقة. التـّـأقلم يشمل من ناحية تحكـّـما معرفيّا لكنّ تأثير المحيط المتواصل يُـنشئ تجارب جديدة ومهامّا جديدة ويولـّـد حالات جديدة تستدعي مهامّا أخرى هدفها التــقليل من التـّـعقيد عبر إيجاد معاني وأفكار وطرق جديدة، وعند هذه النـّـقطة يبرز دور المجتمع والثــقافة.


قدّم دلبير بيندرا، في دراسته المذكورة سابقا، تحليلا مقنـِـعا للإتـّـجاهات النـّـظريّة الرّئيسيّة الذي عرفها علم نفس العاطفة منذ النـّـصف الثـّـاني من القرن التـّـاسع عشر. النّهج الأوّل والأكثر شيوعا ظهر مع ويليام دجيمس (1884) وحدّد العاطفة بأنـّـها عمليّات فريدة لكنّ الأفكار التي وُضعت حول عمل العاطفة اتـّـخذت أشكالا متعدّدة. ويليام دجيمس نفسه، كما رأينا، اعتبر العاطفة إحساسا بالتـّـغيّر الذي يحصل في الجسم نـاجما عن إدراك لعامل مؤثـّـر (مثير). في الحقيقة جاءت النـّـظريّات الخاصّة بالعاطفة في إطار علم نفس الإدراك وكذلك علم النـّـفس الفيزيولوجيّ؛ وهذه بعض التـّـعريفات التي صيغت حول العاطفة قبل وبعد ويليام دجيمس:
ـ حسب سيغموند فرويد، العواطف والمشاعر تتطابق مع عمليّات التـّـنفيس أو إخراج الشـّـحنات المكبوتة (اللاّوعي 1915).
ـ وحسب الفيزيولوجيّ الأمريكيّ ولتر كانون (Walter Cannon)، في دراسة عنوانها "نظريّة العاطفة لدجيمس ولانغ، معالجة نقديّة وطرح نظريّة بديلة" نشرت بمجلـّـة السيكولوجيا الأمريكيّة سنة 1929 (العدد 39 ص 106 ـ 124)، العواطف أو التـّـجارب العاطفيّة تنشأ عن التـّـغيّرات التي تحدث في أعضاء الجسم المؤثـّـرة لكنّ هذه النـّـظرة يتمّ تعويضها بالفكرة القائلة بأنّ العواطف ناتجة عن تأثيرات قويّة غير مألوفة نابعة من المهاد أو التـّـلاموس (3) (Thalamus) تؤثـّـر على النـّـظم العصبيّة اللـّـحائيّة (القشريّة)؛ 1929.
{Walter Cannon, The James-Lange Theory of Emotion: A critical Examination and An Alternative Theory, }



ـ وحسب التـشيكيّة الكنديّة ماغدا أرنولد (Magda Arnold, 1950, 1960)، العاطفة هي نزعة محسوسة تجعل الشـّـخص يتـّـجه نحو كلّ ما قيـّـمه الحدس وصوّره على أنـّـه حسن ومفيد وكذلك نحو الإبتعاد عن كلّ ما صنـّـفه الحدس بأنـّـه سيّئ وضارّ. الإنجذاب نحو الحسن والإبتعاد عن السّيئ ترافقهما تغييرات في الأنماط الفيزيولوجيّة منظـّـمة حول الإبتعاد والتـّـحاشي. معنى هذا أنّ ماغدا أرنولد جعلت العاطفة نقييما للمؤثـّـرات الحسّية من طرف المخّ ينتج عنه موقفا عاطفيّا يـُـنتج تجربة عاطفيّة.
ـ وحسب دونلد بنجامين لندسلي (Donald B. Lindsley 1907-2003)، العاطفة هي تنشيط سلوكيّ للتـّـشكيل الشـّـبكيّ لخلايا الجذع المخّيّ. سمّيت هذه النـّـظريّة بنظريّة التـّـفعيل أو التــّـنشيط وسأعرض إليها بمزيد من التـّـفصيل لاحقا.

النـّـظريّات التي تشرح العاطفة متعدّدة لكن ليس هناك نظريّة واحدة من بينها تـُـحضى بقبول شموليّ لأنّ فكرة العاطفة كعمليّة واحدة لا تستطيع أن تشرح المعلومات التي جـُـمعت من الدّراسات المخبريّة والإمبيريقيّة ولأنّ الدّراسات نفسها قد ركـّـزت، كلّ واحدة منها، على خاصّية معيّنة من موضوع العواطف. المقاربة الثـّـالثة كانت لها ميزة أساسية تمثـّـلت في الإقحام الفوري للعواطف في السـّـلوك العامّ وشرح كلّ الظـّـواهر العاطفيّة من دون اللـّـجوء النـّـظريّ إلى العاطفة. بدلا من التـّـركيز على العاطفة نفسها درست هذه المقاربة مجموعة من العمليّات من أجل شرح العاطفة والدّوافع والإدراك؛ وكما رأينا، يـُـعدّ دالبير بيندرا وروبارت ليبر مثالين على هذه المقاربة. وإذا كانت النـّـظريّات التي اعتمدت استراتيجيَـا من هذا القبيل قد وُصفت بأنـّـها نظريّات "حسنة" فذلك ربّما لأنـّـها سعت إلى تقديم مكاسب كبيرة في أضيق الحدود؛ بيد أنّ هذا القول لا يزال يتعيّن أثباته. أمّا النـّـظريّات الحديثة المتعلـّـقة بالعواطف والإنفعالات فيمكن أيضا تحليلها من حيث الخصائص التي ركـّـزت عليها؛ هذا القول يشير على الأقلّ إلى خمس مقاربات رئيسيّة:
ـ العواطف كتجارب واعية متباينة ذاتيا (النـّـظريّات التي اتـّـجهت نحو التـّـحليل النـّـفسيّ).
ـ العواطف كحالات نفسيّة تؤكـّـد استقلاليّة الجهاز العصبيّ أو النـّـظام اللـّـمبيّ (دونالد لندسلي، ماغدا أرنولد). النـّـظام اللـّـمبيّ (The Limbic System) هو الجزء من المخّ الذي فيه تتكوّن العواطف، وهو عبارة عن مجموعة من الهياكل تحت قشريّة أو تحت لحائيّة (subcortical) تشمل المهاد (الهايبوتالاموس)، وفرن آمون (الهايبوكامبس) والأميغدالا.



ـ العاطفة كتعبير عن درجة غير كافية من التـّـأقلم (روبارت بلوتشيك Robert Plutchik ).
ـ العاطفة كعامل تحفيزيّ (روبارت ليبر).
ـ العاطفة كجانب واحد من جوانب السـّـلوك (جون ميلـّـنسون John R. Millenson).
يمكن القول إذا إنّ النـّظريّات التي درست العاطفة إمّا تناولتها في إطار دراستها للإدراك أو تناولتها في إطار علم الفيزيولوجيا أو في إطار علم النـّـفس السـّـلوكيّ أو علم النـّـفس التـّـجريبيّ. وعوض أن تقوم بتبسيط النـّـظريّات وجعلها في متناول عامـّـة النـّـاس فإنّ علم النـّـفس الأكاديميّ قد جعلها معقـّـدة للغاية. ولعلّ النـّـظريّة والأبحاث كانت نابعة من المعاني البديهيّة والحدسيّة النـّـاتجة فعليّا عن العاطفة. ثمّ إنّ معظم جوانب علم النـّـفس على صلة بالعواطف ولذلك عملتْ على الغوص فيها وسبر أغوارها، ولهذا السّبب أيضا أضافت فروع علم النـّـفس المتعدّدة تعقيدا لهذه الصّورة المعقـّـدة أصلا إذ أنّ كلّ فرع نجد فيه خطوطا عديدة من التـّـفكير تتجلـّـى في العديد من السـّـياقات من بينها دراسة العواطف.

النـّـظريّة وأسسها:

كلمة "نظريّة" تحمل الكثير من المعاني وتـُـستعمَل في مختلف مجالات المعرفة لكنّ استعمالها يتوقـّـف على المنهجيّات وسياقات المناقشة. النـّـظريّة نموذج قادر على توقـّـع الظـّـواهر المستقبليّة وقابل للإختبار عبر التـّـجربة أو الملاحظة الإمبيريقيّة قصد التـّـحقق من صحّته. النـّـظريّة وإن كان الغرض منها وصف الواقع وصفا دقيقا من خلال قانون شموليّ إلى حدّ ما فإنّها لا تعني "الحقيقة" وليست بالضّرورة تستند إلى الحقائق وإنـّـما هي تعبّر عن "واقع" معيّن بقطع النـّـظر عمّا قد يقول عنها المناوئون لها. النـّـظريّة تـُـشيّد من أجل شرح الظـّـواهر والتـّـنبّؤ بها لكنّ النـّـظريّات تبقى دوما مؤقـّـته بمعنى أنـّـها ليست سوى فرضيّات تمّ إثبات صحّتها في حالات معيّنة. وفي الوقت نفسه لا يمكن دحض نظريّة ما بالإستناد إلى جانب واحد لا يتماشى مع قوانينها النـّـظريّة خاصّة في مجال علم النـّـفس. وقد اعتمد منظـّـرو علم النـّـفس الأوائل "الواقعيّة العلميّة" كمنهج، ويُـعزى ذلك، جزئيّا، إلى الهدف المنشود وهو بناء نظريّات "علميّة" مشروعة تشرح الظـّـواهر النـّـفسيّة عن طريق محاكاة المناهج الوضعيّة. وقد تلـقـّى ذلك الإتـّـجاه دفعا من "حلقة فينّا" التي وضعت مفهوم "الوضعيّة المنطقيّة" في العشرينات من القرن الماضي. في المنطق الوضعيّ كلّ تصريح يكون صحيحا عندما يُـتوصّل إليه عبر التـّـحليل والإستنتاج ويحمل بداهة كالتي نجدها في الرّياضيات والمنطق الصّوريّ وهكذا فإنّ تصريحا كهذا "الهايبوتالاموس يلعب دورا في التـّـعلـّـم" يكون صحيحا لأنـّـه بإمكاننا قياس المؤثـّـر وردّه الفعل التي تنجرّ عنه وكذلك وصف العلاقة بينهما. أمّا قولنا "الكآبة دليل على العذاب" أو قولنا "الإنهاك أو الوكد (stress) يُـنتج حملا ألـّـوستاتيّا" (Allostatic Load) (4) فلا معنى لهما لأنـّـه من العسير التـّـحقــّـق من صحـّـتهما. الوضعيّة المنطقيّة كانت دون شكّ أرضيّة خصبة تطوّر فيها علم النـّـفس السـّـلوكيّ لأنـّـها شدّدت على أنّ علم النـّـفس يجب أن يُـعنى فقط بالظـّـواهر التي يمكن إثباتها عبر الملاحظة المنظـّـمة (المخبريّة) وبالتـّـالي قياسها بطريقة موضوعيّة موثوق فيها (واطسون 1913). بالنـّـظر إلى هذه الخلفيّة، يمكن القول إنّه أصبح من الشـّـائع، في وقت مبكر، أن يحاكي علم النـّـفس العلوم الفيزيائيّة في بناء النـّـظريّات عبر صياغة هياكل وأشكال تشبه الصّياغات الفيزيائيّة.

قال ستانلي سميث ستيفنس (Stanley Smith Stevens) في كتابه الضـّـخم (1400 صفحة) والذي عنونه، تفكـّـها، "كتيّب في علم النـّـفس التـّـجريبيّ" A Handbook of Experimental Psychology (1951) إنّ العالم يبحث دوما في الظـّـواهر الثـّـابتة المكوّنة من متغيّرات، وعندما يكتشف العلاقة الوظيفيّة بين متغيّرين يطرح السّؤال التـّـالي، بصفة طبيعيّة: تحت أيّة ظروف تتماسك نظريّته؟. العلاقة بين المتغيّرات، حسب ستانلي سميث (الذي يناديه أصدقاؤه باسم "Smitty")، تكون ثابته ولذلك فإنّ البحث عن العلاقات الثـّـابتة (الثـّـوابت Invariables) يمثـّـل التـّـطلـّـع الأساسيّ نحو التـّـعميم. كتب ستانلي سميث ستيفنس"في علم النـّـفس كما في الفيزياء المبادئ التي يمكن تطبيقها على نطاق واسع هي المبادئ التي نثـمـّـنها" (المرجع نفسه ص20). هذا المذهب يُـسمّى الذرائعيّة، ويعود الفضل في ترسيخ وجهة النـّـظر الذرائعيّة (Instrumentalism) (5) في علم النـّـفس إلى كارل بوبّر (Karl R. Popper) الذي كان على اتـّـصال بحلقة فيينّا (لم ينتمي إليها) ثمّ صار ناقدا للوضعيّة المنطفيّة. تقول نظريّة بوبّر إنّ كلّ اكتشاف علميّ يتلخّص في أربع مراحل هي:
ـ الطـّـور الصّوريّ وفيه يتمّ التـّـحقـّـق من الإتـّـساق الدّاخلي للنـّـظريّة.
ـ الطـّـور شبه الصّوري وفيه يتمّ فصل الإفتراضات ذات النـّـتائج المنطقيّة التـّـجريبيّة (الإمبيريقيّة) عن غيرها من الإفتراضات التي ليس لها قابليّة للتـّـطبيق.
ـ طور المقارنة وفيه تـُـقارَن النـّـظريّة بنظريّات أخرى موجودة تشرح الظـّـواهر نفسها فإذا ما وجد واضع النـّـظريّة (في نظريّته) افتراضات تضيف إلى القوّة التـّـفسيريّة للنـّـظريّات الموجودة ينبغي عليه أن يتخلـّـى عنها أي عن تلك الإفتراضات.
ـ مرحلة الإختبار الإمبيريقيّ وفيها يتمّ الإختبار الإمبيريقيّ للإفتراضات التي من المحتمل أن تكون صحيحة.
هذه المراحل الأربع من شأنها أن تـُـبرز، على الأرجح، عيوب النـّـظريّة المُقترَحَة وتعزّر صحّتها وكيفيّة استعمالها. أكـّـد بوبّر أنّ تركيز الوضعيّة المنطفيّة على طور التـّـحقـّـق دون غيره من الأطوار التي يمرّ بها وضع النـّـظريّة أدّى إلى التـّـحيّز للنـّـظريّة وإلى التـّـعميم وإلى أخطاء في بناء النـّـظريّات واختبارها. وقد أدّى تطوير نظريّة "التـّـنافر الإدراكيّ" التي وضعها ليون فيستنغر (6) أوّل مرّة سنة 1957 إلى إبراز أهمّية كارل بوبّر في التـّـركيز على التـّنبّؤات الجريئة في مجال وضع النـّـظريّات ومفهوم المقاومة التي يمارسها أصحاب النـّـظريّة والتي تجعلهم يرفضون التـّـخلـّـي عنها حتـّـى وإن ثبتت عيوبها. تبرّأ كارل بوبّر من التـّـفاسير الملاحظيّة الإستقرائيّة (observationalist, inductivist) الكلاسيكيّة المعروفة في المناهج العلميّة وقدّم مصطلح "التـّـزييف التـّـجريبيّ" الذي اعتبره وصفا دقيقا للنـّـقد العقلانيّ للفلسفات التـّـبريريّة. التـّـرييف، حسب كون، هو إمكانيّة منطقيّة تثبت زيف فرضيّة ما تقول بها نظريّة ما. كلّ نظريّة قابلة للتـّـزييف لكنّ ذلك لا يعني أنـّـها خاطئة فالتـّـزييف هنا له معنى مختلفا تماما عن المعنى الأصليّ للكلمة؛ التـّـزييف عند كون هو عمليّات متواصلة من الملاحظة ومساءلة النـّـظريّة والسـّـعي إلى إثبات فرضيّاتها عبر التـّـجربة، والتـّـجريبيّة هي الوحيدة الكفيلة بـ"تحوير" النـّـظريّة أي "تزييفها" وهو إثبات صحـّـتها أو بطلانها. ولقد أكـّـد كارل بوبّر أنّ كلّ نظريّة وكلّ فرضيّة ينبغي أن تكون قابلة للتـّـزييف لكنّ بعض النـّـظريّات قد تكون، من ناحية، قابلة للتـّـزييف (التـّـقييم)، من حيث المبدإ، وغير قابلة للتـّـزييف على المستوى التـّـطبيقيّ. أن نقول مثلا إنّ عواطف الإنسان سوف تتغيّر بعد مليون سنة تأكيد يمكن إثباته بالرّجوع لمراحل التـّـطوّر التي مرّ بها الإنسان مذ كان حيوانا إلى أن صار إنسانا ففي مرحلته الحيوانيّة كانت العدوانيّة متغلـّـبه على خصائصه ثمّ تكوّنت لديه أخلاقيّات شيئا فشيئا فصار كائنا خيّرا. إلاّ أنّ هذا القول لا يمكن إثباته إمبيريقيّا.

ولم يكن كارل بوبّر الوحيد الذي انتقد واضعي النـّـظريّات بل إنّ طوماس سامويل كون (1922 ـ 1996)، الذي وضع العديد من المؤلـّـفات في تاريخ وفلسفة العلوم، قد وصف العلماء بأنـّـهم يعتمدون على الخيال ويأبوْن القطيعة مع الفهم المتـّـفق عليه والمناهج المتعارفة وبذلك يعزفون عن التـّـجديد ويقعون في التـّـجريبيّة الشـّـاذة. قال طوماس كون، في كتابه "بنية الثـّـورات العلميّة" (The Structure of Scientific Revolutions, 1962) إنّ النـّـظريّة في علم النـّـفس على ارتباط وثيق بالنـّـموذج الشـّـامل الذي فيه تطوّرت، والنـّـموذج (Paradigm) عنده هو مجموعة من الممارسات تحدّد المادّة العلميّة أو الفرع العلميّ في فترة زمنيّة محدّدة. وقد وضع كون مصطلح "النـّـقلة النـّـموذجيّة" أو النـّـقلة النـّـوعيّة" (7) (The paradigm Shift) وفسّره بما يلي:
ـ كلّ ما يُلاحَظ ويُـفحَـص.
ـ جميع الأسئلة التي تـُـطرح حول الموضوع ويتمّ البحث فيها.
ـ هياكل الأسئلة التي تجيب عليها النـّـظريّة وكذلك هياكل النـّـتائج العلميّة للبحث.
وليعلم القارئ أنّ معالجة العلاقة بين التـّـغيّر النـّـوعيّ والتـّـغيّر الكيفيّ تتكرّر باستمرار في نظريّات علم النـّـفس بل إنـّـها تقع في قلب التـّـحليل النـّـفسيّ الذي هو فرع مستقلّ من علم النـّـفس وتلك العلاقة تبقى فكرة مجرّدة للغاية في نموذج الخطاب العلميّ الذي طوّر فيه سيغموند فرويد ما يُـعرف بالميتاسيكولوجيا (8). وبالعودة إلى مصطلح النـّـموذج الذي وضعه طوماس كون أقول إنّه يبقى متواجدا أو ممتدّا لفترة زمنيّة طويلة أي إلى أن تصبح النـّـظريّة عاجزة على الإجابة عن الأسئلة المطروحة؛ عندئذ تحدث النـّـقلة النّوعيّة وهي ثورة علميّة تحطـّـم الافتراضات المتعارفة في النـّـظريّة السّائدة. النـّـموذج حسب طوماس كون هو الافتراضات المشتركة بين الجماعات العلميّة وحدها أمّا الثـّـورات العلميّة (في النـّـظريّة) فتحدث عندما تتزايد الإفتراضات الشـّـاذّة في النـّـظريّة.

الكثير من المفاهيم التي وضعها كارل كون أدّت إلى ظهور علم الأعصاب الإدراكيّ والإجتماعيّ، وقد ركـّـز علم الأعصاب الإدراكيّ على تصوير الدّماغ وقياس العمليّات الذهنيّة قصد الإجابة على الأسئلة الرّئيسيّة التي طرحها ذلك العلم: كيف تمّ إنشاء نظم معالجة المعلومات في الأنسجة العصبيّة؟ ومتى تـُـستعمَل أنواع محدّدة من نظم معالجة المعلومات دون غيرها؟ ماهي المناطق الدّماغيّة التي تمثـّـل نظما عصبيّة في معالجة المعلومات وتجعل لها وظائف معيّنة؟ ما هي المناطق الدّماغيّة التي تمثـّـل نظما بسيطة تؤدّي وظائف بالتـّـعاون مع مناطق أخرى؟ ماهي خصائص العمليّات الدّماغيّة التي تجعل منطقة ما قادرة على تأدية وظائف معيّنة؟ ما هي خصائص القدرة الدّماغيّة لمنطقة دماغيّة معيّنة؟ ما هي الطـّـرق التي بواسطتها تتمّ تأدية الوظائف؟ ما هي العمليّات التي يمكن استنتاجها من التـّـنشيط الدّماغي؟ ماهي متغيّرات التـّـنشيط التي تجعلنا قادرين على التـّـنبّؤ بالآداء؟ كيف تتغيّر معالجة المعلومات مع التـّـطبيق وفي السـّـياقات المختلفة؟ كيف تعتمد المعالجة على الهدف وعلى تسلسل عمليّات المعالجة؟ الجواب على هذه الأسئلة خارج عن نطاق هذا الكتاب الذي يُـعنى أساسا بالعواطف لكنّ الأسئلة التي يطرحها علم الأعصاب (Neuroscience) تفيد القارئ بأنّ تطوّر تقنيّات تصوير الدّماغ وقياس النـّـشاط الدّماغيّ الذي يسمّى "EEG" أو "electroencephalogram " أدّت إلى ظهور نظريّات عديدة تشرح كلّ أنواع العواطف.

النّظريّة منظومة منظـّـمة تفسّر معرفة مقبولة متعلـّـقة بظاهرة ما وتـُـطبّق في الواقع. تبدأ النـّـظريّة كفرضيّة نشأت من الملاحظة ثمّ تـُـصاغ في قانون يتمّ التـّـاكـّـد من صحـّـته عبر التـّـجربة. ومن جانب آخر تعبـّـر النـّـظريّة عن معتقد يوجّه السّلوك ويتفاعل مع مجموعة النـّـظريّات الأخرى. وينبغي أن تكون النـّـظريّة قابلة للتـّـطبيق وقادرة على توقـّـع الأحداث والظـّـواهر المستقبليّة فإذا لم تكن قادرة على ذلك تكون عديمة الفائدة. وهذه بعض الخصائص التي يجب أن تتوفـّـر في كلّ نظريّة كما وصفتـْها ريبكـّـا مورتن (Rebecca Morton)، أستاذة العلوم السّياسيّة الحاصلة على دكتوراء في الإقتصاد، في كتابها "المناهج والنـّـماذج" (9):
ـ أن تكون شموليّة (universal) وذات وجود زمكانيّ في نفس الوقت.
ـ أن تقوم النـّـظريّة بتصنيف الخصوصيّات أو المسلـّـمات.
ـ مضمون النـّـظريّة لا يمكن أن يوجد إذا لم يكن لخصوصيّاتها خصائص نوعيّة مثل سنّ فلان مثلا (quality particulars) وخصائص علاقيّة مثل علاقة هذا الشـّـيء بذاك أو علاقة زيد بجهينة.
ـ الخصوصيّات مرتبطة بجوهر النـّـظريّة وموجودة في نظام التـّـصنيف (taxonomy) الذي تقدّمه النـّـظريّة.
ـ أن تكون النـّـظريّة متماشية مع معيار جاي. إي. بي. دي. (JEPD) (10) المقبول كهدف في التـّـصنيف.
ـ النـّـظريّة تتألـّـف من معاني من الدّرجة الأولى تتمثـّـل في الدّلالات اللـّـفظيّة المتماشية مع قوانين المنطق لكنّها يجب أن تعمل على التـّـبسيط اللـّـفظيّ من دون الإخلال بوصف الظـّـروف بدقـّـة.
ـ أن تعرض النـّـظريّة الحقائق النـّـظريّة والرّوابط بين كيانات المربّع الأنطلوجيّ أو الوجوديّ الذي وضعه أرسطو باعتباره نظريّة منهجيّة حول الجواهر والأنواع.






ـ تبقى النـّـظريّة منقوصة إذا لم تأخذ بعين الإعتبار الزّمن.
ـ المتانة المنطقيّة للنـّـظريّة تبرهن على تماسكها الدّاخليّ الحاسم.
في هذا الإطار تـُـعدّ السّلامة المنطقيّة والتـّـصنيف والتـّـبويب وسائل معرفيّة هامّة، ويُـعبّر عن سلامة النـّـظريّة وتماسك بنيتها الدّاخليّة بمصطلح الإتـّـساق "consistency". وكما رأينا، النـّـظريّة ينبغي أن تكون منهجيّة (formal) أي أن تتضمّن حقيقة أو حقائق وقوانين قابلة للإختبار تربط مصطلحاتها ببعض. تلك القوانين يجب أن يتمّ تعريفها وإثباتها من خلال التـّـجربة والأحداث الإمبيريقيّة. النـّـظريّة ينبغي أن تفسّر الأحداث الإمبيريقيّة وأن تقلـّـل منها لكي تقدّم بطريقة مبسّطة نموذجا له شكل مبسّط

العديد من نظريّات العاطفة يمكن وصفها بأنها ناجحة ولكنّها بصورة عامة تفتقر إلى الهيكل المنهجيّ الذي تحدّثنا عنه (انظر على سبيل المثال شاشتر Schachter لاحقا). ولعلّ أهمّ جانب من جوانب النّظرية النـّـفسيّة يتمثـّـل في درجة ارتكازها على قاعدة تجريبيّة. النظريّة التي لا يمكن اختبارها تبقى فكرة مجرّدة، ولذلك فإن تشييد أيّة نظريّة ينبغي أن يرتبط بالبناءات التجريبيّة التي هي، في حدّ ذاتها، في علم النفس ، وصفا للسّلوك والحالات التي حدث فيها ذلك السـّـلوك. ومن هنا يمكن القول وكما سيرى القارئ إنّ الكثير من النـّـظريّات تمتاز بالفقر والقصور. كثير من النـّـظريّات النـّـفسيّة صيغت بعبارات غامضة جدّا حتـّـى أنـّـها لا تؤدّي إلى التـنبّؤ بصفة واضحة. ومن المشاكل التي ألمحنا إليها المشكل المتمثـّـل في وصف العاطفة والانفعالات وكذلك المؤثـّـرات المنتجة لها إذ غالبا ما تـُـقدّم بطرق متباينة ولذلك يصبح من الصـّعب مقارنة النـّـظريّات (قارن على سبيل المثال في وقت لاحق نظريّة ماغدا أرنولد التي جعلت العاطفة إدراكيّة فيزيولوجيّة بنظريّة ميلـّـنسون Millenson السّلوكية وكذلك نظرية دافي Duffy المسمّاة نظريّة "التـّـنشيط" أو "التـّـفعيل". ما أشرنا إليه من قبل بتشييد النّظرية يتمثـّـل في بناء أجزائها التي هي مزيج من الإقتصاد والتـّـعقيد. وما نستنتجه هو أنّ النّظرية ينبغي أن تكون متماسكة في هيكلها ولها أساس تجريبي متين.
النـّـظريّة تقدّم أساسا يمثل حلا نظريّا وسطا يمكـّـننا من التـّـنبّؤ؛ قوة النّظريّة تكمن في القدرة على التنبؤ. بعض نظريّات العاطفة، كما سنرى، كانت واسعة جدّا حتـّـى أنـّـه يمكن من خلالها التنبؤ بأيّ شيء تقريبا (على سبيل المثال ليبر Leeper). النّظريات الأخرى لا تكاد تبتعد عن الملاحظات الإمبيريقيّة التي تستند اليها، وبالتالي لا تمكـّـننا من التنبؤ إلاّ بدرجة ظئيلة (على سبيل المثال دافيتز Davitz). وكما سيتـّـضح، شيئا فشيئا، هناك مجال لنظريّة كاملة عن العاطفة، سأحاول صياغتها في آخر فصل من هذا الكتاب. ولكن ما يجب أن يعرف القارئ هو أنّه، حتى الآن، لا يوجد صواب أو خطأ في الأجوبة على الأسئلة المتعلـّـقة بالعاطفة المذكورة في هذا الفصل الأول. ورغم أن المسائل المتعلّقة بالمشاعر لها أهمية قصوى فإنّ علماء النـّـفس عالجوها بطرق اعتباطيّة أحيانا. كلّ باحث يقدّم حلولا جيّدة وبنفس القدر حججا داعمة لكنّ النـّـظريّات في ميدان أدبيّ في معظمه كعلم النـّـفس عادة ما تكون لها عيوبها. لهذه الأسباب، تمثـّـل العاطفة إشكالا في علم النـّفس ولعلّ هذا الكتاب يساعد القرّاء على تكوين رأيه الخاصّ حول العواطف.

مشاكل المصطلحات ومستويات الخطاب:

في كلّ الكتابات الأدبيّة حول العواطف ثمّة مصطلحات تـُـستعمَل بطريقة حرّة وهي مصطلحات غير متـّـفق عليها ولا تـُـعرّف تعريفا جيّدا من بينها مصطلح "العاطفة" نفسه. نقول مثلا فلان جائش بالعواطف أو منفتح القلب، ونقول هذه الوضعيّة مثيرة للعواطف أو للمشاعر، وعادة ما نعني بالعاطفة الفرح أو النّشوة أو الحب أو الكراهية، وكثيرا ما نتحدّث عن فـُـوار، أو حالة دراميّة أو هستيريّة، أو عن عواطف مبالغ فيها أو عن احتدام العواطف، وكثيرا ما نصف شخصا بأنـّـه هائج أو مهتاج أو عاطفيّ. ونتحدّث عن صدمة عاطفيّة وعن حالة عاطفيّة معقـّـدة. كلّ هذه الإستعمالات تثبت الطـّـبيعة الذاتبة للعواطف وتعقيد الموضوع. لكنّ العاطفة تشمل المودّة والشـّعور والإحساس والعذاب والغضب والقلق والتـّـنفيس واليأس والكآبة والرّقـّـة والهلوسة والإنفعاليّة والحماسة والحزن والسـّـعادة ونوبات الضـّـحك والغيرة والشـّـفقة والفخر والإعتزاز والطـّـرب والنـّـدم والرّضى والخجل والمفاجأة والدّفء أو الخشونة... وهنا أقدّم للقارئ كلمات إنجليزيّة فرنسيّة وترجماتها حتـّـى يعلم معانيها الدّقيقة كما نستعملها في هذا الكتاب:

Emotion: العاطفة؛ حالة عقليّة فيزيولوجيّة مرتبطة بمجموعة من الأحاسيس والأفكار والسّلوكات، وقد تكون العاطفة قد نشأت لدى الإنسان في إطار تعلـّـقة بالبقاء كميكانيزم يساعده على التـّـأقلم والإستمراريّة في البقاء، وهي ذاتية محضة وتلعب دورا في كلّ أنشطته. يميّز الباحثون بين العاطفة والمشاعر التي هي تجارب ذاتية للعاطفة نفسها. وقد رأينا أنّ علماء النـّـفس يميّزون أيضا بين العاطفة (الحالة العاطفيّة الفيزيولوجيّة) وبين علـّـة العاطفة (المثيرات). العاطفة تشمل أفكارا وسلوكا ولذلك تـُـعتبَر حالة ذهنيّة نفسيّة وتجربة في ذات الوقت. قولنا إنّ العاطفة تشمل أفكارا يجعلنا نربطها بنشاط معرفيّ (cognitive activity) وحول هذه النـّـقطة تعدّدت الآراء ولازال النـّـقاش محتدما. كلّ عاطفة تؤدّي إلى نتيجة أو سلوك مثل البكاء أو العراك أو مجرّد المشاعر. لكنّ السّؤال المطروح هو الآتي: هل أنّ السـّـلوك جزء من العاطفة أم لا؟ ليعلم القارئ أنّ المقاربة الوظيفيّة للعاطفة تقول إنّها نشأت لدى الإنسان لتضطلع بوظيفة: أن تساعد الإنسان على البقاء في مأمن من مختلف التـّـهديدات التي يتعرّض إليها وأن تجعله يتغلـّـب عليها. لو أخذنا المقاربة الوظيفيّة بعين الإعتبار لقلنا إنّ السّلوك مرتبط بالعاطفة؛ الخوف مثلا مرتبط بفكرة موجودة لديه مسبقا وهي أن يتصرّف في إطار مواجهة الخطر الذي يتعرّض إليه، أن يفرّ مثلا.
Feeling: شعور؛ تطلق هذه الكلمة على التــّـجارب العاطفيّة (شعور بالذنب مثلا) لكنّها في علم النـّـفس تعني التـّـجربة العاطفيّة الذاتية والواعية في نفس الوقت (الشـّـعور بالخوف يشمل وعيا بالخطر الذي يواجهه الشـّـخص). وتعني الإحساس وهو الشـّـعور الجسديّ الذي يتمّ سواء عبر الإدراك أو الحواسّ (الإحساس بالألم مثلا).
: Passion الشـّـغف الشـّـديد أو الهوى اللاّعقلانيّ الذي لا مردّ له إلاّ عبر العلاج النـّـفسيّ ولا مقاومة تنفع معه سوى عبر المساعدة الطـّـبيّة النـّـفسيّة. وقد يكون الشـّـغف هوسا أو حالة مرضيّة أخرى (اضطراب وسواسيّ قهريّ مثلا: Obsessive Compulsive Disorder) لكنّه ليس سلبيّا في كلّ الحالات. أمّا عناصره فيمكن حصرها فيما يلي: شعور قويّ، حماسة، ورغبة شديدة. ولقد اعتبر القدامى أنّ العقلانيّة تتحكـّـم بالإرادة وبالعاطفة والشـّـغف، غير أنّ فرويد رأى أنّ الإنسان كائنا تكبـّـله الرّغبات والدّوافع.
Affect: التـّـاثير وكذلك الإحساس العاطفيّ كما تثبته قسمات الوجه واللـّـغة الجسميّة وتعني هذه الكلمة النـّـزعة العاطفيّة.
Effusive: التـّـعبير عن العاطفة المبالغ فيه أو التي بلغت حدّها الأقصى. ويمكن أن نستعمل لفظ profuse أي كثير أو overflowing أي منساب.
Emotive: عاطفيّ أو معبّر عن العاطفة.
Theatrical: مسرحيّ أو مصطنع.
Traumatic: ناتج عن تروما وهي الصّدمة العنيفة.
:Affection إحساس عاطفيّ، نزعة عاطفيّة.
Affectivity: العاطفيّة، درجة العاطفة.
Empathy: التـّـعاطف.
Emotionality : الإنفعاليّة أو رقـّـة الإحساس أو الوجدانيّة.
Emotivity: العاطفيّة، تستعمل في اللـّـسانيات للتـعبير عن الرّصيد العاطفيّ الموجود في اللـّـغة. أمّا في علم النـّـفس فهي ضـارب ردّة الفعل العاطفيّة التي تصدر عن شخص ما والتي تتميّز بالكثافة والسـّـهولة وتواتر الصّدمات العاطفيّة (coefficient). العاطفيّة، بلغة أخرى، هي وصف النـّـموذج العاطفيّ ومحاولة قياسه وتـُـستعمل في دراسة وتشخيص العصابات النـّـفسيّة الذهانيّة (psychoneurosis).

على القارئ أن يميّز بين العاطفيّة الطـّـبيعيّة والعاطفيّة المهووسة أو المرضانيّة حسب قاموس الطـّـبّ النـّـفسي للدكتور لطفي الشـّـربيني (Normal and Morbid emotivity). العاطفيّة الطـّـبيعيّة تختلف من شخص إلى آخر حسب السّنّ أمّا العاطفيّة الطـّـفوليّة فتمتاز بغلبة ردود الفعل الفاغوعاطفيّة (vago-sympathetic) (11) وكذلك بغلبة الغرائز. وأمّا عاطفيّة الأحداث (المراهقون) فتمتاز بغلبة العاطفيّة الطـّـفوليّة إلى جانب بروز عامل مقلق متمثـّـل في تطوّر الغريزة الجنسيّة وفي الإفرازات المختلفة في الإناث والذكور على حدّ سواء. وأمّا عاطفيّة الأنثى فتقوم بالتـّـأكيد على غلبة الغرائز والإثارة العاطفيّة النـّـاتجة عن هرمونات المبيض والغدّة الدّرقيّة. وقد درس العاطفيّة عالم النـّـفس الفرنسيّ إيرنست دوبري (Ernest Dupré) الذي وضع مصطلح "التـّـركيبة العاطفيّة" وقال إنـّـها مجموعة من الظـّـروف تسمّى العصاب النـّـفسيّ (psychoneurosis). الأشخاص العاطفيّون يختلفون كثيرا ولذلك ينبغي على كلّ دارس للظـّـواهر العصبيّة أن يأخذ بعين الإعتبار ما يسمّى ردود فعل المنطقة النـّـفسيّة. لقد قسّم علم الأعصاب النـّـفسيّ النـّـفس إلى عدّة أقسام منها المنطقة العصبيّة التي تحمل خاصّيتين أساسيتين: المحيط الذي يمثـّـل الخاصّية الإجتماعيّة والعمق أو الخاصّية الدّاخليّة، وهاتان الخاصّيتان تؤثـّران في الوعي والوعي بالذات. العاطفة في علم الأعصاب النـّـفسيّ ظاهرة نفسيّة عضويّة ناتجة عن التـّـغيّر المفاجئ في ظروف التـّـأقلم للنـّـزعات العاطفيّة. أوّل مراحل العاطفيّة تتمثـّـل في الصّدمة العاطفيّة التي يليها طور ثان يتمثـّـل في الإحساس العاطفيّ. وبهذه الكيفيّة يتمّ التـّـمييز بين الهوى أو حالات الشـّـغف وبين العاطفيّة التي تـُـعدّ حالات مرضانيّة (باثولوجيّة).

الشـّـغف ليس عاطفة وإنـّـما هو حالة عاطفيّة منظـّـمة ومزمنة تفرض نفسها وتصبح مركز الجاذبيّة في مشاعر الشـّـخص ولذلك يسمّى عمليّة عاطفيّة (emotional process). ولكيلا أبتعد كثيرا عن العاطفة أقول إنّ المصطلحات التي تعبّر عنها كثيرة وإنّ العواطف تـُـعرّف في معظم الأحيان بأنـّـها حالة جسميّة تؤثـّـر في السـّـلوك وتأتي كردّة فعل على ظروف ومؤثـّـرات معيّنة. وعندما تـُـعرّف العاطفة كحالة فإنّ المقصود هي حالة نفسيّة أو حالة ذهنيّة أو حالة فيزيولوجيّة أو سلوكيّة؛ وكلّ التـّـعريفات تقريبا كانت نابعة من فرديّة لا تقبل سوى التـّـعريف الذي تقدّمه. لهذا السّبب أستعمل في هذا الكتاب تعبير العاطفة بمعناه النـّـفسيّ الصّرف وأتجنّب الإستعمالات المعروفة بين النـّـاس مثل كلمة "شعور" أو "مشاعر" أو "أحاسيس". إشكالية مستويات الخطاب في علم النـّـفس متأتـّـية من استمرار تقسيم العواطف إلى تجارب شخصيّة وسلوك وحالات فيزيولوجيّة تدلّ على المؤثـّـرات. كلّ الذين درسوا العاطفة استخدموا واحدا من هذه المفاهيم أو جميع الأنواع من الخطابيّة المذكورة ولكن، من الصّعب ذكر جميع الأعمال والأبحاث والمقارنة بينها. أمّا حديثنا عن "مستويات الخطاب" ربما يكون خطأ لأنه يعني ضمنا أنّ بعض الخطابات أعلى من غيرها وبالتّالي أجدر أو أهمّ. هذا في حدّ ذاته حكم تعسـّفي لأن كل مستوى أو كلّ نوع خطابيّ يتعامل مع مشاكله الخاصّة. ما إذا كنا نعتقد في مزايا وعيوب الخطاب أمر شخصيّ. وفيما يتعلـّق باعتبار العاطفة تجربة شخصيّة فهو التـّـأكيد الأكثر وضوحا، لأنه قائم على موثوقية البيانات المستعملة. منذ سنوات عدة ، جعل النهج الدّاخليّ علم النّفس سيّئ السّمعة ولذلك أعتبر أنّ هدفي من وراء هذا العمل ليس أن أجعله محترما مرّة أخرى وإنـّـما أن أعرض نظريّاته المتعلـّـقة بالعاطفة بطريقة نقديّة وتقديم تصوّري الخاصّ. هذا لا يعني أن ذاتيّة التـّـقارير عن كيفية شعور شخص ما أو عن المشاعر التي يحسّ بها لا يمكن أن توفـّـر معلومات مفيدة. النـّـظريّات لا يمكن أن يُـنظر إليها بمعزل عن الأبحاث ولا يمكننا معرفة ما إذا كان غضب شخص ما شبيه بغضب أخيه، مثلا، ولذلك فإنّ نتائج الدّراسات التي تؤكد على التـّـجربة الذاتية مفيدة جدّا. ومن ناحية أخرى لا ينبغي إغفال الدّراسات الظـّـاهراتيّة للعاطفة لأنها يمكن أن تكون مفيدة لعالم النـّـفس التـّـقليديّ. لكن كيف لنا أن نعرف أن المؤثـّـرات عاطفيّة دون معرفة ما إذا كانت تؤدّي فعلا إلى السّلوك العاطفيّ؟ من الصعب تعريف المؤثـّـر بشكل مستقلّ عن ردّة الفعل. عندما تصطدم بشخص في الشـّـارع فإنـّـه من المحتمل جدا ان يغضب وأن يشبعك ضربا؛ يجب عليك المحافظة على هذه الفرضية، إذا، حتى تصطدم بشخص لم يغضب ولم يتعارك معك. تعريف المؤثـّـر بشكل مستقل عن آثاره لم يحدث أبدا لأن مشكلة المؤثـّـر تشبه مشكلة العقاب المعروفة في نظريّات البيداغوجيا.

البحث في فيزيولوجيا العاطفة أنتج كمّا هائلا من الأدبيّات إلاّ أنّ علم النـّـفس الفيزيولوجيّ لم يستطع التـّـخلـّـص من الإختزاليّة كما سنرى لاحقا. المقاربة الفيزيولوجيّة ركـّـزت على وظائف العاطفة في الجهاز العصبيّ المستقلّ (Autonomic Nervous System = ANS) وعلى الجهاز العصبيّ المركزيّ (Central Nervous System = CNS) خاصّة النـّـظام اللـّـمبيّ. السّبب من وراء هذا التـركيز بديهيّ: كلّ شخص يحسّ بمعدّل نبضه الذي يتسارع عند تجربة العواطف الشـّـديدة ويحمرّ وجهه عند الغضب ولذلك يمكن تفسير العواطف عن طريق الفيزيولوجيا إلاّ أنّ هذه المقاربة خفـّـضت علم النـّـفس إلى فيزيولوجيا ولهذا السّبب اتـّـخذ علم النـّـفس السـّـلوكيّ على عاتقه مهمّة التـّـرفيع من موضوع علم النـّـفس لكي يجعله أكثر من فيزيولوجيا. علم النـّـفس استفاد من الفيزيولوجيا والفيزيولوجيا بدورها أدّت إلى تنبّؤات سلوكيّة مفيدة. ولكي نعالج مشكلة الإختزاليّة أو التـّـخفيضيّة، أي تخفيض الفرع العلميّ إلى مستوى أدنى، يجب علينا أن نطرح السـّـؤال التـّـالي: هل أنّ اختزاليّة علم ما لها ما يبرّرها؟ هذا السّؤال لم يلقى اهتماما كبيرا من طرف علماء النـّـفس لكن يمكن القول إنّ الدّراسة الفيزيولوجيّة للعاطفة أبعدت من اهتمامها السـّـلوك كما حاول علم النـّـفس السـّـلوكيّ أن يبعد من اهتمامه الفيزيولوجيا، وبالتـّـالي فإنّ الفكرة السّائدة هي أنّ فروع علم النـّـفس لا تحتاج إلى تبرير الإختزاليّة لأنـّـها تدرس كلـّـها العاطفة حسب منهج محدّد. الجدير بالذكر هو أنّ الأعمال التي وُضعت حول العاطفة كانت متنوّعة لكنّ معظمها قد تمسّك بمستوى معيّن من الخطاب النـّـفسيّ وخاصّة بمفهوم السـّـلوك العلنيّ. هذا ما قدّمه علم النـّـفس السّلوكيّ: إضفاء الموضوعيّة على السـّـلوك العاطفيّ لأنـّـه في منهجه أنقى وأقدر على معالجة السّلوك الملاحـَـظ غير أنّ مقاربة علم النـّـفس السـّـلوكيّ قد تعرّضت للنـّـقد باعتبارها قد بسّطت مشاكل العاطفة المعقـّـدة إلى حدّ كبير. وتتمثـّـل المقاربة السـّـلوكيّة في تجاهل المشاعر الذاتية وكذلك التـّـقليل من دور التـّـغيّرات الفيزيولوجيّة. هذه المقاربة تؤكـّـد على أنّ التـّـنبّؤات بالعاطفة لا يمكن أن تتمّ إلاّ في إطار دراسة السـّـلوك العاطفيّ. أسواء وُجدت حالة عاطفيّة داخليّة تحدّد السـّـلوك العاطفيّ أم لا فإنّ تلك الحالة لا يمكن وصفها إلاّ بالوقوف على محدّداتها الخارجيّة وهنا يدخل دور الموثـّـرات البيئيّة ودور المحيط في السـّـلوك. وفي الختام يمكن القول إنّ فهم العاطفة يبقى منقوصا من دون التـّـركيز على العاملين معا: التـّـجربة الدّاخليّة الذاتية والمؤثـّـرات الخارجيّة.

اصطناعيّة النـّـظريّة في دراسة العواطف:

أُخضِـعـَت العاطفة لدى كثرة من الأنواع الحيّة مثل الفئران والقردة والفيلة وكذلك البشر للدّراسات النـّـفسيّة، وبما أنّ تلك الدّراسات قد تمـّـت في المخابر فإنـّـها تمتاز بكونها اصطناعيّة. فهل يمكن اعتبار تلك العواطف التي أنتجت في المخابر عبر إخضاع الكائن المدروس لموثـّـرات معيّنة تعبـّـر فعلا عن عواطف بشريّة؟ إنـّـه لمن الصّعب للغاية إثارة عواطف الإنسان في ظروف مخبريّة ولذلك فإنّ العواطف التي وصفتها الأبحاث المخبريّة تبقى مخبريّة في جوهرها. وهذه الإشكاليّة تضرب علم النـّـفس المخبريّ في الصّميم إذ يقول النـّـقـّـاد إنّ المؤثـّـرات المستعملة تختلف كلـّـيا عن المؤثـّـرات التي يتعرّض إليها في الواقع. وتجدر الإشارة إلى أنّ الشـّـخص يعلم مسبقا أنّ الأمر مجرّد اختبار مخبريّ ولذلك يتحكـّـم بعاطفته عندما يُخضع للتـّـجارب المخبريّة، وهكذا تكون النـّـتيجة اصطناعيّة. وقد يعمد الباحث النـّـفسيّ إلى خداع الأشخاص المدروسين فيُخفي عنهم حقيقة أنـّـهم يشاركون في تجارب مخبريّة وفي هذه الحالة يقدّم النـّـقـّـاد معارضة أخلاقيّة لهذا الحلّ. أمّا الحيوانات التي تمّت تربيتها في المخابر بهدف استعمالها في الأبحاث المخبريّة فإنّ المخبر يعدّ بيتها المحايد الذي فيه نشأت (أو بيئتها الطـّـبيعيّة) ولذلك فإنّ العواطف التي قد تبديها عند إخضاعها لمؤثـّـرات تبقى مخبريّة أيضا ولا يمكن إسقاطها على كلّ الحيوانات أو على البشر الذين ترتبط تجاربهم العاطفيّة ببيئات مختلفة عن البيئة المخبريّة. كما أنّ الكثير من علماء النـّـفس يتساءلون عن الجدوى من استعمال الحيوانات في دراسة العواطف ويسألون: هل أنّ عواطف الحيوانات عواطف فعليّة أم شيئا آخر؟

لئن افترضنا أنّ للحيوانات عواطف فإنـّـها تكون قطعا مختلفة عن عواطف الإنسان ولذلك تكون المقارنة بين عواطف الحيوان والإنسان عقيمة. أقول هذا لأنّ علم النـّـفس الإرتقائيّ اتـّـخذ من المقارنة بين عواطف الحيوان والإنسان دليلا على رجوعهما لأصل واحد. كيف يمكننا القول إنّ للحيوانات تجارب عاطفيّة ومشاعر ذاتية؟ هذا السـّـوال تعسر الإجابة عليه ولكنّ المتشبـّـثين بعلم النـّـفس المخبريّ يقولون إنّ تجارب الحيوان يمكن أن نستخلص منها نظريّات تشرح عواطف الإنسان أيضا.

أهمّ المصطلحات وكيفيّة استعمالها:

الصّعوبة في تعريف العاطفة وكثرة المصطلحات المستعملة في كلّ فروع علم النـّـفس أدّيا إلى تداخل المصطلحات. وفي هذا الكتاب سيتعرّض القارئ لمصطلحات ثلاث تتكرّر كثيرا هي: الدّافع (drive)، الدافعيّة أو القوّة المحرّكة أو المحفـّـزة (motivation)، الإيقاظ أو الأستثارة (arousal). هذه المصطلحات وُجدت مذ حاول الإنسان تفسير سلوكه بصفة عقلانيّة، وهي لا تشير إلى تجارب أو إلى حقائق سلوكيّة وإنـّـما تـُستعمل في إطار ما يسمّى "العلـّـة الإفتراضيّة" (hypothetical cause) التي يـُـنظـّــَـر إليها على أنـّـها القوّة الموجودة وراء كلّ سلوك والتي تساعد على فهم السـّـلوك بصفة عامّة.

محاولة إعطاء الدّافعيّة أساسا نظريّا وتجريبيّا تجسّدت في مصطلح الدّافع، المتجذر في الغريزة. الدّوافع مثل الغرائز تمثـّل أسس الدّافعيّة أو القوى المحرّكة للسـّـلوك، وقد اُتـّـخِـذ هذا النـّـهج في علم النـّـفس كوسيلة في موضعة كلّ ما هو ذاتيّ بمنح أهميّة كبرى للتـّـركيبة البيولوجية. هذه المفردات الثـّـلاث جاءت نتيجة للفكرة القائلة بأنّ الدّافع له أساس فيزيولوجيّ يتمثـّـل في حاجيات الجسم وضروريّاته. إذا كان الحال كذلك فعلا فإنّ مفهوم الدّافع يصبح أقلّ افتراضيّة. ومن هذه الصّياغات تفرّعت أربع اتـّـجاهات رئيسيّة في مجال البحوث النـّـفسيّة المتقدمة:
- الجوع والعطش كما تمّت دراستهما في ديناميّة الحالات النـّـفسيّة وليس فقط كدوافع.
- عملت دراسات عديدة على إثبات أنّ الحيوانات تصبح أكثر نشاطا مع ازدياد الحاجة البيولوجيّة لديها، ومن ثمّ استـُـخلص أنّ الدّوافع لها آثار تنشيطيّة (تزيد من طاقة الإنسان والحيوان).
- تراكمت الأدلّة التي تدعم أنواعا محدّدة من الجوع فالجوع ليس فقط الحاجة إلى الطـّـعام وإنـّـما إلى أشياء أخرى مثل الجنس مثلا.
- أصبح قياس قوّة الدّافع في علم النـّـفس منهجا تتوخـّـاه بعض فروع علم النـّـفس.

وبالرّغم من أنّ اتـّـجاهات علم النـّـفس المختلفة قد قدّمت معلومات مفيدة عن الدّوافع والدّافعيّة أو التـّـحفيزيّة والإيقاظ (drive, motivation, arousal) فإنـّـها لم تضع تعريفا واحدا للدّافع مقبولا بصفة عامّة في كلّ الأوساط؛ بدلا من ذلك وُضعت تعريفات عديدة يمكن الإعتراض على كلّ واحد منها بطريقة أو بأخرى. في بعض الأحيان اُعتـُـبر الدّافع مثيرا وفي أحيان أخرى اُعتبر حالة نفسيّة. وفي إطار تطوير مفهوم الدّافع برزت إلى الوجود جملة من المشاكل النـّـظريّة أذكر منها مشكلتين فقط:
1 - كم يبلغ عدد الدّوافع؟ وهذا السّؤال يطرح إشكاليّة تتمثـّـل فيما إذا كان يتحتـّـم على الباحثين إيجاد تسميّة جديدة أم لا لدافع ما كلـّـما تمّت ملاحظة حالة عاطفيّة مختلفة عن سابقاتها، وفيما إذا كان من الصّواب إطلاق نفس الدّافع على كلّ التـّـجارب المتشابهة التي تؤدّي إلى نتائج مختلفة أم لا.
2 – هل أنّ الدّوافع تحدّد اتـّـجاة السـّـلوك أم تزيده طاقة فحسب؟ وهذا السّؤال يشكـّـك في قدرة الدّوافع أو في مصداقيّة المؤلـّـفات الأدبيّة التي وصفتها.

وفي خضمّ هذا الخلط قدّم كلارك هال (1884 - 1952 Clark Leonard Hull) للدّافع أساسا نظريّا أكثر متانة. أصيب كلارك هال بشلل الأطفال في سنّ ال 24 فصار معوقا، لكنّه أصبح واحدا من كبار المساهمين في علم النفس عندما حصل على شهادة الدكتوراه في علم النفس في جامعة ويسكونسن في عام 1918 وعمره 34 سنة . تمثـّـلت أوّل دراسة قام بها في معالجة آثار التبغ على الكفاءة السلوكية، ثمّ كرّس حياته بعد ذلك لدراسة السـّـلوك والتـّـطوّر الموضوعيّ لمناهج الدّراسات النـّـفسيّة وكان هدفه أن يحدّد المبادئ التي تتحكـّـم بالسـّـلوك. والهدف من الأساليب النـّـفسية في الدراسات تهدف إلى تحديد مبادئ السلوك وقد تمكـّـن كلارك ليونارد هال من ذلك في كتابه "مبادئ السـّـلوك" الذي نشره سنة 1943. نظر كلارك هال إلى الدّافع بوصفه مثيرا ناشئا عن احتياجات الأنسجة مما يحفـّـز على السّلوك. قوّة الدّافع يحدّدها طول الحرمان أو كثافة وقوّة السّلوك. وفي كتابه المذكور أعرب عن اعتقاده بأنّ الدّافع يكون غير محدّد، وهو ما يعني أنّه لا يوجّه السـّـلوك وإنـّـما يقوّي من طاقته فحسب أي ينشـّـط وظائفه. وبالإضافة إلى ذلك تحدّث هال عن الدّوافع الثـّـانويّة مثل إرادة النـّـجاح التي تحفـّـز على العمل وبذلك لم تعد الدّوافع غريزيّة فحسب بل جعلها تشمل كلّ المحفـّـزات والمثيرات والمؤثـّـرات. نظر هال إلى الدّافع بوصفه حاجة فيزيولوجيّة ولكن أيضا بوصفه مستقلاّ عن العادة أو السّلوك المتكرّر. إلاّ أنّ أبحاثا أجريت في السّنوات الأخيرة أظهرت أن مفهوم هال عن الدّافع يفتقر للمتانة.

المفهوم الآخر الذي سيلاقيه القارئ كثير في هذا الكتاب هو الاستثارة أو الإيقاظ أو "التـّـنشيط" (arousal) كما يسمّيه بعض علماء النـّفس. البعض من علماء النفس مثل دافي (Duffy) على سبيل المثال استعاض عن كلمة دافع بكلمة الإيقاظ. ويعتقد علماء النفس أيضا أنّ أساس العواطف يكمن في نظام الإضفاء المنتشر المرتبط بالمهاد والموجود في التـّـكوين الشـّـبكيّ للمخّ المسؤول عن تقبـّـل المثيرات والتـّـاثير في التـّـعلـّـم الذي يحدث عند تعرّض الشـّـخص للمثير. ويوصف المهاد أو الهيبوثالموس تشريحيا بأنـّـه مكوّن من أجزاء منفصلة : تشكيل الجذع الشـّـبكيّ للمخ Brain Stem Formation Reticular أو BSRF وكذلك النـّـظام المهاديّ المنتشر للإضفاء Diffuse Thalamic Projection System أو (DPTS) وهذان النـّـظامان يسمّيان معا النـّـظام الشـّـبكيّ المنشـّـط reticular activating system (RAS). ويكوّنان جذعا موجودا تحت المهاد. وقد أظهرت التـّـجارب على الحيوانات أنّ التـّـخطيط الدّماغي يحدث فيه عدم اتـّساق عندما يتمّ تنشيط نظم المهاد المذكورة أي إخضاعها للمثيرات. ومن تلك التـّـجارب استنتج علماء الأعصاب أنّ ارتباطا لا شكّ موجود بين المتغيّرات النـّـفسيّة ووظائف المخّ. ويُـعتـَـقد إلى اليوم أنّ النـّـظم المرتبطة بالمهاد أو الثـّـالموس هي المسؤولة عن الإهتمام والإستثارة.

المهمّ هو أنّ الدّوافع مثلها مثل الإيقاظ يستعملان بكثرة في علم النـّـفس لكنّ الأدلـّـة القاطعة على كيفيّة عملهما غير متوفـّـرة. هذه الحالة زادتها سوءا التـّـركيبة الإفتراضيّة التي شيّد عليها مفهوم الإيقاظ الذي يعتمد على المهمّة السّلوكيّة ذات تعقيد ما وعلى الفكرة السـّـلوكيّة القائلة بأنّ درجة الإيقاظ القصوى تؤدّي إلى إيقاظ أمثل وآداء جيّد. وهكذا ظهر الرّسم البيانيّ الذي يأخذ شكل الحرف U المقلوب والذي يسمّى "The Inverted U Hypothesis". المشكل الذي نجده في قلب ذلك الرّسم البيانيّ يتلخـّـص في السّؤال التـّـالي: في أيّة نقطة من ذلك الخطـّ المنحني الذي يمثـّـل الآداء السـّـلوكيّ يقع الإيقاظ ؟



________________________________________


وبالرّغم من وجود كمّ قليل من الأدلـّـة الأمبيريقيّة التي تقيم الدّليل على وجود مفهوم موحـّـد للإيقاظ فإنّ علماء النـّـفس يستعملونه في شرح العاطفة ولقد صار نتيجة لذلك من المقبول في أوساط علماء النـّـفس أنّ السـّـلوك العاطفيّ يحدث عندما تتوفـّـر مستويات عالية من الإيقاظ وأنّ العواطف المختلفة تتمتـّـع بمواقع مختلفة فوق منحنى الإيقاظ الذي تبيّنه الصّورة أعلاه. إذا كان الإيقاظ يتمثـّـل في دفع الجهاز العصبيّ نحو الفعل أو الآداء أو النـّـشاط فذلك يعدّ منطقيّا لكنّ هذه الفكرة لا تشرح كلّ السـّـلوكات العاطفيّة. لقد جعل علماء النـّـفس شرطا لازما للعاطفة لكي تحدث وهو استثارة الجسم أو الجهاز العصبيّ إلاّ أنّ الإيقاظ لا يدلّ دائما على وجود عاطفة كما تثبت ذلك ممارسة التـّـمارين الرّياضيّة إذ يكون الجسم مثارا لكنّ لا وجود لعواطف منجرّة عن ذلك. إنـّـه لمن العسير جدّا قياس الإيقاظ وبذلك تصبح عمليّة وضع مفهوم موحّد للإيقاظ أمرا مستحيلا. النّاس كما سنرى لاحقا يختلفون أختلافات كبيرة في ردود أفعالهم الفيزيولوجيّة كما أنّ الأوضاع المختلفة قد يكون لها ردود أفعال فيزيولوجيّة مختلفة أو متشابهة وهكذا فإنّ الحديث عن الإيقاظ كقانون شامل يصبح باطلا.

الفصل القادم: نظريّات العاطفة

الهوامش:

1- Leeper, R. W. A Motivational Theory of Emotion to Replace Emotion as Disorganized Response (1948 and 1962a)
Leeper, R. W. Some Needed Developments in the Motivational Theory of Emotions (1965)

آمن ديكارت بأنّ الغدّة الصّنوبريّة وكذلك العروق والأعصاب ملأى بالأرواح الحيوانيّة التي وصفها بأنّها رياح رقيقة أو بالأحرى شعلات نشطة متدفـّـقة عندما تتعرّض للإثارة يحدث الإدراك الحسّيّ. هذه المفاهيم محاولة بدائيّة في تفسير الرّوح وعلاقتها بالجسد.
منطقة في الدّماغ تعالج المعلومات الواردة من الحواسّ وتحيلها إلى أجزاء أخرى من الدّماغ.
الفكرة التي نجدها وراء مصطلح "الحمل الألـّـوستاتيّ" هي القول إنّ الوكد يؤدّي إلى إنهاك الجسم واستنفاذ طافاته. وقد سعى الباحثون إلى إثبات الآليات المرتبطة بالوكد والتي تؤدّي إلى تغييرات فيزيولوجيّة حاسمة. الحمل الألـّـوستاتيّ يشير إلى مجموعة مركـّـبة من المؤشـّـرات تدلّ على الأضرار المتراكمة نتيجة الوكد. تلك الأضرار تسبّب ضغطا على أعضاء الجسم والأنسجة وتـُـنتج تحوّلات في النـّـشاط الفيزيولوجيّ كردّة فعل على المؤثـّـرات السـّـلبيّة (الوكد). حسب هذا المفهوم، النـّـظم الفيزيولوجيّة تمرّ بتقلـّـبات في مقاومتها للإجهاد والوكد وهي حالة تـُـسمّى ألـّـوستاسيس (allostasis). الحمل الألـّـستوتاتيّ يتراكم عبر الزّمن ويـُـعرّف بأنّه الخسائر النـّـاتجة عن التـّـعرّض المزمن للتـّـقلـّـبات العصبيّة (ريادة نشاط الغدد العصبيّة مثلا).
الذرائعيّة (instrumentalism) مذهب يقول إنّ الأفكار والنـّـظريّات وسائل للعمل وإنّ صلاحيّتها العمليّة هي التي تقرّر قيمتها.
سوف أتعرّض لنظريّة فيستنغر في فصل "العواطف والإدراك" لكنّي أقول هنا إنّ فيستنغر كان مختصّا في علم النـّـفس الإجتماعيّ، وهو أمريكيّ يهوديّ من أصل روسيّ.
أسميتها نقلة نوعيّة لأنّ النـّـموذج في جوهره "نوع"، امّا التـّـراكمات الكمّية والقفزة النـّـوعيّة فقد وضعها ماركس في "رأس المال" فيما يُعرف بقانون ماركس الخاصّ بالأزمات الدّوريّة للرّأسماليّة.

الدّراسة الفلسفيّة لعلم نفس الذهن أو العقل وهي مجموعة من القوانين معروفة في علم التـّـجليل النـّـفسيّ الذي طوّره فرويد.
Methods and Models: A Guide to the Empirical Analysis of Formal Models in Political Science, 1999
نظام من العلاقات بين الجواهر وخصائصها ومجموعة من تقنيات التـّـفكير هدفها التـّـخلـّـص من عيوب النـّـظريّة. بالإنجليزيّة يسمـّـى هذا النـّـظام: Jointly Exhaustive and Pairwise Disjoint Criterion (JEPD))، ويقارن هذا النـّـظام الخصائص المرتبطة ببعضها والأنواع غير المرتبطة ببعضها لكي يضمن اتـّـساق النـّـظريّة.
عصب فاغوس بالإضافة إلى الجذع التـّـعاطفيّ المتمثـّـل في غمد الوجه والرّقبة.