مفاهيم الدولة والنظم السياسية التي عرفتها البشرية قديما (1)
يزيد بن حسين
مفهوم الدولة عند السومريين
لقد شهدت منطقة الشرق اعرق الأنظمة السياسية فى تاريخ الإنسانية، وأقدم القوانين والتشريعات. أن أقدم القوانين التي عرفتها البشرية هي القوانين السومرية، وهذا يكشف عن مدى الشوط الذي قطعته الدولة السومرية فى بناء الحضارة الإنسانية، والدرجة التي وصلت إليها دولة المدينة، فى التنظيم الاجتماعي. ويجمع الباحثون والمؤرخون المعنيون فى دراسة تطور الحضارات البشرية ونشوء الدول على أن ظهور القوانين والأنظمة الاجتماعية فى امة ما يعد من أوثق المعايير للحكم على مدى التطور الحضاري الذي حققته تلك الدولة أو الأمة. فهو من الناحية التاريخية والاجتماعية والفكرية يصور واقع الحياة فى مجتمع ما فى فترة زمنية محددة وينظم حياة الأفراد فى الدولة وعلاقة بضهم بالبعض الأخر وبالسلطة. فالنظم السياسية وقوانينها هو احد الأسس الجوهرية فى حياة البشر والدول، وله الدور البارز فى الشؤون الإنسانية، ويسهم إسهاما مباشرا فى تطور الدول والمجتمع الانسانى.
لقد تعلمت الإنسانية نظام الدولة والملك من قصة بدء الخليقة البابلية، اذ تصور لنا القصة الكون بهيئته دولة يحكم فيها الآلهة، وتصور لنا الأسطورة كذلك اصل الملك حيث انتخبت الآلهة فى أثناء الأزمة الحادة التي مرت بها **الإله مردوخ ** ليكون بطلها وملكا عليها، وتنازلت له عن سلطاتها، ومن هنا نشأ النظام الملكي فى بابل وأشور. ويقول ميريل اونجر (أن اى جماعة حين تستقر فى منطقة ما وتشكل نفسها فى مجتمع منظم كانت تصبح تحت رئاسة رأس ملكي ليس فى مصر فقط ولكن فى كل المدن الصغيرة التي أتى إليها زعماء القبائل كان يظهر فيها ملك بصورة ثابتة).
كانت الدولة عند العراقيين القدماء ذات طابع ديني، وفى نظر السومريين أن نظام الدولة وقوانينها وأحكامها وشرائعها صادرة من الآلهة، لأنها هي التي توحي بالقوانين إلى الملك الذي ينقلها بدوره إلى الشعب. ومن هنا نشأ الاعتقاد المتمثل بوكالة الملك للإله، وبكونه حلقة الوصل بين الآلهة والبشر، وبذلك اتصفت القوانين السومرية بالثبات والاستقرار، وكان الاعتقاد السائد عند الشعب حول الملك انه إذا لم يحرص على تطبيق العدالة، فسيغير الإله أيا قدره اى إن مصيره وقدره كملك مرتبط بموقفه من العدالة وحرصه على تطبيقها، لأنها إرادة الآلهة. وقد اعتقد السومريون إن الآلهة هي التي تختار الملك وتقدم له وظائفه. وقد اتسم نظام الحكم فى العراق القديم بمختلف أدواره بأنه كان حكما ثيوقراطيا اوتوقراطيا وراثيا. وان الطابع الثيوقراطى للسلطة وممارستها من قبل الملوك بصفتهم وكلاء عن الإله، كان قد بدأ مع تحول سلطة الملك إلى سلطة شخصية ودائمة ومستقلة عن المجتمع. وظل مبدأ الاختيار الالهى للملوك حتى نهاية الإمبراطورية البابلية التي سقطت عام 539 قبل الميلاد
وحتى الملك اورنمو السومري مؤسس سلالة اور الثالثة فقد أصدر مجموعته القانونية التي عرفت باسمه، وتعد أقدم شريعة معروفة ومدونة تم الكشف عنها حتى ألان. ويبدأ النص وهو مدون باللغة السومرية بموجز عن تاريخ العالم، وارتقاء شأن مدينة اور وملكها اورنمو كممثل لاله المدينة ** ننا **. وعندما ورث حمورابى العرش من أبيه عام 1792 قبل لميلاد، كانت مملكته صغيرة الحجم لا تتجاوز مساحتها زهاء 128 كم طولا، ونحو 40 كم عرضا. ويعتبر حمورابى من أعظم ملوك العراق القديم، وقد جاء فى فترة من أصعب الفترات السياسية من تاريخ العراق القديم، اذ كان مجزأ إلى أجزاء كثيرة، فقد قضى حمورابى فترة طويلة من التريث والانتظار، وتجنب أعدائه حتى استطاع فى نهاية الأمر أن يقضى على هذه الدويلات المنافسة له، الواحدة تلو الأخرى، فينفرد فى النهاية بزعامة البلاد، وتحقيق وحدتها السياسية. وفى عهده اعتبر نفسه انه ** ألهه الملوك ** مقرونا بالحكمة، حتى أن الأمثال البابلية عبرت عن الملك، أن الملك هو مرأة الإله اعتبارا أن حمورابى تلقى التفويض الالهى، او الحق الالهى والإرادة الإلهية شخصيا من الإله ننو وانليل وان طاعة الملك هي نوعا من التعبد. وقد تم العثور على مسلة حمورابى وشريعته عام 1901، وفيها القسم الأعلى من المسلة تمثل الإله شمش، اله الشمس
وهو جالس يسلم بيده اليمنى الملك حمورابى الواقف أمامه بخشوع الأدوات التي تساعده على إعمار البلاد، وكتبت المقدمة بأسلوب ادبى، استهلها حمورابى بذكر الآلهة العظام التي فوضت الأمر إلى الإله مردوخ، ثم دعته لنشر العدل فى البلاد. كانت السلطة الملكية حسب قوانين حمورابى استبدادية مطلقة، اذ أن شريعة حمورابى وقوانينه لم تقيد سلطته وتصرفاته، وكانت السلطة العليا ذات طابع ديني مستمدة من الآلهة التي تمنحها للملوك، وتمثل سرا ألهيا زود به كائن انسانى من قبل الآلهة، وبالرغم من تخلى الملوك النابلين عن الكثير من الممارسات الدينية لصالح الكهنة، واحتفاظهم بنوع من الرقابة الشكلية عليها، لكن ذلك لم يحل دون أن يحتفظوا بطابع القدسية لأنفسهم.
مفهوم الدولة فى الإسلام
وجاء الإسلام مطورا لفكرة الدولة ونظامها السياسي بعد أن ربط الدولة بالدين ، ويخطأ الكثير من الباحثين حين يظنون أن الفلسفة السياسية عند مفكري الإسلام جاءت بتأثير فلسفة اليونان، وفكرهم المناقض لروح الدين، لاسيما أفلاطون وجمهوريته المثالية، وهذا ما يركز عليه المناهج الاستشراقية التي تنسب كل شيء للغرب ولليونان على وجهه الخصوص. فقد لعب كل من الكندي وإخوان الصفا والفارابي وابن سينا ومسكوبة ادوار جديدة فى فكر الفلسفة السياسية، ويعطى ابن سينا دورا مهما للدين فى بناء المجتمع وتعزيز العلاقات وقيام السلطة وانتقالها واستمرارها وانتظامها.
كان النظام القبلي هو السلطة السياسية لدى العرب قبل الإسلام، وكان شيخ القبيلة هو الذي يحسم فى الأمر عند الخلاف حيث كان جواب قريش لقصي وللزعماء من بعده (أنت سيدنا ورأينا تبع لرأيك) وهكذا نرى ماكان يتبعه الناس قبل الإسلام، فهو الخضوع المطلق لرئيس القبيلة حتى فيما يخص القبيلة ويؤثر عليها. وجاء الإسلام ولم تتأسس الدولة الإسلامية فى مكة، ومنع الله الصحابة من الدفاع عن أنفسهم بمكة حيث لم تكن عناصر الدولة قد تحققت لهم، إلا انه يمكن اعتبار أن مفهوم الأمة والدولة الإسلامية قد بدأ فى الظهور والتطور التدريجي فى مكة، واخذ بعده النهائي فى المدينة.ولما هاجروا إلى المدينة وانضموا إلى الأنصار، وهناك تحققت لهم عناصر الدولة الإسلامية، وتكوين الأمة العربية الإسلامية من القبائل، فكانت امة فى دولة المدينة. وفى المدينة اعتمد الرسول عدة إجراءات كان لها شأنها فى بلورة فكرة الأمة وترسيخها والإعلان عن ميلادها. ويمكن لنا أن نحدد هذه الإجراءات الفاعلة والمؤثرة فى :
1- الهجرة : فقد الزم الإسلام المؤمنين بالهجرة والجهاد، فمن لا يهاجر فأنه لا يشارك فى تكوين الأمة المجاهدة، لان الهجرة تساعد على الإسهام فى بناء الدولة الإسلامية الناشئة.
2- الصحيفة ** الدستور ** عدت الصحيفة التي أعلنها الرسول وثيقة سياسية واجتماعية واقتصادية ذات شأن بلغ فى تنظيم وتطوير دولة المدينة، وكانت تعبيرا عن قيام الأمة فى المدينة، حيث وضع إطار الدولة الإسلامية الناشئة.
3- نظام الشورى : فقد ادخل النبي محمد تعديلات جوهرية فى النظام القبلي، مما أصبح معه نظام الشورى فى الإسلام لا يقل بحال عن النظام الديمقراطي المعاصر، وذلك فيما يتعلق بالجانب الحسن فى الديمقراطية، والخاص باختيار أهل الشورى والحكام. وأما الجانب السيئ الخاص بالتشريع من دون الله فما كان هذا جائزا فى الإسلام.
وفى عصر الراشدين حدث اتساع للأمة، وتبلور فكرة الجماعة الواحدة، ونضجت فكرة الأمة والدولة الإسلامية من خلال الشورى فى نظام الحكم، ووجود الخليفة فى تكاملها مع وحدة العقيدة والجماعة والأرض الواحدة. ولما جاء علماء الإسلام الأولين ووجدوا أنفسهم فى امة حية تعيش فى دولة قائمة لها دستورها وإحكامها وتعاليمها فى شتى نواحي الحياة فى الدين والأخلاق والاجتماع والاقتصاد وأمور الحكم والقيادة فلم يشغلوا أنفسهم ببحوث فرضية سياسية عن اصل الدولة وكيفية قيامها، ومدى الارتباط بين سيادة الحاكم وحقوق المحكومين، لأنهم وجدوا دولتهم قائمة بالفعل على أساس القران والدعوة إلى مبادئه، التي تجعل من الحاكم خادما لا سيدا وعلى هذا لم يحدث علماء الإسلام الأولون عن اصل الدولة هل هو زعامة عائلية قبلية، او هو زعامة دينية، مثل التي قام عليها ملك بنى إسرائيل، لان ملوكهم فى نظرهم خلفاء لأنبيائهم او هو ** حق ملكي مقدس ** بمعنى إن الله اختار شخصا وملكه على بقعة من أرضه وسلمه السلطة مباشرة. فهو مسئول أمام الله وحده مباشرة لا أمام الشعب والأمة. وقد وضع موسى القانون الأول للملك، ويقول ميريل اونجر انه بهذا القانون الملكي اتحدت المملكة الأرضية بالحكومة الدينية. فقد ظل الملك منذ شاؤل يجلسه يهوه على العرش الملكي ليحكم الشعب دون إن يختاره الشعب, فالملك مدين باختياره وتوليته للرب فقط واعتماده كذلك على الرب فقط، وبالتالي فهو مطالب بتنفيذ رغبات الرب الذي اختاره، وألا رفضه الرب واختار غيره. والملوك كمسحاء من الرب اعتبرهم الشعب أشخاصا مقدسين، دون إن يكونوا مؤلهين ودون إن يكونوا بعيدي المنال عن رعاياهم. اما بالنسبة للمسيحية فأن الملك هو نتيجة لخطيئة ادم الكبرى، أوجدها الله لتكبح جماح الأفراد وتحد من حرياتهم، عقابا لهم على هذه الخطيئة كما يرى أباء المسيحية، ام إن الأصل فيها هو قيام تعاقد بين الأفراد وحكامهم، يتنازل فيها كل منهم عن شيء من حقوقه وحرياته. فكانت الدولة كل هذا لم يشغل المسلمون أنفسهم به فى العصر الأول لتدوين الفكر الاسلامى، لان البحث عن حالة ما قبل الدولة يقوم على أساس خيالية، يفترضها الباحثون لتبرير نظرية خاصة وليس بحثا يقوم على حقائق علمية معترف بها عند العلماء، ومثل هذا البحث لامحل له فى دولة الإسلام الأولى، او هو مضيعة للوقت فى بيئة إسلامية يحكمها دستور قائم على القران والسنة، تناول كل شئون الحياة الإنسانية وحدود للإفراد وللحكام الحقوق والواجبات فى الدولة الإسلامية.
وقد ميز برهان غليون بين النظام السياسي فى الإسلام ومفهوم الدولة الإسلامية. فالنظام السياسي يشير إلى مجموعة القواعد والمبادىء والأهداف التي تحدد نمط ممارسة السلطة العامة فى المجتمع، سلطة الحكم، اى أسلوب استثمار الموارد المادية والمعنوية التي ينطوي عليها حقل سيأسى معين، فى حين يؤكد محمد سليم العوا إن نموذج الدولة الإسلامية ليس فيه نص قرأني صريح لا يحتمل فى تأويله الاختلاف، وان الدولة مرادفة لكلمة الشريعة. ويقول عبد المنعم أبو الفتوح (إن الدولة الإسلامية على مدار تاريخها لها معالم مميزة لها) ويحدد مفهومها بأنها الدولة التي اغلب سكانها من المسلمين، وعلى هذا فهى موجودة بالفعل وهى دولة مدنية وليست دينية، يحكمها المدنيون المتخصصون فى مختلف النواحي، لكنها مع هذا إسلامية فى شتى النواحي الاقتصادية او الإيديولوجية.
إن الحكم الاسلامى حكم مدني وليس حكما دينيا، فالاحتكام فيه ليس لأمر غيبي يدعمه الحاكم او الخليفة او عالم من علماء الدين، فالاحتكام يكون للقران والسنة، ومهام رئيس الدولة أكثرها مهام مدنية، وقد فصل بذلك الإمام الماوردى فى الأحكام السلطانية فعدد نحو عشر مهام دنيوية. ومن الحقائق الثابتة عندهم ** الملك لله الواحد القهار، الحكم لله احكم الحاكمين ** لان الله هو المشرع وعلى مدى تشريعه قامت دولة المسلمين. والرسول الذي ابلغ إليها شرع الله، ووكل إليه تنفيذ أوامره والإشراف على مقتضيات سيادته، إماما وقاضيا وقائدا وحاكما عاما للمؤمنين. اما إن الإسلام دين ودولة فحقيقة يثبتها نظام الإسلام، وان لم تكن هذه الصيغة قد وردت فى القران حرفيا، ولا يعالج موضوع الدولة بالمعنى الحديث، إلا انه لا يشترط بأي حال من الأحوال إن يكون نظام الحكم كهنوتيا ثيوقراطيا. إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي جمع بين الفرد والدولة، فى علاقة متزنة ومنسجمة. وان الإسلام تمكن فى المدينة من تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية والاقتصادية، أقصى ما يطمح إليه ماركس إن يحلم به فى القرن التاسع عشر..وعندما أعلن الرسول قيام دولة المسلمين فى المدينة، أعلن معها الميثاق والدستور، الذي يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحدد حقوق اليهود.
هذه الدولة كان قانونها مكتوبا وهو القران والسنة، وإثباتا على وجود هذه الدولة وقيامها هو عقد وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية ** دستور المدينة ** وقد ورد نص الوثيقة فى كل كتب السيرة النبوية بلفظة مثل سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية والتي نصت على (هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم. وان من تبعنا من يهود فأن لهم النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناحر عليهم. وان يهود بنى عوف امة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. وان ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث او استجار يخاف فساده فأن مرده إلى الله عز وجل والى محمد رسول الله). فهذه أول دولة دستورية فى العالم. بينما ظهر هذا الدستور فى البلدان المسيحية منذ الثورة الفرنسية عام 1830 بعد إن كانت تعيش فى عصور القرون الوسطى عصور الظلام. وهكذا أصبحت الدولة الإسلامية فى المدينة مخاطبة رأسا بتكاليف الله ورسوله. وأصبح للأمة السيادة المطلقة نيابة عن الله، لا ينازعها فيها منازع، لها كلها كمجموعة لا لفرد من أفرادها. ومن حق هذه الأمة المكلفة المسئولة إن تختار من يباشر سلطتها نيابة عنها مجتمعة، لا تستطيع مباشرة تكاليفها وهذا الاختيار من الأمة يقوم على الرضا، وتوخى مصلحة العامة، لا بقهر ولاجبر ولا خديعة. ومن تختاره الأمة لقيادتها يخضع لرقابتها، وليس له شيء من السيادة عليها، لأنه وكيل يخضع لما يخضع له الوكيل فى سائر العقود من رقابة الأصيل الذي يحدد له تصرفاته. ومن هنا جاء الشبه بين نظرية الإسلام ونظرية التعاقد، فهناك حقيقة تعاقد بين الأمة ومن تختاره لقيادتها، يتمثل فى البيعة على كتاب الله وسنة رسوله وصالح المؤمنين، وتعهده هو بالعمل على ذلك، ولكن شتان بين التعاقد فى نظريات غير المسلمين، والتعاقد عند المسلمين، فالأول تعاقد يقوم على تنازل الأفراد عن شيء من حقوقهم لمن يختارونه، وسلطاتهم عليه بعد ذلك منعدم او محدود، اما تعاقد المسلمين فهو مجرد توكيل للحاكم، يباشر بمقتضاه وفق شروط خاصة سلطات الأمة، ويخضع فى جميع اموره لسلطان الأمة ورقابتها، وليس له عليها سوى حق الطاعة، إذا التزم الشروط التي تعاقدوا عليها معه. لقد وضع النبي محمد القواعد التي تنظم اختيار الحكام والأمراء للدولة الإسلامية الجديدة بوحي من الله تعالى، فجعل الاختيار للناس فهم الذين يختارون من يمثلونهم، ومن يكون حاكما او أميرا عليهم. ففي بيعة العقبة طلب الرسول من أهل المدينة اختيار من يمثلهم وذلك بقوله (اخرجوا لى منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قولهم بما فيهم) وحكم ببطلان البيعة للخليفة او الحاكم بغير مشورة ورضا من الأمة فقال (من بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فأنه لا بيعة له ولا إلى بايعه) وعليه فأن الرسول ركز فى البيعة على الأغلبية فى الأصوات حيث قال. عليكم بالسواد الأعظم. وقال الغزالي : الإمام من انعقدت له البيعة من الأكثر. والدولة التي تقوم وفق ما ذكرنا من القواعد السابقة هي دولة الله، بمعنى أن الله خالقها ومالكها والمشرع لها وصاحب السيادة عليها. وقد حرص النبي تمام الحرص على أن يجلى هذا المعنى لإتباعه وخصومه على السواء، فى أيام المحنة الكبرى، عندما ظهر مسيلمة الكذاب بدافع الحسد للرسول ولقريش، عندما كتب إلى الرسول يقول : أن الله قد اشر كنى معك فلنا نصف الارض ولقريش نصغها ولكن قريشا قوم لا يعدلون. فرد عليه الرسول : بعد الحمد لله والثناء عليه، وإظهار كذب مسيلمة (أن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين). ويرى الإسلام أن الارض لله والخلق له، فالدولة لذلك هي دولة لله، فهو وحده سبحانه السيد المالك المطلق. وقد جعل الله لنفسه السيادة على كل الشعب، ثم جعل هذه السيادة للشعب نفسه بعد الله ورسوله فالشعب فى كل دولة هو خليفة الله ونائبه فى عمارة أرضه وحفظها، وهو المسئول عن تصريف أمور الدولة نيابة عن مالكها سبحانه تعالى. ولما كان الشعب مجتمعا لا يمكنه أن يقوم بالتكاليف المنوطة به، فقد أبيح له أن يختار من يحمل عنه التبعة والمسئولية فى القيام بالتكاليف وتدبير أمر الجماعة، وهذا المختار من الشعب هو الحاكم او الخليفة او الإمام او الأمير. وقد سميت رئاسة الدولة فى النظام الاسلامى بالخلافة، وقد سمي المسلمون ابا بكر خليفة، لأنه خلف النبي فى الأمة الإسلامية، فى أمور الدين والدنيا معا. وان الخليفة فى دولة الإسلام ليس خليفة عن الله، ولهذا نهى أبو بكر أن يقال عنه ذلك وقال : لكنى خليفة رسول الله. وان خلافته للنبي فى أمر الدين لاتعنى بحال أن له عصمة تخوله التحليل والتحريم بل يختص بحراسة الدين وتطبيق الأحكام الواردة فى القران الكريم وفيما ثبت من السنة النبوية. ولهذا فأنه لايوجد فى الإسلام خلفاء معينون من الله كما هو شأن النصارى فى دعواهم أن البابوات يعينهم الله تعالى ومن ثم فهم معصومون من الخطأ وما يفتون به هو من عند الله. والحاكم الذي يختاره الشعب لهذه القيادة وكيل عن الأمة التي اختارته وتختاره الأمة بالبيعة وهى تعاقد بين طرفين هما الأمة والحاكم وهذا التعاقد يلزم الحاكم بمقتضاه بالسير فى حكمه على القواعد التي رسمها القران والسنة وهما دستور المتعاقدين المتفق على احترامه والتزام العمل به وهو دستور عام خالد ثابت دائم ليس لأحد المتعاقدين التصرف فيه بالزيادة او النقصان وثم على الأمة المبايعة للحاكم بالطاعة فى كل ما يصدره وفقا لمبادىء هذا الدستور الدائم الخالد. وجعل الله البيعة عقدا بين الحاكم والامة فهو عهد بينهم وبين الله على السمع والطاعة فى المعروف والنهى عن المنكر قال الله تعالى (أن الذين يبايعونك انما يبايعون الله) والخليفة الذي تنعقد له الولاية على الناس بعقد هو البيعة وعند الخلاف مع الخليفة او الحاكم فنصوص القران والسنة هي الفيصل فى الحكم. وهذه البيعة التي تتم بين الأمة وبين الحاكم ينوب عنها مجلس الشورى او أهل الحل والعقد او مجلس الأمة فى الوقت الحاضر. فقد اورد البخارى ومسلم عن ابن عمر قال (كنا إذا بايعنا رسول الله يقول لنا -فيما استطعت-) فالخليفة او امير المؤمنين او الحاكم او رئيس الدولة فى الوقت الحاضر اجير عند الأمة فى العصور الإسلامية الاولى بينما نرى فى النظم الديمقراطية الحالية أن رئيس الدولة لايعاقب ولايحاسب بل يملك العفو عن العقوبات او تخفيظها وكل هذا لايملكه الخليفة او امير المؤمنين فى النظام الاسلامى فقد قال النبي (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله فى امره). اذن فالبيعة هي عقد وكالة بين الأمة وحاكمها المنتخب وان عقد الوكالة ليس عقد تمليك للوكيل وانما هو عقد اذن بالتصرف باسم الموكل فى حدود مارسمه للوكيل واذنه بالتصرف فيه ثم هو عقد مؤقت مشروط فهو خاضع لرقابة الأصيل ولاينطوى عقد الوكالة على تنازل من الأصيل عن شيء من حرياته او حقوقه كلها او بعضها والا كان العقد عقد تمليك. ولهذا اتفق فقهاء الإسلام على أن الحاكم وكيل عن الأمة خاضع لرقابتها ولها عليه سلطان التوليةوالعزل والتوجيه ولكل فرد من أفرادها حق امره بالمعروف ونهيه عن المنكر ومما يقطع بصحة فكرة وكالة الحاكم عن الأمة وخضوعه لرقابتها وسلطاتها أن جميع الفقهاء اعتبره واحدا من افراد الأمة فى كل تصرفاته والامة هي التي تحاسبه وتعاقبه. وهناك نصوص كثيرة فى الإسلام تعتبر (الأمة قيمة على الحكم ومصدر سلطات الحاكم) والتي حولت إلى عبارة (الأمة مصدر السلطات) والاسلام بهذا يقرر لاول مرة فى تاريخ الانسانية أن الأمة هي صاحبة السلطان الاكبر وهى التي تختار شكل الحكم ونوع الحكومة وهى بالتالى صاحبة السلطة الفعلية فى تعيين حكامهاوهى قادرة على أن تعزله أن ظلم او فجر والزمته جادة الحق فان استكبر وطغى وتجبر عزلته او تخلصت من شره بما تراه فى مصلحتها. فهذا الخليفة عمر بن عبد العزيز الاموى الذي ورث عرش اخلافة الاموية عن ابائه خطب الناس اول جمعة تأمر على المسلمين فقال (ايها الناس انى قد ابتليت بهذا الامر عن غير راى منى ولاطلبته له ولامشورة من المسلمين وانى قد خلعت مافى اعناقكم من بيعتى فأختاروا لانفسكم) فقال الناس ياامير المؤمنين قد اخذناك ورضيناك فل امر المسلمين باليمن والبركة (وبهذا يقرر عمر بن عبد العزيز ان الحكم هو حق الامة وحدها لاحق افراد منها وان حق الامة لايورث. وهكذا عرفت الامة الاسلامية السيادة فى اختيار الحكام لانها امة مكلفة مسئولة لان تنفيذ التكاليف منوط بها فهى المهيمنة على وسائل الحفاظ على الشرع وتنفيذ احكامه ومراقبة منفيذها فهى بذلك تملك سلطة التشريع ثم هى تملك هذه السلطة بحكم نيابتها عن المشرع سبحانه وان موضوع السلطة التشريعية للامة يشرع بواسطة علمائها وهؤلاء الذين كانوا تختارهم (الامة) من النقباء يسمون اهل الحل والعقد او اهل الاختيار ولهم الحق فى اختيار الخليفة او امير المؤمنين او الحاكم وترشحه الأمة لمبايعته، والشروط الواجب توافرها فيمن يختار لاهل الحل والعقد، او مجلس الشورى، هى اهل الخبرة والعدالة والاستشارة، والعلم الكافى لمعرفة شروط الخلافة، ومن تنطبق عليه الرأى والحكمة لاختيار الاصلح للامامة او الخلافة. وتسمية اهل الحل والعقد ترجع الى ان هؤلاء بيدهم سلطة القبول او الرفض، وبيدهم حل الامور. فالعقد هو اتفاق بين طرفين يلتزم كل منهما بمقتضاه تنفيذ مااتفقا عليه. واهل الحل والعقد ينفذون مااختارهم الناس له وهم يتصفون بالصفات التالية الفقهاء المجتهدون الذين يعتمد على اقوالهم فى الفتوى واستنباط الاحكام او من له نوع من القيادة فى الناس كزعماء وشيوخ قبائل.
ويرى الفيلسوف مسكوية المتوفى عام 1030 ميلادية، ان الشريعة تنظم امور الناس فى المعاملات، وتعرض العدل فى الحقوق والوجبات، وهى بهذا كله تضمن وحدة المجتمع وبقاءه على سنن عادلة. فالدين وضع الهى لذا فعلى الناس بأختيارهم الى السعادة، والملك هو حارس هذا الوضع الالهى لذا فعلى الملك الحارس ان يتيقظ ويحكم صناعته فلا يتهاون ولاينشغل بلذاته عن مصالح الناس، ولايطلب الغلبة والكرامة الا بالحق. فأذا اغفل شيئا من هذه الامور وهن وسقطت هيبته ورئاسته، واذا قصر فى واجباته وتهاون فى امور النظام فأنه يجب على الناس او يحق لهم طلب تبديله بأمام حق وملك عادل. وهو اول فيلسوف عربى يرى بأن اسلوب الطاعة واجب عندما يحقق الملك العدالة الاجتماعية وماتطلبه الشريعة. اما اذا لم تتوفر فيه مثل هذه الصفات فأن للمجتمع استبداله، وهو قد سبق الفيلسوف الفرنسى روسو فى (العقد الاجتماعي). ونخلص مما تقدم الى ان الاسلام قرر لاول مرة المبادىء الاساسية التالية
1- للامة شخصية معنوية هى مناط التكليف والمسئولية
2- الامة سيدة نفسها وهى صاحبة السيادة على نفسها وابنائها جميعا ولاسيادة عليها لغير الله
3-الحاكم خادم مطاع تعطيه الامة من السلطان مايتناسب مع التكاليف التى كلفته بها وطاعته مشروطة بمدى التزامه للشرع الذى كلف بتنفيذه.
4- ان رئاسة الدولة وهى الخلافة او الامامة عقد بين الامة والحاكم والامة يمثلها اهل الشورى او اهل الحل والعقد على شرط ان لاتتضمن هذه الشروط حراما او تحرم الحلال. ((يتبع))
مفاهيم الدولة والنظم السياسية التي عرفتها البشرية قديما (1) بقلم:يزيد بن حسين
تاريخ النشر : 2008-09-01