معركة في الزمن العربي الضائع " حطين الثانية" (12من12) بقلم: أحمد الظرافي
تاريخ النشر : 2008-08-27
خطة المعركة ومسرحها الرئيسي
-------------------------------
وباشر الصالح إسماعيل سلطان دمشق من فوره بوضع خطته للمعركة الفاصلة، بالتنسيق مع أتابكة جيشه، وأمراء البيت الأيوبي الذين قبلوا بالانضمام إليه في هذه الحملة رغبة أو رهبة، وكذا بالتشاور مع أمراء الجيش الصليبي، فقسم الجيوش التي معه إلى ثلاث مجموعات كبيرة: فجعل جيش حلب وحماة على الميسرة , وجيش الفرنجة على الميمنة , بينما هو وجيشه، في القلب، وهو نفسه من سيدير المعركة، ويقودها ضد جيش مصر ، الذي كان يقوده ركن الدين بيبرس البندقداري ( المعروف فيما بعد باسم الظاهر بيبرس ) ، والذي كان يضم خمسة آلاف مقاتل فقط ، من نخبة الجيش المصري، بالإضافة إلى جموع الخوارزمية "الذين تفرقت بهم السبل بعد انهيار دولتهم ومقتل سلطانهم جلال الدين بن خوارزم شاه سنة 1231،على يد فلاح كردي ، انتقاما لأخيه الذي قتله "جلال الدين" منذ زمن طويل.
ورغم تأخر وصول النجدة التي وعد نجم الدين أيوب سلطان مصر بإرسالها من القاهرة، وبالرغم من أن حشود جيش التحالف الشامي – الصليبي، تفوق ما لدى المصريين من عساكر بأضعاف. فقد قرر بيبرس قائد الجيش خوض المعركة، وأوصى بكتمان الأخبار على الجند حول قوات الأعداء، حتى لا يفقدوا عزيمتهم ، والتي كانت سلاحهم الأقوى في تلك المعركة. وهذا الفكرة لم ترق لبعض قادة الجند، والذين رأوا فيها إقحاما للجند في معركة ليسوا مستعدين لها ولا قادرين عليها، إلا أن ركن الدين بيبرس ، باعتباره قائد الجيش، فرض رأيه عليهم وألزمهم بخوضها.
وكان بيبرس يخشى أن يؤدي التراجع عن خوض المعركة إلى جعل الأعداء يتعقبونهم ،إلى عقر دارهم ، وعندها تكون الهزيمة أقسى واشد وقعا عليهم .. ثم أن انسحابهم كان سيجعل الخوارزمية حلفاء السلطان نجم الدين ينفضون من حولهم، ويبحثون لهم عن حليف آخر.
وفي الحقيقة أنه كان يلزم الجنود المصريين أن يكون السلطان نجم الدين أيوب بينهم ، كي يشد من أزرهم ويقوي عزائمهم ، في هذا الموقف العصيب، وكان ذلك أمرا يحز في نفس نجم الدين أيوب ويثير قلقه ومخاوفه، وظل يلوم نفسه لكونه لم يخرج لخوض هذه المعركة الحاسمة بنفسه. ولكن قدر الله وما شاء فعل.
وما لبث الجمعان حتى التقيا في أحد السهول القريبة من غزة، والمتاخمة للحدود المصرية ، غير بعيد عن التل المعروف بـ"تل العجول" ، كما في بعض المصادر– أو الحربية كما في مصادر أخرى- وكان ذلك في يوم 17أكتوبر 1244=642هـ ، وهناك أطبقت الجيوش الشامية- الصليبية المتحالفة، على الجيش المصري الأقل منها عددا وعدة ، من ثلاثة اتجاهات ، وحمي الوطيس، واستعر القتل في الجانبين. ولكن الخوارزمية أظهروا عنادا في القتال، بقدر ما أظهر " بيبرس" كفاءة في قيادة قواته.. قبل أن يدركهم الإنهاك ويبدأ الخناق يضيق عليهم شيئا فشيئا بسبب قلتهم مقارنة بأعدائهم.
وقد حدثت بعد ذلك مفاجأة لم تكن في الحسبان ..فبينما كان جيش الفرنجة، وعساكر حاكم دمشق، يطوقون الجيش المصري والخوارزمية من كل جانب وينهشون في لحومهم، وهم في ذلك الموقف الحرج ، ويوشكون أن يقطفوا ثمرة النصر ، إذا بشابِ ملثم يخرج على جواد من بين كتائب جيش الصالح إسماعيل سلطان دمشق، ويعتلي على كثيب من الرمل، واخذ يصرخ ويردد بأعلى صوته قٌائلا :" يا أهل الشام، اتقوا الله في أنفسكم ، إن المصريين مسلمين مثلكم ، فلا تقاتلونهم، ولكن قاتلوا عدوكم وعدوهم، ألا وان عدوكم وعدوهم هم الفرنجة الأشرار الذين اغتصبوا أرضكم ودياركم ودنسوا حرماتكم ومقدساتكم ... ثم انحدر بعد ذلك بفرسه نجو الفرنجة واخذ يهوي عليهم بسيفه – ولعل هذه كانت كلمة السر التي أوعز بها أشراف دمشق لأتباعهم وغلمانهم الذين أجبروا على الخروج مع قوات سلطان دمشق.ولذا لم تمر سوى لحظات حتى استجاب له الكثير من المتطوعين الشاميين، وفعلوا ما فعل، فأخذوا يضربون الفرنج بسيوفهم ويحصدون رقابهم كالسنابل. وأحدث هذا الانقلاب المفاجئ هزة عميقة لدى سلطان دمشق ولدى أتباعه وحلفائه الفرنجة وأصابهم بالذهول.
وأما بالنسبة للمصريين والخوارزمية فإنهم لما تأكدوا أن الأمر ليس مكيدة لهم، واطمأنوا إلى جدية الشاميين في ذلك الانقلاب، أعادوا لملمة صفوفهم بسرعة، وكروا معهم على الفرنج وحلفائهم، وأطبقوا عليهم من كل جانب ومزقوهم شر ممزق، فقتل منهم من قتل، ونجا الباقون بجلودهم، وأولهم الصالح إسماعيل سلطان دمشق الخائن والذي فر يعدو كالفأر المرعوب بعد أن نجا من الأسر بأعجوبة، وبعد أن انضم قسم كبير من جيشه إلى المصريين.

نتائج المعركة
-------------
انتهت هذه المعركة والتي تعرف أيضا بـ"معركة غزة" ويسميها البعض بـ" تل العجول" ، بمصرع خمسة آلاف قتيل من جيش الفرنج والمتحالفين معه من الشاميين– بالإضافة إلى ثمانمائة أسير نقلوا إلى مصر ، وعمت البشائر في أرجاء القاهرة ودمشق على السواء، وسار الجيش المصري بعد ذلك من نصر إلى نصر ، وأفاد القائد ركن الدين بيبرس من ذلك الانتصار الحاسم ، فأسرع بجيشه إلى عسقلان وحاصرها. بينما استمر الخوارزمية حلفاء الصالح أيوب حاكم مصر ، في زحفهم شمالا ، فاستولوا على دمشق ، وطردوا حاكمها الصالح إسماعيل منها – بعد أن كان قد لجأ إليها في أعقاب هزيمته – ولم يبق بيده سوى بلداه بعلبك وبصرى، ثم أخذتا منه ، ولم يبق له بلد يأوي إليه، فلجأ إلى المملكة الحلبية في جوار الناصر يوسف صاحبها .
ويمكن اعتبار هزيمة الصالح إسماعيل في هذه المعركة، هي السبب الرئيسي في تحطيم حياته ونهاية دوره السياسي.
وأما ذلك الفارس الدمشقي الشجاع، فقد توارى عن أنظار الجميع، ولم يجدوا له أثرا، بعد انتهاء المعركة، وكأنما ذاب ذوبان الملح.
وفي سنة 642 هـ - 1244م ، دخل أولئك الخوارزمية بيت المقدس، باتفاق مع الصالح أيوب ، وقتلوا من فيه من الفرنج، وطهروا الصخرة من أوضارهم، وبذلك ضاعت القدس نهائياً من أيدي الفرنجة، في عصر الحروب الصليبية، واستمرت بيد العرب المسلمين منذ ذلك الوقت إلى أن زحف الجيش الانجليزي المسيحي، على القدس، بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديدا عام 1917م " ليدخلها السير أدموند اللنبي في موكب يضم ممثلي الدول المتحالفة"
وسميت هذه المعركة بـ "حطين الثانية " لأنه هزيمة الفرنجة فيها كانت أكبر هزيمة تلحقهم على أيدي المسلمين منذ هزيمتهم الأولى في "حطين"
وظهر بوضوح للفرنج أن هزيمتهم في هذه المعركة قد سلبتهم كل ما أحرزوه بجهودهم الدبلوماسية من مكاسب طارئة في عشرات السنين، فقد استمر نجم الدين أيوب بالضغط عليهم وألحق بهم سلسلة من الهزائم المتوالية، وتم توحيد مصر والشام تحت سلطانه، بعد أن أصبحت القاهرة ودمشق وبيت المقدس في قبضة يده، ووفد عليه في دمشق ملوك البيت الأيوبي في الشام لتقديم فروض الولاء والطاعة.
إلا أن هذه الهزائم والضربات القاصمة التي لحقت بالفرنجة في بلاد الشام، وسقوط بيت المقدس من أيديهم، قد أدى إلى إثارة حفيظة البابا والكنيسة الكاثوليكية والغرب المسيحي، وأوقد مرة أخرى شعلة الاستيلاء على القدس لدى الكنيسة الكاثوليكية, ومن ثم نشوء ما يسمى بـ "الحملة الصليبية السابعة" التي استهدفت مصر ، لحرمان الجبهة الإسلامية من تلك القاعدة الحربية الهامة، والتي قرر الصليبيون مهاجمتها من البحر بعد أن يأسوا من الاستيلاء عليها من خلال البر..
وهذه ملحمة أخرى خاضها المسلمون وهي مدونة في كتب التاريخ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين