"غسان كنفاني" العقل المتفجر بعبقرية الإبداع بقلم:فايز أبو عيد
تاريخ النشر : 2008-07-26



"غسان كنفاني" العقل المتفجر بعبقرية الإبداع
المبدع الذي رفع الحبر لمرتبة الدم

دمشق :فايز أبو عيد


ست وثلاثون عاماً وتموز يرعف كحل الدم كل عام،ست وثلاثون عاماً وغسان يتأمل حزننا ويقرأنا من جهة الغياب،ست وثلاثون عاماً مضت ومازال طعم الموت مراً حينما كنس غسان مواعيده وغبار الوقت والتعب واختبئ بالموت لينكئ فينا جرحاً جديداً .
ست و ثلاثون عاماً على الرحيل وما تزال شخصياته ماثلة أمامنا كالمرآة تفضح عرينا وتعلمنا ارتداء أثواب الدم، وصوته مازال يعلمنا أبجدية الرؤية ويفتح نوافذ الشمس .
انه الرجل الذي مزج طين الأرض بدمه ليعمر أكواخاً للفقراء بدمه وحبره، لا يفقده الموت حضوره الدافئ فينا وكأنه كل فجر يقرأنا من جديد على أوراقه إبداعاً ورؤية، الرجل الذي نمت أصابعه على رائحة البارود المتصاعد من بنادق القسام فهناك وبعكا تماماً في التاسع من نيسان لعام /1936/شق الضوء ليعبر بجسده بوابة الرحم صقراً فلسطينياً ثاقب الرؤية فيما سيجئ .
ابتدأ غسان رحلته التعليمية في مدرسة (الفرار الفرنسية التبشيرية ) فاتحاً أصابعه لمدارك اللغة والمعرفة،وظل فيها حتى أتم الثانية عشرة من عمره ،حيث لملمت أمه له أشيا}ه الصغيرة ليعتلي معها الموج مبتدءاً مرحلة اللجوء تاركاً فلسطين بعد نكبة (1948)،عابراً لبنان واصلاً إلى الزبداني السورية ليقيم فيها مع أسرته،وفي دمشق تابع مراحله الدراسية حتى تخرج من جامعتها "قسم الأدب العربي " خاتماً المرحلة برسالة تحت عنوان "العرق والدين في الأدب الصهيوني " فكان بذلك أول من درس فاعلية الكتابة لدى العدو الصهيوني ،وعاد ليؤكد على هذه الأهمية مرة أخرى من خلال كتابه الصادر عام /1967/ الذي حمل عنوان (في الأدب الصهيوني ) وكانت هذه الدراسة معتمة على ماترجم من نصوص عبرية إلى اللغة الانكليزية،لهذا كانت تفتقر إلى عمق تحليل الأدب الصهيوني لأن النصوص الصهيونية التي ترجمت إلى اللغة الانكليزية كانت تهدف بالمقام الأول إلى كسب الرأي العام العالمي،لذلك كانت دراسة غسان للأدب الصهيوني دراسة جريئة وكاشفة لأهمية تفنيد أدب العدو لمعرفة إمكانية المواجهة وإمكانية الدفاع عن القضية،فكان كتابه الآنف الذكر تشريحاً واضحاً لدور الأدب في خدمة السياسة مع الاختصار الواضح،وبهذا بين غسان دور الأدب الصهيوني وخطورته على القضية الفلسطينية-- حتى قبل احتلال فلسطين – لذلك نراه يبدأ كتابه بصرخة واعية ومحذرة من خطر أدب العدو الصهيوني على القضية الفلسطينية فيقول :"قاتلت الحركة الصهيونية بسلاح الأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي ".
لم تكن حياة غسان بتلك الحياة السعيدة الهانئة المستقرة،فهو كأي فلسطيني عانى الكثير من ويلات الغربة والتشرد والقهر والاضطهاد فكانت حيلته مشتته ومقسمة مابين هذا البلد أو ذاك، فقد عمل مدرساً في مدارس "وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين"في دمشق،واشتغل في إحدى الصحف كمدقق ومصحح حتى عام (1953)،إلى أن التقى بالدكتور" جورج حبش "عام(1954)وانتسب إلى حركة "القوميين العرب"وكتب في جريدتها"الرأي"وبعد مضي عامين من انتسابه التحق بأخته المقيمة في الكويت ليعمل هناك كمدرس لمادتي الرسم والرياضة،لكن ذلك لم يوقف غسان عن الكتابة في المجال الصحفي والأدبي لأنه كان يعتبر الكتابة قدره التي يستطيع من خلالها فقط أن يعبر عن عشقه لفلسطين فكان يقول:"عندما أفرغ من العمل وأجلس إلى طاولتي تنهمر على الذكريات كالمطر أراها فلسطين بسهو بها الخضراء بقراها بشوارعها ببساتين البرتقال فلا أقدر أن أعبر عن عشقي لها إلا بالكتابة ".
لقد استطاع غسان من خلال رؤيته الثاقبة للأمور،بان يلتقط خبر وفاة ثلاثة من الفلسطينيين في صهريج ماء كان يراد تهريبهم من العراق إلى الكويت بقصد العمل والبحث عن لقمة العيش،ويرمزه في الأدب ليكتب رائعته"رجال تحت الشمس"الصادرة عام/1963/راسماً بذلك الواقع الفلسطيني في اللجوء،وكان بهذا يسوقنا إلى السؤال الذي نكأ به جرحنا صارخاً "لماذا لم يقرعوا الخزان"مبرزاً أفقاً جديداً لأسئلة جارحة ضبابية مبهمة الملامح تعري اللحظة وتمسك الروح من لجامها الذي لا ينفك،فإيقاع القرع عند غسان هو إيقاع الدم على جسد الثورة،لقد كان ذلك الخزان التابوت المتحرك على أربعة دواليب هو صورة مصغرة لحالة اللجوء في الوطن العربي،فهل كان الوطن العربي هو الصهريج؟مازال هذا السؤال قائماً إلى يومنا هذا،لماذا لا نقرع الخزان،لنخرج من وحشة التابوت محاولين زرع أجسادنا درباً لحياة جديدة؟.
بعد روايته "رجال تحت الشمس"بثلاث سنوات عاد إلينا غسان بروايته الجديدة التي عنوانها السؤال"ما تبقى لكم"موضحاً عمق القضية الفلسطينية وإشكالياتها،فكانت مهمته نكء الجرح لا الدلالة عليه بأصبع مرتجف،وأجاب عن سؤاله بالسكين وبهذا يعود بنا إلى الإيقاع ولكن الإيقاع هنا هو إيقاع الذبح لنطهر أنفسنا من الأجساد النتنة العفنة، بتلك الرواية يكون غسان قد نقل عالم الرواية العربية إلى المدرسة الحديثة في الرواية مستفيداً من قراءاته للكاتب العالمي "وليم فوكنر" صاحب"الصخب والعنف"مستفيداً بالوقت نفسه من ترميزات"فوكنر" مثل رمز الساعة التي كانت تدل على قساوة الوقت ولعنة الانتظار .

في عام 1960 غادر غسان الكويت عائداً إلى بيروت ليعمل محرراً في جريدة"الحرية"الأسبوعية وخلال1960-1963أنجز مجموعتين قصصيتين هما"موت سرير رقم 12"و"أرض البرتقال الحزين"اللتين رصدتا الواقع الفلسطيني معمقاً بهما سؤال القضية الفلسطينية الذي مازال معلقاً،موضحاً رؤيته الثاقبة مستفيداً من الأحداث اليومية التي كان يعالجها قصصاً ومسرحاً ورواية وتحليلاً سياسياً ونقداً أدبياً،لم يعرف غسان طعم الراحة أبداً فكان يعمل في مجال الصحافة لمدة تزيد عن عشر ساعات يومياً وكان يغتصب كتاباته القيمة من الساعات المخصصة لنومه،فقد استطاع أن يكتب بعدة أماكن مستخدماً أسماء مستعارة فقد ذيل زاويته بملحق الأنوار باسم"فارس فارس"وفي الحوادث وقع باسم"ربيع مطر"وكتب باسم"غسان كنج وغيث...."،في عام 1963استلم رئاسة تحرير جريدة المحرر ولم يكن يتجاوز عمره حينها السابعة والعشرين فكان بهذا أصغر رئيس تحرير في الوطن العربي،وعمل في مجلة فلسطين والصياد والدستور،إلى أن أسس عام1969مجلة "الهدف الفلسطينية"وظل رئيساً لتحريرها حتى استشهادهفي8/تمز/1972عندما طالته يد الغدر الصهيوني فاغتيل كما يغتال أي زعيم سياسي،وكان هذا ردا على ما نشره غسان كنفاني عن عملية "اللد" التي كان وراءها،والتي قام بها ثلاثة أبطال من الجيش الأحمر الياباني في عملية دعم وتأييد لرفاقهم في الجبهة وللقضية الفلسطينية التي دفع غسان حياته ثمناً لها،وكان يعلم مسبقاً بأنه سيدفع هذا الثمن،ففي حوار مع صديقه ياسين رفاعية يقول غسان:"نحن قدرنا أن نواجه الموت،لأن موقعنا أن نصنع الحياة ونطمح إلى المستقبل،قدرنا أن نستعيد الأرض ونخلص الوطن من المخالب،قدرنا أن لا ننام،نقاتل في شتى الظروف والمناسبات بالكلمة بالريشة بالرصاصة والقنبلة هذا هو قدرنا،ومن كان هذا قدره كان صدره مشرعاً للرصاص وعليه أن يتوقع رصاصة غادرة عند منعطف أو زاوية أو خلف بناية ما،عليه أن يتوقع قنبلة تحت السرير أو لغما تحت البيت،لأن العدو الذي نقاتله قام وأسس نفسه على هذه الأساليب،أسليب الغدر والخداع والمؤامرات وقتل الأبرياء ".

قبل استشهاده أنهى غسان روايته"أم سعد" تلك المرأة الحقيقية في حياته والتني أخذت شكل الأم،فكتب عنها روايته الجميلة التي استطاع من خلالها إعطاء"أم سعد جميع الأدوار الممكنة للمرأة الفلسطينية حتى أسقط علب=يا أسم فلسطين ذاتها.وكانت روايته"عائد إلى حيفا"رداً على سؤاله الذاتي عن فضح التأثير الصهيوني في المنطقة العربية،وبين عام 1964-1967كتب غسان كنفاني مسرحياته"الباب"و"جسر إلى الأبد"و"القبعة والنبي"التي أوضحت تأثره بوجودية"جان بول سارتر"وفي هذه الفترة كانت الوجودية في أوجها في الوطن العربي،واستفاد من سؤال "سارتر" ،ولكن ما الفائدة ؟،محاولاً طرح استفساراته حول النكوص إلى الذات 3وكشف الموضوع المستلب في جوهره العميق بفعل بنيته الداخلية العمياء مضيفاً مصطلحات إلى الواقع الفلسطيني"كالموت والضياع.."وحاول من خلال مسرحية"القبعة والنبي" محاكمة العالم وعلائقية الإنسان به حيث بدأها في كشفه لحالة الحصار متهماً من يهدده أنهم كل الناس،كما يوضح علاقة البطل في الحلم الدال على البعد الوجودي والرومانسي للشخصية.
إضافة إلى أعماله الإبداعية السابقة التي تجلت في الشعر والقصة والمسرح والعمل الصحفي ،أنجز غسان دراسات تختص بأدباء الأرض المحتلة حيث أصدر عام 1966كتابه "أدب المقاومة في فلسطين"بين عامي 1948-1966شرح من خلاله رؤيته النقدية في تقسيم الأدب قبل النكبة وبعدها،وكان أول من عرف بشعراء فلسطين المحتلة وأعطاهم لقب شعراء المقاومة مثل"محمود درويش،
توفيق زياد،سميح القاسم" وعاد ليؤكد على أهمية هذه الدراسة فأصدر كتاباً جديداً تحت عنوان"الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال"وعرف بمجموعة من شعراء فلسطين"كراشد حسين،محمود سوفي،فوزي الأسمر"،وشرح الوضع الثقافي في الأراضي المحتلة بعد النكسة،كذلك كان له دراسات أخرى حول المقاومة والثورة ككتابه"المقاومة ومعضلاتها"وكتابه"ثورة 1936في فلسطين،وقد ترجم كذلك كتاب"صيف ودخان"للكاتب العالمي "تينسي وليامس"وعرف عن غسان ميوله الفنية تجاه الرسم فكانت له مجموعة منت اللوحات المختبئة على جدران منزله وأخرى في بعض منازل أصدقائه وكان له مجموعة من الأعمال لم يكتب لها الكمال مثل"العاشق"و"الأعمى والأطرش"و"برقوق نيسان".
وله من الأعمال ما لم يخط بل لا مس الواقع بإحضار شخصيات مبدعة فهو أول من عرف بناجي العلي قدمه للجمهور وفتح له أبواب الشهرة ليبدأ الأخير بتقشير العالم بالسكين وبالدم البشري ويرسم الواقع المر بشخصيات ذات نبرة ساخرة ليعري بها المجهول ويقدم الحقيقة فكان من تلامذة غسان في الرؤية والتعبير، وبهذا يقول ناجي "صادفني مرة غسان كنفاني في إحدى زياراته للمخيم ورأى بعض إنتاجي فدهش،وأخذ منه بعض النماذج وبعد فترة قصيرة فوجئت بنشرها في مجلة الحرية التي كان يحررها ،وكان أول ما نشره لي رسماً يمثل خيمة على شكل هرم وفي قمة الخيمة بركان يرتفع منه يد مصممة على التحرير".
كما كان لغسان لقاء مميز مع سعد الله ونوس وهو مع بداياته الصحفية حيث أجرى ونوس معه حوارا رائعا،بهذا العمل المكثف والمركز وبتلك المسيرة الحافلة بالعطاء والإبداع والتضحية والعقل المتفجر بعبقرية الإبداع، نرى غسان كنفاني وكأنه يلملم ظله يجمعه على حواف تابوته الصغير تاركاً لنا تراثاً عريقاً ومبدعاً نقرأ به أنفسنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا،تاركاً لنا خلفه صوته الراسخ في الذاكرة يعلمنا كيفية الدفاع صارخاً:" إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية".