خدمات ما بعد الثورة بقلم:أحمد ابراهيم الحاج
تاريخ النشر : 2008-07-22
خدمات ما بعد الثورة في ذكرى ثورة يوليو
.....................................................
الشركات الصانعة والمنتجة للأجهزة والآلات والأدوات والسلع وكذلك شركات المقاولات تحرص على تقديم خدمات ما بعد البيع والتنفيذ وذلك للحفاظ على سمعتها وزخمها في السوق كنوع من نظريات التسويق الناجحة ، وحقيقة فإن خدمات ما بعد البيع تدر على الشركات أرباحاً تعويضية وإضافية لدرجة أن بعض الشركات تبيع المنتج بسعر التكلفة وتنتظر تحقيق الربح في خدمات ما بعد البيع بعمل برامج صيانة منتظمة وبيع قطع غيار واحتكارها بالسوق.
كانت تلك المقدمة للدخول الى موضوع الثورات العربية وخدمات ما بعد الثورة ، وعيد ثورة يوليو على الأبواب ، ونستذكر الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية .....الخ. وكل الثورات العربية ضد الإستعمار والإمبريالية العالمية ويمكن القول بأن كل الثورات العربية كان ينقصها أعمال الصيانة لتلك الثورات لذلك كانت نتائجها غير واضحة المعالم وغير ممتدة لأزمنة المستقبل ولم تنعكس ايجاباً على الأجيال اللاحقة ، لا بل ارتدّ عليها من ورثها من بعد مفجريها الوطنيين وآتت أكلها زقوماً وهو ما نحن عليه الآن وما نعيشه من واقع متخلف مرّ على الرغم من نقاء ثوراتنا ومن وطنية مفجريها ونزاهتهم ونقائهم وصفاء أهدافهم. ولنأخذ مثالين على تلك الثورات التي كان ينقصها أعمال الصيانة وخدمات ما بعد الثورة ونبدأ بثورة 23 يوليو بقيادة شخصية وطنية تاريخية هو الزعيم جمال عبد الناصر رحمه الله:
اندلعت الثورة أولاً في ثكنات الجيش على واقع من الفساد والتسلط واحتقان شعبي بالشعور بالظلم والقهر وتحكم المستعمر وغياب الوعي والرؤية المستقبلية للأمة وخضوعها للمستعمر يعيث فيها فساداً وينهب خيراتها ويتحكم بمقدرات شعبها، والتف الشعب بكل فئاته حول الثورة وقائدها ثانياً ، وقدم لها كل دعم معنوي ومادي كان وراء نجاحها إضافةً الى نبل قائدها ومن التف حوله من الضباط الأحرار. وتجسدت معاني الثورة الشعبية بشكل واضح عند تأميم قناة السويس واستقطبت حولها التفاف شعبي عربي من الخليج الى المحيط ، وتعاطف دولي وكانت لحظة تأميم القناة علامة فارقة في مسيرة الثورة ولافتة تؤشر على طريق النجاح. وتوالت بعدها الإنجازات من تحقيق العدالة بين أفراد الشعب وتوزيع الأراضي على الفلاحين بما يسمى الثورة الزراعية واستصلاح الأراضي تجلت في بناء السد العالي ، ومجانية التعليم الشاملة لكل أفراد المجتمع بعد أن كان مقتصراً على أولاد الإقطاعيين ، ورافق ذلك ثورة صناعية بإنشاء مصانع الحديد والصلب والبدء في التفكير بصناعة السلاح المتطور دفاعاً عن الأمة وكانت بذور المشروع النووي وبواكير التفكير في أسلحة الردع. وكانت الثورة العلمية والثقافية والأدبية والفنية ومجانية التعليم وصياغة قانون العمل والعمال ، الى آخره من الإنجازات على كل الصّعد ، ولم تقتصر أعمال الثورة وإنجازاتها على الداخل المصري بل تخطته الى المحيط العربي والمحيط الإسلامي والجوار الأفريقي ودعم القضايا العربية وعلى رأسها الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية. لا ننكر اعتراء الثورة بعض الأخطاء التي يخطؤها البشر الذين يعملون ، ولا يخطؤها القاعدون عن العمل والمتفرجون الذين يتصيدون بالماء العكر ولكن ما الذي أوصل ثورة يوليو الى هذا الإرتداد الحاد والى هذا الإمتداد المشوه والمنحرف عن مباديء وفلسفة الثورة:
1) قوى الإحتكاك المعاكسة لقوى الثورة في الداخل المصري: وكان يتصدر هذه القوى حركة الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي المصري، فقد أحدتت تلك القوى تجاذباً الى التطرف اليميني تارة واليساري تارة أخرى تأرجحه بين مد وجزر كموج البحر ، والى ضيقٍ في رحابة الأفق والرؤية الإستراتيجية المستقبلية للتنمية والتقدم والإزدهار وإلى خلخلة في تماسك الثورة وتشتيت جهودها وتبطيئاً في تسارعها نحو الإنجازات الوطنية وإلهاءً لها عن التقدم والجنوح للأفضل.
2) قوى البغي والعدوان والإستهداف الإمبريالية الإستعمارية: وتلك القوى كانت تتمثل في صراع الإمبراطوريات الإمبريالية على المنطقة الحساسة والإستراتيجية للطاقة ، الإمبراطورية الإنجليزية والفرنسية في مرحلة الغروب ، والقوة الأمريكية الصاعدة والوريثة الشرعية في مرحلة الشروق وذلك بمنطق موازين القوة وتجاذب وتنافر الأحلاف للإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية وظهور القوة السوفيتية منافسة لها والحرب الباردة بين القطبين والتجاذبات الدولية.
3) شراسة وقوة مخالب الإمبريالية الناشئة في المنطقة: وهي الصهيونية العالمية التي ساعدتها ودعمتها بكل إمكانياتها القوى المتحكمة في العالم بإنشاء الكيان الإسرائيلي العنصري الإستيطاني الشاذ في المنطقة وفي خاصرة الأمة العربية وهمزة الوصل بين جزئي الجسد العربي الآسيوي والأفريقي (فلسطين). وأطماع هذا الكيان في التوسع لقيام الإمبراطورية الصهيونية من النيل الى الفرات ، ومؤامراته الخبيثة والمستمرة على قوى التقدم والتنمية العربية وكلنا يعلم مدى أهمية فلسطين للأمن القومي المصري والذي كانت تأتيه الغزوات على مر التاريخ من هذا الباب عدى غزوة نابليون.
4) قوى التخلف العلمي والإجتماعي وقوى الفقر والجهل المعاكسة للتنمية: وتلك القوى كانت نتاجاً طبيعياً للإمبريالية التي كانت تجثو على صدر الأمة العربية ، وما نشأ عنها من تجزيء للكيان العربي الواحد الى عدة كيانات مصنفة على أساس الفرقة والتناحر وتوارث العصبية وتنافر الحزبية كما أنتجتها اتفاقية سايكس بيكو ، فأنظمة ملكية وأميرية ومشيخية وسلطنية وجماهيرية وجمهورية ....الخ. وأنظمة حزبية وأنظمة قبلية وذلك لبث الفرقة وإبقاء التخلف والفقر والجهل بين ثنايا الأمة لنهب خيراتها.
كانت تلك الأسباب الداخلية والخارجية والتي هي محصلة قوىً تعمل بعكس اتجاه الثورة لإحباطها ووأدها والتقليل من إنجازاتها ، ولكن السبب الذاتي والذي يعود لعيوب الثورات العربية يتلخص في ما يلي:
كاريزمة الزعيم الطاغية على مساعديه ونوابه وأركان حكمه: لقد كانت كاريزمة جمال عبد الناصر طاغية على مساعديه ونوابه وأركان حكمه بالرغم من أنه لم يكن دكتاتوراً متسلطاً وكان لا يتخذ قرارات فردية ، بل يلجؤ الى التصويت بين أعضاء مجلس قيادة الثورة ، ومما ساعد في طغيان هذه الكاريزمة هي الإلتفاف الشعبي والجماهيري الكاسح المصري والعربي من المحيط الى الخليج حول هذا الزعيم الذي روى عواطفهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وعبّر عن نبضهم. ولأن هذه الثورة جاءت بعد ظمأٍ شديد للأمة الى الحرية والإستقلال ، وتوق عظيم للتحرر والإنعتاق من القيود والظلم الواقع عليها من الغريب ومن ذوي القربى من أنظمة الحكم التابعة للمستعمر والتي هي من صنيعته. فأدى ذلك الى نوع من التقديس والتفخيم للحاكم ، وكأنه من الثوابت والمقدسات الوطنية التي لا يجب المساس بشخصها والإعتراض عليه ، وصار من يخالفه كأنما يخلف الإرادة الشعبية الحرة. ودليل ذلك خلافة الرئيس السادات لعبد الناصر ، فكان السادات يسمى بين أعضاء مجلس قيادة الثورة بالبكباشي صَحْ لأنه كلما تحدث عبد الناصر في اي مناسبة واجتماع كان يقول دائماً "صح". وظهر بعد ذلك وتوليه السلطة أنه كان بداخله يقول "لا".
محاباة ومجاملة أعضاء مجلس قيادة الثورة والإحتفاظ لهم بالعرفان على الرغم من عدم أهليتهم للمنصب: وهذا كان نابعاً من العرفان لهم بالجميل في الإشتراك بتفجير الثورة ، وبسبب التهديد الداخلي لنظام الحكم من قوى الإحتكاك الداخلية كان لا بد للنظام من الإحتفاظ بالمخلصين والموثوقين بولائهم له ، وأدى ذلك الى عدم تجديد دماء الثورة وعدم الإحتفاظ بمجاراتها تطورات العصر والحداثة ، وترهلها وترهل فكرها وبعدها عن الواقع ، وبدلاً من بناء القواعد الواسعة والرحبة لها بين أفراد الشعب انخرطت مكونات الثورة وشخوصها في حمل أعباء النظام الحاكم ونسيت فلسفتها ومبادئها وتحولت من ثورة الى سلطة ومناصب معزولة عن الشعب بجدار عازل كالفرق بين المواطن والمسؤول عندما ينجز معاملة حكومية في أي دائرة حكومية عربية.
كل ذلك وبالنتيجة أدى الى عدم قيام وتأسيس نظام سياسي استراتيجي طويل المدى: يعمل هذا النظام على وضع الأسس السليمة والراسخة في اختيار القيادة والسلطة على أساس الكفاءة والإخلاص للمنصب ويؤسس لكيفية انتقال السلطة في ممر سهل ميسور ، وينشر الديمقراطية والحرية بين المواطنين ويؤسس لحقوق المواطنة وواجباتها الوطنية ولحقوق السلطة وواجباتها الوطنية. إذن الخلل الرئيس هو عدم التأسيس لنظام سياسي ديمقراطي حر بعيداً عن المصالح الشخصية ويصب في بحر المصالح الوطنية العليا. لذلك كانت الإخفاقات ، وكانت الرِدّة من الوارثين للسلطة عل فلسفة ومباديء الثورة ، وكان الفراغ بعد موت الزعيم الذي تحول بكاريزمته الى مؤسسات سلطوية أشبه بالدكتاتورية يصعب تعويضها بعد موته في الوريث ويصعب بعد موته التأسيس للنظام السياسي المستقر ، وتفلت الأمور وتحدث الإنتكاسات والإخفاقات والتعثر والإنكفاء.
حقيقة الأمر ما حصل في مصر بعد عبد الناصر حصل في فلسطين بعد ياسر عرفات وعلى أسوأ لأنه في فلسطين لم يكن هنالك نظام حكم للبناء عليه ، وتشابه الحال بكل المعايير والمقاييس المذكورة أعلاه ، فعرفات كان مرجعية مؤسساتية متكاملة متفاضلة في كل المواضيع والقرارات الحاسمة ، والحالة فيها تشابه وتماثل كبير ، وانعكاساتها على النظام الحاكم أتت متشابهة. شكلاً ومضموناً. وها هي قوى الإحتكاك الداخلية في فلسطين هي نفس قوى الإحتكاك الداخلية في مصر وبنفس المسميات والهويات تعمل بكل طاقاتها وتجاذباتها الإقليمية عكس التيار الوطني..
الخلاصة: كان لا بُدَّ من صيانة الثورة وتقديم خدمات ما بعدها بضرورة تنحي القيادة والإعتزال في أوج الألق كاللاعب الذي يعتزل وما زال فيه رمق من المواهب والطاقات ليبقي على سيرته وصورته متألقة بعد رحيله ، وكمن يقوم عن الطعام ونفسه تشتهيه فيكسب صحته ، ويجب الإستمرار بالعطاء للوطن بالركون الى الإستشارة واسمتزاج الرأي وتقديم الخبرة والمشورة لمن يرث السلطة أو يعتليها بالإجماع ، وأن يفسح المجال للأجيال الحديثة والطاقات المتجددة ، ويجب العمل على خلق صفوف من القيادات الوطنية وإعدادها لتكون جاهزة عند استحقاقها. فلو اعتزل المشير المرحوم عبد الحكيم عامر وفسح المجال لمن يخلفه بكفاءة وحداثة وطاقة أعلى لظل رمزاً تاريخياً لمصر وللعرب ولما طاله أي تشويه بعد وفاته. تماماً كالفريق الوطني لكرة القدم ، وحتى يستمر في تحقيق الإنجازات لا بد من رفده بالمواهب والطاقات لكي تستلم واجباتها بعد نضوب طاقات بعض أفراد المنتخب ، ليظل الفريق متألقاً ومحافظاً على قوة الدفع للأمام ، وإن لم يتم رفد الفريق بالطاقات وتجديده سوف يهبط الى أدنى مصاف الترتيب وسيخبو وسوف يتعرض ماضيه للنهش والإساءة من مصطادي الحشرات في الماء العكر. فتنمية الإنسان وضخ المواهب والطاقات في مناحي خدمات الوطن والمواطنين هي أساس النجاح لأي ثورة سواءً كانت بيضاء أو حمراء وفي استمراريتها وتألقها ونجاحها. فالرئيس الفرنسي شارل ديجول تنحى عندما شعر أنه لم يعد قادراً على القيادة مكتسباً ومحتفظاً برضاء الشعب وإجماعه عليه وفسح المجال لقيادات ضمن نظام سياسي ديمقراطي متجدد ويواكب الحداثة والتطور ويحقق الحفاظ على حدود الوطن وهويته وحضارته وثورته.

بقلم أحمد ابراهيم الحاج
22/7/2008