عن سيد قطب والاخوان والمحرقة بقلم: د. جابر قميحة
تاريخ النشر : 2004-12-15
عن سيد قطب والاخوان والمحرقة (1)

د. جابر قميحة

[email protected]

سيظل سيد قطب (1906 - 1966) علمًا من أعلام الفكر والعقيدة والإسلام علي مدار التاريخ الإنساني كله, وقد رصد قلمه لأداء الكلمة الحرة الصادقة مهما كانت مرارتها, وكان قوي العارضة, حاضر الذهن, واسع الثقافة, قديرًا علي الأداء, مؤمنا بأن الكلمة عبث وضياع إذا لم تنتصر للقيم الإنسانية عقيدةً, أو فكرًا, أو أدبًا.

وقد أبان عن وجهته وطوابعه هذه في كل ما كتب. ويسجل له التاريخ محاضرته الطويلة التي ألقاها في كلية دار العلوم سنة 1932 وهو لا يزال طالبًا بها, وعنوانها «مهمة الشاعر في الحياة», وقد طُبعت في كتيب بعد ذلك, وجعل منها فصلاً ومنطلقًا في كتابه العظيم «النقد الأدبي: أصوله ومناهجه». وكتب مقدمة هذا الكتيب أستاذه مهدي علام. ومما جاء فيها «.... وقصاري القراء أن أقول لهم إنني أعدّ سيد قطب مفخرة من مفاخر «دار العلوم», وإذا قلت دار العلوم فقد عنيت دار الحكمة والأدب».

وتوالت مقالاته بعد ذلك, وألف عددًا من الكتب من أهمها «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن» ونظم عشرات من القصائد الشعرية جُمعت بعد ذلك في دواوين.

ألمحهم في خيالي قادمين

وفي الأربعينيات من القرن الماضي -وكان يعمل في وزارة المعارف المصرية- أخذ يهاجم في مقالاته الفساد الملكي, والإقطاع, والظلم الاجتماعي, والفساد في السياسة التعليمية, والاستعمار الإنجليزي, وأذنابه من المصريين, أو «الإنجليز السّمٍر» كما كان يصفهم سيد قطب. كان ينشر آراءه الجريئة هذه في عدد من الصحف والمجلات مثل البلاغ الأسبوعي- والأسبوع- والرسالة, والشئون الاجتماعية. ووجد متنفسه الأرحب في مجلة «الفكر الجديد» التي أصدرها بتمويل محمد حلمي المنياوي, صاحب دار الكتاب العربي.

وضاق القصر الملكي والحكام بجرأة سيد قطب, فحلّت وزارة المعارف هذه المشكلة بإيفاده في بعثة إلي الولايات المتحدة لمدة عامين (1948 - 1950) لدراسة المناهج التعليمية. وقد رأي كيف ضج الأمريكان بالفرحة وكيف تبادلوا التهاني حين بلغهم مقتل الإمام حسن البنا. فانفتح قلبه وعقله للإخوان ودعوتهم, وعاد سنة 1950 إلي مصر صاحب رسالة ودعوة -كما يقول الدكتور صلاح الخالدي- «مزودًا بالتجارب والخبرات حيث كانت أمريكا بداية المنعطف الجديد في حياته. لقد وجد نفسه وإيمانه وإسلامه هناك, فسار في طريقه حتي نال الشهادة».

وأذكر -في هذا المقام- أن الشهيد سيد قطب أهدي الطبعة الأولي من كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» قائلاً: «إلي الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديدًا كما بدأ.. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون...».

وفي الطبعات التالية أهدي كتابه إلي هؤلاء الفتية الذين أصبحوا حقيقة واقعة.....

المحرقة وعام الحزن..

وأقبلتُ علي كل ما كتب سيد قطب, وما يكتب, وخصوصًا «في ظلال القرآن» الذي كان يصدر تباعًا في أجزاء, وكان الجزء يباع بخمسة قروش. وأصبح سيد قطب كاتبي الأثير. وفي بيتنا بالمنزلة (مسقط رأسي) خصصت حجرة لمكتبتي التي ضمت عددًا كبيرًا من الكتب في الأدب والشعر والفكر الإسلامي.

وفي يوم من منتصف الخمسينيات -من القرن الماضي- عدت من القاهرة إلي المنزلة لقضاء عطلة الصيف بعد أن أديت امتحاني في السنة الثانية من كلية دار العلوم. وشعرت بصدمة عنيفة, وأنا أري رفوف مكتبتي لا تحمل كتابًا واحدًا... ورأيت في عيون أبي وأمي, وأفراد الأسرة نظرات فيها انكسار وإشفاق» فهم يعلمون مدي اعتزازي بكل ورقة من كتاب.... وصرخت هائجًا بصوت مرتعش:

- أين كتبي?... أين كتبي..?

وبدأ أبي يهدئ من ثائرتي:

- معلهش كل شيء.. يتعوض إن شاء الله..

- يتعوض??!!... يتعوض يعني إيه?

- يا ولدي انت عارف إنهم يقبضون علي الإخوان... ودول ناس «جبارين»... لا يعرفون الرحمة, فاضطررنا إلي....

ولم أتبين بقية كلمات أبي... فقد دارت بي الدنيا, واستنتجت ما حدث.. -وهو ما تأكد لي فيما بعد- فقد نقلوا الكتب علي دفعات... وحرقوها دفعة دفعة في «فرن» بلدي, ببيت أحد أقاربي المجاورين.

ولا أستطيع أن أصور عمق حزني آنذاك.. إنه كحزن من فقد أبناءه جميعًا في محرقة لم تُبقً منهم حتي الرماد. وكان حزني علي أجزاء «في ظلال القرآن» أشد وأعتي, وذلك لأنني سجلت علي هوامشه ملاحظات وتعليقات كثيرة جدًا, حاولت -فيما بعد -استعادة بعضها فعجزت عجزًا مطبقًا, وكأن شدة الصدمة قد قتلت قدرتي علي التذكر والاستعادة.

من الشهادة إلي العالمية

ولكن وجه الخير في هذه المحرقة أنها ألهبت مشاعري بمزيد من حبي لسيد قطب, وعمّقت إيماني بقلمه مفكرًا إسلاميًا, وأديبًا وشاعرًا وناقدًا, فنال من إقبالي واهتماماتي الحظ الأوفي.

وفي سنة 1971 (أي بعد تخرجي في كلية دار العلوم بثلاثة عشر عامًا) أُعرت للعمل بدولة الكويت لمدة أربع سنين. وكان من مهامي تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية -بجامعة الكويت- للطلاب الأجانب.

وكنت أشعر بالسعادة وأنا أري هؤلاء الطلاب وفي أيديهم كتب سيد قطب مترجمة إلي الإنجليزية والفرنسية والملاوية... وغيرها. وسألت بعضهم عما يعرفونه عن سيد قطب, فاكتشفت أنهم يعرفون عنه, وعن الإمام الشهيد حسن البنا الكثير والكثير. لقد صدق الشاعر العربي الذي قال:

وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلة

طُويتٍ أتاح لها لسانَ حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يُعرف طيبُ عَرف العود

فُورد للسيارات والإخوان المسلمون

وفي أحد أيام مارس 1972 أخبرني أستاذنا عبد السلام هارون -رحمه الله- وكان رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الكويت- أن أحد طلاب الدراسات العليا -وهو أمريكي الجنسية- يجمع المادة العلمية لكتابة أطروحة يحصل بها علي درجة الدكتوراه. وبعثته علي نفقة شركة «فورد للسيارات».وموضوعها / الاخوان المسلمون 0

- عجبًا وما المنفعة التي تعود علي الشركة من هذه الدراسة?... إنهم حقًا أغبياء..!!

- لا ليسوا هم الأغبياء, ففي كل شركة من الشركات العالمية الكبري -غير العلماء والخبراء المتخصصين- لجنة فيها عالم جغرافي, وآخر قانوني, وثالث عالم بالأديان والمذاهب, ورابع عالم اجتماعي.... إلخ» وذلك للقيام بدراسة شاملة لأحوال البلد الذي سيفتحون فيه فرعًا, أو يتخذون فيه توكيلاً, وأثر هذه الأحوال في ترويج السلعة أو كسادها.

وذكّرني -رحمه الله- بكساد مشروب «البيبسي كولا» في بلاد الشرق العربي, وكيف قاطعها المسلمون بعد صدور فتوي من عالم ديني بأنها حرام شرعًا لأن مادة «الببسين» المستخرجة من كبد الخنزير - تدخل في تصنيعها. وهذا يؤكد تأثير العامل الديني في الاقتصاد والحركة التجارية.

وفي النقد: ممنوع سيد قطب

ولا أقصد بهذه الكلمة السيد جابر عصفور الذي كتب في الأهرام مقالات عن النقاد في القرن العشرين, لم يشر فيها -مجرد إشارة- لسيد قطب. إنما أقصد واقعة خلاصتها أن وزارة التربية والتعليم المصرية قررت كتابًا باسم «فصول مختارة من النقد» علي الصف الثاني من معاهد المعلمين (القسم الخاص سنتين بعد الثانوية العامة) والكتاب يضم أكثر من عشرة فصول من النقد لأساتذة مختلفين. وفي الكتاب فصل لسيد قطب عنوانه «القيم الشعورية في العمل الأدبي» وهو مستل من كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) ولم يلتفت أي طالب لوجود هذا الفصل في الكتاب لأنه لم يكن ضمن ستة فصول اختيرت من الكتاب مقررًا. وصدر أمر رياسي في منتصف الستينيات من القرن الماضي بجمع الكتاب من الطلاب, وإعادته لهم بعد نزع هذا الفصل وحرقه. ولم يُحضر الكتاب إلا قرابة نصف الطلاب, وتم تشكيل لجنة في كل معهد لحرق الفصل المنزوع, مع أنه أدبي نقدي بحت, وأعيدت الكتب إلي أصحابها الذين لا يزيدون علي النصف, واعتقد الطلاب أن في الفصل المنزوع ما هو مهم خطير, فقرأه واستوعبه, من لم يُحضروا كتبهم, وتمكن الآخرون من قراءته كذلك, بل إن بعض المكتبات طبعت الفصل في كتيبّ صغير عنوانه «النقد المرفوض» بقلم سيد قطب, ووُزع هذا الكتيبّ علي أوسع نطاق. ولو «سكت» المسئولون العباقرة في وزارة التربية والتعليم, ما التفت إلي هذا الفصل أحد. والفصل -كما أشرت- لم يكن مقررًا مع أنه كان ضمن فصول الكتاب. ومرة أخري يقفز إلي خاطري قول الشاعر القديم:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طُويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يُعرف طيبُ عَرف العود

(2)


يعلم الله أنني لم أكتب هذه الكلمات عن شهيد الإسلام سيد قطب «حرصًا مني علي الاشتراك في المعمعة -أو المعركة- حول سيد قطب» وهو ما ذكره الأستاذ حسنين كروم بصحيفة «القدس العربي».. ولكني كتبت ما كتبت اعتزازًا بالشهيد العظيم في ذكري استشهاده, وليس هناك معركة أخوض غمارها, ولا شبه معركة.

وصاحب «السيادة» فيما أكتب هو قلمي يسجل -دون تخطيط سابق- بعض ما رأيت, وبعض ما خطر لي بصورة عفوية حرة بلا انتظام زماني أو مكاني . فلأترك قلمي يواصل مسيرته دون «حظر» أو قيود.

طائفتان من الناس

رحم الله سيد قطب» شهيد الإسلام والفكر والإنسانية, فمن فضل الله علينا وعليه وعلي المسلمين أن الدعوة التي آمن بها, وعاش لها, واستُشهد من أجلها انتشرت علي أوسع نطاق علي أيدي طائفتين متناقضتين من البشر:

الطائفة الأولي: تلاميذه, ومريدوه, ومن تربوا في مدرسة الإخوان.

والطائفة الثانية: طائفة الحقدة والحاسدين الذين تمنوا بعض ما رزقه الله, فخابت أطماعهم, وأبوا إلا تجريحه, والإزراء بما أعطي وقدم من فكر وأدب.

وبحقدهم هذا فتحوا عيون الآخرين علي سيد قطب, فبحثوا عن الحقيقة, وقرءوا سيد قطب, وجهده وجهاده, وعطاءاته القرآنية والأدبية, فعلموا ما لم يكونوا يعلمون. وارتفع سيد وفكره في أنظارهم, وأنوف الحاقدين في الرغام.

لماذا ظلال القرآن?..

لقد قرأت كل ما كتب الشهيد سيد قطب, وكل ما كتب أثير عندي, ولكن كان للظلال مكانة خاصة في قلبي وعقلي فقد صاحب معه في المحرقة تعليقات كثيرة سجلتها علي هوامش الأجزاء التي قرأتها منه. وقد يرجع هذا التقدير لمنهجه الجديد الذي لم يُسبق إليه, ولما يتسم به أداؤه التعبيري من جماليات في التصوير, وبراعة في التعبير, ووجدان متوهج صادق, مما يتفق مع حبي للأدب, واشتغالي به.

وقد أبان الشهيد عن منهجه في الظلال, وطوابعه الموضوعية والفنية فجاء في صدر الجزء الأول «يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة, شخصية يعيش معها القلب, وكما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس, ولها موضوع رئيسي, أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلي محور خاص, ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها, ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص, إذا تغير في ثنايا السياق, فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة, وهذا طابع عام في سور القرآن جميعًا..»

في ظلال الظلال...

وبعد إعدام الشهيد سيد طُبع الظلال عشرات الطبعات في البلاد العربية, وظهر كاملاً في مجلدات, وكانت فرصة لبعض دور النشر (التي تحولت إلي دور نشٍل) لتحقيق ثراء فاحش بطبعه دون استئذان الورثة, أو شقيقه «محمد» علي الأقل.

وفي مطلع السبعينيات -من القرن الماضي وقد كنت في الكويت- قرأت الظلال كله.. لم تكن قراءة عادية, ولكنها كانت معايشة.. نعم معايشة خرجت منها بعدة انطباعات علي رأسها: إيماني اليقيني بالدلالة العظمي للعنوان «في ظلال القرآن».. فآمنت شعوريًا وروحيًا أنه تعبير لم يجاوز الواقع إلي المجاز.

وأشهد الله أنني ما جلست إليه قارئًا إلا وسيطر عليّ شعور بأنني أخذت مجلسي علي ربوة وثيرة, تحت سرحة وارفة الشذا والظلال, وأن نسيمًا رقيقًا لطيفًا يلامس وجداني في حنان وضيء. وأن زخات من الرضوان الرحماني تخلعني من الزمان والمكان, وتزيدني شفافية.. كلما مضيت في الظلال.

وأذكر أنني حاولت أن أسجل خواطري علي هوامش الظلال, ولكن ذكري المحرقة التي أقامها أهلي في منزل الأسرة بالمنزلة قبل تخرجي في دار العلوم.. هذه الذكري أسقطت القلم من يدي بقوة خفية قهارة.

وفي ليلة ظلالية وأنا في مسكني بالكويت.. أخذتني نوبة من نوبات «الإلهام الشعري».. فحاولت أن أنظم بعض سبحات سيد قطب في الظلال, وخصوصًا وقفاته مع آيات المحن والشدائد, والشهادة والشهداء. ونظمت قرابة ثلاثين بيتًا علي مرتين وحمدت الله أن فُقدت مني» فقد أحسست أنني اقتحمت «حمي» لا حقّ لي فيه, وقد يفهم بعضهم أنها محاولة «لنظم القرآن» لا بعض قطع من ظلال القرآن.

محرقة لسانية..

وحديثي عن الظلال يذكرني بواقعة مؤسفة تتلخص في أن أحد العلماء المصريين زار الكويت سنة 1974, وهو معروف عنه في كتاباته بانتصاره للتراث العربي, وحملاته علي التغريب, وأنا أشهد له بذلك.

ومعروف أن «الديوانيات» لازمة من لوازم المجتمع الكويتي.. والديوانية قاعة واسعة تُفتح مساء كل خميس, ويحضرها من يشاء, وهم غالبًا من أهل الأدب والعلم, وذوي الوجاهة في المجتمع, ويناقَش فيها موضوع أو موضوعات متعددة.. بصورة عفوية, والكلام ذو شجون.

ورحب صاحب الديوانية بالعالم الضيف. ونقل إليّ أكثر من واحد تفاصيل ما حدث: كان «العالم» هو المتحدث الرئيسي.. بل المتحدث الوحيد, وبدأ بداية سيئة بالهجوم الشديد علي الإخوان ومرشدهم حسن البنا. ووصفهم «بالعمالة», وقدم الدليل «الحاسم جدًا» علي هذه الإدانة بأن جماعة الإخوان نشأت في منطقة الإسماعيلية حيث يهيمن المستعمرون الإنجليز, ويسيطرون علي كل الأجهزة في الإسماعيلية, ومنطقة قناة السويس.

فلما اعترض أحد الطلاب الجامعيين بقوله: هذا شأن كل الدعوات تنشأ في مناطق صعبة, وبلاد عديمة الإيمان.. شأنها شأن مكة.. نهره الأستاذ الكبير بحدة.. وصرخ في وجهه: أتشبه حسن البنا برسول الله صلي الله عليه وسلم?!.. يا «أخينا أنت».. يوم ما تعرف إزاي تتطهر من النجاسة.. «ابقي» تعال جادل أسيادك. وانسحب الطالب من الديوانية, ومعه عدد من الحاضرين, وهم يشعرون بالأسي والحزن.

وجاء الدور علي سيد قطب

ولما سأله أحدهم عن رأيه في ظلال القرآن, امتقع وجهه, وانطلق يجرّح «سيد قطب» بألفاظ لا تصدر من مسلم يملك الحد الأدني من الذوق والأدب, مما يدفعنا إلي إغفالها, وكان أكثر ما قاله اعتدالاً هو: الإخوان دول «دوشونا» بما يسمي «في ظلال القرآن», وأنا أتحدي أي واحد يريني أين «التفٍسير» في كتاب قطب هذا?

واستأنف «الأستاذ الكبير» منظومته الخسيسة في تجريح الشهيد سيد, وكل ما كتب, وخصوصًا «في ظلال القرآن» ولم يعلق صاحب الديوانية علي أية كلمة مما قاله «الضيف الأستاذ», تأدبًا منه وكرمًا. وأخذ الحاضرون يغادرون الديوانية.. واحدًا واحدًا, ولم يبق مع الضيف إلا خمسة هم المضيف ورجال الأسرة. قال واحد ممن نقل إلينا الواقعة المؤسفة: قطعًا الرجل لم يقرأ في ظلال القرآن ولو قرأه لغيّر رأيه.

قلت: بل قرأه قراءة جيدة, وفهمه فهمًا دقيقًا, ورأي ما فيه من تفوق سيد قطب وعبقريته, ولكن الحسد أكل قلبه, وطمس عقله» فالرجل لا يملك سماحة العالم ونبله, وسعة صدره, ولم يرزقه الله سعة أفق الداعية, وأسلوبه الواعي المتزن, ومن هنا جاء إخفاقه ذريعًا في تكوين «جماعة إسلامية» يضرب بها الإخوان ويوقف بها مسيرتهم.

ولكني أقول: «شكرًا» للرجل «الأستاذ جدًا» إذ فتح بحقده من حيث لا يقصد علي دعوة الإخوان, وعلي سيد قطب.. وما كتب, وخصوصًا «الظلال» بحقده الأسود -من حيث لايقصد- عيون الناس وعقولهم وقلوبهم علي الشهيد سيد قطب, وما كتب, وخصوصًا «ظلال القرآن».

ومحرقة.. بالأقلام

وبعد إعدام سيد قطب رحمه الله عملت الأقلام عملها, ولا أقصد الأقلام المريضة التي تكتب في الصحف الصفراء الكالحة, ولكني أقصد ما شاهدته من كتب مطبوعة طباعة فاخرة, في بعض البلاد العربية, وتباع بأسعار رمزية, وكلها مطاعن في الإخوان ودعوتهم, وقادتهم, ونال سيد قطب منها الحديث الأوفي: فهو باطني, يدعو إلي عقيدة «الحلول» ووحدة الوجود, وهو يناصر دعوة عبد الله بن سبأ اليهودي, وأنه عاش طيلة حياته رقيق الدين, مستهينًا بالعقيدة. وأنه.. وأنه... ولو صحت هذه الافتراءات التي كتبها «علماء»(!!!) طوال اللحي- لكان سيد قطب زنديقًا مارقًا من الملة والعياذ بالله.

ومرة أخري حققت هذه الدعاوي والادعاءات الكاذبة عكس ما تغياه أصحابها, وأصبح لدعوة الإخوان وسيد قطب وجود وكيان في هذه البلاد, ومنها -بل أهمها- ما لم يعرف الأحزاب من قبل.

. . .

إنها محارق ثلاث أقيمت لدعوة الإخوان وكتبهم وكتب سيد قطب: المحرقة الأولي كانت بدافع الخوف عليّ من حكومة الميمونة, وهي تلك التي أقامها أهلي فأتت علي مكتبي بالمنزلة. والمحرقة الثانية محرقة كلامية, تولّي كبرها بألسنة حداد بالتجريح والكذب «الأستاذ» زائر الكويت, ومن دار في فلكه. والمحرقة الثالثة «محرقة قلمية» تمثلت في الكتب الفخمة التي أشرت إليها آنفًا, وهي تنضح بالكذب والتجريح لسيد قطب والإخوان. وكذبوا.. وهم بمحارقهم لا يحرقون إلا أنفسهم المخروبة, ومنطقهم الهش المنتفش.. أما الإخوان ودعوتهم فخرجوا من هذه المحارق كالذهب الإبريز, وهم -بحمد الله- في تزايد ممتد, وقوة مطردة, ونشكر «الحاقدين المحروقين», وأذكّر القراء بالبيتين الخالدين:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طُويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

. . .