لماذا تقديس نصرالله؟؟ بقلم:نجاح بدران
تاريخ النشر : 2008-07-20
لم تكن لدي النية بان اكتب ثانية تعليقا على ردود الفعل على المقال الذي نشر بدنيا الوطن يوم امس تحت عنوان " الشيخ حسن نصرالله يكذب"، ولم يخطر ببالي ان ذاك المقال سيكون ككرة ثلج تدحرجت بسرعة حتى بلغت ما بلغت، وامام زخم الردود سواء على شكل تعليقات او مقالات، كثيرا منها اجلها واحترمها واحترم كتابها ، فيما البعض منها كشف عن مشكلة كبرى يعاني منها العقل العربي عموما وليس فقط بعض (اكرر بعض) كتاب وقراء دنيا الوطن.
وهذه المشكلة تنقسم الى قسمين رئيسيين : الاول: تقديس الاشخاص، والثاني : الرفض المطلق للنقد والراي الاخر.
ولا اهدف من مقالي هذا الرد على ما ورد في بعض التعليقات او في بعض المقالات سواء ما توافق مع وجهة نظري او عارضها ، كما لن اهبط الى مستوى بعض الاخوة ممن لا يرو مما يكتب غير شخص الكاتب، وهذه مشكلة اخرى قد يكون لها موضعا اخر.
فموضوع تقديس الاشخاص هو مرض يبدو انه مستشري عند الكثيرين في عالمنا العربي، وهذا يتناقض مع ديننا الاسلامي العظيم، حيث ان الله سبحانه وتعالى لم يدعونا حتى الى تقديس الرسول (صلعم) وانما طاعته واحترام دعوته والالتزام بما نزله الله بواسطته.
فعندما اراد الله ان يمدح الرسول (صلعم) قال عز وجل "انك لعلى خلق عظيم" وعندما وصفه "قال سبحانه وتعالى "وما هو الا بشر مثلكم". هذا ما يقوله رب العالمين ان رسولنا الكريم ما هو الا بشر مثلنا، فكيف يكون حسن نصرا "ليس بشرا مثلنا"؟ واذا كان رسولنا العظيم معصزما عن الخطأ .. فهل السيد حسن نصر الله معصوما عن الخطأ؟
لكن ليس هذا مجال الحديث عن نصر الله وحزب الله واهدافه في لبنان، فسيكون ذلك في مقال قادم ان شاء الله.
ولربما يرد البعض قائلا : ومن هو الذي يقدس نصر الله ؟؟ وهذا البعض احيله لقراءة المقالات والتعليقات المرتبطة بالمقال المذكور.
فلو قام شخص متخصص ومحايد بقراءة متأنية لمعظم التعليقات والردود على المقال لوجد ان "كل هذه الثورة قامت لانني مسست الشيخ نصرالله ووصفته بالكاذب، ولم يناقش احدا الموقف السياسي الذي تضمنه المقال وجوهره ان كل ما قام ويقوم به حزب الله هو في اطار معركته الداخلية لتحسين شروطه في الداخل اللبناني. ولم انكر او اتجاهل صمود مقاتليه الابطال وتمكنهم من افشال خطط العدو، وتكبيده خسائر فادحة في الارواح والمعدات وتحطيم صورته الاسطورية.
لكني قلت ان كل هذا تم في سياق حربه الداخلية لتعزيز وجوده السياسي ، وهذا الامر لم يتطرق له احد ، ولم يتنبه له احد، كل ما تنبه اليه الكثير ممن قاموا بالتعليق او كابة ردود على شكل مقالات هو وصف نصرالله بالكاذب.

الا يعني هذا ان كل هذه الثورة والتفاعل مع المقال هو فقط لانني مسست شخصا له قدسية عند هؤلاء ، وانبر ى المدافعين عن هذا الشخص ذو القدسية وكانني مسست قدسية الذات الالهية،
والا ما تفسيركم لعدم احتواء معظم التعليقات والمقالات على جملة سياسية واحدة، اللهم الا اذا اعتبر البعض ان اعادة سرد ملخص لحرب تموز هو كلام سياسي. فتعداد المنجزات التي اصبحت جزءا من التاريخ ليس كلاما سياسيا ، لان تعداد مناقب شخص ما ليس كلاما سياسيا، بل مدحا لذاك الشخص وتزكية له، وكلما كانت الحماسة اكبر في تعداد المناقب، وكلما كان هناك تفخيم وتبجيل كلما كان الشخص المعني له مكانة ارفع، وعندما يحرم توجيه النقد لشخص ما فمعنى ذلك ان هذا الشخص فوق الشبهات، ولا يوجد شخص فوق الشبهات الا اذا اعطي هالة قدسية ترفعه الى مصاف الانبياء.
ولو انتتبهنا لبعض المفردات التي وردت بالتعليقات والمقالات ومن اهمها تعبير (جرحت مشاعرنا) لتبين بوضوح ان الجانب الوحيد الذي تاثر عند الكثيرين هم جانب المشاعر أي الجانب العاطفي وليس العقلي، وتعاملوا مع كلمة كاذب بمعناها الاخلاقي وليس السياسي. فيما كنت امل ان يجد ما اكتبه تفاعلا مع العقول وليس مع المشاعر ومع العواطف.
وذلك لان التعامل مع المشاعر والعواطف له اسلوب اخر ووظيفة اخرى، ليس من وظيفة المقال السياسي او التحليل السياسي.
فوظيفة المقال السياسي ليس تهييج العواطف ، بل وظيفته بناء موقف ورؤية، عبر التفاعل مع الرؤى والمواقف الاخرى.
وعندما يبتعد الحوار السياسي عن هذه الاسس وتنطلق المواقف والاراء من دوافع شعورية وعاطقية ويتم تجاهل جوهر الموقف السياسي ويندفع الاسنان للدفاع عن شخص محدد أي كان فان ذلك لا يعني سوى امر واحد فقط وهو ان هذا الشخص يحظى بمكانة رفيعة ، وعندما يتم تحريم نقده او معارضته او تبيان اخطائه فمعنى ذلك ان هذا الرجل مقدس لا يجب المساس به.
فلماذا كل هذه القدسية لشخص يقود تيار سياسي قد يصيب وقد يخطيء، وكأن مكانته اكبر من مكانة رسولنا العظيم الذي قال الله بشانه "وما هو الا بشر مثلكم".
وتقديس الاشخاص لم يقتصر على الشيخ نصر الله ، فهذا السلوك شائع ومستتفحل في العقل الشرقي عموما ، فالاخوة المصريين مثلا كانوا يغضبون بشدة عندما ينتقد احدا سياسة الرئيس انور السادات ، وقبله سياسة الرئيس عبد الناصر ، وهكذا هو موقف الاخوة الاردنيين اذا انتقد احدا سياسة الملك حسين بن طلال سابقا او الملك عبدالله حاليا، والاخوة التونسيين كانوا يرفضوا بشدة توجيه أي نقد لسياسة الحبيب بورقيبة وحاليا للرئيس زين العبدين بن علي، وهكذا الامر مع اليمنيين والسعوديين والبعثيين العراقيين مع صدام حسين وكذلك الامر بالنسبة للسوريين، وغيرهم. ولا يوجد من بين شعوب العرب من يوجهوا انتقادات لاذعة لرؤسائهم سوى الشعبين الفلسطيني واللبناني. (طبعا هذا لا يعني انه توجد معارضة في كل هذه البلاد)، ولكن اتحدث عن موقف المواطنين العاديين في هذه البلدان أي الاغلبية الساحقة.
كما انه في كل من البلدين فلسطين ولبنان بدلا من تقديس الرئيس فهناك تقديس لالف رئيس (هم مجموع زعماء الطوائف والمذاهب والاحزاب والحركات والتنظيمات السياسة) فكل مجموعة اوجدت لها رجلا زعيما تقدسه.
واعتقد ان هذه العقلية التي تقدس الاشخاص مستمدة من فكر فقهاء السلاطين الذين حرموا المساس بالحكام والامراء والقادة ومنهم على سبيل المثال أبو سعيد الحسن البصري الذي قال"... والله لا يستقيم الدين إلى بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وإن فرقتهم لكفر( )""آداب الحسن البصري" لابن الجوزي ص(121) و"جامع العلوم والحكم"(2/117).
وقال سهل بن عبد الله التستري " لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين، أفسدوا دنياهم وأخراهم" "الجامع لأحكام القرآن"للقرطبي (5/260-261).
وقال أبي الدرداء" إياكم ولعن الولاة، فإن لعنهم الحالقة، وبغضهم العاقرة". السنة"لابن أبي عاصم(2/488).
وكثيرة هي التوصيات التي اطلقها وحذر من عدم الالتزام بها فقهاء السلاطين التي تحض على الخنوع والخضوع وتقديس ولي الامر والصبر على طغيانه وجبروته وفساده وافساده.
ومع ان عصر السلاطين انتهى الى غير رجعة ، وعصر فقهائهم اندثر مع الزمان ، وهناك مؤسسات عصرية تسمح بالادلاء بوجهات النظر وانتقاد الحكومة وراس الحكومة ولا تخلوا برلماناتنا العربية من مشادات حامية مع اولي الامر، الا ان الثقافة الشعبية ما زالت تعيش في ازمان غابرة.
وانا اظن وادعوا كل من له عقل ان يبتعد عن تقديس الاشخاص فكل البشر مهما كانوا وايا كانوا ومهما كانت مسمياتهم فان اعمالهم يجب ان تكون محط النقد والتقييم والرفض والقبول، فلا يوجد احدا منزها او معصوما من الخطأ ولا مقدسا ولا فوق القانون .
وهذا التقديس للاشخاص يشكل اساسا للقسم الثاني المتعلق بالرفض المطلق للنقد والراي الاخر، وايضا هذا الرفض ليس محصورا بالعقل العربي بل هو تقليد شرقي قديم فكل مذهب او فرقة او جماعة تقدم نفسها على انها الحقيقة المطلقة، وانها السبيل الوحيد لبلوغها ، وهي البيان الاشمل والادق والاصدق، وهي التي تقدم الاجابات النهائية عن كل ما يخطر ببال البشرية من اسئلة، سواء حول الوجود واسراره او حول الدنيا وما فيها او حول الاخرة وما ينتظر البشر فيها.
وكل جماعة تعتبر غيرها من الجماعات باطله ومزيفة وتطعن بصحتها وتتهم اصحابها بالشرك والكفر والهلاك بالدنيا ويعد اصحابها بعذاب اليم في الاخرة.
وتمتلك كل جماعة القدرة على الاقناع بمبادئها ورؤيتها للحياة والاخرة ، وهذا ما ادى ويؤدي الى الصراع والاقتتال عبر التاريخ وحتى الان انطلاقا من قناعة كل منها على انها تمتلك الحقيقة المطلقة. وكل فرقة منها ترمي الفرق الاخرى بالضلال والباطل والشرك بالله سبحانه.
ولما كان هذا التراث يشكل المخزون الثقافي والفكري للبشرفان الرفض المطلق لتوجيه النقد للفرقة والجماعة والكيان انسحب على باقي شؤون الحياة، فاصبحت وجهة النظر الفردية لها قدسية كقدسية الدين، وانسحب تقديس وجهة النظر على الشخص نفسه ، وتوحد الشخص مع افكاره ، وما عليك الا ان تقبلهما معا، فاذا عارضت صديقا بموضوع ما فقد تخسر صداقته، بل ربما تصبحا اعداء ، وتضخمت الذوات الفردية، حتى اصبح كل من يحتل موقعا مسؤولا حتى لو مراقب عمال، يعتقد انه ظل الله على الارض، ممنوع نقده او طرح وجهة نظر مخالفة لوجهة نظره ، وتصور الفرد نفسه كأن الاله تجسد في شخصه فكل من يعارضه ضال وباطل ومشرك وهناك صفات عصرية تطلق على المخالف بالراي في بلاد العرب منها العمالة لامريكا واسرائيل والغرب الى اخره. وانه ينبغي اجتثاث اصحاب الرأي المعارض ، وان في اجتثاثهم ارضاء لله تعالى وتنفيذا لتعاليمه وسيلقى من ينتصر ثوابا واجرا عظيما وسيكون نصيبهم الجنة يوم القيامة.
واذا كان التزمت العقائدي غير مبرر ومرفوض ، بين اصحاب الديانات والمذاهب المختلفة ، فليس مفهوما كيف يسود هذا المنطق اصحاب الرؤى السياسية، فهل يجوز ان تحظى الرؤى السياسية بالمكانة التي تحتلها الديانات السماوية او الوضعية؟
وهل من المنطقي باي حال من الاحوال ان يعتبر البعض انه يمتلك الحقيقة المطلقة والمعرفة النهائية؟
ثم هل يستطيع أي عاقل ان يتصور ان الدنيا كلها ستتبنى وجهة نظر سياسية واحدة في أي مرحلة من مراحل التاريخ؟؟
اعتقد ان البعض يظن انه وحده او جماعته او حزبه او طائفته يمتلك الحقيقة المطلقة وهو لذلك لا يقبل ان يوجه كائن من كان نقدا لوجهة نظره او وجهة نظر جماعته او حزبه او حتى نقد من يحبهم ويرتبط بصداقة او علاقة معهم.
والا هل يمكن ان يفسر لي احد هذه الفزعة العرمرمية وهذا "الموقف البطولي " هجوما على راي مخالف ودفاعا عن رجل هو قائد سياسي لطائفة مذهبية في بلد يضم العديد من الطوائف؟
فهناك البعض منا (وهم كثر للاسف) مهووسون بعبادة الذات ، يرعبهم النقد حتى لو كان ناعما سلسا مؤدبا مهذبا، ويسكنهم الرعب اذا دعاهم احدا لاجراء مراجعة نقدية جادة وحازمة للتجارب السياسية او المنظومة الفكرية. ومع ذلك يتسائل البعض لماذا بلادنا متخلفة وشعوبنا مقهورة؟.
أما من نعتبرهم اعداء العرب ولان النقد عندهم جزء اساسي من مكونات حياتهم ويعتبر احد اهم اسس قوتهم وتقدمهم وحضارتهم، فانهم في نقد دائم لذاتهم، ففي الولايات المتحدة سقط نيكسون اثر فضيحة ووتر غيت ، وسيق كلينتون اثناء ممارسته لصلاحياته كرئيس للولايات المتحدة الى التحقيق العلني اثر فضيحته الجنسية، ويتعرض الرئيس بوش لنقد لاذع في مختلف الوسائل الاعلامية لموقفه في العراق، اما العدو الصهيوني فقد اعتبر حرب تموز امام حزب الله هزيمة وعزل وزير دفاعه وقائد جيشه وشكل لجنة تحقيق ولم يخجل من الافصاح والكشف عن نقاط ضعفه ، لكننا نحن العرب خصوصا والشرق كله بوجه عام ، يرعبنا النقد ، و ترعبنا الحقيقة فنتحايل عليها ونعمل على اخفائها وعدم الاعتراف بها.
وما زال الكثيرون يندبون حظ بلادنا ويلطمون خدودهم ويضربون صدورهم وكان كل ايامهم عاشوراء.
والى ان نكف عن تقديس الاشخاص، وان نقبل بالنقد، وننتقد ذاتنا ، ونقبل ونحترم الراي الاخر، فان بلاد العرب ستظل تئن تحت ابشع اشكال التخلف والجهل والهزيمة والفوضى بكل تجلياتها
وعلى الجميع ان يبذل اقصى جهده لتثبيت حق النقد ، وحق ابداء الراي واحترام الراي الاخر والرفض المطلق لتقديس الاشخاص ، لان ذلك واحدا من اهم العوامل التي تساهم بارتقاء بلادنا وتطور شعوبنا وهزيمة اعدائنا.
نجاح بدران
[email protected]