شتّان ما بين الكرامة والمهانة...بقلم : حسان نزال
********************************
انقضت أيام صفحة مجد أخرى من صفحات المقاومة ...صفحة غير قابلة للطي ...صفحة عايشناها لحظة بلحظة وإن لم يتح لي الكتابة عنها في حينه فإن الالتزام بدورة مهنية في رام الله حال دون ذلك ولم يحل دون المتابعة ، كانت صفحة مُجتـَرَحه بكل معنى الاجتراح ..أُديرت مقدماتها بحنكة وصبر وإيمان ليفضى الى هذه النتيجة المشرّفة ..وإن كان نجاح كل خطة وكل خطوة يقاس بمدى تحقق ما يوضع لها من أهداف... فلكم أن تقارنوا بين ما وُضع عشية الثاني عشر من تموز /2006 وبين ما تحقق فضاء السادس عشر منه /2008 ....لكم أن تقارنوا بين صفحات الوجوه على جانبي المعادلة هنا في المحتل من أرضنا وهناك في عرين المقاومة في بعض أرضنا العربية ...لم أسمع هذه المرة مسمى المقاومة اللبنانية ..حتى من رُبّانها ...وما تكرس هو المقاومة بشموليتها مساحة وفضاء وجغرافيا .....
لم أتوقع أن أشهد جثمان دلال المغربي على منارة رام الله ....العدو لن يسمح بذلك من جهة ...وقد نكون لا نستحق ذلك من جهة أخرى ، لأننا لم نبذل لذلك جهدا بذات مستوى ما بذل المستحقـّون .... من يشهد الأقدام المتدافعة والأرداف المتزاحمة كل صباح هناك .. وينظر إليها بتردد ..سيخرج بما يفيد بأن هؤلاء بشر كلٌ منشغل بعمله ..بلقمة عيشه ...بملاحقة باروميتر الأسعار ...الحديث بينهم عن (سنوات الضياع) وقصص (نور ومهند) يحتل مساحات أوسع مما ينبغي ، وانتظار فرق الدبكة في قصر الثقافة كل مساء يشغلهم أكثر مما يشغلهم همّ انتظار جثمان دلال ..ببساطة لأنهم لا يتوقعون ..ومسحة من الخجل والانتكاس الداخلي تمازج صفحات وجوههم كلما فُتح الملف .....
هل هم مغيّبون ؟؟...هل تجلل اللامبالاة كياناتهم وتنزعهم من وعيهم وعواطفهم التي طالما أدمنوا ارتداءها ؟؟....احسب أن الإجابة :لا.....وأظن أن تحت هذا الرماد وميض نار ....الراقصون على أنغام فيروز ومرسيل في قصر الثقافة سيكون لهم جولة أخرى ...والمنشغلات بغلائل الحرير والإكسسوارات سيكن بحاجة لأردية أخرى عندما تسفي الريح بعض الغبار الذي يتراكم فوق الرماد ..
في التعريف بين الزملاء والزميلات المشاركين في دورات مركز القطان التربوي قالت إحداهنّ : أنا ..... من حي العجمي / عكا ..سكان ......وقال آخر أنا من اللد : أما (عايشة سعادة ) فكم أثارتها حكاية البيت القديم الذي اضطرت لهجره ...!! وهل ما تزالين ( عايشة سعاده ) في البيت الجديد !! سألتها بحنكة الباحث عن إجابة في العمق !! ضحك الجميع وردت أن لا .... لا شيء يعوض البيت القديم والبيتوتة فيه ....
على مدى أيامي الأربعة هناك لم أر جنديا إسرائيليا ولا استفقت على هدير مجنزرة أو أزيز رصاص ( دعك من أصوات مفرقعات الاحتفالات ) على غير ما اعتادته أذناي هنا على تخوم جنين ..فإما أنت بانتظار هدير الى قباطية أو تفجير في جنين أو أزيز في برقين أو...... هرولة قواتنا لفض عراك هنا أو تدخل هناك ....
شتان بين أن تحزم أمرك وتوجه بوصلتك هنا .وأن تحيا بلا ضرورة للحزم أو الغضب أو الحنق هناك ....
قلت لوزيرة ثقافتنا التي زارتنا في جنين بداية الأسبوع : أننا نشعر أننا هنا بعيدا عن العين والقلب في جنين ..شعور بالغبن ..فلا مخطوطاتنا ترى النور .. ولا المتوفين من أصحاب الأقلام يلقون الرعاية ...كأننا ( مثل الدنيا عند خالقها ) هناك .....هناك ...بعيدا في الشمال ..
ردت الوزيرة باستنكار بادٍ ...إذ أننا لسنا كما أدّعي ..فما من منبر تحضره الوزيرة في رام الله الا ويكون لجنين وأهلها صوت فيه ...!!!
ــ قلت لك سيدتي أنني أقصد المقيمين في جنين .. لا الراحلين عنها بحكم عملهم أو بحكم هواهم ..هل علينا أن نشد الرحال الى رام الله لننال حظنا من الرعاية ؟؟!! هل ندفن موتانا في مقابر رام الله لترى مخطوطاتهم النور ؟؟!! ثمّ هل مصطفى اللقيمي أولى منا بماء جنين وخضرائها ووجهها الحسن منذ أن أنشد :
يا حبذا يوما بجنين مضى /كالغرة البيضاء في وجه الزمن
فيه ثلاث للسرور تجمّعت / الماء والخضراء والوجه الحسن .
بعد يومين من ذلك وبعد أن شهدت مع كثيرين حملة مقاومة التدخين على دوار المنارة برقصة فرقة أجنبية تحرض على إحراق علب السجائر بالرقص كنت أقف قبالة شاب فارع الطول وسيم المحيا ، ما أن لاحظ د يواني الجديد على الطاولة حتى انتبه قائلا : أنت من جنين ..ورأيتك في حفل تأبين الشاعر رياض طاميش قبل يومين ..
ــ نعم ..قلت له ..وأنت ...أنت ...مرافق الوزيرة الذي تلقف من يدها الديوان بعد أهديته لها ...
ــ نعم ..
ــ إذن هذا لك ...
شكرني ..وعدت أدراجي متأملا حشود المنارة المتعلقة عيونها بفرقة الرقص ...متنصّتا على وجيب قلوبهم ..ومتطلّعا الى نشرة أخبار( المنار) التي كانت ترسم بالكلمات معالم الاستقبال المرتقب غداة ذاك لسمير القنطار ورفاقه ..فقلت في نفسي :شتان ما بين المنار ...والمنارة.
*** *** ***
لم يغب صديقي عن باب قاعة الاستقبال في الفندق الا دقائق قليلة ..فقد ودعني قبل قليل بنية الاستماع الى خطاب سمير ونصر الله في بيته ..إذ رأيته يعود من الباب الآخر ....
ــ مالك يا صديق أراك تعود.....
ــ أريد أن أستمع لخطاب نصر الله عندكم ، فنور ومهند يرفضان التخلي عن شاشة تلفازنا ....
ــ حكم القوي يا صديقي ..سقا الله أيام زمان ...!!هل غيرك الرحيل عن الشمال ...!!!.
على فكرة:
ــ هل لحظت كم انصبّ غضب هذا اليوم على أهل الشمال في دورتنا في (الفريندز) يا صديقي ؟؟ كانت إحداهن تقول بمرارة:أين هم أبناء الشمال ..أريد أن آخذ بالثأر ....؟؟ قلت لها عندما لحظتُ نظرات ترجو إجابة منقظة ممن حولي : أنا من قباطية ..ومعك حق..لا بد من القصاص ، فجريمة القتل التي طالت أحد سائقي العمومي قرب سلفيت جديرة بالقصاص ..القصاص لا الثأر ...سكتت ....وصبرت ساعات بانتظار هدوئها لأقول لها : على فكرة برضُه ...قباطية في قلب الشمال .. وكنت أمتص غضبك صباحا ...قالت لي : أعرف يا أخي وأنا كنت أدعوكم لمشاركتي حرقة المأساة ..المجرم مجرم ..بغض النظر من الشمال جاء أم من الجنوب ....
هل فيما أسرد تُخرجني رام الله من دائرة متابعة الحدث وقراءة صفحة المجد المجترحة ...بالطبع لا ....، العدو يهدد بقتل ( القاتل الحقير ) سمير القنطار ..على رأي (براك ) والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية ترى بحزب الله عدوا قويا حقيرا كذلك وتحذره من مغبة تكرار التجربة ...الصحف العبرية ترى ضرورة تغيير الاستراتيجية ومبادلة كل تابوت بتابوت ..جثة بجثة ...حتى لا تتكرر غصة الأمس ...
ومن قال إنكم كنتم على علم بمصير أبنائكم ؟؟!! ألم يفغر الإسرائيليون أفواههم دهشة وعجزا وألما عندما أُخرج التابوتان الأسودان وظهرا على شاشة التلفاز ..؟؟؟ ألا يدل كل ذلك على فظاعة الخسران والهزيمة التي يشعرون بها اليوم ....؟
ماذا تقرؤون في عناق القنطار لنصر الله ...يبدوان غير متابعدين في العمر ..قد يكون نصر الله في مثل سن القنطار الذي يقترب من الخمسين ولا أظن نصر الله تجاوزها ...لم يعرفا بعضهما ..لم يكن القنطار من مقاتلي حزب الله الذي لم يكن ولد بعد .. لكنه كان لبنانيا من صفوف المقاومة التي كما قلت لم ينسبها نصر الله الى لبنانيتها ..بل جعلها واحدة كجهة مقاومة واحدة بغض النظر عن اسلاميتها أو بعبثيتها أو قوميتها أو علمانيتها .... في الأمر دلالات وإن أرادها المتصيدون أهداف ..لكنها في النهاية لا تخرج عما تسعى اليه المقاومة ...
*** *** *** ***
مذيعتان في إحدى إذاعات رام الله كانتا تديران حوارا مع مستمع حول الفرق بالعمر بين العروسين ... كم من المستحسن أن يكون ..؟؟!! سنتان ....خمسة ..؟؟؟ قال المستمع :
ــ المهم يفهموا بعض ....
ــ يعني مش مهم يتزوج شاب عادي من فتاه متعلمة ..هل عندها سيكون بينهما تفاهم ؟؟
ــ لا ....يجب أن يتزوج غير المتعلم من غير متعلمة ..قال المستمع .
ــ ليفهموا بعض برضه ؟؟سألت المذيعه
ــ لا بل ليتفقوا ؟؟
ــ على ماذا ؟ على عدم فهم أي شيء من حولهما ؟؟
ــ لكنهما سيفهمان بعضهما ..رد المستمع ....
كنت أظن سائق التكسي التي تقلُّني الى حي المصايف في رام الله صباح الخميس منسجما مع البث ..ولم أرد أن أخرجه من سرحانه وتلهيت بمنارة ضريح الرئيس الراحل أبو عمار المصقولة بالحجر الأبيض ومتمنيا أن تطول فترة الإشارة الحمراء لأعد ( مداميك ) السور الذي يفصلنا عن الضريح ..لكن السائق شهق بلوعة قائلا :
ــ سبحان الله ... بم نتلهّى نحن وبم ينشغل الآخرون !! ننسى ارتفاع الأسعار وقلة العمل والبطالة وهدم منازل القدس والاستيلاء على مقبرة باب الرحمة وتحويلها الى حديقة ..وننسى زيتون قرى نابلس المحروق و(مولها) المغلق ..وننشغل بالسن المناسب للزواج والفرق بين العريسين !!! ...
ـــ صدقت ......لكننا وصلنا أرجوك هنا .... أليست هذه عمارة آسيا ....
ــ نعم ..هل تبحث عن منظمات الــ أن .دي ...جوز ...
ــ لا يا صديقي .هاك أُجرتك .أما انا فأبحث عن صديق يحب (الأوف) ....
** ** ** **
كنت احتاج لساعة ونصف على الأقل لأكون في نابلس قبل منتصف النهار .. حسبت حساب الحواجز وانشغلت بقراءة الجريدة علّ الزمن يقصر .
ــ هل سيتم تفتيشنا على معبر حوارة ؟ قلت لمجاوري في السيارة
ــ لا ..لا الخارجون فقط هم من يفتشون وللداخلين (( ممر آمن ))
كانت تتكدس على الجهة الجنوبية عشرات السيارات البرتقالية ، منها من أفرغ القادمين من رام الله ، ومنها من ينتظر المغادرين الى القرى الجنوبية للمحافظة .....علِقت حقيبتي في ( المعّاطة ) التي لا بد لكل فلسطيني من ولوجها للعبور الى نابلس والتي لا تدور الا باتجاه واحد ... وكأنها تريد أن تذكر بالمعاناة على الجانب المقابل ..حيث المئات من شيوخ ونساء ورجال وأطفال عائدين من الى قــراهم بانتظار إشارة من سبابة جندي يرسم ببندقيته صورة هنا ...وتتكرس له صورة أخرى هناك ..لن تحتاج لكبير عناء ...مدُّ بصرٍ باتجاه الشمال سيوقع في مرمى نظرك مئات من المجنزرات والعربات والآليات العسكرية مكدسة في معسكر حوارة الاحتلالي ...ترتاح نهارا وتقلقنا ليلا إذ تجتاح مدننا وهواءنا وأحلامنا وتقتحم بيوتنا ...وعلى الجهة الأخرى كذلك مئات من الحافلات المقابلة ...المحملة بمغادرين والعائدة بقادمين جدد الى المدينه ..هناك ..عند معبر حوارة (( الحدودي )!!
خلفك أيها العابر فيلات رام الله وأبراجها وفنادقها ...وعلى يمينك بيوت ... بل عُلب متكدسة هنا في مخيم بلاطة ... لا حدود فاصلة ...ولأنه لا مكان على السطوح (( للدشات )) فلا ضير من نصبها على ( الشرفات ) أو حتى ردهات الشارع أو عل رصيف ملاصق للبيت ...المهم ..أن تكون ...وستتذكر أن أحمد سناكرة ، الفتى الذي دكته الدبابات والمدافع تحت مقاطعة أنقاض نابلس وخرج كطائر الفينيق والذي حُرّم عليه العفو في زمن (دايتون) ...والذي سقط شهيدا فيما بعد ..هذا الفتى خرج من واحد من هذه العـُلب المغلقة...وعندها سيباغتك السؤال ...هل من دولة !! وهل ستتحقق رؤية بوش نهاية العام ..أو قل نهاية المطاف ...!!!!!!
ما الفقر بين أن تبقي نظرك في مستوى أفقي بعد تجاوزك لمخيم بلاطة ..وأن ترفعه الى الأعلى قليلا ؟؟!! ...الفرق شاسع ...في المستوى الأول أطلال المقاطعة ..وبعض بقايا غرف سجن نابلس المركزي التي ما زالت محاطة بالسياج ...هدم ٌ...وحجارة ودمار وخراب ....وفي المستوى الثاني حركة بسيطة ستحتضن عيناك قصر كملك الضفة الغربية ...هناك على قمة جبل (جرزيم) قصر كأنه من العهد الأندلسي أو من خيال مروان بن عبد الملك .....كنت جعلت صورته خلفية قبل أيام لشاشتي بعد مقالة عن هذا الملك نشرتها دنيا الوطن ...والآن وجدت أن صورة عناق نصر الله والقنطار أولى بكثير ، فهما ملكا المرحلة بلا منازع ....
انتهى
شتّان ما بين الكرامة والمهانة بقلم : حسان نزال
تاريخ النشر : 2008-07-18
