بقلم : الدكتور نادر القنة
استاذ أكاديمي / دولة فلسطين
انتقد رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي (1936 - 1987) برسوماته كل أشكال الفساد والتسويف والتواطؤ ومشاريع الاستسلام في الثورة الفلسطينية ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان. وناضل ضد مغتصبي وطنه، مثلما ناضل ضد انتهازيي الثورة. ووظف ريشته وأحباره في خدمة القضية الفلسطينية دون أن يأبه بالنتائج أو يلقى لها بالا أو يقيم لها حساباً وكأنه كان يتنبأ بها، فلم يدعها تُثقل كاهله، أو تُثني تفكيره عن مواصلة النضال.. فكانت فلسطين بالنسبة إليه الأصل والمرجعية. حال من التماهي والصوفية في عشق الوطن.nرسوم كاريكاتيرية تجاوزت الآلاف، وطالت بنقدها اللاذع رؤوساً، ورموزاً، وكيانات، ومؤسسات، واتفاقيات، وسلطات، وأحزاب وايديولوجيات فوق الارض واخرى تحت الارض.. كما طالت سماسرة، وخونة، ومرتزقة، وكروشا مُنتفخة، ومحافظ مالية متورمة، وذمما واسعة، وشفاها غليظة لا تجيد غير تعليق السيجار وشفط دخانه. ولم تترك من تهكماتها وسخرياتها السيركيزمية المثقفين والادباء الانتهازيين من ماركة (مثقفون وأدباء للبيع والايجار)، كما أصابت صراحتها جهلة الفكر السياسي من حملة البطاقات (الابوية)، وفضحت عن عمد (حرامية) بيت المال. ونالت من الدجالين والمشعوذين الذين تدثروا بعباءة الثورة، ورقصوا على سلم القضية الفلسطينية \nرسومات كاريكاتيرية صالت وجالت مع يوميات الثورة الفلسطينية، سألت، واقترحت، وفضحت، وعرّت بلسانها الطويل ووعيها المنتمي للوطن أشياء كثيرة.. مُنتصرة فقط - وفقط هنا في غاية الأهمية - لفلسطين، ولا شيء غير فلسطين. مؤكدة أن الريشة قد تكون بندقية، وقد تكون المحبرة قنبلة أو مدفعية. أو أكثر. وأن القلم بوسعه ان يكون سيفاً. وأن الفن والثقافة حينما يتخندقان في المعركة يلغيان خطابات الثرثرة، ويلقيان وراء ظهرهما بيانات الشعوذة والضحك على الذقون.nبين ناجي العلي وفلسطين حالة غرام. فمن أجلها رسم، ومن أجلها دخل السجون، ومن أجلها تعذب وتشرد وعاش مغترباً، ومن أجلها اخترقت رصاصات الغدر جسده، لينال الشهادة ويُسجل مع الخالدين، ويبقى حياً في ذاكرة التاريج. في حين توارى قاتله ملعونا مدحوراً، هارباً من الناس والتاريخ يبحث عن ملجأ أو (أب) يخفيه ويحميه. وليعيش ناجي العلي برسوماته أكثر زمناً من حياة قاتليه.. أما دمه فقد امتزج بحبره، وخطه بريشته قصة الخلود لرسومات ستظل خالدة معلقة في ضمائر المناضلين، وعنواناً عريضاً لمستقبل قادم. وهو ما يؤكد عليه الشاعر والروائي محمد الاسعد في قوله:\n«يجيء فنانون نادرون من المسقبل، ليس لانهم رسموا أو كتبوا وعيونهم على اجيال المستقبل، بل لانهم رسموا وكتبوا وهم في حالة يقظة عميقة جمعت بين أطراف الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. هم متصوفون قبل وبعد التصوف في احساسهم بالازمنة. وفي خطابهم ومطامحهم يحدقون في الذاهبين والقادمين ويمتلكون الجرأة على التحديق.\nnناجي العلي هو أحد هؤلاء، ومازال يأتينا من المسقبل، مثلما تأتينا معه اللحظة الفلسطينية التي أصبحت لحظة كونية، جميلة ذات يوم بعظمتها المأساوية وجلالها، بامتدادها الانساني على مدار أكثر من قرن بكفاح شعبها الاسطوري من أجل أطفاله وأرضه ومعناه.\nمن دلائل عظمة هذه اللحظة أن ناجي في حدة بصره وبصيرته مازال قادرا على مخاطبة الأحياء، ومازال مثيراً للشغب في الفن والسياسة على حد سواء، يتحرق أكثر من فنان للوصول الى مكانته، ويتحسر أكثر من انسان على فقدانه، رغم انه لم يكن معنيا أن يظل معروفاً، أو يبقى في الذاكرة التي يعرف انها امتياز للسجلات الرسمية لا لوجدان الناس ولا لمخاوفهم وآمالهم وطموحاتهم.\nnأسرار ناجي العلي مازالت شبه مغلقة حتى أمام الفنانين الذين جايلوه، أو الذين جاؤوا بعده، لانها ببساطة لم تكن مما يمكن التقاطه من فن الكاريكاتير وحرفياته فقط، بل هي مما يمكن ان يعاش كتجربة حياة وفكر في وقت واحد معاً، أو هي أسرار تختزنها كيفية تناول الفنان لمختلف جوانب تجربته، وتكوين اتجاهات بصيرته. إنها أمور خاصة وشخصية الى حد كبير، أي هي مما لا يمكن اشاعته وتعليمه، لانها تجارب أكثر مما هي كلام يُقال ونصوص يمكن استظهارها. الامكانية الوحيدة امام هكذا تجارب هي ان يتلمسها الانسان ويتعرف على تضاريسها وظلالها مثلما يتعرف على منحنيات الزمن وآثاره على سطح المكان».\n\nلا شك أن كتابة واحدة عن ناجي العلي لا تُغني، ولا تصل الى كنه فلسفته في التعامل مع فن الكاريكاتير، وتوظيفه لخدمة قضيته السياسية، الى الحد الذي دفعه لان يدفع ثمن هذا التوظيف وهذه الرسوم.. فناجي العلي بحاجة الى اعادة قراءة من جديد، قراءة نقدية تحليلية على ضوء التطورات التاريخية للقضية الفلسطينية، وعلى ضوء مساحة الحرية التي كانت ممنوحة اليه للتعبير عن قضيته وابناء شعبه، وعن الثورة الفلسطينية.
ناجي العلي رسوم لكل الأزمنة بقلم: الدكتور نادر القنة
تاريخ النشر : 2008-07-18
