هل "الخلافة" علامة مسجلة لحزب التحرير ؟
الدكتور ماهر الجعبري
الخليل - فلسطين
جرت العادة لدى الحركات والأحزاب السياسية أن تحيي ذكريات البطولة في تاريخ أمتها أو شعوبها لتكون مبعث عز واستنهاض للهمم، وكذلك تحيي ذكريات مآسي الأمة ونكباتها لتكون دافعا للتغيير والنهوض من جديد، فإحياء الذكريات المرتبطة بالفكرة السياسية هو نوع من العمل السياسي الموجه للجماهير لحشدها نحو الفكرة، وللأعداء كنوع من التحدي السياسي لإبراز تصميم الأمة على تحقيق أهدافها، وهو أيضا نوع من العمل الإعلامي لبيان مستوى التأييد للفكرة في صفوف الناس، إذن هو جزء من عملية سياسية وتعبوية وإعلامية في خدمة الأفكار والتوجهات التي تقوم عليها الحركات والأحزاب.
وفي فلسطين تحيي العديد من الحركات الإسلامية والوطنية ذكرى النكبة وذكريات استشهاد القادة والأبطال وذكرى صدور وعد بلفور وغيرها من الذكريات الكبيرة، وهي أيضا ذكريات أليمة على قلوب المسلمين. ولكن هل تحضر الذكرى الأكثر ألما وهي ذكرى هدم الخلافة الإسلامية في وعي الحركات والفصائل ؟ أم أن النجومية الفضائية للرموز الفلسطينية لا تتوافق مع الاهتمام بهذه الذكرى ؟ وخصوصا أنها ذكرى تنغّص على الحكام نشوة ارتمائهم في أحضان بوش وحرارة القبلات مع ألمرت ! وهي أيضا ذكرى تقرع جرس إنذارهم بانتهاء شهر العسل في الأجنحة الفندقية الأوروبية وبالمصير الأسود الذي ينتظرهم عندما تحين ساعة الصفر لتحرك الأمة !
الدافع لهذا السؤال: إعلان صدر عن حزب التحرير في فلسطين في جريدة القدس وعلى صفحة وكالة معا ليوم الثلاثاء 15/8/2008 تحت عنوان "فعاليات الذكرى السابعة والثمانين لهدم دولة الخلافة"، ويعلن فيه الحزب عن تنظيم أعمال جماهيرية حاشدة تحت شعار "الخلافة ... الخلافة ...أيها المسلون"، بما يشمل مجموعة من المسيرات والمؤتمرات والندوات في كافة مدن الضفة الغربية وغزة.
إذ يصادف الثامن والعشرين من رجب ذكرى هدم دولة الخلافة في تركيا على يد كمال أتاتورك، البلد الذي تسوسه اليوم حركة ترفع شعار "الإسلام-العلماني" بعد أن تخلّت عن فكرة الخلافة التي توحدها مع الشرق الإسلامي في مقابل السعي اللحوح للدخول في الاتحاد الأوروبي الذي يذوّبها في الغرب ! وهذا الشعار بات يبيح لرئيس الوزراء فيها أن يصافح ألمرت بكل أريحيّة بما لا يتناقض مع توجهه "الإسلامي-العلماني" ! فهل يقلق أردغان وجول بهذه الذكرى أم أنّ إحياءها ردة على العلمانية التي أقسما على دستورها ؟
لقد دأب حزب التحرير في العالم على إحياء هذه الذكرى الأليمة في نفوس المسلمين من خلال فعاليات متعددة وفي مناطق مختلفة في العالم: ففي السنة الماضية كان الحدث الأبرز حشد ما يزيد عن مئة ألف في اندونسيا في مؤتمر الخلافة العالمي، بالإضافة إلى المؤتمرات الأخرى في فلسطين ولبنان. وهذا لبنان قد رسّخ مؤتمرا سنويا لحزب التحرير في هذه الذكرى وهو لهذا العام تحت عنوان "لبنان من عبث الطائفية ومكر المستعمرين الى حضارة الإسلام" كما أعلن حزب التحرير-ولاية لبنان.
وفي زحمة هذه الأعمال الجماهيرية التي يتصدر لها حزب التحرير في فلسطين والعالم، يحق للمتابع للشأن الجاري أن يتساءل حول جدية الحركات الإسلامية في حمل مشروع استعادة الخلافة وحول مستوى الرؤية ووضح الغاية ورسوخ الفهم الشرعي لفرضيتها. إذ تقوم رؤية حزب التحرير بكل بساطة على فكرة أن الخلافة وعد وفرض: هي وعد رباني استنادا لعهد القرآن في قول الله تعالى في سورة النور "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم"، وكما أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، وهي فرض شرعي كما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم "ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". فإذا كان مستوى هذه الرؤية واضحا لدى الحركات الإسلامية فهل يمكن حينها تناسي هذه الذكرى الأليمة ؟ هل يمكن أن تشارك الحركات الإسلامية في تأبين رموز رفعوا شعارات تناقض الإسلام ثم تتناسى مثل هذه الذكرى ؟
ربما السؤال الأولى هنا: هل تحمل الحركات الإسلامية نفس الفهم والرؤية حول الخلافة ؟ أم أن الإعلام قد حاصرها في حدود سايكس بيكو ! وفي قرارات الشرعة الدولية ! وأن رفع شعار "الخلافة تاج الفروض" يزج بها في قوائم حملة عقيدة الكراهية –كما يسميهم بوش- ويلقي بها في دهاليز التعتيم الإعلامي ! ثم يسحب البسط الحمراء التي تبسط لقادتها في العواصم.
فمن يحمل تلك الرؤية من الطبيعي أن يعتبر ذكرى هدم الخلافة حدثا جللا على مستوى الكون والوجود، وهي لا تعدلها ذكرى أخرى في الوجود كله من حيث الألم حتى أن أحد علماء السلف قد أعتبر مرحلة السنوات الثلاث التي خلت الأمة من وجود خليفة بعد مقتل الخليفة العباسي أفظع حدث في التاريخ، فكيف يمكن أن يرى ذلك العالم (بالكسرة) هذا العالم (بالفتحة) وقد خلى بدون خلافة لحوالي تسعة عقود !
إذا كانت الخلافة تاج الفروض، وإذا كانت الحركات الإسلامية قد انبرت لفروض الإسلام فأين هي في هذه الايام تعلي الصوت عاليا في ذكرى هدم الخلافة ؟ أم أن إحياء مثل هذه الذكرى بعيد عن المجال الدعوي والدعائي للفصائل الفلسطينية وخصوصا الإسلامية منها ؟ إذن يحق للمتابع الإعلامي أن يتساءل حول صحة التساؤل عنوان هذه المقالة ؟
طبعا لا تقوم الخلافة بمجرد إحياء ذكرى هدمها ولا بالمؤتمرات أو النشرات، ولكن هذه النشاطات حلقات في سلسلة العمل السياسي والفكري، الذي يكوّن الرأي العام في الأمة ويجعلها تلتف حول رؤية الخلافة، لأن الأمة هي صاحبة السلطان، ومن يملك السلطان يمنحه، إذن لا بد أن تستعيد الأمة سلطانها السليب بعد تعبئتها سياسيا وفكرا لتكون قادرة على حماية واحتضان الخلافة عندما يتحرك أهل القوة في الأمة لسحب البساط من تحت الحكام.
هل "الخلافة" علامة مسجلة لحزب التحرير ؟
بقلم:د. ماهر الجعبري
تاريخ النشر : 2008-07-18