كابوس مذبحة كركوك عام 1959صفحات مطوية من العنف الدامي بقلم:د. صبحي ناظم توفيق
تاريخ النشر : 2008-07-17
كابوس مذبحة كركوك عام 1959
صفحات مطوية من العنف الدامي

د. صبحي ناظم توفيق
مركز الدراسات الدولية / جامعة بغداد
كانت الساعة السابعة والثلث من مساء يوم 14 تموز (يوليو) 1959 لحظة شؤم علي تركمان العراق، في مدينتهم العريقة عراقة التأريخ، حين انطلقت من فوهة مسدس قرب السوق العصري في (شارع أطلس) اطلاقة واحدة كانت إيذاناً خُطط لها بكل إتقان ودقة مستهدفة أشراف ووجهاء التركمان في (كركوك) بغية كم أفواه جميع تركمان العراق أينما وجدوا، في يوم إنضموا فيه إلي الجماهير كافة ليحتفلوا ــ ولو عن غير قناعة ــ بالذكري السنوية الأولي لما أطلق عليها تسمية (ثورة 14 تموز 1958)، وليعيشوا ثلاثة أيام مرهبة، مرعبة، موحشة، سحل الفوضويون ومجرمو الإنسانية عشرات التركمان أحياء، قبل أن يقتلوهم ويمزقوهم أرباً ويمثلوا بجثثهم الطاهرة ذات الأرواح البريئة.
لم تكن (المذبحة) وليدة يومها ــ كما ادعي البعض في حينه ــ وتحت ذريعة عراك آني حدث بين شخصين تطّور إلي ما بين مجموعتين متظاهرتين لخلاف في الشعارات والهتافات أو اللافتات المرفوعة، بل أن التخطيط لها بدأ منذ اذار 1959في الأقل، إذ أيد تركمان كركوك بشكل خاص الثورة التي اندلعت في الموصل بقيادة (العقيد الشواف) ضد حكم (عبد الكريم قاسم) والمحيطين به من الجلاوزة وشذاذ الآفاق والمنافقين الذين ورطوه أن يميل إلي فئة دون آخري وحزب دون آخر حيث خرج معظم التركمان في تظاهرات حاشدة لتأييد تلك الثورة والتي ما لبثت ان أخفقت مع حلول ظهر يوم قيامها في 8 اذار (مارس) 1959 لتستباح مدينة (الموصل) أياما عديدة وتقتل نساءها وأطفالها وشيوخها، ناهيك عن شبابها بأساليب وحشية قلما شهد التأريخ مثيلا لها علي أيدي من سموا أنفسهم أنصار السلام دون استحياء وخجل، حيث استغلوها ابشع استغلال ليمدوا أذرعهم كالأخطبوط ويسيطروا علي جميع مدن العراق وقصباته بالإرهاب و الاعدامات والاغتيالات ومحاكمات (البروليتاريا) سيئة الذكر، حيث اتيح للفوضويين السيطرة الكاملة علي مدينة (كركوك)، وخصوما بعد القبض علي قائد الفرقة الثانية الزعيم الركن ناظم كامل الطبقجلي) و (المقدم الركن عزيز محمود شهاب) ضابط ركنه الأول، والتحاق (الزعيم الركن سلمان الجنابي) الذي فتح الباب أمام (الفوضويين) علي مصراعيه ليتمتعوا بكامل حريتهم في إلقاء القبض علي (التركمان) وتوقيفهم وتعذيبهم واهانتهم وطردهم من وظائفهم واحالتهم الي التقاعد أو نفيهم إلي مدن الجنوب أو نقلهم إداريا لابعادهم عن مدينتهم وعوائلهم متي وكيفما شاءوا و من دون ذنب أو توجيه تهم محددة اليهم.. وقد أضافوا إلي كل ذلك إفراغ الوحدات العسكرية والشرطة المستقرة في (كركوك) وحواليها من أي ضابط أو مفوض أو ضابط صف تركماني، ناهيك عن دهم االبيوت والمحال وتفتيشها ومصادرة أي سلاح منها حتي إذا كان مجرد مسدس أو بندقية صيد.
وقد نصب (الفوضويون) لتنفيذ تلك الإجراءات مديرين من اتباعهم في كل من دوائر الأمن، الاستخبارات، الانضباط العسكري، الشرطة، التربية، البلدية، وغيرها، في حين سيروا تظاهرات ــ كانت مسلحة في معظمها ــ في الليل بشكل خاص، وهي تصيح بأعلي صوتها إمعانا في الترهيب والوعيد: ــ
(ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة)
وتضاف إلي كل ذلك مقالات افتتاحية في صحفهم اليومية، وهي تشير ــ بلا خجل ــ إلي الحبال والمشانق والسلاح والرصاص والتجارب الناجحة للثورات الحمراء أينما وقعت في العالم المعاصر منذ عام 1917.
ولذلك أفرغت (كركوك) من وجهائها وأشرافها وشجعانها طيلة أربعة اشهر، ومن الذين يمكن إن يقودوا (التركمان) حيال تلكم الهجمة الوحشية فكانت الفوضي سيد المدينة دون القانون و أرباب السوابق سادتها من دون رادع، وحثالات المجتمع تصول وتجول دون ضمير.
وضمن مخططهم الإجرامي طلبوا من (عبد الكريم قاسم) إصدار عفو عام لقرب حلول الذكري السنوية الأولي للثورة التي استطاعوا تحريفها لصالحهم، وبذلك عاد المنفيون من التركمان إلي مدينتهم قبل يومين أو ثلاثة.. وقبل أن يستفيقوا من هول بعدهم عن عوائلهم و استقبالهم لمئات زائريهم، حلت (المجزرة) ففاجأتهم في عقر دورهم مساء ذلك اليوم المشؤوم.
ساد الهرج والمرج مئات الأمتار طولا من ذلك الطريق الذي كانت فيه المسيرة تسير، وقد شاهدت بأم عيني عشرات من المشاركين فيها و هم يسحبون مسدساتهم وعذاراتهم وبنادقهم المخبأة والظاهرة ليطلقوا منها الرصاص، بينما حوّل مئات آخرون عصي اللافتات إلي (هراوات) انهالوا بها علي (التركمان) ضربا دون تحديد وبشكل عشوائي.
هرعنا إلي بيوتنا وسط إطلاق نيران كثيفة من الأسلحة المختلفة، بما فيها الرشاشات المتنوعة التي لم يسبق لنا أن سمعنا لها صوتا في حين كانت سيارات الشرطة والجيش المحملة بمكبرات الصوت تأمر الجميع بمنع التجول والتزام المساكن والا تعرضوا لاطلاق النار، فيما انقطع الكهرباء والماء فورا عن كل المدينة.
كانت ليلة قاتمة السواد علي مدينتنا الحبيبة، دموية ووحشية بكل ما في الكلمة من معني، ولكن العامة من الناس القابعين في البيوت لم يكونوا قد علموا في تلك الليلة بعد أن سحل (عطا خير الله) من أمام منزله وانظار زوجته واولاده قبل أن يشق جسده الطاهر إلي شطرين.. وان (احسان خير الله) قد علق علي الحبل أمام وحدته العسكرية، وان (صلاح الدين ومحمد اوجي) قد قتلا أمام دار السينما العائدة لهما، وان (قاسم بك نفطجي) قد تسلقوا سياج بيته ليقتلوه ويمثلوا به، وان جاهد فخر الدين قد مثّل به أيما تمثيل، وان الآخرين في سلم أرقام القائمة المعدة سلفا سوف يلقون المصائر نفسها في تلك الليلة ونهار اليوم التالي والليلة اللاحقة.
وفي عصر اليوم التالي، وعندما صحبنا عمي (المفوض سامي توفيق) في سيارة شرطة مسلحة من محلة المصلي إلي مسكنه مقابل المستشفي الجمهوري، كنا نري جثثا للتركمان وقد علقت علي أعمدة الجسر الجديد، بعد أن انتفخت في ذلك اليوم التموزي الكئيب بينما تناثرت علي الشوارع العامة أيدي وسيقان وأفخاذ وجماجم وأكتاف عديدة، وسط روائح تزكم الأنوف، لم يكن أولئك الأبرياء وأجسادهم الطاهرة أهلا لها مطلقا.. ولكن (إنا لله.. وأنا إليه راجعون) صدق الله العظيم.
ولكن.. قد يتساءل سائل، لماذا توقفت المذبحة بعد البدء بإقترافها بـ(56) ساعة، فإليكم القصة وفق ما سمعتها من ابن عم والدي (العقيد المتقاعد مصطفي عبد القادر بك):
(كانت قيادات الفوضويين ورؤساء الدوائر التابعين لهم قد طيّروا برقيات، كل إلي مرجعه، في العاصمة (بغداد) بأن (التركمان) بقيادة (الزعيم المتقاعد عبد الله عبد الرحمن) يعاونه (العقيد المتقاعد مصطفي عبد القادر وعطا خير الله وإحسان خير الله) وآخرون قد استعصموا بأسلحتهم المختلفة في (قلعة كركوك) في حركة عصيان مسلح ضد الدولة، وانهالوا علي (كركوك) رصاصا وقذائف غزيرة، في حين يقاومهم أنصار السلام وحماة ثورة تموز التقدمية بكل جرأة و شجاعة.
ولكن الزعيم المتقاعد (عبد الله عبد الرحمن) تجرأ مفلتا من كركوك إلي بغداد والتي وصلها مساء متوجها إلي مبني وزارة الدفاع، حيث (عبد الكريم قاسم) حتي مثل بين يديه موضحا أن لا هو يقود عصيانا مسلحا ولا يوجد في كركوك تركماني يطلق الرصاص من سلاح لا يمتلكه أساسا.
وليتأكد عبد الكريم قاسم من موقف العقيد مصطفي عبد القادر فقد أوعز إلي أحد اتباعه في كركوك بزيارته في مسكنه... وليطمئن من المزاعم حول (القلعة) فقد حلقت طائرة مقاتلة من طراز (فيوري) فوقها، حيث شاهد الطيار من علو منخفض خلوها حتي من أهليها بشكل مطلق. وفي حينها صدق عبد الكريم قاسم بأن أكاذيب الفوضويين ليست إلا ذرائع إذ أوعز إلي العقيد عبد الرحمن محمد عارف أمر إحدي كتائب المدرعات بالتوجه إلي كركوك التي وصلها صبيحة يوم 16 تموز (يوليو) 1959، حيث لاذ المجرمون بالفرار ليبقي بعض أهدافهم من ذبح التركمان منقوصة.
وفي حين أعانت مذبحة الموصل الفوضويين لتكريس نفوذهم في أقاصي العراق، فإن مذبحة كركوك قلبت السحر علي الساحر كاشفة زيف نيات الذين ابتغوا أن يكون بلدهم مجرد تابع يدور في فلك المنجل والمطرقة المطرزين علي علم ستالين وتروتسكي المليء بالدماء.. فكانت أرواح تركمان العراق البذرة الأولي لتأريخ بلدهم وعراقهم الأصيل الذي تجدد. أفاقت المذبحة التركمان فأزالوا من علي أرواحهم وأجسادهم غبارها اللعين فتنظموا وتسلحوا وتدربوا، وقرروا الثأر بسواعدهم من أولئك الملطخين بدماء أشرافهم ليشهد عاما (1960 و1961) بشكل خاص، سقوط العشرات من الفوضويين المجرمين حقا وسط شوارع كركوك ومحلاتها علي الرغم مما كان يحيطهم من أفراد حماية وحراس.
ولكن غليلهم من الذين خططوا ومهدوا للمجزرة لم يشف، لأنهم ــ وعلي الرغم من أن أحكام الإعدام شنقا حتي الموت قد صدرت بحقهم ــ فأن عبد الكريم قاسم لم يصادق علي أحكامهم محتفظا بهم في سجون مريحة وآمنة وبعيدة عن تناول التركمان.. حتي انقضي عهده يوم 9 شباط (فبراير) 1963، ووقع عبد السلام محمد عارف علي تنفيذ القانون بحقهم في حزيران (يونيو) 1963، إذ علقت جثثهم علي أعمدة نصبت قرب المواقع التي أجرموا فيها بحق شهدائنا الأبرار في كركوك الحبيبة.