14 تموز 1958... ذكرى يوم أسود! بقلم: خيرالله خيرالله
تاريخ النشر : 2008-07-17
14 تموز 1958... ذكرى يوم أسود!
بقلم: خيرالله خيرالله
قبل خمسين عاماً، سقط النظام الملكي في العراق نتيجة انقلاب عسكري دموي نفّذته مجموعة من الضباط «الأشاوس» لا يجمع بينهم سوى الكره للحياة ولكل ما هو حضاري في هذا العالم والجهل في السياسة باسم الوطنية المزيفة. إذا كان من كلمة يمكن أن تجمع بين الذين نفذوا الانقلاب الذي يسميه المنافقون «ثورة»، فإن هذه الكلمة هي التخلف. إنه التخلف بأشكاله وتلاوينه كلها المرتبطة بالحقد على كل صعيد. تكفّل هؤلاء بجعل العراق لا يرى يوماً أبيض منذ الرابع عشر من يوليو 1958. لف السواد البلاد منذ تولت مجموعة من الضباط الحكم واستولت على السلطة وقتلت أفراد العائلة المالكة الذين من بينهم الملك الشاب فيصل الثاني بطريقة أقل ما يمكن أن توصف به أنها وحشية. لم ينته العراق في العام 2003 إثر الاجتياح الأميركي للبلد وفرض نظام جديد يقوم على المحاصصة بين الطوائف والمذاهب وعلى الفيديرالية إرضاء للأكراد. انتهى العراق في الرابع عشر من يوليو 1958 عندما اجتاح التخلف بغداد والبصرة والموصل وكل مدينة من مدن العراق حيث كانت النخب المتميزة في كل المجالات... والمدارس والجامعات التي تنتج مثقفين حقيقيين وليس أشباه أميين لا يؤمنون سوى بلغة القتل وإلغاء الآخر.
منذ العام 1958، يوم سقوط النظام الملكي في العراق نتيجة المد الناصري الذي لم يرحم بلداً في المنطقة العربية بما في ذلك لبنان وسورية، بدأ الانهيار الكبير على الصعيد العربي. هذا الانهيار الذي توج بهزيمة العام 1967 التي تسبب بها النظام البعثي السوري المزايد والجهل الناصري بكل شيء، باستثناء التفنن في جعل المجتمع أكثر تخلفاً. كان أفضل تعبير عن هذا الجهل طريقة تحقيق الوحدة المصرية - السورية على أسس واهية تقوم على تعاون بين الأجهزة الأمنية في البلدين مع غلبة واضحة للأجهزة المصرية. كيف يمكن تحقيق وحدة بين بلدين عربيين لا حدود مشتركة بينهما بمجرد أن الأجهزة الأمنية قررت ذلك وصورت الوحدة انتصاراً تبين في النتيجة أنه ليس سوى انتصار دفع ثمنه الشعبان المصري والسوري؟
انتهى العراق الذي كان يؤمل بأن يكون نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه دول المنطقة. انتهى في العام 1958. جاء ضابط مجنون اسمه عبدالكريم قاسم إلى السلطة بذهنية متخلفة كان أفضل تعبير عنها تهديده باحتلال الكويت وحشد الجيش العراقي على حدود الدولة المستقلة حديثاً محاولاً وضع قوانين جديدة للعبة التوازنات الإقليمية بدلاً من الانصراف إلى معالجة المشاكل التي يعاني منها العراق حقيقة على الصعيد الداخلي. إنه المرض نفسه الذي لازم الناصرية، خصوصاً منذ العام 1956 إثر القرار القاضي بتأميم قناة السويس. هذا القرار الذي خلق وهماً لدى أنظمة معينة في المنطقة بأن في استطاعتها تحقيق انتصارات ليست في واقع الحال سوى هزائم ولعب دور إقليمي أكبر منها. كان هذا القرار في أساس الانتصارات العربية المزيفة التي لم تأخذ في الاعتبار لا التوازنات الإقليمية ولا التوازنات الدولية ولا حتى معنى الخروج من الدائرة الحضارية التي اسمها التفاعل مع العالم المتقدم، أي الغرب، أو أن تكون هناك جاليات أجنبية في هذا البلد العربي أو ذاك. الأهم من ذلك كله، أنّه لم يوجد من يقول لجمال عبد الناصر انه لم يحقق انتصاراً، وان كل ما في الأمر أن الولايات المتحدة أوقفت العدوان البريطاني- الفرنسي - الإسرائيلي على مصر لسبب في غاية البساطة. هذا السبب يتمثل في أن أميركا اتخذت بعد الحرب العالمية الثانية قراراً بأنها الجهة التي تمتلك قرار الحرب والسلم عندما يتعلق الأمر بالمعسكر الغربي. أرادت بكل صراحة إبلاغ كل دولة من الدول التي كانت لا تزال تعتبر نفسها إمبراطورية في حدّ ذاتها، على رأسها بريطانيا العظمى، أن القرار الغربي صار أميركياً، وأنه لم تعد هناك إمبراطوريات خارج الإمبراطورية الأميركية، وأن القرارات الكبيرة في حجم شن حرب على مصر محصورة بأميركا وحدها، وأن بريطانيا عظمى بالاسم فقط!
في العهد الملكي، كان العراق بلداً متعدد القوميات والطوائف والمذاهب يحكمه دستور عصري في ظل نظام ملكي يختصر فلسفة الهاشميين في الحكم. إنها فلسفة الجمع بين الناس وليس التفريق بينهم بعيداً عن التعصب القومي الذي لا معنى له والمذهبية البغيضة، فلسفة تعطي في الوقت ذاته نموذجا في التواضع والانفتاح على العالم، بعيداً عن الشعارات الفارغة. لم يكن القصر الملكي (قصر الرحاب) الذي اقتحمه الانقلابيون صبيحة الرابع عشر من يوليو 1958 لارتكاب جرائمهم في حق الرجال العزل والنساء والأطفال سوى بيت متواضع يقل فخامة عن بيوت كثيرين من العراقيين الأغنياء.
دفع العراق ثمن المد الناصري وثمن الانتصارات الوهمية التي وجد من يصدقها في صفوف ما كان ولا يزال يُسمى «الجماهير العربية»، تلك الجماهير التي لم تتعلم شيئاً من دروس ما بعد الوحدة المصرية - السورية الفاشلة أو الانقلاب الذي حصل في العراق. استمرت مصر في الغرق، إلى أن جاء اليوم الذي فهمت فيه بعد حرب أكتوبر 1973 أن عليها الانصراف إلى إعادة بناء نفسها. واقتنعت مصر بأن ذلك لا يكون بالشعارات، بل بالاعتراف بالموازين الإقليمية أولاً، وبأن هناك أيضاً مشاكل داخلية محددة وواضحة لا مفر من معالجتها بدلاً من الهرب منها. صحيح أنه لا يمكن مقارنة عبد الناصر، الذي كان رجلاً محدوداً من الناحية الفكرية، قبل أي شيء آخر، واكتفى بإقامة دولة بوليسية، بدمويّ مثل صدّام حسين. إلاّ أن الصحيح أيضاً أن التجربة الناصرية في مصر أسست لنظامي «البعث» في كل من العراق وسورية ومكنتهما من تطوير الدولة لبوليسية إلى دولة قمعية بكل المقاييس. ولم تشفَ سورية من كارثة الوحدة إلى يومنا هذا، إذ نخرها «البعث» نخراً وقضى على الطبقة الوسطى لمصلحة طبقة طفيلية تعتاش من الابتزاز وتعتقد أن في الإمكان تصدير الأزمة الداخلية إلى خارج إلى ما لا نهاية، خصوصاً إلى لبنان. أما العراق نفسه، فقد هرب من الأزمة الداخلية التي نجمت عن انقلاب 1958 إلى مزيد من الديكتاتورية التي أفضت عملياً إلى قيام نظام عائلي - بعثي تميّز بالوحشية ونقل البلد من أزمة إلى أزمة... من الحرب مع إيران حين لم يجد أن الجبهة الداخلية قادرة على تحمل انعكاسات الثورة الإيرانية على البلد، إلى غزو الكويت الذي شكّل تتويجاً للإفلاس الكامل للنظام العراقي بكل المقاييس وفي شتى المجالات.
لا يمكن عزل الانقلاب الذي شهده العراق قبل نصف قرن عن حال التراجع في العالم العربي التي تمددت في كل الاتجاهات، والتي يظل أفضل تعبير عنها الحرب الأهلية في لبنان التي كانت في الوقت ذاته حروب الآخرين على أرض الوطن الصغير. هناك نصف قرن من التراجع المستمر الذي توجته انتصارت وهمية على إسرائيل، كما حصل صيف العام 2006. ليس من يريد أن يتوقف ويسأل كيف يمكن الحديث عن انتصار بعد تلك الهزيمة التي لحقت بلبنان واللبنانيين. لا يمكن عزل ما أصاب العراق عن عملية القضاء على الطبقة الوسطى في كل المشرق العربي بطريقة منظمة لمصلحة اجتياح الريف للمدينة. بغداد لم تعد بغداد. دمشق لم تعد دمشق. بيروت التي تسودها ثقافة الحياة، بيروت الفخورة بأنها لكل الطوائف والمذاهب والثقافات صمدت، ولكن إلى متى؟
سيبقى الرابع عشر من يوليو 1958 يوماً أسود ليس في تاريخ العراق فحسب، بل في تاريخ المنطقة كلها. كان من المحطات الأساسية التي أدت إلى هزيمة 1967، ثم الهزائم المتتالية بما فيها الاحتلال الأميركي للعراق نفسه. مرّ الطريق إلى الهزيمة بالعراق أول ما مر في العام 1958، من يريد التأكد من ذلك يستطيع المقارنة بين ما كان عليه المجتمع البغدادي أو البصراوي في العام 1958 وما هما عليه الآن. الصور وحدها كافية. صور ما كان عليه العراق في تلك الفترة وما هو عليه الآن. هل من هزيمة حضارية أكبر من هذه الهزيمة؟