................................................
فلسطين المتخيلة..وتعرية الأكذوبة الكبرى
فخر الدين فياض
هل حقا كانت فلسطين (أرض الميعاد الإسرائيلي)؟!
وهل حقاً (أرض كنعان) هي الأرض نفسها التي يقطنها الشعب الفلسطيني اليوم؟!
تساؤل لم يطرح على بساط البحث باعتبار أن الوثائق التاريخية لا تقول شيئاً يخالف هذه (الحقيقة!!).. فالتوراة والمستشرقين والكتاب الغربيين و (طابور) طويل من (الباحثين) العرب يتعامل مع هذا الأمر على أنه حقيقة لا يطالها الشك.. وربما الفكر العربي ينطلق من حقيقة أن الكيان الإسرائيلي هو كيان غاصب ومعتد مهما كانت ركائزه التي يستند إليها في عدوانه على أرض فلسطين وشعبها.
ولكن بالمقابل تم تجييش وتحريض الملايين من اليهود في العالم نحو استعادة (أرض الأجداد) ومقدساتهم من أيدي العرب ـ البدو الذين يقطنون أرض فلسطين.. استناداً إلى أن الأرض التي أقام فيها (إسرائيل) والمسماة أرض كنعان هي الأرض الفلسطينية اليوم.
المفكر والباحث العربي الدكتور فاضل الربيعي يتصدى إلى البحث والتقصي حول تلك (الحقيقة!!) في كتابه (فلسطين المتخيلة.. أرض التوراة في اليمن القديم) في مجلدين صدرا عن دار الفكر بدمشق.. ليكشف النقاب عن أكبر أكذوبة تاريخية معاصرة راح ضحيتها ملايين من العرب الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين..
يستند الربيعي في كتابه على ثلاثة مصادر أساسية: التوراة بنصها الأصلي، خصوصاً القصائد والمراثي التوراتية التي كتبها أنبياء وشعراء اليهودية، والتي يعتمدها اليهود في قراءة تاريخهم المكاني والزماني، وبالاستناد إليها تم اعتبار فلسطين (أرض الأجداد الموعودة)!!
أما المصدر الثاني فكان كتابي ( الإكليل وصفة الجزيرة العربية) لمؤلفهما الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني الذي وصف لنا أرض الجزيرة العربية بجغرافيتها وقبائلها وأنسابها بدقة نادراً ما تم التوقف عندها من البحاثة العرب .. وغير العرب.
وما يثير الدهشة حقاً أن التوراة والهمداني يسردان أسماء الجبال والوديان والهضاب وعيون الماء بتطابق تام.. ولكن في اليمن وليس في فلسطين!!
أما الشعر العربي القديم فقد قدم للباحث (مفاجأة مذهلة) على حد تعبير الربيعي، إذ أنه وصف المواضع ذاتها والأسماء ذاتها التي سجلتها أسفار التوراة دون أدنى تحوير أو تلاعب وتماماً كما فعل الهمداني... وكان الشعر المصدر الثالث للكتاب..
ويقدم الربيعي هنا مفارقة تاريخية طريفة، يقول إذا كان الإعرابي يتزود في ارتحاله بشيئين أساسيين، الماء والشعر.. إذ أنه حين ينفد مائه في الصحراء يلجأ إلى رفع عقيرته في غناء أبيات من الشعر ليكتشف أن الماء قريب منه.. بحكم أن القصيدة العربية ارتكزت في بعض جوانبها على المكان.. وعلى وصف الطبيعة والجغرافية.. وخصوصاً عيون الماء لأنها تمثل عيون الحياة في صحراء مترامية الأطراف..
المفارقة التي يوردها الربيعي، أنه إذا كان المرتحل أو المهاجر القديم يمكنه مواصلة طريقه دون خوف من الموت عطشاً ما دام يملك الشعر، فنحن المعاصرين يمكننا أن نفعل الشيء ذاته حين تنتابنا حمى المغامرة ونتوغل عميقاً في الصحراء العربية .. أي يمكن أن نتزود مثل الإعرابي بالماء والشعر قبل الانطلاق في مغامرتنا، لأن الشعر العربي يمثل وثيقة أصيلة لم يتم التلاعب أو التحوير بها ويمكننا الاستناد إليها بثقة لفهم التاريخ بشكله الصحيح..
وهو ما يقودنا إلى مفارقة أخرى، إذ أننا كعرب نمتلك البرهان والدليل الدامغ على أن أرض فلسطين لم تكن يوماً لليهود ولم تكن يوماً أرضاً موعودة لهم ومع ذلك لم ننتبه إلى ذلك.. لأننا ببساطة نتعامل مع الشعر بطريقة "طربية" أي أننا "نسلطن" على "أم دمنة" و "أم عمرو" دون الانتباه إلى أن القصيدة العربية حملت جدلها التاريخي المتعلق بالمكان والزمان ويمكن اعتمادها دون أدنى شك لفهم عالمنا القديم ورسم جغرافية واقعية له..
إذاً تقنيات هذا البحث الكبير والمثير للجدل تعتمد على ترجمة أمينة للتوراة تقارن بالوصف الذي قدمه الهمداني للمواضع والأسماء التوراتية في اليمن.. مع تقصي وبحث مواز، شاق و مضني، وشائق في آن، للشعر العربي الجاهلي الذي سجل معظم أماكن التوراة والأسماء الواردة فيها لنكتشف أن الأساطير التي نسجها المستشرقون الأوروبيون منذ مطلع القرن الماضي عن فلسطين التوراتية قد أدت إلى بزوغ "فلسطين أخرى خيالية" على حد تعبير الربيعي الذي يحدد هدف كتابه وهو استرداد فلسطين من أسر المخيالية الاستشراقية وتحرير صورتها نهائياً من هيمنة السرد الغربي.
منذ البداية يفاجئ الربيعي قارئه بحقيقة اكتشافه، وذلك بما يشبه الصدمة وبجرأة اليقين الذي يقترب من المطلق والكلي، يحسم في المقدمة المعنونة (الهمداني يصف أرض التوراة في السراة اليمنية) الأمر قائلاً: (( لم يحدث السبي البابلي لليهود في فلسطين، كما أن المصريين والآشوريين لم يشتبكوا فوق أرضها قط، وسفن سليمان لم تمخر عباب المتوسط، ولم ترس في أي وقت من الأوقات في موانئ صور اللبنانية.
وإلى هذا كله، فإن الملك داوود لم يحارب الفلسطينيين، وبينما يزعم أن الهيكل بني في فلسطين، فإن الحقيقة التي لا مناص من التمعن فيها اليوم وفي ضوء اكتشاف الهمداني ،نقول:إن القبائل اليهودية اليمنية العائدة من الأسر البابلي، هي التي أعادت بناء الهيكل في السراة اليمنية وليس في فلسطين، ومن ثم، فإن الهيكل لم يبن في القدس قط، بل أن أسوار أورشليم التي أشرف نحميا على إعادة ترميمها لا وجود لها هناك أصلاً، وفوق ذلك ليس ثمة هيكل لسليمان، تحت قبة الصخرة))
ليقرر الربيعي أنها خلاصة بحثه الذي تجاوز 1200 صفحة وتضمنه مجلدان من القطع الكبير.
إنها لشجاعة استثنائية على الصعيد الأكاديمي أن يقدم لنا باحث نتيجةً تناقض جميع ما كتب وقيل عالميا وعربياً وعلى مدار قرن من الزمن: إن أرض فلسطين لم تكن يوماًَ لليهود وأن أساطير التوراة دارت أحداثها في بلاد اليمن من أرض الجزيرة العربية.. وبالتالي جرى تلفيق التاريخ برمته تبعاً لقراءة استشراقية مخادعة تجاوزت في تأثيراتها حدود متلقيها من الأوروبيون والغربيين عموماً وبدت على نحو ما مقبولة من جانب بعض الأوساط العربية والإسلامية سراً أو علناً، وحدث ما يشبه تصديقاً شاملاً ومذهلاً للأكذوبة مع الوقت، وذلك عبر تأطيرها بقراءة إسلاموية سطحية تساوي بين بني إسرائيل القدماء وإسرائيل الراهنة، وهي قراءة مستلة من تاريخ الإسلام المبكر في صراعه مع يهود الجزيرة العربية على حد قول الباحث، الذي يضيف في مكان آخر:
( لقد سعى المخيال الاستشراقي الأوروبي في قراءته للتوراة، نحو بناء سردية جديدة خيالية توضع في خدمتها مكتشفات علم الآثار، وتتوقف مع عصر الفتوحات الاستعمارية، وهي سردية وجد فيها الغرب إمكانية مدهشة للعثور على حاضنة أولى وقديمة للحضارة الأوروبية مدفونة في رمال الشرق. وها هو الغرب يعثر في الرواية عن بني إسرائيل، على طفولته البعيدة في الشرق الغامض والملتبس، وعلى مرتع صباه المنسي يوم كان لداوود مملكة مترامية الأطراف. لسوف يمهد هذا الانتساب المفاجئ، الطريق أمام أوروبة لكي تعيد إدراج التراث اليهودي _ المسيحي والحضارة الغربية معاً ، في سياق استمرارية تاريخية كانت مفتقدة، فلم تعد أوروبة وريثة لأثينا فحسب، بل هي استطراد لمملكة إسرائيل. وها هو تاريخ بني إسرائيل الملفق يكتشف على نحو قابل لأن يرى فيه الغرب بأسره تاريخاً خاصاً به، ضائعاً وتائهاً في شرق منسي، وقد أمكن استرداده بفضل إعادة بناء الرواية وترويجها، على أوسع نطاق وبالتلازم مع الاستيلاء على الأرض)
ليصل الربيعي إلى نتيجة مفادها:
إن الاستيلاء على الأرض _ أرض فلسطين _ كان مجرد استطراد في الاستيلاء على التاريخ والثقافة.
وبالتالي ليس مفارقة أن وثيقة بلفور سميت بوعد بلفور فهي تتضمن مماثلة للوعد الجديد بالوعد القديم مع الرب في التوراة.
إنها "الماكينة" الاستعمارية الحديثة في أوائل القرن الماضي التي بحثت عن أرض ميعاد جديدة لليهود لم تكن قابلة للحياة في أميركا اللاتينية وكذلك في أوغندة الإفريقية.. لكنها بدت قابلة للتحقق في أرض فلسطين العربية بوصفها (أرض بلا شعب!!) كما عبر عن ذلك ساسة الغرب واليهود آنذاك.. ولا علاقة للتاريخ والأجداد ووثائق التوراة بذلك كما يبين لنا الربيعي وذلك بالدليل الدامغ وعلى مدار بحث ضخم تقصى فيه الأمكنة والأنساب اليهودية، ففكك الأسطورة التوراتية وأعاد بنائها معتمداً على مصادر التاريخ الموثوقة والقائمة والأزلية التي لم تتغير أو تتحول.. وأهمها الشعر العربي القديم والتوراة نفسها..
وفي هذه العجالة لا بد أن ننوه إلى أن كتاب (فلسطين المتخيلة) يتألف من خمسة أجزاء كشف الجزآن الأول والثاني في المجلد الأول وبما لا يقبل الشك أن أرض التوراة كانت في اليمن وان منازل الأسباط السبعة الإسرائيلية (منزلاً منزلاً) لم يكن أي منها قائماً في الأراضي الفلسطينية العربية وإنما وجدت كما أسلفنا في الجزيرة العربية في اليمن.
والأمر الأكثر حيوية وتشويقاً حمله الجزء الثاني من المجلد الأول الذي يحمل عنوان "القدس ليست أورشليم" وهنا لا بد أن أحيي في الباحث دأبه ومثابرته على تتبع أدق التفاصيل المتعلقة بحروب داوود في اليمن ومعركة صهيون في نجران والأهم سقوط أورشليم اليمنية وهزيمة داوود أمام الملك شاول وهروبه ثم فتح أريحا اليمن والاستيلاء على العي الهمدانية فضلاً عن حملة نبوخذ نصر على القبائل العربية وعلى بني إسرائيل في نجران..
المجلد الثاني حوى ثلاثة أجزاء لا تقل أهمية عن الجزئين السابقين وهي متابعة في البحث والتقصي والبرهان وإقامة الحجة علمياً وتاريخياً عبر قراءة جدلية لحملة سنحاريب على بني إسرائيل في نجران من ناحية ومن ناحية ثانية تلفيق مملكة يهوذا والسامرة واختراعها استشراقياً على الأرض الفلسطينية.
ليختم الربيعي كتابه الهام بعنوان قد يبدو طريفاً (التوراة الإغريقية) متسائلاً (هل هناك حقاً توراة إغريقية؟!) ومن أين أتى هذا التماثل في الأسطورة بين الإغريق والتوراة.. ليجيب على هذا السؤال الكبير بما معناه إذا كانت للأساطير _مثل البشر_طفولة بعيدة، فإن هذه الطفولة قد تكون هي المصدر الأهم للتماثل في أشكال السرد وفي وسائل وتقنيات الإرسال .. ويستطرد الربيعي قائلاً:
لاحظت أن الكثير من روايات و أساطير الكتاب المقدس تكاد تكون مزيجاً من أساطير عربية قديمة، تنتسب إلى طفولة العرب البعيدة قبل تشكلهم كجماعة بشرية ستعرف تالياً بهذا الاسم، ومن صور ومشاهد تنتسب إلى الثقافة الإغريقية..
ولا يلبث الباحث أن يقدم مفاجأة جديدة للقارئ العربي حين يخلص إلى فكرة أن العرب القدماء كانوا أمة بحرية، وأن البداوة كانت تطوراً دراماتيكياً في حياتهم نجم عن زحزحة منتظمة وبوساطة القوة من الساحل إلى الصحراء..
ويخلص الربيعي إلى القول: إن المكون الإغريقي الذي نفتش عنه داخل النص التوراتي هو في الأصول البعيدة له مكون عربي (جنوبي _من اليمن) ينتسب إلى طفولة العرب كجماعة بشرية قديمة، وهذا ما يتوافق مع تصورات معظم المؤرخين اليونانيين .
إن تفكيك النص التوراتي من هذا المنظور، سوف يكشف عن الطابع الحقيقي لقصص الكتاب المقدس، وسيمكن الباحثين من البرهنة على أن لا صلة بين التوراة وفلسطين.. وهو الأمر الذي أنجزه هذا الكتاب حسب اعتقادي دون أي لبس أو غموض.
بقي أن نقول أن الأمانة الفكرية لدى الباحث دفعته إلى الاعتراف بفضل الدكتور كمال صليبي على البحث في هذا الموضوع المثير من خلال كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب) واعتبره فتحاً معرفياً عظيماً في الثقافة العربية رغم ما يؤخذ على الكتاب بأنه دفع القارئ للشك في مصداقيته لأنه بالغ بما يشبه الألعاب اللغوية للبرهنة على وجود أرض التوراة في منطقة عسير واضطراره إلى قلب الحروف في أسماء القرى والجبال واستخدامه المفرط لاحتمالات حدوث تغير فونيطيقي في الكثير من الكلمات مما أثار الحيرة والتشويش لدى القارئ وبالتالي كان كتاباً غير مقنعاً رغم عدالة موضوعه وأهميته.
وأخيراً وبعد قراءة هذا السفر الضخم وسيري البطيء مع الدكتور فاضل الربيعي في عالم الأسطورة واللغة والتاريخ والتوراة والشعر، مجتمعة في بحث علمي وتاريخي شائق ومكتوب بلغة حكائية تمسك بتلابيب القارىء بحيث يصعب عليه ترك الكتاب وهو الذي يكتشف عبره حقائق الجغرافيا والتاريخ من جديد.. موضوع مليء بالأفخاخ والمطبات وحلاوة الإكتشاف في آن، استطاع الربيعي الخوض به متمكناً من أدواته ومن تقنيات بحثه والأهم اكتشافه المذهل الذي ربما يدفع الملايين في العالم إلى إعادة النظر فيما يسمى (الحق التاريخي) للإسرائيليين في الأرض الفلسطينية.. لذلك أشعر بالعتب على دار الفكر التي بينت في مقدمتها للكتاب أنها أعملت النظر طويلاً قبل أن توافق على نشره.. واعتقد جازماً أن موضوعاً بهذه الأهمية وبحثاً مثيراً وجدلياً قلب معادلات عالمية ومفاهيم أشبه بالبديهيات عند ساسة اليوم.. لجدير بأن تتسابق عليه دور النشر دون أدنى تردد خصوصاً أن كاتبه باحث من طراز رفيع ومفكر له إسهاماته الغزيرة والاستثنائية في الثقافة العربية.
فلسطين المتخيلة..وتعرية الأكذوبة الكبرى بقلم:فخر الدين فياض
تاريخ النشر : 2008-07-16