"الدولة".. عربياً! بقلم:جواد البشيتي
تاريخ النشر : 2008-07-15



"الدولة".. عربياً!

جواد البشيتي

ليس من مفهوم سياسي، أو اجتماعي، يكتنفه الغموض، والعتمة المعرفية، وتتعايش فيه، وتتصارع، الأوهام والحقائق، ويَظْهَر فيه، ويتأكَّد، نزاع وصراع المصالح بين البشر، كمفهوم "الدولة".. و"الدولة" في عالمنا العربي على وجه الخصوص.

المثقَّفون عندنا، والساسة والإعلاميون، يتحدَّثون (معظمهم، أو كثيرٌ منهم على الأقل) عن "الدولة" وكأنَّها "المجتمع"، أو "الشعب"، أو "الأمَّة"، أو "البلد"؛ وبعضهم مِمَّن له مصلحة في أن يعبِّر عن وجهة نظر سياسية معارِضة معارَضة "بنَّاءة مسؤولة"، أو مِمَّن يريد أن يقي نفسه شرور شيطان رجيم في لسانه أو قلمه، يُميِّز دائماً (تمييزاً برغماتياً صرفاً) في ما يقول، ويَكْتُب، "الحكومة" من "الدولة"، فـ "الحكومة" أقرب إلى "الأرض" منها إلى "السماء"، ويجوز، بالتالي، صبَّ جام غضب اللسان والقلم عليها؛ أمَّا "الدولة" فأقرب إلى "السماء" منها إلى "الأرض"، ويجب، بالتالي، تنزيهها عن "الطعن".

هذا، والحقُّ يُقال، إنَّما هو الوهم الخالص، أو الوهم بعينه، ولا ينشره، ويغرسه في العقول والحواس والمشاعر، إلاَّ كل من له مصلحة حقيقية، واقعية، أرضية، في أن تظل العامَّة من الناس تَنْظُر إلى "الدولة"، وتفهمها، على أنَّها "الكائن الأسمى"، الذي يعلو ولا يُعْلى عليه، المنزَّه عن كل نزاع أو صراع بين أبناء المجتمع الواحد، والذي إنْ انحاز فإنَّما ينحاز إلى كل ما يبقيه "الحَكَم النزيه العادل"، الذي إليه يرجع المتخاصمون!

تلك هي "الصورة" التي يراد لها أن تكون "العين"، أي عيوننا، التي من خلالها ننظر إلى "الأصل الواقعي"، أي "الدولة"، والتي، أي تلك "الصورة"، هي "الغشاوة" جعلوها على أبصارنا.

كلاَّ، "الدولة"، و"الدولة" في عالمنا العربي على وجه الخصوص، ليست كذلك؛ لم تكن قط كذلك، ولن تكون أبداً، فهي فئة (ضئيلة) من "المواطنين غير العاديين"، المنظَّمين تنظيماً جيِّداً، وعلى شكل "هرم"، بينهم وبين "المجتمع"، أو "الشعب"، أو "العامة من الناس"، أو "المواطنين العاديين"، هوَّة، عُمْقها يَعْدِل عرض السماوات والأرض؛ وينبغي لهذه الفئة أن تتلفَّع بـ "المصلحة العامة"، وأن تُظْهَر نفسها على أنَّها "مِنَّا وإلينا"، و"الممثِّل العام" للمجتمع بأسره، وخادمه الذي يتلذَّذ بخدمته!

على أنَّ كل هذا الذي اخترعوه لـ "الدولة" من صفات وخواص (سماوية) لم يَحُلْ بينهم وبين جَعْل هذه "المِلْكيَّة العامة"، أي التي يملكها الشعب بأسره، بحسب "فرضية دستورية، تَرِكة (أو إرْثاً) شخصية، يَرِثُها الابن من أبيه، فنحن فَهِمْنا مبدأ "التداول السلمي (والديمقراطي) للسلطة" على أنَّه انتقالٌ للسلطة (الأولى، والفعلية) من الأب إلى الابن إلى الحفيد..

وهذا "المنقول" عبر "الدم"، أي من الأب إلى الابن إلى الحفيد..، إنَّما هو "السلطة المُغْتَصَبَة"، أي التي اغْتُصِبَت اغتصاباً من صاحب الحقِّ فيها، وهو الشعب أو الأمَّة، والتي بعد اغتصابها جاءوا بها إلى "الكنيسة"!

من قبل، كان "المُغْتَصِبون" يُحْكِمون قبضتهم على الجيش والقوى والأجهزة الأمنية، أي على "وسيلتهم" إلى السلطة، وإلى الاحتفاظ بها، والتي، إنْ لم يتوفَّروا على حفظها وصونها، قد تغدو وسيلة غيرهم إلى طردهم من هذا الفردوس، فَهْمْ بـ "القوَّة" جاءوا، وبـ "القوَّة" بقوا، وبـ "القوَّة" يذهبون، فهل من قانون أقوى من هذا القانون؟!

أمَّا اليوم، حيث حلَّت "الروح التجارية" على "رجالات الدولة"، و"أهل الحُكْم" من أكبرهم حتى أصغرهم، فتراهم يتبادلون الغزو مع "التجارة"، يغزونها وتغزوهم، فالفَرْد منهم، بعضه تاجر، أو رجل أعمال، وبعضه شرطي، أو رجل أمن، وبعضه من صنف "الساسة"، الذين يسوسون الأمور بغير عقل، فيُنْفَذ أمرهم، فيقال "ساسة"!

كل ما هو "عام" من الممتلكات، ويسيل له لعاب "مُسْتَثْمِر كبير"، من العرب أو من العجم، يجب أن يُعْمَل على جعله مستوفياً "الشروط المُقْنِعَة (ولو بالظاهر)" لبيعه، أي لـ "خصخصته"، فليس من تجارة يتَّجِر بها "المُمثِّل العام" أفضل من خصخصة "العام" من الممتلكات، فإنَّ في خصخصته "حقٌ معلوم" لهذا "السائل والمحروم"!

التجَّار وأرباب العمل تزوَّجوا، سِرَّاً، "الدولة"، أي "المُمثِّل العام"، إذ تزوَّجوا الحكومة والبرلمان والإعلام..؛ ثمَّ تزوَّج "رجالات الدولة" التجارة و"البزنيس"، فشَقَّ على "المواطن العادي" تمييز "رجل الأعمال" من "رجل الدولة"، و"رجل الدولة" من "رجل الأعمال"، وغدت "السياسة العامة (أو العليا)" جزءاً لا يتجزأ من "عالم التجارة والأعمال"، حتى أنَّ قضايا سياسية وعامة كبرى ما عاد ممكناً وزنها إلاَّ بميزان تجاري، يخصُّ شخصاً أو فئة ضيِّقة.

ومع استشراء العولمة تَعَوْلَمَت "دولنا"، فانفصلت "الدولة" مع "مجتمعها الضيِّق" انفصالاً تامَّاً تقريباً عن "المجتمع" و"الرعية"، وشرعت تضرب جذورها عميقاً (بعدما انتزعتها من "تراب الوطن") في "التراب الأجنبي"، وكأنَّ "شرعية التمثيل السياسي" قد تَعَوْلَمَت هي أيضاً.

كان لدينا دُوُلاً تشبهنا ولو قليلاً، فإذا بـ "العولمة" اللعينة تجعلها كـ "حصان طروادة"، منه يَنْفُذ إلى داخلنا كل نفوذ خارجي وأجنبي ضار بنا؛ وسرعان ما تحوَّلت "الدولة" عندنا من "سفارة" لنا عند غيرنا إلى "سفارة" لغيرنا عندنا!

كانت "الراعي"، فإذا بهذا "الراعي"، الذي سَيَّرَتْهُ رياح العولمة بما تشتهي مصالح سادتها، يَجْمَع "الخراف" من "المرعى" ليتولَّى "الجزَّار الأجنبي" ذبحها، إمَّا بسكِّين السياسة، وإمَّا بسكِّين الاقتصاد؛ ولقد شدَّنا الشوق والحنين إلى عهد كُنَّا نُذْبَح فيه بسكِّين وطنية فحسب!