الرابع عشر من تموز 1958 فتح باب الجحيم على العراقيين بقلم:عبد الإله الصائغ
تاريخ النشر : 2008-07-14
الرابع عشر من تموز 1958 فتح باب الجحيم على العراقيين
عبد الإله الصائغ

لست اولَ من قال بانقلابية 14 تموز جولاي 1958 ولن أكون الأخير وهذا هو منطق الأشياء ولكن الذي يرضيني حقا ان هذا اليوم انقذ راسي من مصير محتوم بسبب اتهامي ظلما بانني ضمن من القوا قنابل المولوتوف على الدكتور محمد فاضل الجمالي رئيس الوزراء المخضرم والشيعي المتنور في نادي الموظفين بالنجف في نيسان ابريل 1958! واذا كان الشيء بالشيء يذكر وقد مضى الجمالي الى ربه ومضى اكثر المتهمين فانني واقسم بالله وشرفي انني لم اكن ضمن المنفذين لعملية الاغتيال فطبيعتي مسالمة كنت واظل ! اذن الرابع عشر من تموز 1958 منحني حريتي بعد ان انقذ راسي ! اقول ان الذي يرضيني هو انني شجبت سيطرة الغوغاء على الشارع مع عسكرة العقل الجمعي العراقي تحت يافطة الدفاع عن الثورة ضد المتآمرين ! فكانت الحراسات الجمعية تستمر لاربع وعشرين ساعة في اليوم ! شجبت العدوان على العائلة المالكة واركان العهد الملكي وفرهدة البيوت وتنشيط آلية السحل بالحبال وفق اهزوجة كريهة تقول ( ماكو مؤامرة اتصير والحبال موجودة ) شجبت خطاب الغوغاء منذ الايام الاولى للانقلاب ولم استطع الفرح بحريتي فقد شعرت ان المسألة ليست تحرير الشعب وتنويره بل المسألة ضرب من شبق السلطة والذات المذوتة ! اريد ان اقول انني لست متحاملا على الفاعل ولكنني متحامل على الفعل ومتعاطف مع المفعول ! فكثيرون اولئك الذين كتبوا عما جرى في الصباح الأسود المشؤوم 14 جولاي تموز 1958 ولكن الكتابات تلك في جلها لاتسعدني حتى تلك التي تندرج ضمن القول بانقلابية الرابع عشر من تموز 1958 ! والسبب كما ازعم هو سكب الذاتي على الموضوعي واتباع التحليل المعياري في تحليل الظاهرة التاريخية الذي يمسك خيال النص ويهمل الاصل ! فكانت الكتابات المذوتة المجلببة بالموضوعية والنصف مختلفة مرة ومؤتلفة اخرى ! تصبغ ذلك الحدث الكبير بألوانها ! كتاب يقولون إن ماجرى في الرابع عشر من تموز 1958 كان ثورة شعبية ديموقراطية لاغبار عليها ! وكتاب سواهم قالوا ان ماحدث كان انقلابا عسكرتاريا لايختلف عن إنقلاب بكر صدقي الفاشل وانقلاب العقداء الخمسة الفاشل وما يميزه عنهما انهما اخفقا من حيث انتصر الثالث ! وفريق ثالث قال انها ثورة ثم انحرفت وفريق رابع قال انها انقلاب عسكري ولكن عبد الكريم قاسم استطاع اقناع الناس بانه الزعيم الاوحد وان ماحصل هو ثورة ! ولكننا لن نستطيع حصرالاجتهادات والمواقف التي ذكرناها على انها كل ما كتب عن تموز من اجتهادات وما فعلناه كان للمثال فقط ! كتب المؤرخ حنا بطاطو في الجزء الثالث الفصل السادس سردا مهما عن تموز ! وكتب اسماعيل العارف اسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية ! كما كتب صبحي عبد الحميد اسرار ثورة 14 تموز 1958في العراق والدكتور عبد الخالق حسين ثورة 14 تموز وعبد الكريم قاسم ! وعبد الكريم فرحان في ثورة 14 تموز في العراق و ليث الزبيدي ثورة 14 تموز 1958 للدكتور عقيل الناصري في الثورة وقاسم والأستاذ حامد الحمداني في الثورة وفي قاسم !! اذن ثمة الكثير ممن كتب عن تموز 1958 توفيق السويدي وحسن العلوي وبهاء الدين نوري وزكي خيري ودكتور فاضل حسين وصبيح علي غالب و و رعد عبد الجبار جواد ودكتور هادي حسين عليوي والدكتور بهجت عباس وباقر الصراف وشهاب احمد الفضلي و صباح عبد الستار الجنابي ورياض جاسم محمد فيلي و توما توماس و دكتور مجيد موسى وموسى كاظم نورس و عبد الجبار العمر وصباح الجزائري وحسين حاتم المذكور والمحامي كاظم السعدي و سيفلا الدين عبد الجبار و حميد المطبعي هؤلاء السادة تناولوا ذلك اليوم مكرسين له البحوث دون سواه او تناولوا ذلك ضمن مجريات السيرة والاستذكار ........ الخ !! باختصار شديد ان نصف قرن تقريبا مر على الحدث كانت كافية بالنسبة لخطابي من اجل الوضع والحذف والتحوير فضلا عن الانتجاع بالذاكرة الجمعية التي تؤسطر الحدث فتمسك بجوهره لتصبه في قالب المحكي الشفاهي ! لقد عشت 14 تموز 1958 بكل تفاصيلها وكنت الشاهد على الأعاصير والزلازل التي جاءت بها ثم ذهبت ضحيتها ! وقد سنحت لي السوانح لمشافهة اناس ذوي اهمية بحثية غير اعتيادية كما سبق القول انني ممن استفاد من يوم 14 تموز 1958 ولولاه لذهبت الى جوار ربي ضحية تهمة باطلة لفقها المدعو محسن جبر الحمداني النجفي ! وكنت مختفيا واخي الصغير ( الدكتور محمد الصائغ فيما بعد ) في بيت الإقطاعي الطيب ابو قبيلة ذي الولاء الملكي التقليدي ! لكن ام قبيلة زوجته الفاضلة اخفتنا دون علمه وبيته كائن في عكَد البو اصيبع الضيق جدا ويسمى ايضا عكَد بيت المعمار ! وهو المتفرع عن عكَد جبر الياباوي الذي ينقسم قسمين قسم يؤدي الى السوق الكبير وقسم يؤدي الى عكَد ابو اصيبع او المعمار ولو فضلت مصلحتي الشخصية لكان عليَّ ان أسبح بآلاء ذلك اليوم ولكنني لم افعل ذلك ايام مراهقتي وشبابي وكهولتي ولكنني اليوم وقد لبث بيني وبين السبعين ثلاث سنوات فقط لاغيرإن لم اقل وقد لبث بيني وبين الموت قرب مطرقة لباب !! فعلي ان انظر الى ذلك التاريخ بدم بارد متجردا عن الهوى والمؤثرات الشعبية الضاغطة!

وملخص القول ان الشعب العراقي كان مهيئا لأي تغيير يطرأ على المؤسسة الملكية وامامه نموذج ثورة الشعب الجزائري وانقلاب 22 جولاي 1952 ومؤسساته الاعلامية المؤثرة ( محمد حسين هيكل واحمد سعيد ) والاطروحات الاعلامية والحزبية التي ناصبت الملكية العداء مثل اطروحات الاحزاب الوطنية كالحزب الشيوعي العراقي وحزب الاستقلال والحزب الوطني الديموقراطي والحركة الكوردية والحزب العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والماركسيين المستقلين والقوميين المستقلين وبعض الشخصيات الدينية ! الشارع يغلي والمؤشرات تنذر بزلزال لا يبقي ولا يذر ! فلقد ارتكب نوري باشا السعيد وولي العهد ( الوصي ) عبد الاله علي خال فيصل الثاني ابان العهد الملكي جرائم كبيرة وقمعا الشارع وعقدا حلف بغداد والحلف الهاشمي ! فكان بمجرد اعلان الثورة لخمس دقائق من الاذاعة ما يكفي لازاحة العائلة المالكة عن قصري الزهور والرحاب ! والملكية عن الواقع العراقي ! كان من الممكن جدا حدوث تحرك عقلاني جماهيري مدني يطيح الملكية ويؤسس حكما دستوريا مدنيا ! عندها سيكون العراق خلال سنوات دولة ثرية رخية آمنة مطمئنة ذات مؤسسات ! وقد شعر الضباط الأحرار ان السلطة قد تخرج من ايديهم ليتسنمها المدنيون ! او ان احد الشخصيات السياسية الملكية قد يعتقل نوري السعيد وعبد الإله ويقيمها مملكة دستورية لامكان فيها للتقليديين محترفي المكر السياسي فبدأ القلق يساور العسكر بأن الفرصة قد تفلت من ايديهم الى الأبد وامامهم اغراءات الامتيازات التي حصل عليها العسكريون الصغار قادة انقلاب يوليو 1952او ان جهة ما قد تكون الحزب الشيوعي او الوطني الديموقراطي او الاستقلال ستحقق الضربة الأولى وعندها سيخسر العسكريون الرهان ! فابقوا على اتصالات مع قادة هذه الأحزاب لجس نبضها ومعرفة ايقاعات مشروعها للتغيير ! ومواقيت ساعة الصفر لديها ! يقول المؤرخ الأستاذ حامد الحمداني ( فيما بادر الزعيم عبد الكريم قاسم بالاتصال بالحزب الشيوعي عن طريق صديقه رشيد مُطلك حيث تم الاتصال بالمكتب السياسي للحزب! كما بادر عبد الكريم قاسم للاتصال بالسيد كامل الجادرجي ،زعيم الحزب الوطني الديمقراطي ). والذي اظنه ان اتصالات العسكر بالاحزاب الوطنية لم يكن ضمن تنسيق وتخطيط وتفاهم بل هو حالة من التلميح وربما تكون مقترنة بمعرفة ردة فعل المعسكر المدني كحالة من المنافسة غير الواعية بين العسكر والمدنيين ! كان ذلك هو الهزيمة الأولى للثورة الشعبية المدنية وكان يمكن ان يحصل الانفجار الجماهيري في اي يوم او ساعة ! وكانت العائلة المالكة تعيش في وهم فاتك مؤداه ان العراقيين لن يؤذوها لأنهم حجازيون اولا ووديعة لديهم ثانيا وسادة هاشميون اخيرا ! ولعل هذا الوهم القاتل من بنات افكار الثنائي الأسود نوري السعيد وعبد الاله الوصي ! فالحراسة على القصور تقليدية وليس ثمة اي احساس لدى حراس القصور الملكية ان ثمة من يهددها ! حتى نوري سعيد كان يردد هوسة بعض القرويين ( دار السيد مامونة ) وكانت العائلة الملكية على صلة طيبة بحراس قصرها المشؤوم فغالبا ما توزع العائلة على حراسها الغداء الملكي او العشاء او الكساء ! بل ان الجنرال طه بامرني الذي فتك بالعائلة المالكة وارداها مرادي الهلاك كان صديقا شخصيا للعائلة الملكية يأكل معهم بوجود الأميرات ويسبح مع الملك او الوصي ! وكان التنظيم العسكري المناهض قد استغل وجود الثغرات الأمنية لدى الشعبة الامنية الخاصة وبدأ يخطط ويمهد معتمدا على تلك الثغرات وطمانينة العائلة المالكة الى ولاء عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف حتى ان الملكة الكبيرة نفيسة وهي اكبر سنا من جميع العائلة الملكية كانت تخابر كلا منهما وتستقبل تلفونات كل منهما وتدلع عبد الكريم قاسم فتناديه كرومي وتدلع عبد السلام عارف فتناديه سلومي ! بل وكان وصفي طاهر برتبة مقدم المرافق الاقدم لنوري سعيد وكان يسره باخص اموره ! ولكنها مقادير الشعب العراقي تنقله من سلطة سيئة الى سلطة اسوأ! ومن زمن بذيء الى زمن ابذأ ! كل المآسي التي طالت الشعب العراقي بعد تسنم العسكر ومازلنا نسميها ثورة ! اهي ثورة على قصر الرحاب الذي تحول فيما بعد مكانا للموت والتعذيب ! فقد اتخذ صدام حسين وناظم كزار ومحسن الشيخ راضي وعلي صالح السعدي من قصر الرحاب مقرا لقتل الناس واغتصاب العراقيات ! ويمكن القول ان هذا القصر المشؤوم شهد قتل عشرات الآلاف من المناضلين والمفكرين ! كما شهد صياغة قرارات الموت ضد المعارضين ! فيتم ملاحقتهم على طول امتداد الكرة الأرضية ! ان ما نحصده اليوم من عودة البعثيين بعمائم ولحى وسيارات مفخخة والموت المجاني اليومي وافراغ ميزانية الدولة ! كل هذه وسواها من ثمار 14 تموز التي اسهم مناخ العراق في هذا الشهر الذي ترتفع فيه درجة الحرارة الى درجة 65 مئوية بحيث يفقد الكثير من الناس قدرتهم على تنظيم تصرفاتهم بدم بارد ! ساهم هذا المناخ في جرأة العسكر على الفعل وكسل الحكومة عن حماية رأسها !! والتهاب مشاعر الشارع العراقي الذي دعاه عبد السلام عارف الى مهاجمة قصري الزهور والرحاب وقتل العائلة المالكة ! انني ادعو زملائي من المثقفين والمؤرخين الى حالة من الجرأة لمحاكمة يوم 14 جولاي 1958 بمعزل عن العواطف والكليشهات فقد آن الأوان للنظر العلمي دون ان تخيفنا في القول الموضوعي لومة لائم او سخرية متفكه ! وتحديد مسؤولية الضباط الاحرار في خراب الوطن والمواطن فضلا عن الحماقات التي مهدت لاحتلال العراق ! ليس غريبا ان نقرأ لأنصاف المثقفين عبارات مكررة لايعمل العقل في صياغتها ! وقد يكون من نافلة القول ان يوم 14 تموز 1958 انقذني شخصيا من حبل المشنقة بعد اتهامي بمحاولة اغتيال المغفور له الدكتور محمد فاضل الجمالي ( ظلما ومينا ) ولكن النظر الموضوعي ينبغي ان يتجرد من الدوافع الشخصية ! اذن ان 14 تموز 1958 كان انقلابا عسكريا قاده كوكبة من ذوي الرتب العسكرية الصغيرة والمتوسطة معجبين بعبد الناصر ومحمد مصدق وطفقوا يجربون السياسة وادارة الدولة بطريقة الصح والغلط واسكرتهم هتافات الناس الفقراء الحالمين بالخبز والكفاية والحرية ثم وهذا هو الاخطر افرز الشارع محترفين من الغوغاء صاروا يؤثرون على توجه الدولة بله قراراتها وما اصابنا على ايدي البعثين البعث القومي والبعث الديني لم يكن سوى ثمرة مرة من ثمار شجرة الانقلاب الشيطانية !! اذن الضباط الاحرار كانوا يعدون العدة مستفيدين من حالة الهدوء الامني ! ولديهم فكرة مفصلة عن ان الشعب العراقي يمور مثل براكين اللهب ليس بسبب الجوع والبطالة وكراهية التبعية لبريطانيا فقط بل بسبب ثقافة الانقلاب والتغيير التي نجحت في زرعها الاحزاب والجماعات الحالمة بالتغيير او السلطة ! وبسبب تضليل اذاعة صوت العرب المصرية وتلفيقها ! وقد باتت ساعة الصفر بانتظار الفرصة المناسبة ! فليس لدى العسكريين فكرة مناسبة عن الدولة والحكم وسياسة الداخل وسياسة الخارج ولم يكن العسكريون مثقفين فهم لم يطالعوا كتابا او رواية ولم يشاهدوا عرضا مسرحيا او اي شيء يتصل بالمعرفة سوى ان عبد الكريم قاسم كان يجيد الانجليزية بسبب سفراته المتعددة الى بريطانيا مرة ضمن دورات تدريبية ومرة على سبيل العلاج النفسي من داء الكآبة كما انه يستطيع التكلم بالكوردية وبعض الشيء بالتركية ! وذلك ما ذكره الجواهري في مذكراته الجزء الاول ! : انني شخصيا حين سمعت اسماء الحكومة والوزارة وزعماء الجمهورية وقادة الثورة واستطيع ان اقسم على ذلك قرأت الفاتحة على هذه الجمهورية وبقيت مستمرا في تلاوتها . مذكراتي 2/ 192

وفي موضع ثان يقول الجواهري : هذا الرجل الزعيم يعتمد على اناس غير مؤهلين ليكونوا في عداد الساسة فضلا عن ان يكونوا واجهة للثورة او رمزا من رموزها او شعيرة من شعائر جمهورية جديدة مذكراتي 2/ 202 إ.هــ

إذن مالبثت الاشكالية لابثة ! فالجواهري اقرب الناس الى الزعيم عبد الكريم قاسم فكيف يجزم على امور ليست في صالح الزعيم بله صالح الجواهري ؟ المهم ان ما بأيدينا هو أن الضباط الأحرار كانوا قد وصلوا الحكم دون ان يكون لهم فلسفة حول التغيير ولا خبرة فيه وهم يتحدثون عن الروح الديموقراطي الذي ينبغي ان يتسم به الناهد الى التغيير وسياسة الجماهير بيد ان اذهانهم خلية من النموذج فالضباط اليساريون يفهمون الديمقراطية خلافا لمفهومات الضباط القوميين ! ومن خلل مذكرات الضباط الاعضاء في منظمة الضباط الاحرار ومشافهاتهم ! امكنني القول ان هناك تيارات داخل التنظيم العسكري وهذا امر طبيعي جدا ! ولكن الامر غير الطبيعي ان هناك حساسيات بين القيادات ورغبات مكبوتة او معلنة لعدد من القادة مؤداها ان كل قائد يحرص على ان يكون التنفيذ على يده لكي يملي شروطه فتعين على ذلك وجود ضباط غير مؤمنين بالشعب او الديمواقراطية ولكن وجودهم كان من اجل تعزيز المنهج الشللي فكل يأتي بجماعته وهم خارج السلطة ! حتى ان عبد السلام عارف بذكائه المحدود وفي واحد من الاجتماعات الحاسمة لاختيار قائد للمنظمة وحين شعر ان هناك من هم اقوى منه واجدر وليس باستطاعته ترشيح نفسه ضد اسماء كبيرة وجذابة فضلا عن ان سذاجة عارف كانت مثار السخرية في نوادي الضباط ومجالسهم الخاصة ! فأهتدى عارف وكان صديقا لعبد الكريم قاسم اهتدى الى ان يضغط على اسم قاسم وهو مقبول من لدن الضباط فإذا صار قاسم رئيس المنظمة فان عارف يستطيع عندها انتزاعها من قاسم ( بالعيني واغاتي او برصاصة سعرها ثلاثون فلسا ... ) وفي الانتخابات السرية التي حدثت في بيت الجدة الكبير كانت الأنظار تتجه الى غير قاسم فنهض عبد السلام بطريقة بهلوانية وقال مهددا ( ماكو زعيم إلا كريم ) ورغم ان عبد الكريم كان موسوما بالخجل من هكذا احراجات بيد انه لاذ بالصمت علامة رضاه ! بل ان الجواهري يقول في مذكراتي 2/184 وفي عام 1956 علمت اللجنة العليا للضباط الاحرار ان هناك كتلة للضباط الاحرار هي كتلة المنصورية يرأسها عبد الكريم قاسم ومن اجل الهدف الواحد تم الاتصال بعبد الكريم ليصبح عدد اللجنة العليا احد عشر عضوا بالرغمى من انه لم يعط اية معلومة عن كتلة المنصورية واكتفى باعطاء الضمانة عن لوائه وفي عام 1957 وفي نيسان تحديدا طرح موضوع قيادة اللجنة العليا وكان هناك اقتراحان الاول يقول بقيادة جماعية والثاني بقيادة رياسية وبعد المناقشة اعتمد الاخير ورشحت ثلاثة اسماء للقيادة هم الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد الركن محي الدين عبد الحميد والعقيد الركن ناجي طالب وباجراء التصويت انتخب عبد الكريم قاسم لرئاسة اللجنة العليا للضباط الاحرار باعتباره اقدم ضابط باللجنة واعلاهم رتبة ولغرض مراعاة الانضباط العسكري في هذه اللجنة . إ . هــ واذا كان فوز عبد الكريم قاسم صدمة لبعض الطامحين من رفاقه فمن هذه اللحظة بدأ عارف يخطط للخلاص من قاسم ولكن وجود قاسم كان وقتها طمانة لكل الضباط الاحرار بان المنظمة تسير في الطريق الصحيح فما كان من عارف سوى الانتظار ! وحين جاءت سانحة مرور قوات عارف ببغداد تصرف عبد السلام بسرعة البرق كي يختطف الحركة ويمسك بزمام المبادرة ! واغلب المصادر الموثوق بها تزعم ان عارف اخفى عن قاسم ساعة الصفر وكان يقول امامه سنترك الامر لاستخباراتنا وعيوننا فإن وجدنا ثغرة نفذنا منها والا فلسوف نؤدي مهمتانا ونعود الى ثكناتنا ! وقاسم ذكي خلافا لعارف ولديه قدرة على الحدس ولكن شعيره ياكل حنطته ! اي ان خلقه كان يفتح شروخا في حدسه وذكائه ! وتهاوت الدفاعات الملكية بصورة هينة لينة ودخل عارف دار الاذاعة وكتب البيان رقم واحد بمساعدة احد الضباط الذين كانوا بمعيته واذاع البيان ذا الثغرات الكارثية وسازعم زعما صعبا ! وهو ان عبد الكريم قاسم لم يعلم بانقلاب عارف ذلك اليوم الا من خلال الهاتف ودار الإذاعة ! ودخل عبد الكريم قاسم بغداد ظهيرة يوم 14 تموز فوجد ان عارف قد طبع آلافا من صوره وصور عبد الناصر ووزعها على الجماهير ! يقول الجواهري مرة اخرى عبارات محيرة مصدر سابق 2/ 189 زحف عبد الكريم قاسم بلوائه التاسع عشر على بغداد وتأخر موعده حتى ظهيرة يوم 14 تموز بعد ان يكون قد اتضح كل شيء فاما ان يكون الزاحف الاول عبد السلام عارف قد اتم المهمة الشاقة والحمل الثقيل الملقى على عاتقه واما ان يكون قد فشل وعلقت له ومن معه المشانق فأين هي الشجاعة المفترضة كنت في غنى عن القول ان الرجل كان جبانا ومن هذا المنطلق نفسه اي منطلق الشيء ونقيضه فهل معنى هذا ان يكون الرجل المهووس باجماع كل من يعرفه ويعرف حياته العامة والخاصة هو الاشجاع ؟ إ . هـــ وكان دخول قاسم الى وزارة الدفاع واستمكانه بصفوة من الضباط الشيوعيين والقوميين مما اوغر الحسد في صدر عارف وجماعته ! فكان عارف يقلد عبد الناصر في كثرة الخطب وارتجالها وكثرة الزيارات واللقاءات بشرائح المجتمع لكنه لم يحقق ما حققه عبد الناصر بل كان موضع تندر بين المدنيين والعسكريين مثل يا اهل الناصرية يامن اشتق اسمكم من اسم جمال عبد الناصر ! ويا اهل الرمادي يامن رششتم الرماد في وجه الأستعمار ! ويا اهل البصرة ياأهل البصر والبصيرة ثم ردد : يامسعدة بيتك على الشط منين ما جيتي غرفتِ !! واشتراكية خاكية قومية اسلامية ناصرية منكم وإليكم ! وكانت اللياقة ان يذكر رفيقه قاسم زعيم منظمة الضباط الاحرار والأعلى منه رتبة وشريكه في التخطيط للانفراد بالسلطة دون الآخرين ! وليس من الحكمة في شيء تعداد نقاط التقاطع بين القائدين العسكريين قاسم وعارف فهي ازيد من ان تحصر ! يقول الجواهري 2/ 211 : عدت الى علي الغربي لتصفية وضعي كمزارع واذا بي ادعى على بدالة الهاتف في مركز المدينة لاجد على الطرف الثاني الشهيد وصفي طاهر ليقول لي ان عبد السلام عارف سيزور منطقة العمارة فكل رجائي ان لاتكون باستقباله ! ويضيف الجواهري فيقول واهمية هذا الكلام تاتي من كونه على الهاتف اولا وبهذه الصراحة ثانيا ومن مرافق عبد الكريم قاسم الاول ثالثا اذن فقد وصلت الامور الى هذا الحد وهذه الصراحة بين زعيم الثورة ونائبه والثورة لم تزل في بدايتها . إ . هــ ونذكر بجريمة عارف حين مال الى الارتجال والغوغائية و طلب الى الجماهير العراقية الهائجة ان تقتحم القصور الملكية وبيوت الحاكمين للقضاء عليهم فكانت هذه الصرخة التي اطلقها عارف الباب الواسعة الذي دخل منه الموت والفوضى الى حياة العراقيين ! كما انها نشطت ذاكرة الفرهود والاغتصاب لدى المحترفين بالفرهود والفتك واغتصاب الاعراض العادة التي ثقفوها من عهد مدعي النبوة والنصر نبوخذ نصر فقد امر الشعب البابلي ان يغير على قصور اخيه شموكين وبطانته ويفعلوا ما يشاءون فكان الحريق والفرهود والاغتصاب برضا وعلم الاخ الحاكم العراقي المعتوه ! والعادة التي ثقفها العرب حين امر الخليفة يزيد الاول بن معاوية باستباحة مدينة الرسول فاستبيحت وفرهدت وحملت الف باكر سفاحا كما يقول المؤرخون ! واستردها العراقيون في القرن الميلادي العشرين حين طردت حكومة نوري السعيد الملكية وبالاتفاق مع الصهيونية ! طردت اليهود العراقيين المساكين من بلدهم العراق والسماح للناس بعمل ما يشاؤون من فرهود وسلب ونهب واغتصاب وحرق ! حتى قيل ان البعض وكان معدما بات مليونيرا وان البعض اختطف عددا من الشابات اليهوديات وانطلق بهن الى مكان آمن فاغتصبهن هو وجماعته وتخلص من جثثهن بعدها وهذا العهد قريب جدا من 13 تموز 1958 كان نهاية اربعينات القرن العشرين و14 تموز حدثت نهاية الخمسينات فثمة عشر او تسع سنوات بين الفرهودين والاعتدائين ! وقتلت العائلة المالكة وهي تحمل الخرقة البيضاء مستسلمة مع عهد الأمان !وسحل فيما بعد الوصي عبد الاله ونوري السعيد واعتدى بعض الجنود المهووسين المتوحشين على ما تبقى من الاميرات وخادماتهن واغتصبوهن وروعوهن ! حتى ان زوجة الامير عبد الاله وكانت مجروحة لم تسلم من هؤلاء لولم يغر عليها ضابط من عشيرتها فحملها وطببها وكرمها ! لكن كل موجودات القصور الملكية فرهدت واحرقت غبها القصور ! ويكرر التاريخ نفسه مع الاسف دون ان يستفيد مجتمعنا من الدرس حين اعتدت القوات الصدامية على دولة الكويت الشقيقة فقد اطلقت ايادي الغوغاء المهووسين المتوحشين في القصور الاميرية والخزائن والاسواق والبيوت فقتل من قتل من الكويتيين وهم عرب مسلمون وتم الاعتداء على شرف الكثير من المصونات وكأن نكستي فرهود اليهود والقصور الملكية بعدها لم تكن الدرس المناسب ! وتكرر المشهد مع الاسف في ما اطلق عليه انتفاضة شعبان آذار 1991 فالفرهود نفسه والخراب هوهو والقتل دون محاكمة وحرق بعض الجثث وسرقة البنوك واتلاف الوثائق ...... الخ ! ولم يتعلم الناس الدرس ولم يعتبروا ! وفي التاسع من نيسان 2003 هجمت الغوغاء على قصور صدام حسين واولاده وعلى قصور الوزراء ورموز الحكم عهد ذاك كما هجمت الغوغاء على البنوك وعلى بيوت الاثرياء وعملت الذي يندى له الجبين ! ومازالت الغوغاء التي تصلي على محمد وآل محمد كلما مر رجل دين معمم او رمز من رموز حكومة مابعد البعث ! اقول مازالت الغوغاء تتحين الفرص فمتى ما اضطرب حبل الامن ودالت دولة المحاصصة والصحوات فستعمل بخبرتها في السرقة والهدم والاغتصاب فهل ثمة من يعتبر من الحاكم والمحكوم ؟ دائما ثمة امتان امة لحفظ العهود وامة لفعل الفرهود وممارسة القتل والاغتصاب !!! وتكرر المشهد كما مر بنا و بشكل سافر يوم 9 ابريل 2003 وهذه المرة امام الكاميرات فطال الفرهود والاعتداء والحرق القصور الصدامية وما اكثرها حتى قيل ان عددها في كل مدن العراق الف قصر ! ولم تسلم قصور الوزراء والمتعاونين من الغوغاء وزحف الزلزال الغوغائي نحو البنوك والمحلات والاسواق والمتاحف والمكتبات والكاليريات .. وما اشبه الليلة بالبارحة حتى ان احد الغوغاء قال لولم تكن اميركا في العراق لقمنا بتطبير البعثيين من صدام الى اصغر بعثي ولسحلناهم بالحبال ولفعلنا بعوائلهم كيت وكيت ! هذا معناه اننا لن نتعلم وإذا تعلمنا فلن نستفيد مما تعلمناه ! ومعناه ان المسرحية لم تنته بعد ! وبحساب أي تلميذ في الاعدادية هو ما الذي حققه العراق او العراقيون من 14تموز 1958 ؟ وما هي القيم الديموقراطية التي ثقفوها ؟ كم انقلابا دمويا حدث بعدها ؟ وكم نفس بريئة قتلت وكم فتاة نجيبة اغتصبت وكم بيت خرب وامل بدد ؟ كم عدد قتلى العراقيين بعد تموز 1958 ! كم عدد الذين غادروا العراق من غير رجعة ؟ كم عبد الجبار عبد الله قتل وكم مهدي المخزومي طرد وكم عدد المسفرين الى ايران ؟ كم عدد البيوت التي وضع الحاكم اياديه عليها ؟ بزعم ان اصحابها تبعية ايرانية ؟ هل ثمة اكاديمي يبحث ضحايا العراق بسبب الحركة العسكرية التي قادت العراق الى الخراب المريع بحيث بات مضربا للامثال ؟ سافترض رقما اوليا لضحايا 14 عاشور 1958 وهو ثلاثة ملايين عراقي ناشط ولغيري ان يزيد الرقم اذا كانت لديه احصاءات دقيقة ! ولا ادري مسوغ الاحتفال بيوم جاءت من بعده كل المصايب والطلايب وشيء منها المقابر الجماعية وشيء منها حكم الجهلة والسفلة وشيء منها ضياع الشارع العراقي وفساد الراي العام الداخلي ؟ واي مسوغ بحق السماء هو ان نرقص على اكتاف الموت ( عنوان رواية عادل عبد الجبار ) ! ما الذي جنيناه من البيان رقم واحد الذي اذاعه عبد السلام عارف في حمارة القيظ فوعدنا بالجنة واكتشفنا انه وضعنا في جهنم ؟ كيف وعدنا العسكريون الثائرون انهم سوف يحققون الهدء والعدل ويعودون الى ثكناتهم في فترة قياسية فلا الهدوء تحقق ولا العدل تطبق ولا العودة صدقت فظل العسكريون يتوارثوننا من 14 تموز 1958 الى 9 ابريل نيسان 2003 بعد ان تركوا العراق قاعا بلقعا والعراقي شبحا مباحا يدعوا الى الرثاء ! ليتني اعرف لماذا يرقص بعض اليساريين في هذا اليوم المشؤوم فيسكرون وينتشون ويتبادلون صور عبد الكريم قاسم كما يتبادل بعض الشيعة صور العباس وقد يوافقني على قراءتي هذه كثير من المنصفين لكن احدا لن يوافقني ربما حتى نفسي لو حاولت نزع الهالة عن الشهيد عبد الكريم قاسم وتحميله بعض ما حل بالشعب العراقي في 8 فبروري شباط 1963 و18 جولاي تموز 1968 وما بينهما وما بعدهما ! هل تم في زمن قاسم تشكيل مجلس للضباط الأحرار ؟ هل ثمة ثقافة برلمانية دعا اليها الاعلام القاسمي ؟ هل كانت خطوط حمراء بين السلطات التنفيذية والقضائية والاعلامية في غياب السلطة التشريعية ؟ وحكم البلاد والعباد وسن القوانين على قاعدة الشرعية الثورية ! هل ترك الشهيد عبد الكريم قاسم وكيلا عنه او نائبا له لكي يتسنم القيادة حال تعرضه للاغتيال وكان ذلك احتمالا محسوبا ؟ هل تعامل مع اليساريين بلياقة ام انه قام بسياسة المحاصصة بين القوميين والشيوعيين فحراسه ومرافقوه نصفهم قوميون ونصفهم شيوعيون ! ألم يعتقل عبد الكريم قاسم شيوعيين كبارا في سجونه ولم يطلق سراحهم رغم الشفاعات مما قدم هؤلاء صيدا سمينا للبعثيين صبيحة 8 شباط الاسود فاخرجوا من سجون قاسم وقتلوا صبرا ؟ بل ان عبد الكريم قاسم أخطأ في امور جلبت الدمار للجمهورية وللعراقيين ولقاسم نفسه !! يقول المؤرخ الاستاذ حامد الحمداني : ـ لقد اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع القضية الكردية وقيادتها المتمثلة بالزعيم مصطفى البارزاني، بلجوئه إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع تلك القيادة ، كما أن القيادة الكردية قد أخطأت في إيصال الخلافات مع عبد الكريم قاسم إلى حمل السلاح و الصراع المسلح ، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط 1963، و لقد اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة ،الذي أججته قرارات الثورة فقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار[القوى الديمقراطية] وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء كبيرة ما كان له أن يقع فيها بحيث تحولت الشكوك لدى الزعيم إلى القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة، ومما زاد في قناعة الزعيم ! وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية، ومن ثم إلغائها بدلاً من إصلاحها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط 1963 . كما أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة الصراع مع شركات النفط و إطالة فترة الانتقال وإجراء الانتخابات وتشريع الدستور الدائم وكانت إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم كما وأطلق سراح المتآمرين الذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية والمحكومين بالإعدام ، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي منذر أبو العيس ! فحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها، وبين الذين تآمروا عليها وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها والوثوب على الحكم وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة كما أن عبد الكريم قاسم فضل هو الآخر اللجوء إلى استخدام القوة، ورفض الحوار وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول الصائبة للقضية الكردية حسب ما نصت عليه المادة الثالثة من الدستور المؤقت! و الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة 14 تموز يوم الثامن من شباط 1963 .! ولاشك أن عبد الكريم قاسم يتحمل القسط الأكبر من مسؤولية تلك الأخطاء، لأنه كان على قمة السلطة، وكان بمقدوره أن يفعل الكثير من أجل إعادة اللحمة للصف الوطني، ومعالجة المشاكل، والتناقضات التي نشأت . إ. هــ والجواهري يروي حكاية الشهيد ابو العيس فيقول 2/ 241 : كان السيد عبد القادر اسماعيل يقتحم علي جلستي الهادئة ليقول لي بلهجة المستغيث يا ابا فرات اليوم وحياة منذر ابو العيس طوع يديك انت بالذات فلقد قرب موعد تنفيذ الحكم عليه بالاعدام فقلت له حاضر ياسيدي عبدالقادر سافعل ما بوسعي رغم ان الزعيم جريح ولايصل اليه إلا اشخاص معدودون وانطلقت من فوري وهاتفت مسـتأذنا بمقابلته واستجيب الطلب توا ودخلت مستشفى دار السلام ولم يطل انتظاري فقد استدعيت وتلقاني الرجل بكل بشاشة قائلا خيرا قلت عائذ وشفيع وطالب رحمة وانت اب للكل وابو العيس عائلة محترمة من الكادحين واعرفهم منذ فترة طويلة تسبق معرفتي بعلاقة والدتك الكريمة بهم خلال زيارتها مرقد الامام موسى الكاظم في الكاظمية وكانوا من السدنة فيها ومنذر هذا ابنهم العزيز المدلل وحرام ان يموت ويعدم فقال لي يا استاذ جواهري قد اخطأ في حق من اعتدى عليهم والحياة قصاص والحقوق حق متبادل فقلت له صحيح ما تقول من انها حقوق متبادلة ولكنني اؤكد لك ان ما سمعته كان كذبا والامر برمته لم يتجاوز التضارب بزجاجات الكولا وما الشاب الذي اتهم منذر بقتله وهو من السادة ( الطويل ) كما يسمونهم وحتى هذه العائلة نفسها فانا شديد التعرف عليهم واسف على مقتل شخص عزيز منهم ومع هذا فهناك شبه اجماع على انه قد لقي حتفه على الجسر بيد الآخرين ومنذر بريء من دمه ! فسكت الزعيم وبدا سكوته بادرة رضا واضفت الى تساؤلي منه عما اذا كان يجب ان يسمع ذلك من قبل من كلفوني بهذه الشفاعة وهنا اذكر شيئا قرأته في ملامح وعبارات قاسم لن انساهى ابدا لأنه يتنافى مع خلقه بكل سلطانه وجبروته وهو الخوف اذ قال انت تعلم يا استاذ جواهري انني مطوق ومحاصر ثم سكت برهة من الزمن قال بعدها : ليقدموا طلبا ! وقدم الطلب وبدل حكم الاعدام بالسجن المؤبد وسلم ابو العيس بعدها بفترة الى اعداء عبد الكريم قاسم في يوم 8 شباط الشهير عام 1963 ليلقى حتفه . إ. هـــ هذه حبة واحدة من عنقود ! ثمة الأخرى وهي ألم يخطب عبد الكريم قاسم في كنيسة مار كوركيس ونعت الشيوعيين بالفاشست ؟ ألم يتماهل عبد الكريم قاسم مع استعدادات عبد الوهاب الشواف للانقضاض عليه ودعاه الى بغداد وطيب خاطره وودعه الى باب غرفة الاجتماع ؟ الم نقرا ماكتبه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في مذكراته الجزء الاول حين قام الادباء بزيارة لقاسم بينهم الاساتذة صلاح خالص وعلي جواد الطاهر والجواهري ! وكيف أهان الجواهري وخرج الوفد مغاضبا ؟ والجواهري يتهم قاسم في مذكراته انه كلف من رماه بسهم شج اسفل عينه فهرب عن العراق ؟ ومع ذلك فالمؤرخ الاستاذ حامد الحمداني لايضع الوزر كله على الشهيد عبد الكريم قاسم بل يضعه ايضا على القوى الوطنية الناهضة : وإنصافاً للحقيقة التي عايشت أحداثها بكل تفاصيلها بحكم ارتباطي بالحزب الشيوعي آنذاك أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء يتحملون مسؤولية ما حدث ! الأحداث التي جرت في البلاد والثورة ما تزال في أيامها الأولي عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى ذلك بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة التعامل مع الزعيم عبد الكريم قاسم، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي، مما أدى إلى فقدان الثقة بين الطرفين. وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع هذه القوى الوطنية ظناً منه أن الأخطار تأتيه من اليسار وليس من جانب القوى اليمينية التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً . إ. هــ والمؤرخ الحمداني لايبخس الزعيم قاسم حقه رغم مسلسل الاخطاء التي وقع فيها فيقول : إن عبد الكريم قاسم ، رغم كل أخطائه ، يبقى شامخاً كقائد وطني ، معادى للاستعمار ، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك ، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع ، وحرر المرأة ، وساواها بالرجل ، وحطم حلف بغداد ، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية ، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس ، أميناً على ثروات الشعب ، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لأخوته ، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير ! ويضيف الاستاذ الحمداني قوله : لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً ، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبنينا . إ. هــ

الاسئلة كثيرة ومع ذلك فالشيوعيون رغم كل الأذى الذي اصابهم من قاسم وبسببه وبعده يقدسون قاسم ويحتفلون بيوم 14 تموز 1958 ! ولسوف افترض ان تجربة الدكتور محمد مصدق الذي ثار على سلطة شاه ايران محمد رضا بهلوي وأمم النفط ! وكان حزب تودا مترددا في تأييده لان قراره مثلا في تاميم النفط قرار فردي فهو ولم يتعاون مع حزب تودا ( الشيوعي الإيراني ) فحصل ما يشبه الجفوة بين تودا ومصدق ولم يتحمس شيوعيو ايران لأفكار مصدق فتخلوا عنه مما سهل سقوطه وابتلاع قراراته التقدمية بل ان شاه ايران ضرب حزب تودا والقوى الديموقراطية بشكل يفوق تعامله مع مصدق واتباعه! ربما خشي شيوعيو العراق ان يكون سقوط قاسم سانحة لأعدائهم كي يستلموا السلطة ومن ثم التنكيل بهم وبالقوى التقدمية ! وقد حصل هذا فعلا ! فإذا كان هذا الفرض مقبولا فهل يمكننا تخيل اسباب تعلق التقدميين بعبد الكريم قاسم وقد حصل ما كان يخشى حصوله ؟ عبد الكريم قاسم الذي تسبب بتقلباته السياسية في ذبح الشعب العراقي في شباط الأسود 1963 ! واذا كان عبد الكريم قاسم شريفا وهو كذلك ووطنيا وهو كذلك ويمكننا غض النظر عن اخطائه فلماذا الإصرار على ان ماحصل في 14 تموز 1958 ثورة شعبية وهي في حقيقتها اجهاض للثورة الشعبية اولا والبوابة التي دخل منها العسكريون للسلطة والحكم مع قلة تجاربهم وعنف قراراتهم وعدم منح السوانح للتكنوقراط والفكر المدني ثانيا !

انني في هذه القراءة حالم بقدرة المجتمع العراقي وبخاصة مثقفيه المتنورين على النقد والتفكيك لكن شيئا من هذا لن يحصل في المستقبل المنظور فما زال الخطاب الاجتماعي العراقي مختطفا من قبل الغوغاء حتى حملة الدكتوراه واليساريون المتعصبون فهم غوغاء ! فنحن العراقيين ضمن الخطاب التقليدي الشعبي شعب متدين !! وحرام ان يقصر التدين على الموحدين خطابهم مع الله بل التدين ايضا وايضا يشمل ومن الباب الواسع الموحدين خطابهم مع خطاب أحزابهم ! فالدين دينان ارضي وسماوي وعندي لافرق بين الدينين من حيث الغاء العقل النقدي واستبداله بالولع الصوفي وفق نظرية ( نحن روحان سكنا بدنا ) ونحن العراقيين مازلنا نعيش على وهم اننا أشرف الناس واقواهم واشجعهم واذكاهم واثراهم ! كيف ومن صنع هذا الخطاب الشوفيني العماهوي ؟ لا ادري !! ولن تجد أحدا يحسن الظن بك او يحاورك برؤية صافية فكما قال الجاهليون للنبي محمد ص حين دعاهم للتغيير انهم كخلف لايستطيعون ترك يقينات السلف ! وشيء من يقينات السلف عبادة الاصنام فهم وجدوا آباءهم عاكفين عليها يعبدونها ! ثمة من تصيبه فوبيا التغيير فيجزع لأن كانبا عراقيا دعا الى اعادة تقويم انقلاب تموز 1958 من اجل رفع الهالة عنه والتحرج من تسميته بالثورة الشعبية ! فكان حال البعض يقول واين ستذهب عشرات الكتب التي كرست لغسل الادمغة من خلال توكيد هاجس انها ثورة ورحيمة !! ان لدينا نحن العراقيين إرثا من السومريين والبابليين في عبادة الشخصية فجلجامش السومري العابث نصفه اله ونصفه انسان ! ونبوخذ نصر البابلي الاحمق كان يعامل على انه نبي رغم انه مجنون وسفاك غير اعتيادي وحمورابي نقدسه لأنه صنع شريعة ربما تكون الاولى تاريخيا ولكننا نزهد بقراءة شريعته او مسلته او قانونه فهو قانون اسود ينتصر للاقطاع ورجال الدين والاثرياء والرجال ويحتقد الفلاحين والعبيد والنساء والاطفال وكل من العبد او الفلاح او المراة يجلسون وفق قانون حمورابي على الخازوق ان لم يرض عنهم سيدهم وقد اسميت هذه الشريعة بعد ان درستها شريعة الخازوق ! ان المرحوم علي الوردي لم يقل بسوى ازدواج الشخصية العراقية ومع ذلك حورب في رزقه وامنه وعلمه وعراقيته فكيف لو كان حيا ووضع كتابا جديدا يرصد فيه الأمراض الاجتماعية المضافة مثل التعالم فكل منا يرى نفسه اعلم من غيره فهو اذن الأحق ومثل الإلغاء فنحن مفطورون على الالغاء نلغي الماضي نلغي الخصم نلغي دور الاصغر او الاكبر !! والشمولية فكل منا يرى نفسه خبيرا بالسياسة والقانون والطب والتربية والزراعة والمسرح والسنما وفق نظرية بتاع كلو ! ماذا سيفعل به الشارع لو كان بيننا اليوم وينتج دراسات اكلينيكية لمجتمعنا العليل ! اننا نخشى تغيير القناعات ونراها تقلبا وحربائية !

مسك الختام رسالة من صديقنا الفاضل المؤرخ الأستاذ حامد الحمداني :

أخي الأكرم البروفسور عبد الإله الصائغ المحترم تحية نابعة من القلب الذي لايعرف سوى الوفاء لأحبته، وعلى رأس الأحبة وطني الذي ناضلنا معا من أجل حريته في حلقة الدراويش ، وانجزنا الكثير في هذا المجال كان في مقدمة ما انجزناه [ احتراق غابة العقارب] ، ونالنا ما نالنا من نهش كلاب الفاشية والظلام ، وخاصة انتم وانا لا لشئ سوى محبة الشعب والوطن والحرص على وحدته واستقلاله وتحقيق الحياة الكريمة للشعب المظلوم. عزيزي ابا وجدان لا تعتقد أن قلبي يحمل ضغينة لكم ، لقد كنتم دائما في القلب، ولذلك فعندما كتبتم ذلك المقال لم أشأ الرد عليه إبداً، ولم أرفع عنوان بريدكم الألكتروني ، ولا رسائلكم التي احتفظ بها جميعا، عزيزي أبا وجدان لا أخفيك سرا أنني قد قدمت استقالتي من الحزب الشيوعي قبل اغتيال ثورة 14 تموز بشهرين بسبب، بسبب الموقف الخاطئ للحزب تجاه الشهيد عبد الكريم قاسم ، ودعم موقف الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي شن الحرب على ثورة 14 تموز ، وتعاون مع انقلابيي 8 شباط الفاشيين لاسقاطها ، وقد اطلعت على كل الرسائل التي تبادلها إبراهيم احمد سكرتير البارت مع طاهر يحيى ممثل الانقلابيين قبيل الانقلاب المشؤوم وسوف ارسل لكم تفاصيل ذلك حيث لا يتسع المجال في هذه الرسالة . المهم أن كل القوى السياسية قد اخطأت بحق الزعيم الشهيد وبحق ثورة 14 تموز المجيدة . لقد آليت على نفسي أن كون مستقلاً منذ ذلك التاريخ كي استطيع أن اعبر عن آرائي وافكاري بكل حرية ، ولا انفذ امراً حزبياً دون اقتناع، وها أنذا على العهد باقٍ وأنا على ابواب السابعة والسبعين لم أفكر بمصلحة شخصية لاسابقاً وحالياً ولا لاحقاً .أن موقفي من المادة 140 من الدستور لا يتفق مع اهداف الحزبين القوميين الساعيين لتمزيق العراق ونهب اقصى ما يستطيعون من موارد العراق وهم يكنون الكراهية لكل عربي ، ونحن الذين ضحينا من أجل قضية الشعب الكردي العادلة سنوات طوال واعتقلت وعذبت اشنع تعذيب في السليمانية من أجلها، وحال اغتيال ثورة 14 تموز أصدر رشيد مصلح أمر بإلقاء القبض عليَّ وصدر قرار فصلي من الوظيفة وعانت عائلتي المكونة من زوجتي وطفلاتي الأربع وطفلي الوليد ناهض الجوع وشظف العيش لسنوات ، وعانيت من الهروب سنة كاملة والأختفاء ، ومن ثم القبض عليّّ والإحالة للمجلس العرفي مرتين ، والسجن ، وحكم على والد زوجتي بالأعدام، وهو من رفاق فهد، ومكث في زنزانة الاعدام 9 سنوات حتى قيام الجبهة المشؤومة مع البعثيين ، كما اغتالوا شقيقة زوجتي غنية في اليوم الاول لانقلاب الشواف ووقتلوا عديلي الشهيد إبراهيم محمد علي المسؤول الحزبي عن انتفاضة معسكر الرشيد وقطعوا اوصاله والقوها في نهر دجلة. أما زوجته فقد حكموا عليها بالسجن 7 سنوات وسنتين مراقبة الشرطة واخيراً اغتيال شقيق زوجتي الشهيد مثنى محمد لطيف سكرتير اللجنة المحلية للحزب الشيوعي لمحافظة نينوى في 1 أيار من العام الماضي هذا هو موجز ما عانينا من حكم الفاشيين البعثييثن والقوميين وقوى الظلام أعداء الحرية والديمقراطية .عزيز ارفق لكم البحث المذكور وهو منشور في أكثر من 30 موقعاً وفي موقعي على الانترنيت، وسوف اتصل بكم اليوم 8 بتوقيت كرنج أملي أن تكون في البيت .مع وافر محبتي واحترامي

www.Hamid-Alhamdany.com



أخوكم حامد الحمداني . ( إ. هــــ : علامة ترقيم معتمدة تعني انتهاء النص ) .

وبعد : فمن ذا الذي سيفكك يوم 14 تموز 1958 ولا يعطيه دورا لم يكنه ولا هالة لايستحقها ليس من اجل التغيير وحسب بل من اجل ان يخطو مجتمعنا خطوات نحو النمو الحضاري فيتخلص من سلطة الخطاب التقليدي فيختزل حمامات الدم وعدد الأرامل والثكالى والايتام والمغيبين والمغتربين والجياع والمهمشين والبنوك المسروقة والمناصب المباعة والتكنوقراط الضائع والفساد الخلقي المستشري والمحاصصة الشيطانية ! فالبعرة على ضآلتها علامة لاتخطيء على وجود بعير ! وأية جهود قلت او كثرت تدعو الى رفع الهالات عن الناس والتواريخ والمعتقدات فهي جهود تصب في تنمية الشعب العراقي ووعيه الديموقراطي وتحد من دور الغوغاء التاريخي ! ان الخلل كما يقول ابن خلدون وعلي الوردي وقيس النوري ومحمد عابد الجابري ليس وقفا على الحاكم بل المحكوم ايضا حين يسهم في الخلل لانه ينتج الحاكم بطريقة وبأخرى ! فلننتظر من المؤرخين العراقيين الذين صنعوا تمثالا للزعيم قاسم ودعوا دون قصد منهم البسطاء من الناس والسوقة الى عبادته ! نامل منهم جرعات من الجرأة وجرعات من المروءة فكل شيء فان وتبقى الكلمة عنوانا لعظمة الانسان .



* مشيغن المحروسة

الرابع عشر من جولاي تموز 2008