ذكرياتي مع الملك الشهيد فيصل الثاني رحمه الله بقلم:رعد بن زيد
تاريخ النشر : 2008-07-14
رعد بن زيد
تعرفت على المغفور له بإذن الله الملك الشهيد فيصل الثاني "رحمه الله", ذلك الشاب الوسيم, ذي الأخلاق الهاشمية المثالية الاصيلة, في اواسط الاربعينيات, حينما كان والدي المغفور له الامير زيد يشغل منصب وزير العراق المفوض في ألمانيا, واستدعي في تلك الفترة الى بغداد لمباحثته حول تعزيز العلاقات بين البلدين.

وبسبب علاقاتنا الوطيدة والحميمة, تلك العلاقات التي كانت سائدة بين افراد عائلتنا وبين المغفور لها الملكة عالية, والدة الملك الشهيد, ارتأت جلالتها ان من المناسب والمستحسن ان اغير مكان اقامتي من بيتنا الكائن في حي "الوزيرية" ببغداد, لأكون الى جانب نجلها الملك الشهيد فيصل الثاني في قصره "قصر الزهور العامر". وكان ذلك سببا في زيادة التقارب بيننا, إضافة الى تقارب عمرينا, مما كان عاملا مهما في انسجامنا وتآخينا خلال السنوات التالية.

وهكذا بدأت علاقتي المميزة بالإنسان الذي لن أنساه مدى الحياة. وقد أتيح لي خلال الأربع عشرة سنة التالية, ان أتعرف عن كثب على شخصية ذلك الملك الشهيد الشاب الفذة, وقد كنت بمعيته في كثير من المناسبات واللقاءات التالية, الاجتماعية منها والشبابية والرياضية, ولا سيما خلال رياضة التزلج على الماء التي كان يهواها ويمارسها في بحيرة الحبانية, او على مياه البسفور خلال العطلات الصيفية.

وكان جلالته، رحمه الله، يشارك كذلك في مباريات الرماية التي كان يجيدها بمختلف الاسلحة اليدوية, قصيرة المدى منها والبعيدة, بمهارة ودقة فائقتين, كما كان يهوى انواع السيارات الحديثة والقديمة, وكذلك جمع طوابع البريد.

وكان من هوايات جلالته أيضا لعبة الشطرنج التي كنت أنافسه فيها.

وكذلك كان لي شرف مرافقة جلالة الملك الشهيد فيصل الثاني في زياراته العديدة, الرسمية منها وغير الرسمية, في داخل المملكة وخارجها.

وكنت في عام 1952، وهو عام تتويجه, ضمن الفريق المرافق له على متن طائرة الخطوط الجوية العراقية في رحلة الى مدينة كركوك بمناسبة افتتاح مصفاة للنفط لشركة نفط الموصل. وقد لاحظت هناك, وللمرة الاولى, مدى اهتمامه بمشروعات التنمية والاعمار والبناء, وحرصه عليها وإلمامه بأهمية واردات النفط في تحقيق النهضة الاجتماعية والاستثمارية في البلاد.

وفي عام 1952 ايضا كنت بين الذين رافقوه في رحلة خاصة استغرقت بضعة ايام الى لواء الكوت بدعوة من أميرة ربيعة شيخ مشايخ آل ربيعة, الى مزرعته الكبيرة للنزهة والصيد.

وكذلك حصل لي شرف مرافقة الملك الشهيد في سنة 1952 في زيارة رسمية الى دولة الكويت على متن يخته الخاص المسمى "الملكة عالية" والذي كان راسيا في ميناء البصرة. وكان ضمن الوفد خلال هذه الزيارة المغفور له الامير عبد الاله, وكذلك المرحوم نوري باشا السعيد رئيس الوزراء آنذاك. وقد ابحر اليخت من "شط العرب" مرورا بجزيرة "بوبيان" ومنها الى الكويت الشقيق.

وكانت دولة الكويت في تلك الايام في بداية تأسيسها, فلم نشاهد على الافق غير الخيام البيضاء وحقول النفط وخزاناته في كل مكان. وقد استمرت الزيارة خمسة ايام, وكان الهدف منها, في الاساس, التعارف وتعزيز العلاقات وتطويرها بين قيادتي الدولتين الجارتين وشعبيهما. وقد تحقق ذلك بحمد الله في نهاية الزيارة وترك احسن الأثر في نفوس افراد الطرفين.

ومما تعود به ذاكرتي عن احوال العائلة المالكة في تلك الايام, معاناة المغفور له الملك فيصل الثاني من نوبات الربو "الآسما" التي كانت تنتابه من وقت لآخر. وكان جلالته خلالها يتنفس بصعوبة بالغة. ولكنه، رحمه الله، كان مع ذلك يتجلد ويكظم آلامه ومعاناته ومشاعره, محاولا عدم اشعار من يكون حوله من افراد العائلة او الحاشية, بما يشعر به متمالكا اعصابه بكل صبر ورجولة.

ومن الحوادث التي لن انساها ابدا, حزنه الشديد على فقدان والدته المغفور لها الملكة عالية في سنة 1950, فقد كانت تلك السيدة الرائعة, الشخصية الوحيدة المسؤولة كليا عن رعاية الملك فيصل الثاني وتربيته منذ انتقال والده المغفور له بإذن الله، الملك غازي الى رحمة ربه في سنة 1939, وكان عمره آنذاك سنتين فقط.

ومما لا انساه ايضا عطلته الصيفية التي قضاها في مدينة استانبول سنة 1957 على ضفاف البوسفور حيث كانت اقامته على اليخت الذي يحمل اسم (الملكة عالية), فقد كانت تلك العطلة في اعتقادي من اسعد ايام حياة المغفور له بإذن الله الملك فيصل الثاني, وقد تمت خلال تلك العطلة القصيرة خطوبة جلالته على الآنسة الجليلة الاميرة فاضلة بنت الامير محمد علي وحيد الدين بن ابراهيم, اذ انني لم ار جلالته قط بمثل السعادة والفرح اللذين كانا يغمران تقاطيع وجهه البشوش.

لقد كانت اواخر الاربعينات مرحلة حاسمة في نشأة الملك فيصل الثاني, اذ كان حريصا كل الحرص على متابعة دراسته, وكان قد بدأ يتجاوز المرحلة الابتدائية, ويواصل دراسته الخاصة في قصره, وكان استاذه للغة العربية العلامة الدكتور مصطفى جواد, ثم تابع المغفور له دراسته الثانوية في كلية (هارو) الشهيرة التي كان والده الملك غازي رحمه الله قد درس فيها ايضا.

وكان المغفور له بإذن الله الملك فيصل الثاني, يرتبط بصلات وثيقة وعلاقات حميمة مع المغفور له بإذن الله ابن عمه الراحل الكبير الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه, ومهما كانت الزيارات المتبادلة بينهما قليلة, فإن جلالته كان يعد لقاءه بأخيه الملك الحسين رحمه الله, من اسعد ايام حياته, وكان يشعر براحة تامة بعد لقائه بأخيه الملك الحسين, الذي كان ينسجم معه انسجاما تاما, بسبب التقارب في النشأة والثقافة والعمر, فضلا عن صلة القربى والوشائج العائلية, وكان من آيات هذا التقارب, ومن مظاهره الاخوية, تتويجهما في يوم واحد لدى بلوغهما سن الرشد, وتوليهما سلطاتهما الدستورية.

وبينما كانت احتفالات التتويج تغمر العراق, كانت عمان في اليوم نفسه, تحتفل بتتويج الملك الحسين رحمه الله, وقد زينت شوارعها بأقواس النصر, والاعلام الاردنية ترفرف في كل مكان, وقد تجمع الناس في الشوارع, لمشاهدة موكب جلالة الملك الحسين رحمه الله, وكان بينهم كثيرون ممن جاءوا من ارجاء المملكة الاخرى, وكانوا جميعا يهتفون للملك المحبوب بحماسة عظيمة, والنسوة يلقين الزهور على موكبة, ووصل جلالته الى البرلمان, واعرب رئيس الوزراء توفيق ابو الهدى عن تهنئته للملك الشاب وتمنياته بأن يكون عهد جلالته عهدا سعيدا ومزدهرا.

وبعد تتويج المغفور له الملك فيصل الثاني في 2 ايار سنة 1952, كان لجلالته كبير الاهتمام بالتعرف على شؤون الدولة واداراتها وما يشوبها من ملابسات وتعقيدات, وما يرافقها من آثار على الاوضاع, المحلية منها والاقليمية والدولية, وقد ابدى رحمه الله اهتماما كبيرا بتعزيز زمام الحكم, والتركيز بصورة خاصة على مبادئه ومرتكزاته الاساسية, والحفاظ على الوحدة الوطنية لدولة العراق, وضمان سيادة القانون, والعمل على دعم التعددية السياسية, ونشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان, والمساواة والعدالة بين ابناء الشعب, مؤكدا للجميع التزامه الكامل بنصوص الدستور وحرصه الاكيد على حسن الاداء والدقة في التطبيق.

ولما توفي الملك غازي رحمه الله بحادث السير المؤلم, كان ولده الوحيد ووريثه صغير السن, فعهد بالوصاية على العرش الى خاله المغفور له الامير عبد الاله, الذي قالت والدته الملكة عالية رحمها الله انه اصبح بمثابة الاب له.

وبعد هذه التهيئة الشاملة, والتأهيل والاعداد, وإتاحة الفرصة لهذا الشبل الهاشمي الاصيل, لأن يؤدي دوره الحقيقي في خدمة بلاده وشعبه, والسير بهما نحو مستقبل افضل, لم يتحقق ذلك مع الاسف الشديد, اذ لم يمتد به الاجل وخطفه القدر, وعاجلته الايدي الآثمة, فقضى نحبه مع ثلة من ابناء الاسرة الهاشمية في العراق, تغمدهم الله جميعا بواسع رحمته ورضوانه.

وتصادف اليوم ذكرى مرور خمسين سنة على ذلك اليوم المشؤوم, والذي استشهد فيه المغفور له ملك العراق الشاب المحبوب, وهو في عنفوان شبابه, اذ شاءت الأقدار ان تزيحه في مثل لمح البصر, عن قيادة تلك المسيرة الهاشمية واداء رسالتها الخالدة, وما كانت تبشر به من مقومات الدولة العصرية ومن مستقبل زاهر للبلاد, وقضائها على مرتكزاتها الاساسية والانسانية والحضارية. وقد ذهب ذلك كله ادراج الرياح, وذهبت معه آمال الامة وخير البلاد والعباد.

وقد قضى مع الملك الشاب الشهيد أعضاء من أسرته الأبرياء, كخاله الامير عبدالاله, وجدته الملكة نفيسة, وخالته الاميرة عابدية, رحمهم الله جميعا.إنا لله وإنا إليه راجعون