عندما يكون المثقف متبوعا ـ عبد الوهاب المسيري نموذجا ـ
جمال محمد تقي
الفرق بين المثقف المتبوع والمثقف التابع كالفرق بين المرابي والقديس ، بين الانسان الحر والاخر العبد ، بين النفس المليئة بثقة قدراتها وقوة عطائها وتأثيرها والنفس المتهافتة المدعية المتسترة على امراضها بروائح الصحة المفقودة ، المثقف المتبوع يرى ويسمع ويتكلم بعزمه هو ، المثقف التابع لايرى ولا يسمع ولايتكلم الا عندما يبرمج بما يلبي نوازعه التي تتغذى على عطاءات الذين يتبعهم ،
المثقف المتبوع لا يكتفي بالتفسير فقط وانما هو داعية للتغيير ، المثقف التابع يبرر ولا يفسر ويخيفه التغيير فيفتح قريحته للتخدير ، المثقف المتبوع يعيد تقييم نفسه ويراجعها وقد يتجاوزها نحو آفاق ارحب ، المثقف التابع لا يراجع نفسه الا اذا تغيرت سحنات من يتبعهم وقد ينقلب عليها ان ادعت ضرورات الربح والخسارة ذلك !
عندما يسود المثقف المتبوع تكون الدنيا بخير رغم ما فيها من صراعات وكوارث ، وتكون ابواب واجواء الاحلام والتجريب والمحاولة والمغامرة والمجاسرة والمقاومة مفتوحة وفيها براح من الحركة الهادفة رغم ما يبدو عليها من تعب ، اما عندما يسود المثقف التابع وبالتالي ثقافة التبعية فالاجواء تحمض والابواب لا تفتح الا باوامر السلطان ووعاظه ، وعندها ينتشرالفساد في الربوع كالاوبئة !
عبد الوهاب المسيري هذا التنويري العامل الفاعل هذا الاستاذ والتلميذ هذا المفكر المنظر المفسر، الداعية للتغيير هذا المنحدر من اصول ناقضها طبقيا نحو المعرفة الحرة ، قرأ وقارن وقارب وباعد حتى صاغ نفسه واخذ يشذبها ويثقفها بالممارسة ، اكاديمي يمتلك ادوات ومناهج مبدعة ،، المعرفة حسية كانت ام نظرية تكمل بعضها البعض في السير الحثيث نحو تحقيق التجاوز المطلوب ، لا تغيير مثمر دون تفسيير معمر بالتقليب والتمحيص والتجريد ، دون التعمق بخصائص الاشياء والحركات واشكالها وتفاعلاتها الطبيعية والارادوية او بطفراتها المتنوعة المحصورة بين الصدفة والضرورة بين العام والخاص بين الشكل والمضمون بين الجوهر والمظهر .
الفيلسوف المسيري طراز مألوف من المثقفين المتبوعين في عصرنا وفي عصورلم نعشها كالذين عشنا مع اخبارهم في تراث امثاله المبثوث في بطون امهات الكتب والمصادر والمراجع والمدارس والجامعات والشوارع ، المسيري قدوة للثقافة غير الطارئة ، قدوة للثقافة الانسانية التي تقاوم القبح وتحلم بالجمال .
مفكر تفوق في معرفة الاخر بعد ان تفوق في معرفة نفسه ، مقارب لا يؤمن بالعزلة والاجناس المشفرة محارب والمعرفة خير سلاح ، كان سؤاله الصعب والذي لم تتبلور الاجابة عنه طيلة مشوار حياته هو كيفية تحويل المعرفة الى سلاح فاعل في متناول جيوش التغيير ، ففي كل الحقول هناك من يحاصر المعرفة الحقة ،، السلطة والجهل ومثقفي التسعيرة والعولمة المتوحشة ، والمؤسسات المعلبة والتي وجدت لخدمة استمرار هذه السلطة ناهيك عن الاحزاب الخشبية والنقابات المشوهة والجامعات المحاصرة والاعلام المحاصر ، نعم لم يبقى الا الشارع ، فنزل اليه وكان من اوئل الصارخين بوجه السلطة ـ كفاية ـ !
ربع قرن وبعشق الباحث كتب اعظم موسعة جامعة عن اليهودية واليهود والصهيونية ، وكتب في حلول للمأزق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي العام والخاص لمصر ولعموم مجتمعات العوق المزمن .
غيب الموت المسيري عنا لكن مسيرته لم تمت فهي حية في ذهن كل باحث رصين وفي كل صرخة يصرخها ضحايا فساد ديكتاتورية سلطة التبعية والانفتاح المنفلت ـ كفاية ـ انه حاضر في اي دعوة حقيقية للتغيير نحو مجتمع العدالة الاجتماعية والديمقراطية والاستقلال الحقيقي والسيادة الكاملة لارادة الشعب وليس لوكلاء الاحتكارات العالمية في مصر .
عندما يكون المثقف متبوعا ـ عبد الوهاب المسيري نموذجا ـ بقلم:جمال محمد تقي
تاريخ النشر : 2008-07-13
