غساسنة ومناذرة ذهبنا إلى باريس!
جواد البشيتي
العرب طُلاَّب عِلْمٍ.. وطُلاَّب وِحْدة؛ إنَّهم يَطْلبون العِلْم ولو في الصين، ويَطْلبون الوحدة ولو مع الأوروبيين المتَّحِدين في "الاتحاد الأوروبي"؛ يَطْلبونها ولو عبر فرنسا، ورئيسها ساركوزي. لقد جُبِلوا على طلب العِلْم، وإنْ لم ينتجوا منه إلاَّ القليل؛ وجبلوا على طلب الوحدة؛ ولكن مع غيرهم، ومع بقائهم على ما هم فيه من تجزئة، بدأت "أفقية"، بفضل البريطاني سايكس والفرنسي بيكو، فأصبحت "عمودية"، أي أصبحت مصير ومستقبل كل دولة عربية مستقلة ذات سيادة!
ليبيا، وهي دولة عربية نادت بوحدة العرب حتى اليأس، وقفت ضد "الاتحاد من أجل المتوسط"؛ لأنَّها رأت فيه طريقاً إلى وأد فكرة الاتِّحاد بين دول وأمم وشعوب إفريقيا، والتي أصبحت تجتذب إليها حُلم الوحدة الليبي أكثر من فكرة الوحدة العربية، التي لا يقول بها الآن، أو يدعو إليها، إلاَّ كل عربي مُثْخَن، عقلاً وقلباً، بجراح الطوباوية السياسية، على ما يعتقده خصوم فكرة الوحدة العربية من العرب "الواقعيين"، الموضوعيين"، "العلميين"!
لقد قرَّر بعض العرب، أي بعض الدول العربية، أو الدول العربية المستوفية لـ "الشرط الجغرافي"، وهو انتماؤها إلى حوض المتوسط، أن يتَّحدوا مع "القلعة الأوروبية"، أي مع "الاتحاد الأوروبي"، من أجل المتوسط، أي لما فيه خير دول الحوض جميعاً، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وثقافياً..، ولو كانت إسرائيل إحدى تلك الدول.
أثبتوا، والحقُّ يقال، أنَّهم طُلاَّب وحدة، لا مثيل لهم بين الأمم، ولا مثيل لها، فالدول المتوسطية منهم، أي التي أسبغت عليها "الطبيعة" هذه النعمة، نسيت، أو تناست، أنَّ لها شقيقات من الدول غير المتوسطية؛ ولكنَّها تذكَّرت أنَّ الاتِّحاد المجدي والواقعي والمفيد يُلْزِمها أن تذهب (أي تلك الدول العربية المتوسطية) فرادى إلى باريس لتتَّحِد عبر "الاتِّحاد من أجل المتوسط".
"الواقعية السياسية" عند الأوروبيين الغربيين حَمَلَتْهُم على أن يتَّحِدوا هُم أوَّلاً، وأن يبتنوا لأنفسهم قلعة اقتصادية كبرى ومنيعة، تجتذب إليها، وكأنَّها "ثقب أسود"، ما يقع في "حقل جاذبيتها" من دول ضئيلة الوزن، اقتصادياً وسياسياً، وتحتاج إلى من يتبناها، ويأخذ بيدها، من "الكبار". وحَمَلَتْهُم، أيضاً، على أن يؤسِّسوا لوحدتهم بنية تحتية من الاقتصاد أوَّلاً، فَعَظُمت مصالحهم الاقتصادية المشترَكة حتى استصغروا ما يُفرِّق بينهم على عِظَمِه، فهم أُمَمٌ شتَّى، صهرهم الاقتصاد في بوتقة واحدة، هي "الاتِّحاد الأوروبي".
لولا اتِّحادهم أوَّلاً في قلعتهم لَمَا قامت قائمة لـ "الاتِّحاد من أجل المتوسط"؛ ولولا تمزُّق وانقسام "الأمَّة الواحدة"، أي العرب، لَمَا قامت له أيضاً قائمة، فالأوربيون الغربيون أسَّسوا لهم "شمساً"، اقتصادية وسياسية وثقافية..، ثمَّ شرعوا يبحثون عن كواكب وكويكبات تدور حولها، أو في فلكها.
"من أجل المتوسط"، أي من أجل إقامة حديقة حَوْل "القلعة الأوروبية"، اتَّحد العرب، أي بعض العرب، مع الأوروبيين الغربيين، ومع غيرهم، لعلَّهم يظفرون بشيء ممَّا ينعم به اقتصادياً، واقتصادياً فحسب، "أهل القلعة"، مع أنَّ هؤلاء، أي "أهل القلعة"، لن يعطوا "شريكهم" العربي غراماً واحداً من الذهب قبل أن يأخذوا منه مائة غرام، أو إذا لم يأتهم هذا الغرام الواحد بمائة غرام.
"من أجل المتوسط" اتَّحدوا، وكأنْ ليس من قضية عربية تستحق أن يتَّحِدوا من أجلها، وكأنْ ليس من أهمية تُذْكَر لاتِّحاد أولئك العرب مع بعضهم بعضاً قبل، ومن أجل، أن يتِّحدوا مع الأوروبيين الغربيين، وغيرهم، من أجل المتوسط!
ولو فعلها هؤلاء العرب، أي لو اتَّحدوا، قبل أن يذهبوا إلى باريس، ليس في "قلعة"، وإنَّما في "خيمة"، لضرب ساركوزي نفسه صفحاً عن فكرة "الاتحاد من أجل المتوسط"، فهذه الفكرة لا أهمية تُذْكَر لها إذا لم تُلبِّ، في المقام الأوَّل، حاجة "القلعة الأوروبية" إلى تلك "الحديقة"، التي لا يمكن أن تصبح حقيقة واقعة إلاَّ إذا كان "الشركاء العرب" من غساسنة ومناذرة!
أُنْظروا لتروا من اتَّحد مع من؛ لقد اتَّحد الأوربيون الغربيون الذين علَّموا العالم بأسره فن تحويل كل ضعف لديهم إلى قوَّة مع العرب الذين علَّموا العالم بأسره فن تحويل كل قوَّة لديهم إلى ضعف!
روسيا، مثلاً، وعبر شركتها النفطية العملاقة، تعتزم الآن شراء كل الغاز الليبي، لتستعمله هي سلاح ضغط في صراعها السياسي ـ الاستراتيجي الإقليمي والدولي؛ أمَّا نحن، الأمَّة النفطية العظمى" في العالم، فلا نجرؤ حتى على التفكير في استعماله سلاح ضغط، ولا نتوانى في وضعه في أيدٍ تستعمله سلاحاً ضدَّنا، فالنفط، الذي مزَّقنا، ويمعن في تمزيقنا، والذي جعلنا دولاً قبل أن يجعلنا "أقاليم" في الدولة الواحدة، يمكن ويجب أن يوحِّدنا مع غيرنا، من أجل المتوسط، أي من أجلهم، من اجل أسياد المتوسط!
لقد أغلقوا "معبر رفح"، وابتنوا حوله "جدار برلين"، ثمَّ ذهبوا ليفتحوا لهم معابر إلى "القلعة الأوروبية"، وليتَّحِدوا مع هادمي "جدار برلين"، فاتَّحد "الواحد إذ تعدَّد" مع "المتعدِّد إذ توحَّد"!
غساسنة ومناذرة ذهبنا إلى باريس! بقلم:جواد البشيتي
تاريخ النشر : 2008-07-13
