توفيت في 4 حزيران 2008
عذراً نهاية، فقد غادرت مبكراً قبل أن يكتمل المشوار، ختم الترجمة والشهادة الجامعية الثانية في الجغرافية الإقليمية سينتظران طويلاً، ولم نحقق حلم الشهادة الجامعية الثالثة في العلوم السياسية التي حلمنا بها معاً متأخرين جداً عن موعدها.
الانسحاب المبكر وقع بعد أن ألم بك ذاك العائق الذي لا يقاوم، وهو الذي سحب عدداً من الأحباب والخلان ورفاق الدرب الكثر. انسحاب مبكر وغياب أبدي، وترجل في منتصف الطريق أو قبل ذلك بقليل، تنوع وتعدد في الطموح وكنت السباقة والمتفوقة بامتياز وبلا منافس.
خرجت من مدينتك المحببة، طولكرم، ومن العدوية الثانوية، تحملين ذاك المنديل الأحمر على الجديلة الشقراء الجميلة. وبعد أن جلت قبلها ثانويات الخليل والقدس وغيرها. وبعد أن رسمت مع عائلتك الصغيرة بعض طموحك الشخصي والأسري، بالالتحاق في جامعة دمشق لدراسة الأدب الإنجليزي، والعودة لخدمة بنات وأبناء الضفة، اللذين كانوا كما كنت ترددين دائماً، الأكثر احتياجاً واستحقاقاً للانتفاع من فوائد التربية والتعليم ولإنارة بيوتهم ولتحسين مستوى الحياة. لا سيما في ظل الظروف العامة الصعبة التي قدمت خلالها إلى الجامعة. والوضع الذي كنت على قدرة ملفته وتدعو للاعجاب على فهم خصوصياته وتعقيداته، كما كنت على درجة من النباهة واللماحة في اكتشاف مداخل ووسائل المساعدة على تجاوز صعوباته ومشكلاته وبأقل قدر من الأضرار.
ذات الطموح الأولي، دفع للمشاركة في العمل الأوسع والأسمى وحتى الأرقى في حينها. وتدافع طموح التخرج من الجامعة للخدمة من خلال التعليم، بطموح التطوع الوطني، ونلت خلال ذلك درجة أعلى من التفوق وتقلدت أكثر من وسام سيذكره التاريخ في مجال التضحية وفي العطاء وفي تغليب المصلحة العامة ولم يكن الفصل والمنع والإبعاد إلا أقله.
تبدلت مظاهر وتعبيرات الطموح وتغيرت أشكاله في دورة حياتك العامة الغنية التي عشناها معاً، وكانت موحدة دائماً في انبثاقها عن قلب واسع وعقل كبير، مليء بحب الناس وبنات القرية والمدينة والمخيم، وبالوفاء للزملاء والزميلات في القسم وفي الكلية وفي الجامعة. مخلص لعلاقات الماضي والحاضر الجديد، وللعمل الموحد والمشترك مع محلية التجمع الطلابي الأولى المجيدة، إطار العمل على تحسين الظروف الحياتية والمعيشية الجماعية من أجل الصمود والتقدم. لم تتغير أو تنعكس الأهداف عن الطموح الأول حول التخرج والعودة للعمل من أجل تربية تخدم الحياة الإنسانية لبنات طولكرم، ولكنها أخذت أشكالاً جديدة لتربية جديدة، تربية مجتمعية في خدمة الصمود ومن أجل البقاء، تربية المقاومة.
طموحك ووضوح الأدوار والأهداف لديك، قناعتك بدورك وبموقعك، وثقتك الراسخة بنفسك واحترامك للغير، وشعارك الدائم حول التعاون وعمل الجماعة أوصلنا حينها في الطلابية وفي النسائية وحيث عملت إلى ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز بك وبغيرك من زميلاتك وزملاءك الرواد، وكنت حجر زاوية في المكانة المرموقة ومحط الاحترام والتقدير، وستبقى ذكراك بيننا وبين من سيلحق بنا وعلى مدى الدهر ودورة الحياة.
وبعد أن أصبح من غير الممكن العودة لتعليم بنات طولكرم كما كان يحلو لك أن تحددي الهدف، وإلى الأرض التي خرجت منها مجبولة بترابها ومائها حباً لها، حملت وسيلتك وأداتك للبناء: التربية من خلال وظيفتها في محو الأمية وتعليم الكبار للنساء في أحياء مدينة دمشق ومخيماتها القريبة والبعيدة، ومن خلال وظيفتها في التأهيل وفي التمكين والتعبئة والتوعية والحشد، وقد تفوقت وأجدت العمل في هذا ومن خلاله، كما تفوقت وأجدت العمل في الأساليب والوسائل الراقية التي سبقته ومن خلاله. ولا زالت بنات وسيدات حي الأمين وجوبر وركن الدين وكفر سوسة وكذلك عاملات وسيدات مخيمات جرمانا والسيدة زينب ودنون وخان الشيح، يذكرن ويتذكرن تلك الجهود الخيرة. ولا زالت أم حسين وأم جابر وأم محمد وسحر وسمر وانتصار وانتظار وغيرهن المئات على تلك الدروب تواصل مشوارك الطويل. والأهم من هذا وذاك، فلا زالت الأمثلة والنماذج والنوادر والأساليب والوسائل قيد التداول الحرفي، وماثلة أمامنا ولدى جميع من عمل وتابع، أو توقف خلال تجربة أبدعت بها وتماثلت معها واندمجت فيها وأصبحت أنت والتجربة واحداً موحداً.
كانت حاضنة طموحك بشكله وبأدواته الجديدة والقديمة بعد الطلابية وبعد الإسناد، وغيرهما من مجالات العمل النشاطي والإبداعي والتربوي، منظمتك المنظمة النسائية الديمقراطية، حملتها تجربة وخبرة، انتقلت بها ومعها من تجمع لآخر ومن بلد لآخر، وأحياناً في ظل ظروف شديدة التعقيد والاختلاف، واختلف بذلك شكل الطموح والعمل واستمر الجوهر والهدف يتمحور حول خدمة المرأة قضية وهدفاً وأداة تقدم وتطور وصمود.
أما في الوطن... فكان العمل لخدمة القضية من خلال الوظيفة العامة التي أحببت واخترت، إضافة لجميع المسؤوليات والنشاطات والالتزامات التطوعية الأخرى، فمن منا لا يقدر مدى نجاحك ونتائجك الإيجابية في مشروع بيت لحم 2000 لليونسكو وفي مركز التراث وفي الدوائر والاقسام والمجالات التي عملت بها وتحملت مسؤوليات فيها. فنجحت بالصلة وبالخدمة للنساء في بيت لحم وبيت ساحور والدهيشة، كما نجحت في اليرموك وفي أحياء دمشق. فأنت أنت يا نهاية دائماً والوطن هو الوطن وفلسطين هي عينها في كل مكان.
ثقتك واطمئنانك بالمستقبل وهدوئك الذي يدعو للغيرة، شكل دافعاً ومحفزاً للإنجاز وللنجاح. حماسك العالي لحمل قضية المرأة في الوطن، التجمع الأكبر والطافح بأشكال المعاناة والصعوبات شكل مصدر إلهام ونشاط لنا ومكن من تحقيق النجاحات.
تجمع الوطن حيث الحاجة أكثر إلحاحاً، وحيث يجب أن يكون الزرع زرعاً ملائماً، وحيث يكون الحصاد ملاماً أيضاً ومن طبيعة الزرع. اندفعت في الوطن بكل ما فيه وله من حب وبكل ما هو جميل ويستحق الحياة. الوطن الذي خرجت منه لنيل الشهادة الجامعية الأولى من أجل تأهيل وتربية أبناءه وبناته. وبالجد والمثابرة والعزم واصلت لنيل الماجستير في الجغرافية الإقليمية، رغبة كما قلت أنت: فهم ومعرفة لماذا وكيف عملنا وماذا يجب أن نعمل؟
أليس هذا هو الطموح الذي لا حدود له؟ أليس هذا هو القلب الكبير الذي تحملين؟
نهاية الجيوسي منذ بدأت دورة حياتها. وفي سنواتها الأولى بالحلم بماذا وكيف تستطيع أن ترد الجميل لأسرتها ولزميلاتها ولأبناء وبنات شعبها حيث عاشت طفولتها وجالت مرافقة لأسرتها ولوالدها الموظف في حينها. تحمل قلباً كبيراً بكبر الوطن والمجتمع، واسعاً بحجم الإنسانية الرقيقة المشعة من عيونها.
نهاية الجيوسي، موضع الذاكرة الخالدة والذكرى النضرة. ترجلت باكراً عن ظهر حصان المجتمع المدني، بيدها رسالة نبيلة وسامية، رسالة التربية والمعرفة التي بدأت وأنهت حياتها بها. وأوقف القدر المحتوم طموحها اللامحدود. رسالة سامية وأهداف نبيلة، وعمل مبرر وجود وقيمة، رغبتها الدائمة إضاءة بيوت العتمة بنور المعرفة والتعليم، رحمها الله.
صديقاتك ومحبوك في دمشق
14/7/2008
ذكرى أربعين النبيلة نهاية الجيوسي بقلم:صديقاتك ومحبوك في دمشق
تاريخ النشر : 2008-07-13