د. أحمد ثابت
استاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة
نحن لا نخسر من رحيل مؤرخ شامخ وأستاذ جامعي جليل هو الدكتور رءوف عباس أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، قيمة وجود الرجل بيننا والتزامه وأخلاقه الدمثة الجملية فقط، بل نخسر مدرسة بأكملها في العلم مدرسة أسسها رءوف عباس مع أساتذته الذين يعترف لهم بالجميل رغم بعض الأمور من سوء الفهم مثل أحمد عزت عبد الكريم وأحمد عبد الرحيم مصطفي ومحمد أنيس، بل نخسر العلم نفسه بصراحة شديدة رغم أنني شديد الإيمان بكلام عمنا أحمد فؤاد نجم عن مصر الولاّدة دائما التي لم تنقطع عن إنجاب المبدعين والعباقرة، لأن العلم الذي جعل بلادا كنا نسبقها علي صغر حجمنا وقلة مواردنا وكثرة الحرامية والفاسدين وناهبي أقوات الناس من حكام وزبانيتهم، بعشرات السنين، فإذا بنا نتخلف حتى في العلم والبحث نفسه، وتجد بلدا مثل سنغافورة تربح مليارات الدولارات من صادرات تكنولوجيا الكمبيوتر بمعدل يفوق عشر مرات صادرات مصر.
رءوف عباس من أهم من أسسوا العلم والتفكير العلمي والتحليلي، التاريخ عند العرب والمصريين كان تاريخ العائلات المالكة والأشراف والقبائل عن طريق الحواديت والملاحم الشعبية، بينما أصر أستاذنا الجليل علي أن يكتب تاريخ الطبقات الشعبية الكادحة التي تنتج ويعيش كثيرون من الكسالي والوارثين علي كد وجهد هذه الطبقات، أستاذنا اهتم بدراسة الحركة العمالية في مصر ونضالاتها المجيدة من أجل تأسيس النقابات العمالية كتنظيم يحمي ويدافع عن مصالحهم وتحسين ظروف العيش وتعديل هياكل الأجور وغيرها. ونحن نفتقد من رحيله بصراحة القدرة علي القراءة والبحث والكتابة بعد أن صار الاستسهال والسرقة للأفكار مسألة سهلة بل تدل علي الذكاء في زمن الانحطاط والتدهور علي مستوى الحكام وعلي مستوى الناس نفسها، ثم كتب عن كبار ملاك الأراضي والرأسمالية الصناعية في مصر قبل ثورة يوليو. وظل وفيا وحانيا علي الطبقة الشعبية وهو ابن موظف التلغراف البسيط - كشأننا جميعا نحن المثقفين والساسة المحترمين الذين لا نبيع الضمير ولا الالتزام، وهي العمال التي انحدر منها ومن الفلاحين أعظم علماء وساسة مصر، بالبحث والدراسة يكتب تاريخ مصر والحركة العمالية من كلمات مناضل نقابي كبير هو محمد حسن المدرك في سلسلة مقالات صحفية، ثم لا يخون هذه الطبقة وهو يكتب عن الرأسمالية الصناعية أي لا يوظف علمه في خدمة أصحاب الثروة مثلما باع كثيرون أنفسهم ليس حتى لهذه الرأسمالية بل لتجار الحديد والدعارة وتقديم نساء كخدمات بدلا من رشاوى مالية!.
ونحن نخسر من رحيله كعالم جليل ورجل مواقف الإصرار علي المبدأ الذي التزم به طوال حياته وأن يكون أمينا من نفسه قدوة أخلاقية محترمة لكل من حوله، وصلابته في الدفاع عن قضيته خاصة كانت أم عامة ليس فقط احتراما لكرامته وعزة نفسه كإنسان أولا ثم كأستاذ جامعي ثانيا ثم كمسئول. نخسر بالتحديد رجلا وهو يصارع المرض الخبيث يعطي تلاميذه وطلابه ثم الجمعية المصرية للدراسات التاريخية التي رأس مجلس إدارتها وبعثها من جديد كمؤسسة علمية بعد أن كانت حيطان ذابلة لا تقوم بأي نشاط علمي أو فكري. ووقته الذي كسبناه كأستاذ مخضرم وكرجل نشاط سياسي ملتزم أخلاقيا وكمدافع صلب عن حرية العلم والفكر وعن استقلال الجامعة في مواجهة تدخل أمن الجامعة وقيادات الجامعة وقيادات كلياتها من الفاسدين أو المتخلفين عقليا قبل أن نعرف شيئا اسمه استقلال البحث وكرامة العلم، فقد تصدي لطالب دراسات عليا وهو معيد صغير في آداب عين شمس كان يسرق كتب مكتبة القسم ويبيعها في السوق السوداء!!. نخسر كل ذلك لأنه كان ممن أسسوا جماعة 9 مارس لاستقلال الجامعة وقادتها بأفكاره وكتاباته ورئاسة مؤتمراتها. كنت أتعلم منه كيف تكون الكرامة في مواقف عديدة منها أنه وهو يرأس جلسة لمؤتمر جماعة 9 مارس عندما عنّف نائب رئيس الجامعة الذي كان يتحدث عن أن جامعة القاهرة رشحت د. محمد أبو الغار لجائزة من جوائز الدولة بصيغة المن علي أبو الغار، فإذا برءوف عباس يقول إن الجامعة تنال الشرف عندما ترشح أبو الغار!!.
علي أن الخسارة الحقيقية تتمثل في شيئين في منتهي الأهمية أولهما قدرة هذا العالم الجليل علي تحقيق وتطبيق المبادئ الإنسانية الرفيعة السامية في أرض الواقع وإصراره علي ذلك رافضا الفكرة الخائبة التي تحكمت بالمصريين ألاف السنين وأدت لتخلفنا عن بلد اسمه ليتوانيا وهو "وأنا مالي، خليها تيجي من حد غيري" أي الأنامالية، أصر الأستاذ العظيم علي ندب الراحل الكبير المؤرخ د. يونان لبيب رزق للتدريس رغم صراخ ضعاف العلم والنفوس والمتعصبين دينيا من المتخلفين ممن ودعوا عقولهم لأنه مسيحي، وكذلك إصراره علي تعيين خريجة مسيحية معيدة بقسم التاريخ آداب القاهرة رغم ولولة هؤلاء المتخلفين. أين تجد هذا النوع من الرجال في وقت صار حتى كثير من المثقفين يتحدثون بلغة الواعظ في مأتم أو محطة فضائية، مضحين بالعلم والعقل والوطن نفسه لحساب تفسير رخيص منحط للدين وسماحته وأخلاقياته. الشيء الآخر هو تخيل أن الأستاذ وهو يصارع مرض السرطان وينتظر جلسة العلاج الكيماوي في قصر العيني الجديد يسمع أن واحدا من بين عشرات من تلامذته يكفي أن يطمأن عليه بالتليفون، فيسارع قبل بدء الجلسة لزيارته في نفس المستشفي وهو يجري فحوصات علاج لفيروس سي بالكبد والتلميذ الذي هو بلا شك لا شيء بجوار أستاذه كنت أنا أستاذ يحنو علي تلميذ له، وتلميذه يخرج باحثا عن أي وسيلة اتصال فيسمع عن وفاة أستاذه، لا أدري هل نبكي رءوف عباس أم نبكي أنفسنا أم نبكي علي حالك يا مصر؟!.
العالم المؤرخ الكبير رءوف عباس تبقي بيننا رغم الموت بقلم:د. أحمد ثابت
تاريخ النشر : 2008-07-12