كركوك بين الابتزاز الكردي واصرار العراقيين على عراقيتها
معروف الكرخي
كاتب عراقي
من جديد تطفو قضية هوية مدينة "كركوك" على صدارة الأحداث، تتجاذبها تطورات متناقضة: من تهديدات تركية حكومية بان مسالة كركوك خط احمر، وتصريحات طنانة لمسؤولين أكراد بأن "كركوك هي قدس الكرد!!" وتثير حفيظة مكونات كركوك من غير الكرد وتحديداً العرب والتركمان، ووسط صمت وتجاهل حكومي تجاه ما تتعرض له هذه المدينة العراقية من محاولات لتشويه هويتها، ومماطلة امريكية في حسم الامر، ودور مشبوه لممثل الامم المتحدة، وأخيرا خطة كردية قائمة لجلب المزيد من الكرد وتهجير العرب من كركوك مقابل إغراءات مالية!
رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان وصل بغداد امس الاول لاجراء مفاوضات مع حكومة المالكي، الا ان مصادر حكومية اعلنت بانه جري الاتفاق علي ابعاد قضية كركوك عن جدول المفاوضات مع رئيس الوزراء التركي وقالت المصادر ان الملف الأمني وقضايا حزب العمال الكردستاني ستكون في مقدمة المفاوضات الي جانب توسيع التبادل التجاري والديون التركية على العراق.
قياديون من عرب كركوك اعلنوا انهم لن يوافقوا علي تاجيل الانتخابات المحلية في المحافظة المقررة في شهر اكتوبر القادم الا في مقابل شروط عدة بينها اعادة النظر في اعداد العائدين من الاكراد والتدقيق في سجلات الناخبين وادعوا ان الاحزاب الكردية جلبت اكثر من 600 الف نازح كردي واسكنوهم المدينة من اجل تغيير ديمغرافيتها تمهيدا للاستفتاء. خاصة وان الدستور العراقي الذي وضع بعد غزو العراق وتم تمريره باستفتاء مشكوك في نزاهته، يتضمن مادة برقم 140 عن اجراء استفتاء عام قبل نهاية 2007 بين مواطني كركوك لتقرير مصير مدينتهم. لكن الحكومة المركزية فشلت في اجراء الاستفتاء ضمن السقف الزمني المحدد له. وبحسب خبراء قانونيين فإن عدم اجراء الاستفتاء في موعده يسقط هذه الفقرة التي جري تأجيل تنفيذها برغم عدم وجود اي استعداد حتي الآن لاجراء الاستفتاء. وقدمت الامم المتحدة اقتراحا يتضمن اربعة خيارات وهي "اجراء الانتخابات بعد القيام إحصاء سكاني او بعد التسوية النهائية لوضع كركوك، او بعد قيام لجنة برلمانية بالتدقيق والمراجعة لبيانات ودراسة الوقائع حول المدينة". اما الخيار الرابع فهو اجراء الانتخابات"بعد توافق الاطراف المعنية حول آلية تقاسم السلطة في المدينة.
مندوب الامم المتحدة ستيفان ديمستورا المنسب لحل مشكلة كركوك، والمتهم من قبل العرب والتركمان بتحيّزه لجانب الاكراد بحكم علاقاته الشخصية الوثيقة السابقة مع البرزاني والطالباني، شبَّه الصراع بين الاكراد والعرب للسيطرة على مدينة كركوك الغنية بالنفط في شمال العراق بقنبلة قارب وقت تفجيرها!!، وقال ديمستورا الذي يساعد في التوسط بين بغداد وكردستان حول مستقبل مدينة كركوك في لقاء مع وكالة بلومبيرك الاميركية، بانه يملك فقط شهور قليلة لحل ما اطلق عليها بـ " ام كل المشاكل " في العراق. وقال الدبلوماسي السويدي :" اذا حدث ذلك، فسوف نكون قد ساهمنا بشكل اساسي بتجنب نزاع جديد في اسوأ وقت محتمل".
وتطالب الحكومة الاقليمية الكردية بعودة من تعتبرهم مهجرين اكراد في زمن صدام حسين في اطار ما يطلقون عليه بسياسة التعريب التي استخدمها لاخراج الاكراد من المناطق الغنية بالنفط. ويقول الاكراد بان لهم حقوقا تاريخية في مدينة كركوك. وتطالب الحكومة الاقليمية الكردية باجراء استفتاء لتقرير مستقبل المدينة والحقول النفطية المحيطة بها، والتي تقع خارج كردستان. ولكن فكرة بان المدينة يمكن ان تدمج الى اقليم كردستان الكبير ترفض بشكل حاد من قبل العرب والتركمان العراقيين، الذين لايريدون التنازل عن السيطرة عن المدينة ونفطها للاقليم الكردي، ويعتقد ان المنطقة تضم نسبة 12 % من الاحتياطات العراقية الموثقة من النفط. ويرفض التركمان الذين يكونون جزءا كبيرا من سكان كركوك امتصاص المدينة من الاقليم الكردي ويطالبون بان يكون للمدينة وضعا خاصا (ربما اقليما مستقلا).
وفي الوقت نفسه فان جيران العراق يراقبون بنظرة مصلحية قاطعة، فاذا امتصت الحكومة الاقليمية الكردية كركوك، فان ذلك سيقوي موقف الاكراد ويكون له تأثيره على اكراد تركيا وسورية وايران. وتعتبر تركيا نفسها حامية حقوق التركمان في كركوك، وتتخوف ايضا بان كردستان يمكن ان تستخدم نفط كركوك للمضي باستقلال الاكراد في المستقبل –وهو شيء معترض عليه بما يحمله من مضامين – بالنسبة لحركات الاكراد الانفصاليين. ولكن هل سيكون هناك نزاع حقيقي حول كركوك، فان ذلك يبدو الان اقل تأكيدا، حتى لو استطاعت كردستان ان تعتمد على دعم واشنطن باعتبارها سابقا الحليف الوثيق.
ووسط هذه المخاطر يحذر العرب والتركمان في كركوك من مخاطر الانفصال، وكان آخرها التحذيرات التي أطلقتها منظمة "جماهير التركمان في العراق" من مغبة الاستجابة لمطالب الأكراد التي تهدف إلى تمزيق التراب العراقي على حد وصف هذه المنظمة. كما رفض الأعضاء العرب والتركمان بمجلس كركوك أيضا مثل هذه المطالب الانفصالية باعتبار أن لها تأثيرات مدمرة على بناء الدولة العراقية خلال المرحلة المقبلة، وغير مستبعد أن يؤدي إلى حرب وفتنة داخلية عراقية. بيد أن هذا لم يمنع القوى السياسية العراقية من التعبير عن احترامها لفدرالية إقليم كردستان العراق كسبيل لتدعيم أواصر الوحدة الوطنية العراقية. إن نسبة كبيرة من أهالي كركوك مازالت تشعر بالتخوف من الأحصاء والأستفتاء المنتظر، إنطلاقا من تجربتي الأنتخابات والأستفتاء السابقتين، حيث يشعر العرب والتركمان أن القوى المسيطرة ستعاود ممارسة نفس الأسلوب الذي أتبعته سابقا للوصول الى أهدافها وتحقيق غايتها بحيث أن نتيجة الاستفتاء ستكون من صالح الاكراد بعد أن تم توطين ما يزيد عن نصف مليون من الكرد.
معظم العراقيين متفقون على أن "كركوك" مدينة عراقية، يعيش ويتعايش فيها جميع مكونات الشعب العراقي من مختلف قومياته وطوائفه ومعتقداته ومذاهبه، ولا يحق لأحد مهما كان الثمن والمبرر، إستئصالها من جسد العراق. وفي الوقت الذي لايمكن إنكار أن نسبة من كرد كركوك تعرضوا للتهجير في وقت سابق من القرن الماضي لدواع سياسية، إلا أن الواقع الحالي يؤكد أنه يجري هناك تغيير متعمد ومقصود للتركيبة الديمغرافية لمدينة كركوك منذ 9/4/2003 حيث تم جلب الآلاف من العوائل الكردية من مختلف محافظات شمال العراق، بل وتعداه إلى السماح بجلب كرد من إيران وتركيا وسوريا، وإسكانهم في كركوك، وتقدر بعض المصادر الكركوكلية عدد الاكراد المستقدمين بحدود نصف مليون كردي معظمهم لا ينتسبون لهذه المدينة، ويبدو أن الهدف هو اسكان أكبر عدد ممكن من الاكراد في كركوك استعدادا للاستفتاء المزمع عقده وفق المادة 140 من الدستور الذي تم (تمريره!) في إستفتاء 2005، على إجراء إحصاء سكاني في كركوك يتبعه استفتاء حول مصيرها بنهاية العام الحالي، ووسط تفرد الأحزاب الكردية بتسيير الأمور في كركوك وعزل شامل للتركمان وتهجير للعرب بذريعة إعادة التوازن وتصحيح الأوضاع، يخشى أن يؤدي الأستفتاء المزمع، في ظل عمليات التغيير الديمغرافي المقصود إلى إندلاع أعمال عنف أهلية تنذر بإتساع حرب أهلية في المنطقة. ويرفض العراقيون أي نوع من الانفصال الجغرافي والسياسي في كركوك، وكثيرا ما قوبل مطلب الانفصال بالرفض الشعبي والرسمي، ليس لكونه يشكل خلخلة لتراب الوطن العراقي وتركيبته الشعبية فحسب، ولكن لأنه أيضا يشكل استغلالا لواقع سياسي جديد نشأ بعد سقوط العراق في براثن الاحتلال الأجنبي. وليس أدل على ذلك من رفض عرب وتركمان كركوك أنفسهم لأي محاولة للانسلاخ عن التراب العراقي، واندلاع المظاهرات مؤخرا للتعبير عن هذا الرفض المطلق للانضمام إلى إقليم كردستان. ولا جدال في خطورة الدعوة إلى مثل هذا الانفصال على العراق خصوصا في الفترة الحالية، فالانفصال يعني أولا فتح الباب أمام كومة النار العرقية والطائفية والإثنية والدينية التي قد تحرق الشعب العراقي بأكمله، خاصة في ظل عدم وجود حكومة مركزية قوية حتى الآن. وثانيا يدفع الانفصال نحو تقسيم الوطن العراقي بشكل عنيف وتقطيع أوصاله بغية الحصول على مكاسب ذاتية بغض النظر عن الكيان الذي يجمع أوصال اللُحمة العراقية. وثالثا يقلل من قدرة العراقيين على حماية أنفسهم ويدفع نحو المزيد من التدخل الأجنبي بين الفينة والأخرى.
عراقيا تعتبر كركوك مدينة عراقية بكل مقاييس العرف والتاريخ وعلم الآثار، ووجود أكراد أو تركمان في هذه المدينة، بغض النظر عن حجمهم أو عددهم، لا يلغي عراقيتها وتاريخها. ودون الخوض في جدلية مدى أحقية الأكراد في تكوين دولة لهم من عدمه، تبقى الحقيقة الظاهرة أن العراق قد استطاع على مدار قرون عديدة أن يشكل بوتقة صهر لجميع مفرداته العرقية والإثنية والدينية، ما يعني أن مطالبة البعض بانفصال كركوك أمر مبالغ فيه ويكتسي بطابع سياسي أكثر من كونه مرتبطا بحقوق جيوسياسية تاريخية في هذا الإقليم. وتشير الدلائل إلى دوافع عديدة تقف خلف مطالب الانفصال الكردية تتعدى مجرد المطالبة بالحق التاريخي في كركوك، فأولا هناك الثروة النفطية الهائلة التي تغري كل طامع للحصول على دور في مستقبل الخريطة النفطية العالمية وليس في العراق فحسب وذلك من خلال الحصول عليها، ودائما ما رغب الأكراد في الحصول على حصة من عائدات النفط تتناسب وعددهم من مجمل عدد العراقيين. بل ويأمل الأكراد في أن ترتفع حصتهم من عائدات النفط من 13% يحصلون عليها الآن إلى 25% أو أكثر. وثانيا تشكل كركوك موقعا إستراتيجيا هاما يغري كل طامع في لعب دور إقليمي مؤثر في سياسات القوى الإقليمية الكبرى مثل سوريا وتركيا وإيران، ولا يمكن إغفال جانب الدور الإسرائيلي في الأنحياز لجانب الكرد بحكم العلاقات التاريخية التي تربط إسرائيل مع الحزبين الكرديين، وضغوطات اللوبي الصهيوني على الادارة الامريكية.
وبشأن تقرير مصير مدينة كركوك يجب أن يكون واضحا أن تقرير مصير مدينة داخل دولة يجب أن يقرره الشعب بأكمله، بمعنى أخر أن مصير مدينة كركوك يجب أن يحدده جميع العراقيين بمشاركة المحافظات الثماني عشر، فكركوك ليست ملكا لقومية أو طائفة محددة، لكي يصوتوا عليها ويحددوا مصيرها لوحدهم فهي مدينة عراقية ويعتمد عليها الاقتصاد العراقي والعالمي ويجب أن يصوت عليها جميع العراقيين . إن كل القوى السياسية العراقية، على إختلافها، أمامها فرصة تاريخية لضرب مثل للتعايش العراقي متمثلا بالتعايش في مدينة كركوك، فالمدينة تتشكل فيها كل ألوان الطيف العراقي، ويكمن في باطنها ومحيطها ما يقدر بـ7% من احتياطي البترول في العالم، بقيت شاهدة على معاناة العراق كله، وآن لها أن تودع تلك المرحلة وتقضي على آثارها بإعلانها مدينة عراقية صميمة لجميع العراقيين، على أن يأخذ هذا الإعلان في الاعتبار حقوق من هجروا قسرا، وأن يحفظ للمقيم فيها حق البقاء بعد ان هجر إليها أبواه قسرا أيضا. إن مدينة كركوك واحدة من أصعب الاختبارات التي يواجهها العراق الجديد، والفشل في امتحان كركوك ـ لا سمح الله ـ قد يكون نذير شؤم يؤشر على عشعشة عقلية المحاصصة والتطهير ويدل على أنها ليست عقلية من مخلفات الماضي، بل إنها عدوى انتقلت لبعض القيادات العراقية الحالية. وإن النجاح في كركوك وتأكيد عراقيتها للجميع سيعني حتما تباشير التعايش الجديدة التي يستحقها أطفال العراق.
كركوك بين الابتزاز الكردي واصرار العراقيين على عراقيتها بقلم:معروف الكرخي
تاريخ النشر : 2008-07-11