حشرجات رجل حالم في ليلِ صيفٍ قائظ..!!
بقلم: آصف قزموز
5/7/2008
ظلّ أبو مقهور المنصوري صديق الجن، بعد أن عزّت صداقة الإنس فقير الحال، كثير العقل، قليل المال. يجلس كل يوم على قارعة الطريق يتأمل المارة جيئة وذهاباً، يفكر في غدِه وقوت يومه. يسدد ناظريه شطر السماء فيراها بعيدة لكنها صافية، تعكس في لونها وجه البحر الفسيح في الزمن الكسيح، ثم يعود بناظريه ثانية الى الأرض، فيتأملها هي الأخرى، ويتفكّر في دنياها، فيسرح بعيداً، حتى يخال له ان الأرض قد تركت وراءها كل الناس واختارته وحده من دون البشر لتدور عليه وحوله مخالفةً قانونها ونظام سيرها الأول. وفجأة يظهر صديقه الجني ويجلس الى جانبه مداعباً ثم يسأله: شايفك منكد ومش مرتاح ايها الصديق، من ايش كفا الله الشرّ، في إشي جديد عندك ولاّ الخوازيق اياها اللي بالي بالك؟!
ابو مقهور: انت بتعرف اسباب نكدي يا صديقي، لا ليش سؤالك هذا اللي بيوجع القلب، هو أنا ناقصكْ؟! الجن: طيب يا سيدي حقك عليّ، هل تسمح لي ان انال شرف مساعدتك؟
ابو مقهور: اتفضل يا سيدي، ايدي بحزامك هو عمل الخير بدو سؤال. مانتي شايف حالي بوقف القرد على ذيلُه.
الجن: إذاً، إسمعني جيداً واعمل اللي بقول لك عليه. أنا راح أحوّل نفسي بحيث اظهر بصورة حصان جميل اصيل مزركش ومدندش ومالو مثيل - بتروح بتبيعني في السوق وبتكسب من وراي فلوس بتحل فيها مشكلتك ومشكلة كل واحد بتشدّد لك كمان، بعدين يا حفيظ السلامة انا بدبر حالي وبرجع مثل ما كنت وقت ما بدّي. اتفقنا؟
تحوّل الجن الى حصان أصيل يبهر الناظرين ويبعث الغصة في حلوق الحاسدين والمتآمرين من محاصصين ومتكسبين، ثم أمر الرجل بالركوب على ظهره وتوجها صوب المدينة يطويان الأرض طيا. وما ان ظهر الحصان في سوق المدينة حتى تحلّق الناس يتزاحمون حوله، وأخذوا يسومونه طلباً لشرائه بعد أن دخل المزاد من أوسع أبوابه، حتى باعه لرجل ثري بمبلغ لم يحلم أبو مقهور في حياته أنه سيتحصل عليه، حتى ولو منّ الله عليه بعمر آخر.
عاد الرجل الثري ممتطياً صَهوة جواده الأصيل وهو يطير فرحاً حدّ الغرور بهذا المكسب النادر غير المحلوم به. دخل حديقة البيت التي كانت تعج بأصوات العصافير الجميلة وهي تغرّد متنقلة بين الاشجار وأصناف الورود من زهور ورياحين تنتشر في أرجاء الحديقة، التي كانت تستقبل الزائر الجديد الذي حطّ رحاله للتو بصحبة صاحب البيت الذي توجّه به فوراً صوب مزراب المنزل النازل من سطح البيت، ممتداً على طول الجدار من السقف حتى شفير الأرض، حيث ربط به الحصان ودخل فأحضر فنجاناً من القهوة، ثم جلس يشربهُ مزهواً ومستمتعاً بمنظر الحصان الجميل، بقوامه الرشيق، وكأنما يحسد نفسه على هذا الكنز الثمين، الذي لم يقدر على امتلاكه أحد سواه، وبينما هو على هذه الحال نظر فجأة، وإذا بالحصان يقلب فأراً يدخل من فوهة المزراب ويصعد حتى السطح، ثم يعود ثانية الى الأرض صعوداً وهبوطاً طالع نازل أمام ناظري الرجل الذي تملكته الدهشة والرهبة معاً.
وبينما كان الرجل في دهشته يسائل نفسه؛ ما اذا كان الذي يراه حقيقه أم خيالاً، أم ضربة شمس أدت به الى رؤية ما رأى. واذا بجارٍِِ له يدق الباب، فخرج اليه مرحباً ودعاه لتناول القهوة معه في الحديقة، فوجد الفأر يعود مرّةً أخرى ويقلب حصاناً. الجار: (بحسد وغيرة) شايفك مش على بعضك، مالك يا زلمة، اللي عندو حصان مثل هالحصان اللي عندك لازم يظل فرحان ومبسوط وعمرو ما يشوف الزعل ولا يقرب منه، وانا والله مبسوط لك وفرحان لفرحك من كل قلبي، وجاي لعندك مخصوص عشان أهنّيك.
الرجل: بدّي أصارحك يا جار وما في عليك مخبّا، هذا الحصان اللي شايفه أقسم لك بالله العلي الأعلى قُدّام عيني هذول اللي بدو يوكلهن الدود، قلب فار وصار يطلع وينزل جوا المزراب وأنا بتفرّج عليه. الجار: سلامة عكلك كنك انجنيت يا رجّال هذا حصان يا زلمة مالك، الله اكبر، عن جد بتحكي؟! (أستغفر الله العظيم انجن الزلمة!!).
ولما رأى ما رأى وسمع من صاحب الحصان ما سمع، خرج الجار مستأذناً الى الشارع واخذ ينشر الخبر، بين أهل البلد كما النار في الهشيم إنّو الزلمة مجنون وبيقول كلام ما بيصدقو عاقل، ولمّا حضر أهل الرجل وأقاربه للتأكد من صحة الخبر، وسمعوا منه نفس الكلام في أمر الحصان، اقتنعوا هم أيضاً بأنه مجنون، فقرروا إرساله الى مستشفى المجانين. وفي اليوم الثاني من دخوله مستشفى المجانين لاحظ مدير المستشفى ان الرجل يقرأ الجريدة ولا توحي تصرفاته وسلوكه أنه مجنون، فاقترب منه وتعرف عليه، سأله، قائلاً: انت رجل عاقل وما شا الله عليك ومش باين عليك انك مجنون احكيلي شو قصتك، شواللي صار معك بلكي اقدر أساعدك. (روى له قصة الحصان وما حدث معه بتفاصيل مُملَّة أحدثت في الصدر غِلّه).
قال المدير: لقد اقتنعت يا سيدي إنك رجل عاقل، ومشكلتك إنو هذول الناس اللي قالوا عنك مجنون حاسدينك لأنك أغنى منهم وناجح أكثر منهم. على كل حال راح تيجي هاليومين لجنة من الوزارة وبدي اياك تقول الهم انك انت مجرد مزحة مزحتها مع جارك ولهذا السبب قالوا عنك مجنون، وأنا من جانبي سأشهد معاك (وفعلاً قدمت إدارة المستشفى تقريراً عن حالته بأنها جيدة وطبيعية وشهد معه المدير بذلك، فقررت اللجنة الافراج عنه وعاد الى بيته سالماً).
دخل الرجل الى البيت، وما إن همّ بالجلوس على الكرسي قبالة الحصان حاملاً فنجان القهوة، واذا بالحصان يعود ويقلب فأراً من جديد.
فاقترب الرجل من الحصان وهمس بأذنه مخاطباً: اسمع تا أقول لك، أنا عارفك وشايفك ومتأكد منك، بس إذا حكيت الحقيقة راح يقولوا عني مجنون، وانت بدّك إيّاني أحكي. روح الله لا يردك ولا يردهم، عليّ الطلاق ما بحكي.....
فعندما تلتقي مصالح الأفراد الخاصة وتتآلف على المصالح العامة، فإن في نتاج ذلك من السوء ما يفوق سوأة التلاقي ما بين مصالح الحكام ومصالح الدول، خصوصاً عندما تكون من وعلى حساب دولٍ وشعوبٍ أخرى دون وجه حق، فكلما ضاقت هذه المصالح وتلاقت مع بعضها سيسهل عليها ليّ عنق الحقيقة وتطويعها وكسر أنف العقل والمنطق ليخروا جميعاً تحت اقدامها ساجدينا. عندها ستقول "هنيئاً" لمَن برعوا بالأمس في صمّ آذاننا وهم يتلون مزامير المقاومة وفتاويها فوق رؤوسنا ويتنكرون لها اليوم، و"سلام"عليهم حين ثاروا وحين هدأوا وحين اعتبروا الهدنة مساساً بها وبالمصالح العليا لشعب فلسطين وأن مَن يسعى لها خائن ملعون إلى يوم الدين، فيزدانوا بالسياط لحفظ أمنها وهم يمتطون صهوتها اليوم، ليروّضوها ويطاردوا بها ذات المقاومة وطنية الأمس خائنة اليوم، بذات الذرائع والأسباب. و"هنيئاً" لمَن برعوا في جعل الأمس حليل اليوم، فهدموا الجُدُر الفاصلة ما بين حلالهم بالأمس وحرامنا اليوم، حتى تخوم (حواجز) الصد الفاصلة ما بين حدود الخيانة والوطنية.
فكم أنت غريب أيها الانسان، حين تغيب دهراً وتنطق كفراً، لتصنع "نصراً"، وأيّ نصرٍ تَصنْع؟! أَعَلى ذاتك أم على المعبد الذي تُنكِره ويُنكِركْ؟! فبعد "النصر"ستُضرَب ضرْب غرائب الإبل، وتُرمَى رميةَ الكلابْ!! لذا، لا غرابة في أن يتساوى الطلاح والصلاح فيكافأ المسيء ويعاقب المصيب ويكرم الجاهل رغم أنف العالم وتنهار الفوارق الدالة على مقولة فوق كل ذي علم عليم لتطل الجهالة من عليائها الزائف فتفقأ عين الحقيقة وتبعزها بعزاً في وضح النهار، دون ان تنبس الضمائر، المستترة والحاضرة، ببنت شفة ليستحيل الانسان شيطاناً أخرس وداعياً للجهالة والتجهيل، من حيث يدري أو لا يدري. وفي هذا، أيضاً، من السوء والأذى، ما يفوق فعلة مَن يجتاح البيت فيكسر قنديله، وزهور الياسمين والزنابق، قتيلة تتمزق أشلاء تحت ناب غول النصب والجشع وأسنان الديماغوجيا وحُبِّ الأنا الضالة، وتأكل النار تلك الخميلة والضفيرة الجميلة الهائمة ما بين الضد والاضداد ودروب الشتات والمنافي وكيانيتنا المتمزقة بين غزة والجدار، بعد كل الذي جرى وصار، لتنقلب الحقيقة وتمشي على رأسها، صانعة شارة "النصر" بفخذيها، بعد أن عرّوها ليُلبِسوها ثوباً شفّافاً، صوناً للعرض فيزيدها في العري عرياً.
حين تشرئب الأنا البغيضة لتهرس تحت جنازيرها، وبلا هوادة، قِيماً ومُثُلاً واصدقاء صنعوا بالعلم يوماً من الأطفال اليتم رجالاً أشدّاء جعلوا من الحقيقة مرآة للظلاميين، ومن الغرس الضعيف أشجاراً باسقة وارفة الظلال وفائقة الجمال، ليستحيل الحِمى مأتماً يلهو فيه الوليد فرِحاً بعزاء أبيه، بعدما عزّ الوفاء والدواء، بعد انتشار الدّاء، وتساوت النقائض حتى طالت الأرضْ والسماءْ.
حين يمتطي المرء لسانهْ، الذي غاب عن دور حصانهْ. وحمار أعرج بات يقوم مقامهْ. أو يستلّه سيفاً ويحترف به براعة فارغ القول وحيوانية الانسان في الصول والجولْ في وجه أخيه، في زمن أصبح لسان الحال؛ مقولة اللا احسان جزاء الاحسان، وهو سيد الاحكام.. فلا فرق، إذاً، حين يُكرم المرء أو يهان.!!
هي سخريات القدر في النّزْع الأخير من هزيع الليل، حين يضيئونا بالفارغات من السنابلْ، واختفاء الحلم البعيد خلف السراب بالهدم تنشده المعاولْ. أعمى يقود بصيراً نحن نعرفه ندّاً جسوراً، يواريه الظلم والظلام، ونعلم، أيضاً، أنّ الليل زائلْ. والنسر في كبد السماء في عيد النهار تشاغله الغربان، فتهبشه القَطا بلا منازل، وطفل يلقمه الحَصا بلا وجل من غير طائلْ، والدمية في وضح النهار تُخْطَفُ من أيادي اليُتَّمِ، فتحار فيك الدلائل وتضيع الأمور وتختلط المسائلْ. وكم من سابحٍ في زحمة النوابح يغدو مطية لجاهل متعاقلْ.
هي خيبة الزّمان في عصر الختان، وائتلاف النقائض، حين تعوَّم مقولات"منك وإليكْ" و"العالم بين يديكْ"، وتساق الامور على عواهنها لتصبح روابط الناس"صُبْ عليّ تصُب عليكْ"، تتشظى الكلمات والأمكنة وكيانية الأشياء، وتتبعثر المتراكمات عبر السنين بفسيفسائيتها، بانتظار العودة لتبدأ المسيرة من جديد نحو الآفاق القريبة الهاربة بعيداً من أمامنا، بعدما دمدم الدهر على المؤمنين والمخلصين، سوط عذابْ، يهدم فوق رؤوسهم جدران البيت والمعبد والمحرابْ.
لكن الذئب الذي لاق بنفسه ولم يَلِقْ بالآخرين، سيُقْعِي في الدَّوْ بعد ليل عواءٍ طويل وحَمَام هادلٍ بالعويلْ، ليُدَوِّي ملء فضاءات الفيافي المقفرة، وعين الحقيقة المبصرة، ويعترف بأنّ الدهر يومان، وأنّ مَن شهد الحصان قد يجعل اليوم دهرين، ويقول: بلادي، أما آن الأوان كي نتصالح مع ذاتنا ولو مرّة؟! أنا منكِ، كلّي إليكِ، سأظلّ دوماً حافياً أو عارياً أمشي إليكِ.
[email protected]
حشرجات رجل حالم في ليل صيف قائظ بقلم:آصف قزموز
تاريخ النشر : 2008-07-05
