واقعة الجرافة الفلسطينية ورمزية البلدوزر الإسرائيلي بقلم : محمدعبدالرحمن
تاريخ النشر : 2008-07-04
ذكرتني الجرافة التي امتطاها مقدسي فلسطيني قبل أن يدهم بها ما تيسرت أمامه من مركبات إسرائيلية بالبلدوزر إرييل شارون ، فقد كان هذا الأخير إختصاص تدمير وبـه كبلدوزر عظيم لطالما جرف الإحتلال الإسرائيلى الأراضي والبيارات والبيوت الفلسطينية ليقيم على ركامها مستوطنات الباطل .
مجتمع العسكرة الإسرائيلي يفرد للبلدوزر شارون عرشاً ملوكياً توراتياً في ذاكرة التمجيد والتخليد ، فهو يرى فيه رمزاً من أعظم رموز المسيرة الصهيونية على الإطلاق . وللحق فإن البلدوزر شارون يجسد الأمثولة الصهيونية لإعتبارات عديدة لعل أهمها يكمن في الجانب الوحشي من شخصيته ، فهو كائن بلطجي ذو قلب ميت على أعداءه وقد اجتمعت فيه على نحو خارق كل مقومات القسوة الهمجية ضد كل من يعتقده عائقاً أمام تثبيت دعائم (دولة الرب) .
لم يكن في قاموس البلدوزر شارون في تعامله مع أعداءه الذين يتقدمهم بالطبع الشعب الفلسطيني أي من مفردات الرحمة ، ولهذا فقد كانت كل فعالياته الحربية تتسم بطابع التدمير الشامل ، وفي حين كانت الدنيا بسليقتها الإنسانية التقليدية تقرأ فعاليات البلدوزر شارون التدميرية على حقيقتها كمحض مجازر دموية كان مجتمع العسكرة الإسرائيلي يؤرخها كبطولات توراتية ويعممها على عقول التلاميذ الصغار كقيم صهيونية أخلاقية مثالية ويؤرشفها كدروس ومراجع حربية نموذجية في مكتبات الأكاديميين الكبار .
وفي تقييمي لأداء شخصية صهيونية قيادية بمستوى شارون لا أعترف بأي رأي يخالف وجهة النظر التجريدية القائلة بأنّ البلدوزر شارون يغري المخيلة الجمعية على الأخذ به كنموذج قياسي (وطني) ملهم للصراع في الصراع خصوصاً على شاكلة الصراع الفسطيني ـ الإسرائيلي ذي الطابع الوجودي ، فنحن حين نعلم أنّ منظومة القيم والأخلاق الجامعة المانعة على الجانب الإسرائيلي تقدس شخصية ومسلكية وأداء وتعاليم زعيم روحي مثقل حتى بالرموز الدينية كشارون سيكون من المستحيل علينا الإعتقاد بأن هذه المنظومة يمكن أن تتقبل على سبيل المثال تعاليم سلمية نقيضة كتعاليم المهاتما غاندي ، ذلك ببساطة لأنّ مجتمع العسكرة الأسرائيلي قد نشأ وانفطر وترعرع وشب وكبر وعاش ويعتاش على المبدأ الإلغائي الإطلاقي (نحن لاهم على هذه الأرض) وليس الإحتمالي النسبي ( نحن أوهم على هذه الأض) فيما لا يجد الشعار الوسطي ( نحن وهم على هذه الأرض ) مكاناً حقيقياً في أعماق الوعي الإسرائيلي سوى في مخيلة نفر من الشعراء والمثقفين اللاصهاينة وبعض المنبوذين المنتمين إلى حركات السلام الإسرائيلية بينما تكتيكياً براغماتياً فيجد هذا الشعار حظوظه في عقلية المساومين السياسيين الفهلويين ممن ورثوا مهاراتهم التفاوضية التعجيزية عن أجدادهم الذين كاد (الرب) نفسه أن يكفر بنفسه من فرط ما حيـّروه بأكثر من قصة روتها ذات مثيولوجياتهم على ألسنة ذات كهنتهم !.
والفرق بين الـ (نحن لا هم) و ( نحن أو هم ) جلي وصارخ ، إذ أن الـ (لا ) الإسرائيلية هنا ناهية نافية إقصائية إجتثاثية بالقطع في حين تنطوي الـ ( أو) على ما يترفع عنه العقل الإسرائيلي من القبول بإحتماليتي الربح أو الخسارة في ظل رعاية وشفاعة وانتصار (الرب) لشعبه المختار !. وبرهان ما تقدم أكثر من أن يحصى ، ولعل في الخاتمة التراجيدية التي آل إليها الزعيم الإسرائيلي إسحاق رابين ما يفيد بما تقدم ، فعندما رأى العقل الإسرائيلي في مسلكية رابين (السلمية) ما اعتبره تخطياً للخطوط الحمراء (التوراتية) الخرافية قبل الصهيونية الآيديولوجية إستل دون تردد سيف (الجنون الجماعي) وغمده في قلب رابين كتعبير كثيف الدلالة عن الموقف الإسرائيلي (الوطني) ـ المثيولوجي من (الخيانة العظمى) مع أنّ ما ذهب إليه رابين (سلمياً) بالكاد يصل إلى حد الإقرار بما هو قائم أصلا من وجود الآخر (الفلسطيني). وهكذا فمقارنة بين شارون ورابين في الذاكرة الجمعية الإسرائيلية قد يجد الثاني مكانه في خانة الأسـى بينما لن يتزحزح الأول على عرش المجد الخالد ! .
أريد مما أسلفته أن أصل إلى الأهمية القصوى لوجود الرموز والتابوات (الوطنية المقدسة ) في حياة الشعوب والمجتمعات خصوصاً لجهة الصراع على البقاء ، وبغض النظر عن عدالة أو لا عدالة هذه الرموز وبعيداً عن جدليتها الإخلاقية فإنّ مجتمعاً بدونها لن يكون بأي حال أكثر حصانة من مجتمع يحتفظ بها ويحافظ عليها ويحميها من التحطيم والإندثار . وهنا ، وعربياً عموماً لا فلسطينياٌ حصراٌ، فللأسف الشديد بل المفزع والمفجع أن نرى إلى تهاوي رموزنا القومية والوطنية على أيدينا قبل أيدي أعدائنا ممن يوغلون في دماءنا ، وبدون الخوض في الأسماء والأعلام العربية البارزة من هذا القبيل الرمزي فإنّ أي منها لم يسـلم من فـؤوسنا التدميرية لننتهي إلى شعوب هائمة ضالة بلا نجوم تهديها إلى سواء السبيل ، فلا أبقينا على بوصلة قومية عربية ولاعلى دليل وطني قطري ولا حتى على مشترك إسلامي لكننا ركضنا وراء رؤوس الفتنة الطائفية والمذهبية في منحى إنحداري انتحاري مهد له كفرنا برموزنا العليا الجامعة .
أكاد أحسد مجتمع العسكرة الإسرائيلي على توحده خلف بلدوزره الإلهامي شارون .
[email protected]