والله وسًلامات يا اسمنت بقلم:أ. إبراهيم الطهراوي
تاريخ النشر : 2008-07-03
والله وسًلامات يا اسمنت بقلم:أ. إبراهيم الطهراوي


كثير من الصحف الالكترونية والمحطات الفضائية تناولت بالتفصيل نبأ سماح إسرائيل لنقل خمسة شاحنات محملة بالاسمنت إلى قطاع غزة , وعرضت صور لتلك الشاحنات المحملة بالاسمنت , مع وعود إسرائيلية بإدخال شاحنات محملة بالحديد والحصمة خلال الأيام القادمة , هذا إن صدقت إسرائيل وعدها , وبعض هذه المحطات صورت الأمر على أنه أحد أهم إنجازات التهدئة , وعدت بذاكرتي سنوات عدة إلى الخلف لأسترجع مقاطع صور آلاف الجنود من قوات الأمن الوطني الفلسطيني بكامل عتادهم العسكري , وهي تدخل أرض الوطن عبر معبر رفح الحدودي , وجماهير غفيرة بانتظارهم بالورود والرياحين والأعلام الفلسطينية وزغاريد النساء , كأحد أهم الإنجازات السياسية التي حققتها الاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل و م.ت.ف ((هذا طبعاً مع فارق التشبيه بين المنظرين )) فكان منظراً لا يمكن أن تفقده الذاكرة الوطنية الفلسطينية , وكلُ له أبعاده ومضامينه السياسية بما تحمله من معاني على مستوى العمل السياسي الوطني .

ومن خلال بعض المروجين لهذه الحملة الإعلامية الموجهة والمبرمجة (( محطات فضائية أو مواقع الكترونية )) اعتقدت وللوهلة الأولى أني أقف أمام أنجاز تاريخي يجب أن يسجل في سفر النضال الوطني الفلسطيني (( خمس من الشاحنات الضخمة تحمل الاسمنت لقطاع غزة شيء عجيب وغريب )) بالتأكيد نحن لا ننكر بأننا بأمس الحاجة لإدخال مادة الاسمنت ومواد البناء الأخرى والبضائع التي منعت إسرائيل دخولها للقطاع بفعل الحصار , ولكن لا ينبغي تصوير ذلك بأنه إنجاز يجب أن ينحني الجميع إجلالاً وإكباراً له .

ويجب أن نعترف بحقيقة مرة , أنه لا ينبغي أن يكون ثمرة صمود أهلنا في غزة نظيره عدة شاحنات محملة بالبضائع , فهذا الصمود الأسطوري من قبل الجماهير الصابرة المرابطة المحتسبة , يجب أن ينتج قضايا جوهرية لها بعد وطني , تعيد للشعب عزته وكرامته , لا أن يكون الثمن عدد من الشاحنات المحملة بالبضائع , فتقزيم المسألة بهذا الشكل حتى في ظل ضغط الحاجة هو درب من دروب الانتحار والاندحار السياسي , إلا إذا كنا نعتبر أن فتح معبر من المعابر يضاهي في ثقله السياسي حق العودة أو القدس وما شابه .

ولو عدنا قليلاً إلى الوراء لإجراء مقارنة بين الأمس واليوم ... وبرغم اعترافنا بأن المفاوضات لم تحقق الكثير مما كنا نطمح إليه على المستوى الوطني ... لوجدنا أنه على الأقل كان سقف مطالبنا الوطنية أعلى بكثير من فتح معبر أو كيس من الاسمنت , أو شاحنة من البطيخ , بل تراوح سقف المطالب ما بين الدولة والحدود والقدس واللاجئين والمياه والمستوطنات , وهنا نستهجن الانخفاض المدوي لسقف المطالب حتى هذه اللحظة , فالعدو مهما شدد علينا الحصار فإنه مرغم على إدخال ما يمنع حدوث كارثة إنسانية في القطاع , فالمأكولات والبضائع صحيح أنها لا تكاد تفي بالاحتياجات الأساسية للمواطنين , ولكنها في نفس الوقت ستكون متوفرة إلى حد ما فيما لو وزعت توزيع عادل , ورفع تجار السوق السوداء أيديهم عنها .
وحاولت مع نشوة الحدث والانتصار أن أتذكر الثوابت الفلسطينية التي ما عدنا نسمع عنها كثيراً في إعلامنا المحلي الغزي , والتي كدت أن أنساها ومعي الكثيرين في زحمة الأحداث والمناكفات , فوجدت أن الدولة والقدس واللاجئين والحدود والمياه أصبحت أسماءً غير معرفة لحظياً , وأنها ممنوعة من الصرف في بعض وسائل الإعلام التي انبرت بتأجيج نار الفتنة , وقد تصبح هذه الثوابت إذا استمر الوضع على ما هو عليه من فرقة وانقسام يوماً ما في خبر كان ...

وعودة للخبر الهام والمهم الذي أشغل قلوب وعقول الكثيرين ممن يتابعون أخبار المعابر , وينتظرون على أحر من الجمر أن تصدق إسرائيل وعدها الاسمنتي , لما لهذا الصدق من دلالات بعضها سياسية (( تتمثل في استمرار التهدئة ودخولها لمرحلة جديدة )) وبعضها الآخر نفعية محضة تخص أصحاب الاحتياج , وقلنا بأن لو سلمنا جدلاً بأن هذا هو واقع الحال الذي ينبغي لنا التعايش معه بإرادتنا أو دونها , فخمس شاحنات من الاسمنت يومياً يمكن أن تكنً كافيات لبناء جزء مما دمره الاحتلال من بيوت ومصانع وورش إن تم توزيعها في إطار العدل والمساواة على هؤلاء المتضررين , وصولاً لإنجاز ما توقف من إنشاءات بفعل الحصار (( كما يقولون اللقمة الهنية بتكفي مية )) فزيادة الكمية بالتراكم كما هو واضح مرهون باستمرار فتح المعابر في مقابل وقف الصواريخ وأعمال المقاومة ضد الاحتلال , ونحن هنا بالمناسبة ضد إطلاق " صواريخ الضرار " (( عًمال على بًطال )) إذا كانت هناك مصلحة وطنية عليا بالفعل , فالعمل المقاوم يجب أن ينسجم مع العمل السياسي , وأن يصب في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني , بما يحمله من أهداف وطنية سامية , ونحن ندرك تماماً بأن كل شيء في عالم السياسة وبلطجة القوة له ثمن , ولكن لا ينبغي أن يكون هذا الثمن بخساً إلى هذا الحد .

والأمر المحزن في ما وصلنا إليه أننا أصبحنا نستجدي ما يجود به العدو علينا من بضائع وخدمات , يتحكم هو في نوعها وكميتها ولا نبالغ القول أنه يتحكم أيضاً في جودتها , فما يتم إدخاله ومن خلال قراءتنا لنهج العدو في التعامل والتلكوء في تنفيذ التزاماته , وإغلاقه المتعمد والمتكرر للمعابر , وحسب إحصائيات اللجنة الشعبية لمكافحة الحصار ما يتم إدخاله لا يتعدى ما كانت تسمح إسرائيل بإدخاله قبل دخول التهدئة إلى حيز التنفيذ , اللهم إذا ما استثنينا شاحنات الاسمنت الخمس .
وما يبعث على الحسرة والألم أننا حتى اللحظة لا زلنا نخادع أنفسنا , ونتمنى على العدو أن يكون أكثر التزاماً بالتهدئة , وكأننا أصبحنا فجأة لا نميز بين الحقيقة وبين الطموح والآمال , فالمراهنة كثيراً على أعداءنا لن تجدي نفعاً , ولا يفوتني القول بأن هناك دعوات كثيرة سابقة صدرت عن سياسيين وكتاب كانت تطالب بتحييد المعابر من دائرة الصراع , وعدم إعطاء الذرائع والحجج للإسرائيليين لإغلاقها , لأنها بالأساس هي المتنفس الوحيد لنا في قطاع غزة , ولكن وبكل أسف ذهبت هذه الدعوات أداج الرياح بفعل الحزبية المقيتة , وكأن لسان حال البعض يقول (( تخرب على يدي ولا تعمر على يد غيري )) , وأصبحنا نبكي على أطلال هذه الاتفاقيات ونتمنى لو أن التاريخ يعود قليلاً للخلف , ونحن لا نتجنى على أحد فما كان مرفوض بالأمس أصبح مقبولاً اليوم , ولعل في المثل القائل (( أن تصحو متأخراً خير من ألا تصحو أبدا )) عبرة لمن أراد أن يعتبر .