مرتكزات وجودنا بين التطبيع والتطويع بقلم:حسان نزال
تاريخ النشر : 2008-06-28
مرتكزات وجودنا بين التطبيع والتطويع بقلم:حسان نزال


مرتكزات وجودنا بين التطبيع والتطويع....بقلم:حسان نزال
**************************************
التطبيع من طبع ...ومعناها:صاغ وصوّر وأنشأ ...ومنها الطبْعُ والطبيعة : وهي مجموعة مظاهر الشعور والسلوك المكتسبة والموروثة التي تميز فردا عن آخر...
والسجية الإنسانية تقول إن علاقات البشر تقوم على النفعية ، وعلى تحقيق المصالح المشتركة بتبادلية قد لا تكون نديّة تماما لكنها تحقق مصالح للجميع ، فنحن نحقق مصالحنا بتبادل السلع والخدمات والمعارف . ونحقق مصالح كلية لنا بالمساهمة المادية والمعنوية والخدماتية كل في موقعه باستمرار لتأصيل وضمان عمل النظام المجتمعي الذي ننتمي اليه وضمان تدفق موارده لما فيه ضمان استمرار مصالح الكل .
أما التطويع فمن (طاع ) المنقلبة ألفها عن واو ، فأصلها طوع ...ومعناها انقاد ... وبالتالي يكون التطويع هدفا لقيادة الآخر وتوجيه فكره حيث يريد المطوِّع (بكسر الواو).
واحدة من الرؤى التي برزت أخيرا وخلال الإشكالية التي حدثت بين كتاب دنيا الوطن خلاف مبطن في نفس كل طرف حول هذا التطبيع مع الطرف الآخر ، أي التعايش معه وقبوله بيننا وبالتالي قبول صاحب الفكرة والرضا بنتاج ذلك الفكر.وبالتالي محاورته والانشغال بنقض فكره الذي من تجلياته وجود دولة الكيان وجودا ماديا وامتدادا اقتصاديا وجيشا عسكريا على الأرض وفي السماء ..
استطاعت إسرائيل كقوة تمثل الفكرة الصهيونية وكذراع ممتد يمثل مصالح الغرب في الشرق ويشكل ضمانه لاستمرار تلك المصالح هنا وسيطرته على موارده الهامة لوجوده وتفوقه وتقدمه ، أقول استطاعت أن تفرض وجودها المادي بالقوة العسكرية (احتلت الأرض وشردت سكانها وأقامت ما يلزم من بنى لدولة قوية تسعى لرفاهية أبنائها والحفاظ على تفوقها النوعي .
لكن السؤال الذي يجب أن يخضع للنقاش أكثر والمتعلق بالعنوان الذي نتحدث عنه (هل استطاعت إسرائيل ــ وبعد ستين عاما على قيامهاــ فرض أو تكريس وجودها الثقافي والفكري وضمان مكان لهذا الفكر وتلك الثقافة بين حضارة الشرق وأهله ؟
هل استطاعت إسرائيل أن تلغي شيئا من ثقافتنا التي تشكل تواصلا تاريخيا وعقائديا لأمتنا وديننا ؟ وبالمقابل ..هل استطاعت إسرائيل وبدعم قوى ومنظمات ثقافية غربية قوية ومستعدة للدفع وخسارة الكثير من المال هل استطاعت ان تكرس حتى فكرة القبول بالآخر ؟... عن طريق تسريب ولو من تحت الطاولة فكرة القبول بها كيانا بين كيانات هذا الشرق الذي وإن بدا سياسيا كيانات وأنظمة وأجسام فإنه له من المرتكزات الثقافية والرؤى الحضارية والعقائدية ما يجعله جسما واحدا .
أسئلة للنقاش يلزمها الوقوف على حقائق ومتابعة فعاليات ونشاطات مراكز ، وقوى سعت ومنذ أوسلو تحديدا لتكريس فكرة القبول بالآخر خاصة في إطار ثقافتنا الفلسطينية ويبدو أننا بحاجة للإجابة على السؤال ...كم حققت تلك القوى من أهداف ..وأي تلك الأهداف هو ما تحقق؟
لقد خصصت قوى ومنظمات أجنبية ملايين الدولارات منذ إقامة السلطة الفلسطينية وبالتعاون مع هيئات ووزارات فلسطينية محلية ، وأحيانا بمشاركة مراكز (بحث ) إسرائيلية (مركز بيرس للسلام خاصة ) من أجل الترويج لفكرة القبول بالآخر ، ليس بالمفهوم السياسي وبالتالي بالوسائل السياسية المتاحة ، وإنما بمحاولة الولوج من باب الثقافة ..والأدب ...فقد طبعت عشرات آلاف النسخ من قصص أجنبية مترجمة أو تمت ترجمتها خصيصا ، ومول طباعة منشورات فلسطينية (كتب صحف ودوريات ) جهدت لتحقيق هذا الهدف ، أو الاستفادة من هامش الكرم الممنوح في حينه .
لكننا نكرر السؤال ..كم تحقق من أهداف سعت لها تلك الجهود؟؟
كنت على سبيل المثال كمعلم فلسطيني واحدا ممن شاركوا مدربا ومتدربا في مشروع أدب الأطفال والذي تم تعميمه بدورات طويلة وفعاليات مدروسة على مدارس الوطن ، ومن خلال عشرات القصص التي طبعت بعشرات آلاف لنسخ ( كنت عرفت أن واحدا من أهداف تلك القصص هو تمرير فكرة القبول بالآخر التي تختلف معه وصولا لحالة تصالحية بينكما ) هكذا كان مضمون كل القصص ، فهي لم تخطر عشوائيا لتمثل أدب أطفال حديث بقدر ما هدفت إلى تسريب الفكرة إلى أذهان الطلبة من خلال القص والحكاية مرة على لسان الحيوانات والطيور ومرة على لان الأطفال ومرة من عالم الخيال .....
نعم مارسنا فعاليات .. تدرّبنا ودرّبنا ..... حلــّلنا قصصا... وفي النهاية استفدنا من آليات وتقنيات التعامل مع نصوص الأطفال وحتى تحليلها ، لكن الهدف الآخر لم يتحقق لأنه شتان بين ما يحمله النص من مثالية وما يشهده الواقع من تناقض لهذه المثالية....كثيرا ما رددت أمام زملائي في تلك الدورات أن سرد أحداث وأفكار عشرات القصص في ذهن الطالب الفلسطيني لن تؤثر في ذاكرته أمام ما يشهده من يتم وثكل وتقليع أشجار وحرق زيتون . ..وقمع وقتل ..فصرخة واحدة من صرخات هدى غالية كفيلة بنسف كل ما بذل من جهد (لتسريب أفكار القبول بالآخر من خلال تلك القصص)
إذن فالاستهداف الثقافي فاشل ، ومهما بلغ التطبيع السياسي التي تحكمه موازين القوى العسكرية والسياسية فلن يؤدي إلى تطبيع ثقافي يحكمه الارتداد إلى إرث تاريخي قائم على الحق وعلى عدالة هذه القضية ، من السهولة بمكان أن تقتل الرصاصة طفلا ...لكن كم يحتاج هذا الطفل من الجهود والأموال للقبول بفكرة قبول قاتله ..؟؟!!
أذكر أنني انتدبت وزميل لي عام 2000 أسابيع قليلة قبل اندلاع انتفاضة الأقصى إلى رام الله عن طريق التربية والتعليم للمشاركة في دورة (تطبيعية ) ستشهد نشاطات ومساقات وفعاليات يتخللها تبادل زيارات وتواصل مع معلمين من الطرف الآخر وزيارتهم في مدارسهم وستتوج تلك الدورة بزيارة مشتركة وبرعاية مركز بيرس للسلام بزيارة إلى استنبول ( عاصمة الدولة العثمانية ) !!!!
لم يدم مكوثي وزميلي تلبية لتلك الدعوة لأكثر من ساعة واحدة ، فبمجرد وصولنا إلى أول يد (غير أمينة ) في كورال التطبيع ذاك اكتشفنا كم نحن مستغَلون (بفتح الغين ) وكم هو الجشع سيد تفكيرهم !! وكم هي الدولارات هدفهم ...فقد طُلِب َ منا أن نوقـِّع على نموذج فارغ أجرة المواصلات ( من جنين إلى رام الله) في السيارة التي أقلتنا من المنارة إلى أحد الفنادق الغربية بحجة انشغال السائق بالقيادة ...ودفع لنا خلال ذلك الأجرة التي دفعناها حقيقة ..وبقي النموذج بين يديه موقعا وفارغا ليتم تعبئته فيما بعد بالدولار وبالمبلغ الذي يحدده هؤلاء المنشغلون ( بالهم التطبيعي ) ... أدركت الأمر وقلت لزميلي ونحن نغادر السيارة (أول النهب قطرة)
وجدنا عشرات من المخدوعين والمخدوعات من أمثالنا يتجمعون في قاعة تغص رفوفها بكل أنواع المشروبات المحرمة ..تبادلنا نظرات الاستغراب والاستنكار والامتعاض ...خاصة وقد فوجئنا بوجود معلمات من طولكرم وأريحا وقلقيلية غرر بهن كذلك ...كانت الفعالية الأولى تتضمن محاولة لكسر جليد العزلة والتعارف بين المشاركين ...لكنني وزميلي لم يرق لنا الجو...وتلمسنا معالم الاستغلال في كل حركات وسكنات طاقم الكورال ..وما هي إلا عشرات الدقائق حتى كنا نتأبط حقائبنا ونرحل دون استئذان رغم لحاق المنظمين بنا الى الشارع متعهدين بتنفيذ طلباتنا إن نحن عدنا وتغيير قاعة اللقاء , لكن هيهات أن نعود ....أمر واحد ندمنا عليه هو أننا خرجنا وحيدين تاركين أخوات قد لا يكن لملمن شتات شجاعة لديهن وفعلكن ما فعلنا ...لكننا علمنا فيما بعد أن تلك الدورات انفرط عقدها مع أولى بشائر الانتفاضه ..ولم تكتمل
إذن حتى التطبيع عند المطبعين مشروع استثماري يمكن استغلاله لتحقيق مكاسب مادية ...ومن تابع جهود ونشاطات المطبعين الكبار من سدنة توقيع الاتفاقيات والوثائق مع الإسرائيليين في جنيف ولندن وغيرها وما طرأ على أرصدتهم من تضخم يدرك أنهم أصحاب مشاريع استثمارية بحته يعتقدون أنهم أذكياء ...أو أنهم يريدون استغلال جهود التطبيع للإثراء المادي .
وبعد ...هل استطاعت نماذج التطبيع الثقافي خلق نتائج على الأرض ..وفرض وقائع جديدة ؟؟!1 إن الركائز العسكرية التي اعتمدت عليها في فرض وجودها بيننا أمكن إصابتها في مقتل ولو بعد سلسلة هزائم لحقت بنا وسلبتنا أرضنا لكنها لم تسلنا لا ثقافتنا ولا تمسكنا بحقنا..فهل يمكن أن ينجح التطبيع في فرض ما تعجز آلة الحرب عن فرضه ؟؟!! ثم أليس في نموذج فلسطيني الداخل أسوة تحتذى ...ستون عاما وهم يقارعون زمر التطبيع وعناوين التعايش بينما يشهدون كل خطوة في حياتهم ألوان التمييز العنصري .....هل وصلوا إلى حالة من التطبيع كضحايا مع من خلق لهم مأساة الانسلاخ عن أهلهم وشعبهم وجعلهم لاجئين في أوطانهم وديارهم ...؟؟؟
ثم أين هي ثقافة الآخر التي يمكن أن تخيفنا ما دامت شجرة الزيتون الفلسطينية وطائر الهدهد والثوب الفلسطيني المطرز هي ما يعول عليها الآخر في الترويج لثقافته المزعومة واتخاذ هذه العناصر الفلسطينية شعارات له في المحافل الدولية؟؟ وإذا كان الآخر يثق بعمقه الحضاري ويثق بثقافته وتاريخه ،فهل استطاع تكريس شيء منها عالميا وإقليميا دون فرضها بالقوة ؟!! نحن لا نخاف ثقافة الآخر ...لكننا لسنا بحاجة لها ...لسنا بحاجة للتطبيع (ليس هو حاجة ذاتية لنا ) لذلك لسنا مستعدون لدفع ثمن له ...هم بحاجة لأن يكونوا مقبولين بيننا ..لذلك هم من يجب أن يفكر في دفع الثمن ..هم من يجب أن يخاف لا نحن ، لدينا كامل الطمأنينة على فكرنا وعقيدتنا ومرتكزات حضارتنا ... لسنا قابلين للتطويع ولو بذلت كل جهود التطبيع ....فما من شك أن هدف التطبيع هو التطويع وتسجيل مكاسب سياسية على الأرض بالتالي ..
ولا أعتقد أننا عاجزون عن نفض بعض الغبار الذي قد يعلق بذاكرة أبنائنا وإعادة تلك الذاكرة إلى حالتها البلورية ...ناصعة بيضاء لا غبار عليها ، الأمر بحاجة لبلسم شاف من فيروسات وسائل الإعلام والاتصالات التي تملأ الدنيا ، بحاجة لجهود مستثمرين يستغلون هذه التكنلوجيا لصالح الحفاظ على نقاء تلك الذاكرة.
أمر آخر كان ملفت في نقاشات وتعليقات بعض الزملاء وهو العلاقة بين حرية التعبير والرأي والفكر ، وبين قبول مناقشة كل ما يطرح من آراء وأفكار ، هل لحرية التعبير حدود طبعا في ظل العولمة الحديثة ؟ لا حدود ولا ضوابط ، لكن هل يجب علينا نحن إذا امتلكنا أدوات الضبط والرقابة تقنين هذه الحرية وحجب ما يمكن أن يمس بشرعية وأحقية وجودنا في أرضنا وبالمقدس من عقيدتنا وقيمنا وعاداتنا ؟؟، خاصة إذا ما كان هذا الأمر ممارس علينا من قبل الآخر الذي يمكن أن يطرح هذه الآراء ، الملفت كذلك ان ما دار النقاش حوله ليس أكثر من هذر لم يستند لأسس علمية ولم يصدر عن جهة متخصصة تسوق الأدلة والقرائن وبالتالي يستوجب الرد عليها أدلة وقرائن ، هي أفكار ومعلومات نتاج حقد دفين وتعبير عن أحلام وطموحات تداعب أخيلة أصحابها ، لذلك لسنا مضطرين لنشرها في وسائل إعلامنا التي تدخل كل بيت من بيوتنا ، لينشروا هذرهم في بيوتهم وليلعقوه بألسنتهم ولتبق وسائل إعلامنا الموجهة الي أجيالنا نقية من هذا الهذر وإن كان لا بد من مناقشة الآخر فليكن من قبل متخصصين متمكننين من خلفياتهم المعرفية مطلعين على خلفيات الآخر...ولنمتحنهم إن كانوا يتقبلون هم ذاتهم ردنا في وسائل إعلامهم على هذرهم هذا .