الدولة مثلها مثل أي كيان سياسي في العصر الحديث له سطح وله جوهر، له أبعاد وله مستويات. وتختلف النظرة إلى الدولة بإختلاف الناظر إليها. فعلى سبيل المثال، يتمتع أصحاب الفكر البسيط والاختزالي بنظرة شديدة التبسيط للدولة، وربما أيضاً شديدة الإجحاف. فتسيطر على هؤلاء نظرة الدولة المقدمة للخدمات و/أو مجموعة الأبنية التي تتميز بلقب "عام" أو "عامة". فكل شئ عام هو تابع للدولة وأي شئ غير عام لا يد للدولة فيه ولا يمت لها بالصلة. فيما يمحص أصحاب الفكر المتطور أو على الأقل المعقد sophisticated في تفاصيل الدولة، ما وراء الخدمات وما يتجاوز الأبنية بحثاً عن الفلسفة، الرؤية أو على الأقل مجموعة الأفكار المحركة للدولة والمرشدة لسلوكها وسياساتها. والحديث هنا ليس عن تحبيذ أو تفضيل نوع معين من الناظرين إلى الدولة، وإنما الحديث هنا عن قضية أكبر من هؤلاء الناظرين على عمومهم، ألا وهي قضية سطحية الدولة نفسها.
فمن البديهي والمفروغ منه أن وجود البسطاء أو أصحاب الفكر التبسيطي لا يعيب ولا يضر بالدولة شئ، طالما أن أحكام هؤلاء لا تترجم إلى سلوك سياسي يتسم بدرجة ملحوظة من العنف، وإنما يضرها وبشكل أساسي سطحيتها هي نفسها.
فماذا لو كانت الدولة هي صاحبة المنظور السطحي نفسه؟؟؟؟ وقبل التطرق إلى ما تحدثه سطحية الدولة، لابد من تعريف ما هي تلك السطحية، والتي نشير إليها لاحقاً إما بسطحية الدولة أو الدولة السطحية. فرغم وجود اختلاف بين المصطلحين، ألا إنهما يؤديان نفس الوظيفة والمعنى والمدلول يكاد يكون واحد في الحالتين.
الدولة السطحية هي تلك الدولة التي لا تهتم إلا بالظاهر من السلوك فيما يخص المواطنين أو الداخل، والظاهر من الدولة ذاتها في علاقتها بالعالم الخارجي. وربما نزيد عنصر وهو اهتمام الدولة بظاهرها أيضاً في مواجهة مواطنيها أو الداخل ولكن عدم توافر مظهرية الدولة تلك في العلاقة مع المواطنين لا تنتقص من سطحية الدولة شئ. بعبارة أخرى، تظل الدولة سطحية حتى لو انكشفت لمواطنيها ما دامت لا يعنيها منهم إلا ظاهرهم وما دامت حريصة على واجهتها دون محتواها أمام العالم الخارجي، محلياً أو إقليمياً. وقبل الإنتقال إلى بعد آخر من القضية وهو مظاهر السطحية وكيفية الاستدلال عليها في الواقع المعيش وبعيداً عن التنظير العلمي، فإن سطحية الدولة في بعدها الأخير غير الضروري "عنصر المظهرية في التعامل مع المواطنين" يمكن التعامل معها على أنها مرحلة من مراحل الاستفحال في سطحية الدولة. المعنى هو أن الدولة عندما تصل إلى تبني التظاهر في التعامل مع مواطنيها، تكون بالفعل وصلت إلى قمة السطحية، بل والهشاشة الناتجة عن الإنعزال.
ولكن كيف نرصد سطحية الدولة؟ الكلام هنا بترتيب الأبعاد كما تم طرحها في الفقرة السابقة. فأولاً، اهتمام الدولة بالظاهر من المواطنين وسلوكهم دون التطرق إلى جوهره، مغزاه، مسبباته وربما حتى عواقبه. ويظهر ذلك بالأساس من خلال القطاع العام الشكلي حيث أهم إسهام للموظف هو إمضاء دفتر الحضور والانصراف...أما آخر ما يتم النظر إليه هو ما قدم بالفعل هذا الموظف من انجاز للمهام الملقاة على عاتقه والتقدم الذي أحرزه في مجال خدمة الصالح العام أو الاهتمام بتطوير مهاراته. ولا يعني عدم الاهتمام بمهاراته ألا تعقد دورات تدريبية ومنح دراسة داخلية وغيرها وغيرها ولكن "على السطح"....دون تقييم فعلي للإنجازات والعوائد أو المهارات التي اكتسبها هو كموظف عام. وهكذا الحال بانسبة لقطاع المرور، فأهم شئ هو "المرور" بالإجراءات البيروقراطية التي عادة ما تكون مجحفة من أجل اصدار تراخيص السيارات...لكن ما إذا كانت السيارات يتم الكشف عليها بالفعل أم لا، فلا يهم، وما إذا كانت العوادم المنبعثة من المركبة تتجاوز الحد الأقصى المسموح به أم لا...ويمكن الحديث بلا نهاية في هذا المجال، فالتعليم والصحة وأجهزة الرقابة الادراية عادة ما تعكس نفس النظرة السطحية التي عادة ما لا تحقق أي أهداف حقيقية فيما يتصل بالكفاءة والفعالية.
ويستوقفنا السؤال وقبل العرض إلى الأبعاد الأخرى عن الأسباب....لماذا لا تريد الدولة من مواطنيها إلا الشكل ولماذا لا يعنيها المضمون والتطوير على وجد التحديد؟ هناك أكثر من سبب واحد. فمن ضمن الأسباب المحتملة عدم الاهتمام بالتنمية...فلا يمكن أن تسعى دولة ما إلى التنمية بينما هي غير مهتمة إلا بظاهر سلوك مواطنيها. والأمثلة على ذلك كثيرة. فعلى سبيل المثال، عندما أراد "هتلر" المستبد أن يشن حرب عالمية على الأمم الأخرى، زرع في المواطن الألماني الشعور بالتميز العرقي والحضاري، قبل أن يهتم بتدريبه عسكرياً على قيادة الدبابات والطائرات وإلقاء القنابل على دول الجوار الأوروبي. كذلك "ستالين" الروسي الذي أنشأ، بعصا من حديد، التنمية الصناعية في الإتحاد السوفييتي السابق، بعد ترسيخ قيم الاشتراكية التي قدمها "ماركس" و"لينين" كأساس للهوية وكمشروع سوفييتي قابل للتحقيق بسواعد أبناء الوطن السوفييتي. فالتنمية لا تحتاج فقط إلى العلم والمعرفة وإنما أيضاً إلى الروح spirit التي تحرك عجلات التنمية.
أما السبب الممكن الثاني، فهو وجود هوة بين النخبة والمواطنين. والنخبة في هذا المقام حاكمة وليست سياسية، أي النخبة القابعة في مقاعد الحكم، وليست السياسية الأوسع. ومن ثم، فإن تلك الهوة تحول دون إقامة حوار حول التنمية أو غيرها من الأهداف السياسية والمجتمعية بشكل عام بين الدولة والمجتمع. وبالتالي، يكون انحصار تلك الهوة وتقارب النخبة والمواطنين هو السبيل إلى ايجاد الحوار الممهِد للتطوير. فإذا وُجِد الحوار، تضاءلت فرص سطحية الدولة وانحصرت.
أما السبب الثالث المحتمل لسطحية الدولة وتصنعها، فيتصل بمسألة فقر كفاءة ومهارة أعضاء النخب بشكل عام، وليس فقط النخبة الحاكمة. فالنخب السياسية، الاقتصادية والثقافية تؤثر في عمليات صنع القرار بشكل مباشر وغير مباشر. وفي حالة افتقار تلك النخب إلى مهارات أساسية أهمها القدرة على التواصل مع الجماهير، تختار تلك النخب الإبتعاد عن تلك الجماهير والتقوقع داخل أجهزة وكيانات سياسية ومجتمعية غير شعبية. وبالطبع، تتخذ النخبة الحاكمة نفس السلوك السطحي الانعزالي، إذا ما افتقرات هي الأخرى إلى تلك المهارات المهمة.
وانتقالا إلى البعد الثاني الخاص بظاهر الدولة في الخارج، أو بالأحرى اهتمام الدولة بمظهرها في العلاقة مع الخارج. وهنا، يمكن الإشارة إلى مثال أساسي واضح بل ومتفشي، وهو الحرص على المظهر الديموقراطي. فقد عمدت العديد من الدول السلطوية إلى إخفاء واقعها السياسي الإستبدادي، في سبيل الظهور بمظهر الدولة الديموقراطية التي تعطي زمام الحكم إلى شعبها. وفي سبيل ذلك الهدف الشكلي، تتكبد الدولة العناء والمشقة من خلال مهام دبلوماسية واعداد تقارير تجميلية والتكتم على معلومات السجناء السياسيين، سواء من حيث عددهم أو من حيث أساليب تعذيبهم أو مدد حبسهم. ورغم أن التظاهر في مجال علاقة الدول بغيرها هو بالأساس سياسي ديموقراطي، إلا أن بعض الدول النامية كانت قد بدأت تنحو نحو التظاهر في مجالات الاقتصاد أيضاً. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، تتجه الآن بعض الدول إلى التلاعب بتعريفات بعض المصطلحات الاقتصادية، اعتماداً على اختلافات نظرية أو أكاديمية تحديداً حول المصطلح، من أجل تعظيم بعض المؤشرات الإقتصادية وتقليل البعض الآخر. مثال: تعظيم قيم النمو الاقتصادي والتشغيل، وتقليل حجم البطالة والتضخم. وكان السر في تلك الظاهرة الأخيرة يعود بشكل أساسي إلى قضية "الدعم الأجنبي" الذي حصلت عليه العديد من تلك الدول من دول غربية كبرى وجهات مالية دولية، مقابل اجرء اصلاحات موسعة سياسية واقتصادية. فكان تقديم تقارير أكثر تقدماً ونمواً أساس لاستمرار تدفق الدعم ومنعاً لتوقيع العقوبات القاسية على تلك الدول المستقبلة للمنح والمساعدات.
أما آخر الأبعاد وربما أكثرها خطورة، فهو تظاهر الدولة في التعامل مع مواطنيها. ويكون عادةً من خلال إخفاء البيانات والمعلومات الهامة عن الأداء الحكومي، توحيد الرسائل الإعلامية وبتر جذر أي معارض أو مخالف، التأكيد على تطورات ايجابية في حين يستشعر الناس ملامح الأزمة في كل مكان، الإغداق في إلقاء الشعارات والهتافات على أذن المواطن بصورة مفتعلة تكاد تقترب من الدرامية.
كل تلك الأشياء وغيرها لا يمكن أن تشهدها دولة لا تتميز بالسطحية. فسطحية الدولة هي المنتج لتلك المشاكل كلها وهي أيضا انعكاس لها. فإذا ما تصورنا وجود فلسفة ورؤية تحرك الدولة ونخبتها نحو تحقيق أهداف مجتمعية ولو طويلة المدى، أو تواصل وعمق في المجال العام أو تجذر أحزابها السياسية في المجتمع المدني، أو رؤية واضحة للتنمية ونية صادقة للتنفيذ كانت كل تلك المظاهر سوف لن تظهر أصلاً وإن ظهرت، سرعان ما تخبو وتنطفئ جذوتها.
لكن السؤال الأهم هو ما هي عواقب سطحية الدولة؟؟؟ يمكن في هذا المجال الحديث عن أكثر من عاقبة تتسم في مجملها بدرجة معتبرة من السلبية. لعل أهم تلك العواقب هي العزلة...عزلة الدولة عن محيطاتها الداخلية والخارجية. حيث ترتبط السطحية بالابتعاد عن تلك المحيطات، خوفاً من انكشاف ما تخفيه الدولة من مساوئ. ولكن العزلة ترتبط أيضاً بالهشاشة، ذلك أن الكيان السياسي المتشابك مع غيره من الكيانات والهياكل المحيطة هو الأقدر على البقاء والاستمرار. فالحزب السياسي الذي يضرب بجذور عميقة في المجتمع المدني أكثر استقراراً من غيره من الأحزاب غير المتجذرة في المجتمع المدني على سبيل المثال. وبالتالي، فإن عزلة الدولة تضر بتلك التشبكات وتقطع خيوط التواصل الممكن اقامتها مع غيرها من الكيانات السياسية والإجتماعية المحيطة.
ولكن تكلفة السطحية هي أيضاً من ضمن العواقب. التكلفة المادية المرتبطة بالتكتم على البيانات والمعلومات من ناحية واصدار بيانات ومعلومات بديلة "أفضل" بمصطلحات الديموقراطية والتنمية الاقتصادية من ناحية أخرى.
وعليه، فإنه يمكن تلخيص سطحية الدولة في تظاهر الدولة من ناحية واهتمامها بالظاهر من ناحية أخرى....وارتباط الظاهرة بعزلة الدولى، هشاشتها وتكبدها النفقات المرهقة للتنمية من أجل الحفاظ على تلك السطحية. ويبدو أنه بعد هذا العرض الموجز، أن الدولة التي تتسم بالسطحية هي كيان مستنزف للذات، محروم من التقدم الذي لا يمكن أن يقوم إلا على مواجهة الذات قبل الآخر من أجل التعامل مع التحديات السياسية، الاقتصادية والإجتماعية.
سطحية الدولة....العزلة والهشاشة بقلم:
إبتسام حسين
تاريخ النشر : 2008-06-20