جنين تحِنُّ لبحرها ونخلها يا ديما...بقلم : حسان نزال
**********************************
تربطني بدنيا الطفولة وشائج اشتدت عراها مع الزمن ..وتتعزز في كل حين.....هُم من يمثِّلون عالماً انفلت من بين يديّ دون أن أعرف أن هناك رياحا تهب ..ولا بد أن تـُستغل ، وأن هناك مرابعَ صبا ًلا بد أن يُرتع بها ..وأن هناك لهؤلاء مملكتهم التي لا تماثلها مملكة ومُلك لا يدانيه مُلك ....لذلك أجدني مُغرما بمعايَشة هؤلاء وتمثـُّل بعض لُحيظاتهم ومشاركتهم إياها ، وأجدني ظالماً لهم أحيانا حين أُحَمِّلَهُم فوق ما يحتملون ، إذ أرسل لهم رسائل أُحمِّلُها الكثيرَ من أعباء الكبار وهمومهم ...أرسلتُ مرة واحدة لنغم وأخرى لنسم عندما انقطعت الرواتب وهمست نسم في إذن أختها ( لا تشتري كثيرا يا نغم ....فقد فـ (الزلمي ما بدفع لبابا راتب ..) وثالثة كانت قصيدة لـ(راما) خلف الجدار هناك في الطريق الى الكرمل.....واليوم سيكون لـ (ديما) من تخوم بحر غزة نصيب ....وإن تأجل حتى حين ....
حفظت راما بعض قصيدتها ، وأُتيح لها قلبٌ حان ٍ، وأذن مرهفة حوّلت لها القصيدة الى نشيد ..فأنشدت :
أزيدك همسا ...فزيدي فؤادي غراما
أناديك راما فيسكب قلبك ...جئتك ماما ...جئتك ماما
كذلك حملت تقى ونغم قصيدة ( تبابتان) ..وأنشدنها معا ...وحفظت لهن إنشادهن ....وأعاود الاستماع اليه كلما ترجلت الى عالم الطفولة ...وكم أترجل ...!!
أما (غزل) ..فلها حكاية أخرى ...مشكلتها أنها تغطي وجهها خجلا كلما قابلتني على سلم المدرسة أو في ردهاتها وتتمنى أن لا تخرجها المعلمة من الصف وقت استراحتي...لأنني سأغني لها :
غزل الهوى مغازل .........// كيف بدي غيرك غازل وبعرف إنك بتغار؟؟!!
سألت طالبا اعترضني بالأمس على مدخل قباطية ملقيا علي السلام : في أي صف أنت ؟
ــ في الثالث الابتدائي ...
ــ أكيد؟؟ ...وتقدمت منه واضعا كفي الأيمن على قلبه منصتا بانتباه لدقاته .....استغرب الأمر ونظر بابتسامة متسائلة ثم انفرجت أساريره لما قلت له :
ــ صادق ..وأنت سترفع الى الصف الرابع قريبا...
ــ كيف عرفت ؟؟!!.....
ــ دقات قلبك ...أنا أستدل بدقات القلب على أشياء كثيرة ...منها صفك المدرسي .....
تقدم الفتى لا يلوي على شيء ..وعلمت أنني أوجدت له ما سيشغله حتى وصوله البيت ...وقد يثير الأمر في سهرة ذلك المساء مع محاوريه ...
واليوم ( ديما) ....لا تعرف ديما جنين ..ولم تزرها من قبل لكنها حلمت ليلة أمس أنها ذهبت الى جنين وحملها رجل الى بحرها ونخلها ...
ــ لكن جنين لا بحر فيها ...ونخلها جار عليه الإنسان والزمان ..قالت لها أمها
ــ لا .. لا لقد حملني ذلك الرجل الى بحر هناك ..واستمتعت به ...
هي ذاتها (ديما) التي قالت لها أمها أن لا تشتري الشوكولاته الدنمركية ..لأن فيها من شتم رسولنا الكريم ، أليس من يحب الرسول عليه السلام يقاطع بضائع شاتميه ...
ــ نعم يا أمي لكني أحب الله كذلك ...والله خلق الشوكولاته التي أحب ...
إذن ديما تحب الشوكولاته وتضيق بنا ذرعا أن نحملها فوق ما تحتمل من تكليف ...لماذا لا نصنع لها شوكولاته ليست دنماركية ونكفيها حرج الاختيار ؟؟؟
في صورتها المنغمسة بالبحر وجدتها تماحك بعينيها من يتطلع إليها ...تستفز كمون الكلمات وتبعثها من مرقدها ...أنشدت لها :
أحاول أن أتقلّد غير ضفيرة شعرك
غير رسائل عينيك من فوق عشب الحديقة
لكن روح القصيدة ينهال أخضر.
وسر القصيدة حين تقاطرتِ غيثا ً
أبقاك ديما..
أروح فيبتل خطوي
أمسح وجه الصباح عن الحاجبين
وأنظر: غيث ..وديمة
فأينك هيثم !!....
غيث وديما وماء وخصب وفجر نديّ
كوجنة ديما الندية
وجبهة تلك الصبية
مساء يمتد أكثر
وصبح يشقُّ عيون الدفاتر
بين أنامل ديما لتكتبَ:
فجرك غزة أخضر..فجرك غزة أخضر....
أحاول أن أتهرب منك فتلفح شمس النهار جبيني
وأرجع : أينك ديما...أينك ديما؟؟
**************
لا بحر لجنين يا ديما ...هو على امتداد النظر ..إن أنت اعتليت أيا من مرتفعات جنين عند (سيلة الظهر) أو بعض جبالها الشماء سيكون البحر قدام ناظريك ..لكن بينك وبينه مسافات ليس الزمن ولا الكيلو متر أدوات قياسها ...يمقتنا البحر يا ديما رغم أننا نحبه ... نحن خُنـّاه ولم نوفِهِ حقـّه بالإبحار ليوفينا حقنا بالدفء ......بحركم هم متنفسكم اليوم ...أعرف ذلك ..ونحن سماؤنا هي متنفسنا ....غدا سيدخل فلسطينيو الداخل دون الثامنه عشرة الى جنين للتسوق والبحث عن بعض نخلها ..سنسألهم عن البحر .....وعن تلك المدن التي :
وموج البحر يغمس أخمصيها // وبالأنواء تغتسل القباب ..
هل ما تزال خـِماص أهلها يغسلها البحر ؟؟؟... وهل ما تزال قبابها تنتظر أنواء السماء ؟؟؟
للبحر حكايته التي لا يفرط بها بسهولة ..... يضحك من تقلبات الشاطئ ...لكنه باق بانتظار من يرسم له قلب على رماله ليضمها بين جوانحه مع أول موجة عابرة
يكاد ينقرض نخيل جنين ذلك يا ديما ..وباستثناء نخيلات مترامية هنا وهناك يحافظ مسجدها الكبير على بعضها فإن المدينة خِلو من النخل ....والجينينيون يستعيضون اليوم بالاسم عن المُسمّى فيسمون عمارة في مدينتهم باسم ((عمارة النخيل )) ...فما دام لا سبيل الى كرم العنب ...لنجتر مرارة الحصرم ....
جنين ستتحول الى سويسرا الضفة ، بعد أن (أُجهضت) محاولات تحويلها الى (تورا بورا ) على رأي أقطاب صراع فدائيي الأمس ....لم نعد نفرق بين صفارات إنذار حوادث السير ...وصافرات انذار المستقبلين للوفود القادمة الى جنين .....بعضهم يفطن لشهداء العراق هنا فيقرأ على أرواحهم الفاتحة ...بعضهم يمر مرور الكرام ...فقد تلتقط فاتحتـَه كاميرا ما ...وتضعه في قائمة حرص على الابتعاد عنها ......
منذ سنوات قصَّ وزير أجنبي شريط افتتاح منطقتها الصناعية ... يومها جاء مَنْ يبحث عن نحّات مُجيد يكتب اسم المنطقة ويؤرخ للحدث باللغات العربية والألمانية والعبرية على صخرة تزين مدخل المنطقة .......وجد النحات لكنه لم يجد من يجيد اللغات الثلاثة ....رُسِمت الكلمات رسما ً... وبالأمس عاد وزير آخر يفتتح ذات المنطقة التي ما زالت صخرتها شاهدة على إهمال المحافظة وتناسي مشاريعها منذ ذلك الحين وأحايين ...
الى الشمال من جنين وقبل أن اصطدام ناظريكِ يا ديما بجدار الفصل العنصري ..كان هنا نهر (المُقطّع) ...ذاك الذي تعلمنا عنه في الجغرافيا ...وعندما ذهبنا نبحث عنه وجدناه فعلا قد ( تقطّع) وأضحى أثرا بعد عين ...ومرتعا لمياه المجاري حيث يجيد البعض استغلالها في استنبات خضروات يبتلعها المواطنون وهم لا يعرفون من أي ماء ارتوت
وفي جنين يا ديما....آثار عيون ماء جنات التي كانت تخترق وسط المدينة وتروي نخلها ...وهي منذ أن أعملت الجرافات الأمريكية أنياها في شارعها الجنوبي ودكته البلدوزرات لم تعد نحس بها أو نشعر بدفئها ...
مدينة الجنائن تُعاني اليوم من شحِّ الماء يا ديما ....مزارعو موسم الخيار الربيعي بدؤوا هذا العام باقتلاع نصف بساتينهم حفاظا على النصف الآخر وأملا في موسم لا يتكبدون فيه خسائر كثيرة بعد أن باغتهم شح الماء أواخر أيار ، وهم لم يتعودوا هذا الشح الا بعد منتصف تموز من كل عام ......
الأمور تسير في جنين وفق ما يخطِّط لنا (دايتون) ..وكما قال أول من أمس البروفيسور الإسرائيلي (( مردخاي كيدار)) من على شاشة الجزيرة ، قد يصبح لنا دولة في جنين كما أصبح للنابلسيين من قبلنا ، خاصة بعد أن أمرنا أن ننفض أيدينا من القدس التي تم تحريرها من صلفنا وظلمنا على حد تعبير هذا المثقف من ( الطرف الآخر) .
قد يصيب من عندنا من المنتظرين في سجوننا ما أصاب إخوانهم النابلسيين ...أولئك الذين منّواْ النفس بعفو من الاحتلال بعد أن أصبحت أيديهم خلو مما اعتادت ضمَه ، وظهورهم مكشوفة وعرضة كل الطعنات
هم وإن توفرت لهم سبل ( السجن الكريم ) يضيقون ذرعا بما يعانون
ــ قلت لأحدهم ..هذه ضريبة المرحلة التي تحيون ....سجنكم ( طو/باري ) لا سبيل الى تبرئة أحد منه ...ولا إلى اتهام أحد بتحمل تبعاته ....في جانب منه أنتم جئتم الى هنا بأرجلكم ( طواعية ) لكنكم ( كنتم مجبرين على الحضور والا ... تتحملون وزر ما ينتظركم ....لذلك صار سجنكم ( طو/باري ))
أعتذر يا ديما إن مارست عادتي في الخروج كثيرا عن سكة الطفولة التي تنتظرين وحملتك فوق ما تحتملين .لكنه قدرك .....ألست تحبين الله خالق الشوكولاته ....إذن أنت تحبين قضاءه وتؤمنين بقدره ... ومن مفارقات قدره اليوم أننا في جنين ننعم بأمن وأمان لم نحلم بهما منذ سنوات......وزيادة في الفضل يتناوب أَمننا عسكران ، يقتسمون وقتنا بين ليل قصير ونهار طويل ...وحصتنا هي الأكبر بفضل الله يا ديما ،
لذلك لا سبيل الى اختفاء خافية إذ سرعان ما يكشف عنها ولو كانت ( ميجا ) مخبوءا في باطن الأرض ....ما يدريك ؟؟!! لعله كان استعدادا لبناء ولاية (تورا بورا ).......
ديما ..تجاوزي الفقرة التي لا تعجبك ..فانا أكتب لك وحدك ...لم يعُد يعنيني أحد سواك ، فبك لا يجف لي عشب ولا يباغت حدائقي بَوار .... ستكبرين وقد تباغتين جنين بحضورك ...ويمها لسنا ندري إن كنا سنكون في استقبالك ...أم ستبحثين عن تربتنا لنوال ثواب الفاتحه ...
دُمت نقية ً يا ديما ...كدمعة تقيٍّ في صلاة التهجُّد ...الى لقاء
جنين تحِنُّ لبحرها ونخلها يا ديما..بقلم:
حسان نزال
تاريخ النشر : 2008-06-04
