[الفلسفة الأخلاقيّة عند كانط]
الدكتورة إيمان الصّالح
رئيسة قسم الدّراسات الفلسفيّة والاجتماعيّة بكليّة الآداب ـ جامعة حلب
• تمهيد :
يُعدُّ كانط Immanuel Kant [ 1724م- 1804م ] واحداً من أبرز فلاسفة العصر الحديث ، بل مضى البعض إلى اعتباره أعظم فلاسفة عصره ، فقد عمل على التّصالح بين العلم والدّين بطريقة تبدو أكثر نعومة وأشدّ تأثيراً من ليبنتز [ 1646م _1716م ] ( 1) ، أسّس المثاليّة" النّقديّة أو " المتعالية" ، كما اتّسمت فلسفته الأخلاقيّة بالمثاليّة . عرّف الأخلاق _ عامّةً _ بأنّها : مجال الحريّة البشريّة ، المتميّز من ميدان الضّرورة الخارجيّة والسّببيّة الطّبيعيّة ، فأصبحت بمعنى أكثر ملموسيّة ، مجال اللاّزم ( ما يجب أن يكون) الّذي له طابع كليّ في الأخلاق ( الآمر القطعي) ( 2) . أبدى اندهاشاً كبيراً وشعوراً عارماً حيال أثر عظمة الكون والقانون الأخلاقيّ في عقله ونفسه ، فقد ختم كتابه "نقد العقل العملي" بقوله الشّهير :" شيآن كلّما تأمّلنا فيهما مزيداً فمزيداً من إمعان ، يملآن الذّهن بإعجابٍ ورعبٍ جديدين أبداً ، متزايدين دائماً ، إنّهما السّماوات المرصّعة بالكواكب فوق رأسي ، والقانون الأخلاقيّ في داخلي . وليس عليّ أن أبحث عنهما ، أو أحدس راجماً بالغيب فيهما ، كما لو أنّهما كانا مقنّعين بديجور ، أو كانا في صقع مستشرف يقع ما وراء أفقي . إنّني أراهما أمامي ، وأربطهما مباشرةً ، بإدراكي وجودي ." ( 3) .
و في المضمار السّياسيّ تبرز أهميّة كانط من خلال تقديمه مشروعاً للسّلام العالميّ الدّائم ، ينهي الحروب والعداء بين الدّول ، ويفضّ النّزعات النّاشئة بينها بالطّرق السّلميّة ، فيجنّب النّاس ويلات وكوارث تلك الحروب ، فقد انطوى كتابه الّذي ظهر سنة 1795م " نحو سلام دائم ، محاولة فلسفيّة " على أقسام وملاحق عدّة ، تصوغ شروط السّلام ، والضّمانات الواجب توفّرها لضمان هذا السّلام ، وضرورة إعطاء الفلاسفة الحقّ في تنوير الدّولة والحاكمين فيما يتعلّق بالأمور السّياسيّة ، وتناول علاقة السّياسة بالأخلاق ، فكان مشروعه متّسقاً مع مذهبه كلّه سواء في نظريّة المعرفة ، أو في الأخلاق ، من هنا لا يمكن فهمه أبداً بمعزل عن المبادئ الّتي قرّرها في " نقد العقل المحض" ، و" نقد العقل العملي" و" ميتافيزيقا الأخلاق "، و" فكرة التّاريخ العالميّ من وجهة نظر كونيّة " ( 4) .
لقد استطاع توظيف معارفه الفلسفيّة في مواجهة أخطر التّحدّيات الّتي تتعرّض لها البشريّة ، أعني الحروب وما يرتبط بها من كوارث وويلات ، في مسعىً أخلاقيّ للارتقاء بالإنسانيّة إلى مستويات أكثرَ أخلاقيّة ورقيّاً وتقدّماً . ونظراً لأهميّة الأخلاق في بناء الحياة الإنسانيّة ، ارتأينا تسليط الضّوء على مذهب كانط الأخلاقيّ ، بوصفه أنموذجاً أبرز للفلسفة الأخلاقيّة الحديثة ، الواسعة الذّيوع والانتشار .
• المنهج :
يعتزُّ كانط بأنّهُ أحدث في الفلسفة ثورةً ، تُماثل ثورة (كوبرنيك) في عالم الفلك ، فبعد أن كان الفكر يتبعُ الأشياء ويُسايرُها ، صارت الطّبيعة كلّها هي الّتي تتبع الفكر من حيثُ معرفتنا به على الأقلّ وتسايره . فغدا هو الّذي يصنع العالم ويُملي قوانينه على الكون الحسيّ كذلك . لقد وجد كانط أنَّ العقلَ عقلان : نظريٌّ وعمليّ ، أمّا العقل النّظريّ فيتناول شؤون المعرفة والعلم ، ويحدّد اليقين الحقيقيّ بالتّجربة الإنسانيّة ، ومعطيات العقل معاً ، وأمّا العقل العمليّ فيتناول الجانب العملي من الوجود ، أي السّلوك والأخلاق ، وينقسم بدوره إلى قسمين : العقل العمليّ بالمعنى الصّحيح ، والعقل العمليّ المحض . يقول كانط :" إنَّ وظيفة العقل العمليّة تقوم على توجيه العقل أعمالنا وأفعالنا ، ويتمّ على نحوين : فإمّا أن يفيد العقل العمليّ من معطيات التّجربة ، فيدرك علاقات الحوادث بعضها ببعض ، بغية استثمار ارتباطها وتعاقبها ، وتحقيق هدف مّا عند توافر شروطه وأسبابه "(5) ، وهذا ما يسميه كانط "العقل العملي بالمعنى الصّحيح" ،أمّا " العقل العمليّ المحض " فيقدّم لصاحبه الإطار أو الشّكل العام لما يترتّب عليه فعله من غير أن يستند في ذلك إلى معطيات التّجربة ، بل يُقدّم هذا الإطار بصورة قبليّة سابقة لكلّ تجربة فعليّة . إنّه ينصّ على ضرورة إطاعة الواجب أيّاً كانت مادّته ، وسواء أكانت هذه المادّة سارّة أم مؤلمة . وهذا العقل العمليّ المحض هو في نظر كانط (الوجدان الأخلاقيّ الصّحيح) . " افعل ما يجب عليك وليحدث ما يحدث" (6) .
من هنا يستخدم كانط منهجين مختلفين في بحث ومعالجة المشكلات الأخلاقيّة ، الأوّل : الانطلاق من معطيات التّجربة ، ثمَّ الصّعود بالتّحليل من هذه المعطيات إلى أعمّ ما يُستطاع إيجاده من قضايا ، لكيّ ينسّقها ويُفسّرها . والثّاني : اتّخاذ مبادئ العقل وتصوّراته للنّزول نحو الظّاهرات ، والمعطى والتّجربة .
أ- المعطى التّجربة :
ما المعطى الّذي يُعنى كانط بمادة تحليله ؟ إنّه ليس الطّبيعة الإنسانيّة مأخوذة في ذاتها ، بل أحكام النّاس والمعاني الأخلاقيّة الشّائعة بوصفها تجلّيات خارجيّة للعقل في مجال الأخلاق . و هنا تجدر الإشارة إلى استفادة كانط من (منهج تقسيم العمل) الّذي أحرز تقدّماً هائلاً في ميداني الصّناعة والعلم ، ومن منهج ديكارت الّذي يَرُدُّ الوقائع إلى طبائع بسيطة ، مُعْتَبَرَةً على أنّها حقيقة ، فمثلما أنّنا في الرّياضيّات نبدأ من وحدات نُشكّل العلم بتوليفها ، كذلك نستطيع أن نقيم الأخلاق بالجمع والتّوليف بين عناصر معزولة ، بهدف استخراج العنصر الأخلاقيّ الحقيقيّ الكامن فيها ، والعناصر المعزولة ههنا هي الأحكام الأخلاقيّة الشّائعة والمتداولة بين النّاس (7) .
ب- منهج الاستنباط الافتراضي :
لم يقنع كانط بالاكتفاء بتحليلٍ شبيهٍ بتحليل الكيميائيّ للمواد الّتي تتكوّن منها العناصر ؟ فابتكر منهجاً شكّلَ إضافةً مهمّةً لمنهج التّحليل البسيط ، اسمه "منهج الاستنباط الافتراضي" ، وهو منهج ينطلق من وضع مبادئ على سبيل الافتراض ، يجري فحصها بمقابلة النّتائج الّتي يتمّ التوصّل إليها مع المعطيات الواقعيّة للتأكّد من صحّتها وصدقيتها ، ثم اعتمادها أساساً في استنباط مبادئ وأفكار جديدة . وهذا المنهج هو المنهج الّذي يُستخدم لاستكشاف القوانين العلميّة (8).
لقد استخدم كانط هذا المنهج اعتقاداً منه أنَّ التّجربة الحسيّة ليست الميدان الوحيد الّذي يُحدّدُ فهمنا ، وينتهي بنا للوقوف على الحقائق العامّة للأفكار ، يقول:" إنَّ التّجربة ليست الميدان الوحيد الّذي يحدّد فهمنا ، لذلك فهي لا تقدّم لنا إطلاقاً حقائق عامّة ، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتمّ بهذا النّوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه . لذلك لا بدَّ أن تكون الحقائق العامّة الّتي تحمل طابع الضّرورة الدّاخليّة مستقلّة عن التّجربة واضحةً ومؤكِّدةً نفسها ."(9) ، إذ لا بدّ أن تكون حقيقيّة ، بغضّ النّظر عن تجربتنا الأخيرة ، وحقيقيّة حتّى قبل التّجربة " فالمعرفة الرّياضيّة ضروريّة ومؤكّدة ، ولا نستطيع أن نتصوّر ما ينقضها في تجربة المستقبل ، فقد نعتقد أنَّ الشّمس قد تشرق غداً من الغرب ، أو أنَّ النّار لا تحرق العصي الخشبيّة في عالم لا تحرق فيه الأشياء ، ولكنّنا لن نعتقد أو نصدّق طيلة حياتنا أنَّ 2+2 يمكن أن يُسفرا عن عدد غير الأربعة . إنَّ مثل هذه الحقائق حقيقيّة قبل التّجربة ، كونها تستمدّ نوعها الضروريّ من تركيب عقولنا الفطريّ ، من الطّريقة الطّبيعيّة الحتميّة الّتي يجب أن تعمل عليها عقولنا ، لأنَّ عقل الإنسان عضوٌ نشيطٌ ينسّقُ ويسبكُ الاحساسات إلى أفكار ، عضوٌ يحوّلُ ضروب التّجربة الكثيرة المشوّشة وغير المنظّمة إلى وحدة من الفكر المنظّم المرتّب (10) . و المعرفة القائمة على هذا النّوع من الحقائق هي ما يسمّيه كانط بالمعرفة القبليّة ، السّابقة على التّجربة ، وهي معرفةٌ بدهيّةٌ صحيحةٌ ، لا تحتاج إلى فحصٍ بواسطة التّجربة ، للتّأكّد من صحّتها .
• ماهيّة الشّعور:
ما الشّعور وما طبيعته ؟ وهل يصلحُ أساساً لبناء حياة أخلاقيّة صحيحة ؟ ثمَّ ما طبيعة العلاقة بين الشّعور والقانون الأخلاقي ؟ ومتى يُصبحُ الشّعور أخلاقيّاً ؟ ...إلخ .
ينطلق كانط في نظرته للشّعور من بعض المسلّمات ، الّتي تنصّ صراحة على عدم أهليّة الشّعور الطّبيعيّ لجعل أفعال الإنسان أخلاقيّة ، متأثّراً فيما يبدو _ من وجهة نظرنا_ بفكرة الخطيئة والسّقوط في الفلسفة اللاّهوتيّة المسيحيّة ، فالإنسان منذ سقوطه في الخطيئة الأولى ، فقد نقاءَهُ الفطريّ ، وأصبح الفساد متأصّلاً في ذاته ، وفقد الشّعور الطّبيعيّ لديه الأهليّة للقيام بأفعال الخير ، ولم يعد قادراً على فعل شيء ، سوى ما يستجيب لميوله الذّاتيّة ورغباته الحسيّة ومنافعه الشّخصيّة . فتحصيل اللّذة وتحقيق المنفعة الشّخصيّة وإلحاق الأذى بالآخرين ، و(حبّ الذّات "الأنانيّة " ، والشّعور بالرّضى عن الذّات " الغرور" )، أبرز سمتين مميّزتين لهذا الشّعور .
وعليه فقد فَقَدَ كلّ من الإرادة و الشّعور القدرة على جعل أفعالنا أخلاقيّة تتّجه نحو الخير ، وأضحى تعامل الإنسان مع الأشياء المحيطة به تعاملاً خارجيّاً بوصفها وسائل لإرضاء ميوله ورغباته وغرائزه الذّاتيّة ، الأمر الّذي ينزع عنها أيّ غطاءٍ أخلاقيّ باعتبار أنَّ " الأخلاق في صميمها عبارة عن الفعل تحت فكرة قانون كلّيّ ، وعدم معاملة الغير كوسيلةٍ بل كغاية " (11)، لكنّ الصّورةَ الأخلاقيّةَ للإنسان ليست قاتمةً إلى حدٍّ يحول دون إصلاحه وبنائه أخلاقيّاً ، فالإرادة الذّاتيّة المسؤولة عن أفعالنا ، قابلة لأن تكون إرادة طيّبة ، باتّحادها مع العقل ، والتزامها بالقانون الأخلاقيّ ، واحترامها له ، وهكذا يصيرُ الشّعور شعوراً أخلاقيّاً ، متى امتثل طواعية لأوامر القانون الأخلاقيّ ومقتضياته ، فينتقل بذلك من طوره الطّبيعيّ الخاطئ إلى طورٍ أخلاقيٍّ أعلى يتّسم بالأخلاقيّة والنّبل والسّموّ . فالشّعور لدى الإنسان نوعان : شعورٌ طبيعيّ خاطئ ، وشعورٌ أخلاقيّ متعال ، يتناولهما كانط بالبحث والتّحليل .
أ- الشّعور الخاطئ :
ينطلق كانط في نظريّته الأخلاقيّة من اعتقادٍ مفاده : أنَّ شعور الفرد الطّبيعيّ ، وإرادته الذّاتيّة ، ليس بوسعهما الارتقاء إلى مرتبتي الشّعور الأخلاقيّ والإرادة الطّيّبة إن لم يلتزم الشّعور بالقانون الأخلاقيّ فيبدي له احتراماً وتبجيلاً يليقان به ، وكذلك إن لم تتّحد الإرادة بالعقل الخالص ، فتغدو منبعاً للقانون الأخلاقيّ وللخير الأخلاقيّ ، ومشرّعاً لهما ، وعليه يرى كانط أنَّ الشّعور بمعزل عن ملازمة القانون الأخلاقيّ له ، (الشّعور بالمعنى الأصليّ ، كما هو موجود عند الإنسان ) أجنبيٌّ عن الأخلاق ، وإذا أقمناهُ باعثاً ضروريّاً لأفعالنا جعلها مستحيلةً . والسّؤال لمَ هذا الاستبعاد ؟ لأنّهُ إذا تُصُوِّرَ الشّعور مستقلاًّ عن القانون الأخلاقيّ ، باعتباره ميلاً طبيعيّاً خالصاً ، لكان أنانيّاً بالضّرورة ، ولما كان شيئاً آخر مهما اختلفت الصّور الّتي نتّخذها ، غير حبّ اللذّة . يتّفق كانط في وجهة النّظر هذه مع " لارشفوكو" : الّذي يرى أنَّ طبيعتنا إذا خلت بينها وبين نفسها لا تعدو أن تكون محبّة الذّات . والمشاعر البريئة الّتي نحبّ أن ننسبها إلى أنفسنا مجرّد وهم . والإخلاص للغير ، أو الغيريّة كما يُقال اليوم ،ليس ولا يمكن أن يكون في طبيعة الإنسان ( 12).
من ناحية أخرى حتّى يكون الشّعور أخلاقيّاً ينبغي عليه أن يتعامل مع الأشياء الحسيّة المحيطة به ، على أنّها موجوداتٌ مستقلّةٌ عنه موضوعيّاً ، لها كيانها الخاص بها ، الأمر الّذي يتطلبُ منه أن يلتفت إليها على أنّه غايات ، لا على أنّها وسائل لتلبية مصالحه الخاصّة ، وهو ما يفتقده الشّعور الطّبيعيّ لدى الإنسان ، فالشّعور عند كانط ، يقتضي موضوعاً ، والإنسان ليس له من موضوع سوى الأشياء الحسيّة القائمة في المكان وفي الزّمان . ومثل هذه الكائنات هي بالضّرورة أفراد خارجيّة بعضها إلى بعض . والإنسان الطّبيعيّ المحض في هذه الحالة هو فردٌ بإزاء أفراد، بغير رابطة داخليّة ... فهو لا يستطيع أن يهتمّ بالكائنات الأخرى إلاّ إذا توقّع منها منفعة شخصيّة . والواقع أنّه لا يهتمّ بالآخرين : إنّه يعتبرهم وسائل لغاية هي مصلحته الخاصّة ، وهكذا فإنَّ كلّ شعور طبيعي يردّ إلى البحث عن اللذّة ، وإذا كان ضميرنا الزّمانيّ المغلق أنانيّاً حتماً ، فواضحٌ أنَّ الشّعور الخاص بذلك الضّمير لا يستطيع أن يعمل بمقتضى الأخلاق نهائيّاً ( 13) .
لذا يخلص كانط إلى نتيجةٍ مفادها ، عدم صلاح الشّعور للتقدّم على القانون الأخلاقيّ ،كون الممارسات الّتي ترتكز عليه ، والأخلاق المرتبطة به، لن تكون سوى أخلاق فاسدة من النّاحية الأخلاقيّة ، فالشّعور لا يصلح أن يكون هادياً ومرشداً أخلاقيّاً لأفعال الإنسان وتصرّفاته ، وبالتّالي يثبتُ بطلان افتراض تقدّم الشّعور الطّبيعيّ على القانون الأخلاقيّ ، يقول إميل بوترو :" إنَّ الشّعور متى وُضِعَ قبل القانون الأخلاقيّ ، لا يمكن أن يكون أساساً صالحاً ، ولا يمكن أن يُحدِث إلاّ أخلاقاً وهميّةً كاذبة . وإذاً فيجب الحفاظ حتّى النّهاية على صدارة القانون ، وبما أنّنا لم نضع إلاَّ موضوع الواجب بعدهُ أو ما يُسمّى الخير ، فكذلك لا نستطيع أن نجعل مكاناً للشّعور في الحياة الأخلاقيّة إلاَّ إذا حدّدناه بالأفكار عن القانون الأخلاقيّ وعن الخير الأخلاقيّ " ( 14) .. وعليه فالشّعور الطّبيعيّ عند الإنسان مصابٌ بعقم ذاتيّ يحول بينه وبين القيام بأفعالٍ أخلاقيّة صّحيحة ، تنسجم وأحكام القانون الأخلاقيّ وفقاً لقول كانط :" لا يحقّ لنا أبداً أن نزعم بوجود أيّ نوعٍ من شعور ، وتحت اسم شعورٍ عمليّ أو أخلاقيّ ، يكون مقدَّماً أو سابقاً للقانون الأخلاقيّ ، ويكون بمثابة الأساس لهذا القانون ." (15).
إنَّ نزع الشّرعيّة الأخلاقيّة عن الشّعور الطّبيعيّ في مجال الحياة الأخلاقيّة ، لهُ ما يبرّره من وجهة نظر كانط ، ذلك أنّهُ يُعاملُ النّاس على أنّهم وسائل لغايةٍ هي مصلحتهُ الخاصّة (16) . الأمر الّذي يتناقض مع مبدأ الأخلاقيّة الّذي يحتّم ضرورة التّعامل مع الآخرين كغايات لا كوسائل . ناهيك عن أنَّ حبّ الذّات ـ وهو أحدّ أهم خصال الشّعور الطّبيعي عند الإنسان ينزع لا إلى أن يبقى في كلّ فرد فحسب ، بل إلى أن يصير لكلّ واحد ـ هو مبدأ تشريع شموليّ . كلّ واحد يزعم أنَّ الكون يسير طوعَ رغباته . فيغدو حبّ الذّات معادياً للقانون الأخلاقيّ (17).
ب- الشّعور الأخلاقيّ :
إنَّ الأثر الّذي يُحدثهُ القانون الأخلاقيّ في الشّعور ، ابتداءً من تحطيم كبريائه الخاطئ ، فانتصاره على الأنانيّة والغرور ، وما يُرافق ذلك من إحساسٍ بالذّل والمهانة ، ومراجعة نقديّة ، وإمعان النّظر في محتوى هذا القانون ، مروراً بالإذعان المطلق للأفكار الّتي ينطوي عليها ، انتهاءً باحترامه وتبجيله ، يجعل منه شعوراً أخلاقيّاً ، ثمرةً لاتّحاده بالقانون الأخلاقيّ .
هذا الشّعور يرتقي بالإنسان إلى مرتبة الأخلاقيّة ، لعلّة انصهاره بالأخلاق الّتي هي في صميمها عبارةٌ عن الفعل تحت فكرة قانون كلّيّ ، وعدم معاملة الغير كوسيلة بل كغاية ، فالشّعور الأخلاقيّ ينبغي أن يتحدّد بالأفكار الّتي يشتمل عليها كل من القانون الأخلاقيّ والخير الأخلاقيّ .
من ناحية أخرى يُحدثُ القانون الأخلاقيّ في الحساسيّة أو الشّعور أثرين متناقضين : أحدهما سلبيّ ، والآخر إيجابيّ ، أمّا الأثر السّلبيّ فهو أثر إهدارٍ وسحق للميول الذّاتيّة والأنانيّة والغرور ، وأمّا الأثر الإيجابيّ فهو ما يُسمّى الاحترام ، وهو شعورٌ خاص أشبه بعلامة على مثول الأمور الأخلاقيّة في الطّبيعة ، من هنا يُصبحُ الشّعور الأخلاقيّ شعور احترام للقانون الأخلاقيّ .
والسّؤال ما أصل هذا الشّعور ؟ يرى كانط أنَّ له أصلين : يبدأ من الحساسيّة ، ثمَّ يُجاوزها إلى غير نهاية ، لأنَّ لهُ سمة شموليّة :" ما نحترمه نتصوّرهُ محترماً لدى جميع الكائنات العاقلة . والحساسيّة وهي ذاتيّة صرفة ، مغلقةٌ على نفسها . والشّموليّة الخاصّة بالاحترام لا يمكن أن تجيء إليه إلاَّ من مبدأ شموليّ . هذا المبدأ هو القانون الأخلاقيّ (18) . والشّعور الأخلاقيّ بوصفه شعوراً بالاحترام ، فإنّه يحترم الفرد ليس بما هو فرد ، بل بوصفه شخصاً أخلاقيّاً ، وبالطّبع فاحترامنا للشّخص يختلف عن شعورنا بالإعجاب به ( إذ إنّنا نستطيع أن نعجب دون أن نحترم ) .
فما طبيعةُ شعور الاحترام ؟ بالتّأكيد ليس شعوراً باللذّة ، فهو شعورٌ يتضمّنُ شيئاً من الخشية ، وانطباعاً بالخضوع ، وبواجب الطّاعة ، و بالضّغط والتّضحية . إنَّ ما نحترمهُ يفرضُ نفسهُ علينا ، وينبّهنا إلى أنّهُ قوانين يجب أن ننحني أمامها في صمت . كذلك شعور الاحترام ليس شعوراً بالألم ، لأنّهُ في نفس اللّحظة الّتي تستولي علينا فيها تلك الرّهبة نحسُّ أنّنا قد علونا وانتشينا ، وأنّنا قادرون على أن نرفع أنفسنا فوق أنفسنا ، وفوق الطّبيعة كلّها : إنّهُ شعورٌ لا يمكن أن يكون ألماً (19) .
وهكذا يعُدُّ الاحترام جوهر الشّعور الأخلاقيّ في حياة الفرد ، إذ يُشكّلُ نقطة البداية لوعي الأفكار الأخلاقيّة ، فالفرد حين يتّصل بالكلّيّ يشعر بأنّهُ خاضعٌ للقانون الأخلاقيّ . فالشّعور باحترام القانون الأخلاقيّ يرتقي إلى مرتبة الواجب ، وهو بمثابة يقظة الضّمير في الجزء الفرديّ من كينونتنا ، وعليه حين يبدأ الفرد من هذا الشّعور وحين يُفكّر في أحواله ، يستطيعُ أن يعي الأخلاقيّة وعياً يزدادُ عمقاً ، وأن يصعدَ إلى مبادئها.
أمّا الشّعور بالحبّ فيعدُّ كمال حياتنا الأخلاقيّة باعتباره اتّفاقاً كاملاً بين الحساسيّة والعقل الخالص . ومن هذا الاتّفاق نتقارب على نموّ طبيعيّ بتقدّم الأخلاقيّة ، إنّهُ ثمرة جهدنا ... ولكن بشرط أن يكون جهدنا نفسه فعلاً من أفعال إرادة خالصة (20) .
• ركائز الحياة الأخلاقيّة عند كانط :
ترتكز الحياة الأخلاقيّة عند كانط على جملة من المرتكزات ، أهمّها : الواجب والإرادة الطّيبة ، والقانون الأخلاقيّ ، والخير الأخلاقي :
• الواجب والإرادة الطّيّبة :
يُعدُّ كانط من أشدّ دعاة نظريّة الواجب في الأخلاق ، وأهم المبادئ الّتي تنطوي عليها نظريّته : أ_ تقوم ماهيّة الأخلاق في الدّافع الّذي منه يصدر العمل ، فيكون الشّخصُ أخلاقيّاً حين ينطلق من إحساس بالواجب ، وليس خشية من عقوبة أو توقّعاً لمكافأة يرجوها ، فالرجل الّذي يحفظُ العهد أو يُسدّد ديونه تحاشياً لعقوبة أو خدمة لمصلحته ليس أخلاقيّاً ، إنّما يكون أخلاقيّاً إذا أدرك فقط أنّه ينبغي أن يحفظ العهد ويُسدّد الدّيون ، لأنَّ من واجبه أن يفعل ذلك ، بقطع النّظر عمّا يترتّب على ذلك من نتائج . وعلى هذا فالإنسان الخيّر هو إنسانٌ ذو إرادة خيّرة ، أي الّذي يعمل انطلاقاً من إحساسٍ بالواجب ... ذلك أنَّ الإرادة الخيّرة خيّرةٌ لا لِما لها من آثار ونتائج ، بل لأنّها خيّرة بحدّ ذاتها ، ولا يزيدها أو ينقصها من قيمتها في شيء ما يستتبعها من نتائج نافعة أو ضارّة ، لأنّها خيّرةٌ بذاتها .ب_ تتمثّل الإرادة الخيّرة _أو الطّيّبة _ الّتي تعمل انطلاقاً من الواجب في شموليّة الفعل أو فيما أطلق عليه كانط الآمر المطلق . ولمّا كانت البشريّة عبارة عن كائنات عاقلة وجب عليها أن تتصرّف بطريقةٍ عقلانيّة . وكلّ فعل يريده فاعله أن يصير قانوناً عامّاً يكون فعلاً أخلاقيّاً وملزماً في آنٍ معاً (21) .
والسّؤال : ما المقصود بالواجب الذي يتّخذ كانط منه ركيزة أساسيّة في بناء فلسفته الأخلاقيّة ؟ يعني الواجبُ :كَوْن الإنسان خاضعاً لقانون مّا ، ولكن ماذا يجب أن يكون هذا القانون لكي يُفسّر فكرة الواجب ؟ . ينبغي أن يقضي بأن نعمل تبعاً لقاعدة تقبل أن تكون شموليّة بغير تناقض . إنَّ قانوناً كهذا هو ما يُسمّى القانون الأخلاقيّ (22) .
أمّا أهميّة وجود الإرادة الطّيّبة في الإنسان فتأتي من تسليم كانط بفرضيّة عقم الشّعور الطّبيعيّ في الإنسان ، وعدم أهليّته للقيام بالأفعال الأخلاقيّة وفعل الخير ، لذا أقرَّ بأنَّ لدى الإنسان إرادة طيّبة ، هي منبع القيم الأخلاقيّة ، وبأنَّ هذه الإرادة تمثّل جوهر القانون الأخلاقيّ بالنّسبة للأفعال الأخلاقيّة جميعاً .
من هنا ينطلق كانط من التّسليم بوجود الإرادة الطّيّبة ، ويعرّفها بأنّها : تصوّر يلخّص جميع المعاني الأخلاقيّة الحقيقيّة الّتي يُؤْثِرها الإنسان على غيرها ،حين يريد الحكم على القيمة الأخلاقيّة الحقيقيّة للمعاني وللتصرّفات الإنسانيّة ، وهي الشّرط الضّروريّ الكافي للقيمة الأخلاقيّة ، لذا نجده يشيد بها ، في معرض تحليله لها : "إنَّ شيئاً واحداً يراه النّاس جميعاً طيّباً بلا قيد : هي الإرادة الطّيّبة " (23) ، ويبرهن كانط على وجود هذه الإرادة على أساس اعتبارات من اعتبارات الغائيّة ، رغم أنّه كان قد ألغاها من الأخلاق باعتبار أنَّ فكرة الغائيّة فكرة ذاتيّة محضة ، إلاَّ أنّه من النّاحية التّطبيقيّة وجد نفسه مضطّرّاً للأخذ بها للبرهنة على بعض أفكاره ، فقد أعلن احتراماً عظيماً للدّليل على وجود الله المستخلص من العلل الغائيّة ، وهو دليل إن لم يكن في نظره دليلاً قاطعاً ، فإنّه يستطيع أن يهيّئ الذّهن ويعدّه نحو تلقّي الدّليل الحقيقيّ .
على أيّة حال فالإرادة الطّيّبة هي الغاية الوحيدة الّتي شرطها الضّروريّ والكافي هو العقل الّذي وُهبناه . والسّؤال ما طبيعة هذه الإرادة ؟ يضع كانط جملةً من السّمات الّتي تسم الإرادة الطّيّبة وفقاً للمعاني الأخلاقيّة الشّائعة ، أبرزها : العزم على أداء الواجب :" إنَّ الإرادة الطّيّبة لا تستطيع قطّ أكثر ممّا تكون في حربٍ مع الاستعدادات الطّبيعيّة ؛ وإنَّ الدّرجة العليا للأخلاقيّة هي أداء الواجب ، ليس فحسب بدون معونة الميول ، بل على الرّغم من الميول المعادية . " ( 24) .
ولكن ما الّذي يجعل الإرادة الطّيّبة ، طيّبةً وخيّرة ؟. يجيب كانط عن ذلك بقوله :" إنَّ ما يجعل الإرادة إرادة طيّبة لا يمثل في أعمالها ، ولا في نجاحها ، ولا في إمكان بلوغ هذا الهدف أو ذاك ، بل إنّهُ الإرادةُ وحسب ، أي إنّها طيّبة بذاتها . فإذا نظرنا إليها بذاتها وجب أن نعتبرها أسمى من كلّ ما يمكن أن يتحقّق بها .. وأنّها لتظلّ زاهيةً برّاقة كالجوهرة الثّمينة ، الّتي تحتفظ ببريقها ولمعانها احتفاظ شيء حائزٍ في ذاته على قيمته كلّها . وما المنفعة إلاّ شبه حامل الجوهرة الّذي يساعد على تداولها بيسر أعظم من مألوف جريانها ، أو الّذي يلفت إليها نظر الّذين لا يعرفون قيمتها حقّ المعرفة . ولكن المنفعة تعجز عن إنجاب توصية تحبّبه إلى العارفين الرّاسخين في العلم بسبب عجزها عن تحديد ثمنها وقيمتها ." (25) .
من ناحية أخرى يرى كانط أنَّ ثمّة ما يربط الإرادة الطّيّبة بالعقل فهما على وفاق تام ، بل إنَّ طاعة العقل هو الشّيء الوحيد الّذي يستطيع أن يؤسّس لانسجام الإرادات مع بعضها البعض ، ولطالما أنَّ الإرادة على وفاق مع العقل ، تستطيع أن تُعتبر هي المشرّعة الشّاملة للأخلاق ، فتتساوى بذلك مع القانون الأخلاقيّ ، وبالتّالي تجسّد الإرادة المبدأ الأعلى للأخلاقيّة ، الّذي هو مبدأ استقلال الإرادة ، ولهذا المبدأ تفسيره عند كانط ، وذلك بنفيه للتّعرض بين كون الإرادة مستقلّة وبين العقل الّذي لا استقلال للإرادة إلاَّ بالاتّحاد الصّميميّ معه ، الأمر الّذي يجعلها مستقيمة وطيّبة . وعلى هذا النّحو نبدأ من فكرة الإرادة الخاضعة للعقل فنصل إلى فكرة الإرادة الّتي تعطي نفسها قانونها ، إرادة متّفقة مع العقل ، إرادة طيّبة . هذه الإرادة تُفسّر الأمر الجازم والاحترام . فمن حيث إنّها شاملة مستقلّة ؛ ومن حيث إنّها فرديّة ، أي متّحدة بحساسيّة تكون ملزمة بالاحترام لقانون الواجب . وعليه فخير ما يُقال عن مبدأ الأخلاقيّة ، أنَّ نقطة البداية كانت هي الإرادة الطّيّبة . ونقطة الوصول هي الإرادة الّتي هي طيّبة .هذه هي منبع تلك . الإرادة الطّيّبة ، هي بدء تحقّق الإرادة الّتي هي طيّبة وشاملة ، في قلب الإرادة الفرديّة (26) .
• القانون الأخلاقيّ :
بما أنَّ شعور الإنسان الطّبيعيّ حساسيّة توجّه أفعال الإنسان نحو تحقيق المنافع الشّخصيّة ، الّتي تتعارض مع القيمة الأخلاقيّة ، كما ينصُّ عليها القانون الأخلاقيّ ، فإنّها تتّسم بالأنانيّة والغرور ، تلبيةً للميول والغرائز الذّاتيّة بهدف تحقيق الّلذّة الحسيّة والنّأي عن الألم ، ولو كان ذلك يؤدّي إلى الإضرار بالآخرين والتسبّب في إلحاق الألم بهم ، الأمر الّذي يجعل هذا الشّعور ، غير جديرٍ بتوجيه أفعال الإنسان وجهةً أخلاقيّةً سليمة .
من هنا لا غنى عن القانون الأخلاقيّ لتوجيه أفعالنا وسلوكنا توجيهاً أخلاقيّاً صحيحاً ، ومثل هذا القانون ينبغي أن يتقدّمَ الشّعور الطّبيعيّ لدينا ، فيكون مرشداً وهادياً للقيام بالأفعال الأخلاقيّة وفعل الخير ، فما هو هذا القانون ؟ وما صلته بحساسيّتنا ؟ وما هي ماهيّته ؟ وما هي القواعد الّتي ينصُّ عليها ؟.
القانون الأخلاقيّ على النّحو الّذي قرّره كانط في مبدأ استقلال الإرادة هو: "منطوق مبدأ السّلوك العام الّّذي يجب أن يُطابق الكائن العاقل بينه وبين أفعاله " (27) ، وهو أيضاً :" المبدأ الكلّي والملزم الّذي ينبغي أن تكون أفعال الكائن العاقل مطابقة له من أجل تحقيق استقلال الإرادة ." (28) . أمّا عن صلة هذا القانون بالحساسيّةSensibility الّتي هي :" القدرة الّتي بها تنتقل آثار المنبّهات الخارجيّة أو الدّاخليّة إلى مراكز المخّ ، حيث تتحوّل إلى إحساسات أي إلى حالات شعوريّة .." (29) ، والّتي يستخدمها كانط رديفاً لمعنى الشّعور الطّبيعيّ . يقول كانط :" والحقُّ أنّهُ لا يوجد أيّ شعورٍ نحسّ به بهذا القانون ، ولكن بسبب أنّهُ يكنس المقاومة من الطّريق ، فإنَّ إزالة هذه العقبة هي ، في حكم العقل ، نظير محترم ومعادل للمساعدة الإيجابيّة بالنّسبة لسببيّته ، ولذلك فإنَّ هذا الشّعور يجوز لنا أن نسمّيه أيضاً الشّعور باحترام القانون الأخلاقيّ ، وهو يكون نتيجةً للسّببين ، شعوراً أخلاقيّاً ." (30).
من هنا تبرز أهميّة الحاجة لوجود القانون الأخلاقيّ ، إذ يُحوّل الشّعور الطّبيعيّ من شعورٍ خاطئ ، إلى شعورٍ أخلاقيٍّ ، بفعل الأثر الّذي يحدثه فيه ، ولكن هذا القانون بالنّسبة للشّعور يبدو كأنّه سلطة أجنبيّة قامعة وملزمة ، فيكون الشّعور الأخلاقيّ في هذه الحالة في مرتبة هي ليست عليا في سلّم الأخلاقيّة ، رغم أنّه أخلاقيّ من النّاحية الشّرعيّة ، فهو لا يستطيع بلوغ مرتبة الأخلاقيّة إلاَّ عندما يُفضي تأثّرهُ بالقانون الأخلاقيّ إلى إحداث شعورٍ باحترامه وتبجيله ، فيُصبح القانون الأخلاقيّ إذ ذاك قانوناً أخلاقيّاً داخليّاً نابعاً من الإرادة العاقلة للإنسان ، فيتّخذُ إلزامهُ للأفعال الصّادرة عن هذه الإرادة ، صورة الإلزام الدّاخليّ ، ويكون الالتزام به السّمة المميّزة للشّعور الأخلاقيّ .
والحقيقة أنَّ القانون الأخلاقيّ ليس شيئاً مفروضاً على الإرادة من خارجها ، بل هو منبثق من الإرادة نفسها ، الأمر الّذي يبرّر ضرورة إطاعته . وهذه الإطاعة إذاً هي حريّة وليست قسراً . وهذا المبدأ يُسمّيه كانط مبدأَ التّشريع الذّاتي للإرادة (31).
• ماهيّة القانون الأخلاقي :
يُعدُّ الواجب والاحترام من بين أهمّ مميّزات القانون الأخلاقيّ ، فما المقصود بالواجب ، وما الأثر الأخلاقيّ الّذي يُحدثه في حساسيّتنا بوصفها شعوراً طبيعيّاً متأصّلاً في داخلنا ؟ وما المقصود بالاحترام بوصفه الانطباع الّذي يُحدثه القانون الأخلاقيّ في نفوسنا ؟ .
للواجب Duty معنيان : الأوّل : إلزامٌ أخلاقيٌّ مطلق . والثّاني _كما عرّفه كانط _ : أمرٌ مطلق صادر عن إرادة خالصة إلى إرادةٍ منفعلة بميولٍ حسّيّة . والأمر المطلق يُصاغ هكذا : اعمل كما لو كنت تريد أن تقيم الحكم الصّادر عن فعلك قانوناً كلّيّاً للطّبيعة ." (32) ، من هنا يُتصوّر الواجب على أنّهُ يَفرِضُ علينا طاعةً ، طاعةً لقانون نعتبرهُ مطلقاً ، وقائماً كذلك ، سواء راعتهُ الكائنات الخاضعةُ لهُ أو خالفتهُ .
فما علاقة هذا القانون بحساسيّتنا ؟ يرى كانط أنَّ لهذا القانون أثراً مشهود جدّاً فينا : إنّه يولّدُ شعوراً خاصّاً لم يُحلّل التّحليل الكافي من وجهة نظره ، فإذا فهمناه على المعنى الصّحيح وجدناهُ يفتحُ منظراً جديداً على العالم الأخلاقيّ ؛ هذا الشّعور الأخلاقيّ هو الاحترام ، والاحترام بمعناه الدّقيق ليس ميلاً نحو الموضوع الّذي يلهمه ولا نفوراً ، من حيث إنّنا نحترم احتراماً أخلاقيّاً شخصاً أو قانوناً ، رغم أنَّ الاحترام ينطوي على ميل وخوف ، إنّهُ عند كانط شعورٌ فريدٌ في بابه ، يمكن أن نسمّيه شعوراً ذهنيّاً ، إنّهُ شعورٌ ناتجٌ عن فكرة خالصة ، في حين أنَّ المشاعر الأخرى ناتجةٌ عن موضوعات : إنّهُ الانطباع الّذي يصنعهُ القانون على حساسيّتنا ؛ إنّهُ وعينا بأنّنا خاضعون لهذا القانون " (33).
إنَّ احترامنا للقانون الأخلاقيّ ، هو ما يرتفع به إلى مرتبة الأخلاقيّة ، وليس بالتزامنا القسريّ به ، ناهيك عن أنَّ القيمة الأخلاقيّة أصلاً لا تتبعُ مادّة الفعل الأخلاقيّ بل تتبعُ صورته أو شكله . والمادّة في لغة كانط تعني في مجال الأخلاق : ما يفعلهُ الإنسان أو ما يعتقد بأنَّ من واجبه أن يفعله ، فالإنسان يُحقّق شكل القانون أو يُحقّق القانون تحقيقاً شكليّاً إذا كانت الأفعال الّتي يقوم بها لا تبتغي سوى التّقيّد بالقانون ، والخضوع للواجب لأنّهُ قانون أو واجب ، أي لمجرّد اتّصافه بالصّفة الأمريّة . وهذه الصّفة الأمريّة هي شكل الواجب وصورته ، وبها تتمثّل قيمة الواجب وصورته ، وبها تتمثّل القيمة الأخلاقيّة الصّحيحة . فإذا دفع المدين ما عليه اجتناباً للملاحقة ، أو احترام المرؤوس رئيسه حبّاً في التّرفيع ، فإنَّ كلاًّ منهما يخضع مادّيّاً للأخلاق ، ويحقّق مادّة الواجب ، ولكنّهما لا يخضعان شكليّاً للأخلاق ، ولا يُحقّقان صورة الأخلاق . وعليه فهنالك موقفان أساسيّان ، حيال القانون الأخلاقيّ ، موقفٌ شرعيٌّ وموقفٌ أخلاقيّ . أمّا الشّرعيّ فيقتضي انطباق أعمال الإنسان على مقتضيات القانون ، لأنّهُ يتّفق مع أحكام العدالة الإنسانيّة . أمّا الأخلاقيّ ،عندما يقوم الإنسان بعمل من الأعمال احتراماً للقانون كان موقفه أخلاقيّاً حقّاً ... لذا فالشّيء الطّيّب أخلاقيّاً لا يكون طيّباً من حيث مادّته وفحواه ، بل من حيث إضافته إلى الفاعل الأخلاقيّ ، إلى الإرادة ، إلى النّيّة (34) .
من هنا يصير الاحترام باعثاً ، حين يستولي على الفرد احترام ، فتسكتُ أهواؤهُ و تفقد قوّتها وتفسح المكان ، فيجد القانون الأخلاقيّ ما يعينه على أن يتجلّى . وعلى هذا النّحو ، وفقاً لكلمة باسكال ، إذا نحّينا العقبات الّتي هي أهواؤنا نجعل في أنفسنا مكاناً للفعل الإلهيّ الّذي يتولّى بنفسه تحديد حركات النّفوس (35).
من ناحيةٍ أخرى يُجري كانط تمييزاً بين "الاحترام" و" الإعجاب" فكلمة " الاحترام " تستعمل للنّاس فقط _ وليس للأشياء . فالأشياء تستثير الميل ، وإذا كانت ( خيولاً، كلاباً إلخ ...) فهي تبعث الحبّ والخوف ، كالبحر والبركان والحيوانات المفترسة ، لكنّها لا تبعث أبداً على الاحترام ، فذاك الشّيء الّذي يكون أقرب من غيره إلى الاحترام هو الإعجاب ، وهذا بوصفه كلفاً واندهاشاً ، يجوز لنا أن نستعمله للأشياء أيضاً ، مثلاً : كالجبال الشّاهقة ، والعِظَمْ ، والرّقم ، وبعد الأجرام السّماويّة ، وقوّة العديد من الحيوانات وسرعتها ..إلخ ولكن هذا ليس بالاحترام (36) ، وعليه فليس بالضّرورة أنَّ كلّ ما يبعث على الإعجاب يفرض احترامه علينا ، يضيف كانط إلى قول فونتينللي :" إنّني أنحني أمام رجل عظيم ، لكن ذهني لا ينحني" قوله : " أمام إنسان متّضعٍ بسيط ، أدرك فيه استقامة في الخلق على درجةٍ أرفع من الاستقامة الّتي أعيها في ذاتي ، أمام مثل هذا الإنسان ينحني ذهني ، سواء شئت أم أبيت ، وبالرّغم من أنَّ رأسي يكون لم يبلغ أبداً من الشّموخ ما بلغهُ آنذاك ، كي أجعلهُ لا ينسى سموّ مقامي . فما هو سبب هذا الأمر ؟ إنَّ مثَلَهُ هو السّبب ، فهو يعرضُ عليَّ قانوناً يذلُّ غروري ، وذلك عندما أقارن هذا القانون بسلوكي ، إنّهُ قانون أرى تمرّسيّة طاعته قد برهنت عليها الواقعةُ الماثلةُ أمام ناظري ، والآن فقد تكون لي حتّى ذات الدّرجة من الاستقامة الّتي لذاك ، ومع ذلك فإنَّ احترامي لهُ لابثٌ ومقيم." (37) .
والسّؤال ماذا ينبغي أن يكون القانون لكي يُحدث فينا أثراً كهذا ؟ ثمّة شروط ينبغي توفّرها في القانون الأخلاقيّ هي ما اصطُلِحَ على تسميتها بقواعد القانون الأخلاقيّ :
• شروط القانون الأخلاقيّ وقواعده :
أوّلاً : ينبغي أن يكون له طابع الشّمول ، وأن ينطبق على جميع الكائنات النّاطقة ، وأن يُجاوز إلى ما لانهاية في سلطته إرادتنا الفرديّة . وعليه فالقاعدة الأولى للقانون الأخلاقيّ :" افعل كما لو كانت قاعدةُ فعلك يجب أن تقيمها إرادتك قانوناً كليّاً للطّبيعة " (38) . وفي ترجمة الدكتور عثمان أمين ، لكتاب إميل بوترو " فلسفة كانط" تنصّ القاعدة : " اعمل بحيث تستطيع أن تريد بأن يُقام مبدأ فعلك قانوناً شاملاً "(39) .
يظهر من الشّرط الأول والقاعدة الأولى للقانون الأخلاقيّ ، أنّهما يرميان إلى تحقّق شرطيّ العدالة والمساواة المطلقة بين النّاس جميعاً أمام القانون ، فالجميع متساوون في حضرة القانون الأخلاقيّ ، بغضّ النّظر عن أصولهم ووضعيّاتِهِم الاجتماعيّة واختلافاتِهم العرقيّة والدّينيّة والمذهبيّة والفكريّة والثّقافيّة ، وهذا أوّل مبدأ قانونيّ أخلاقيّ يعلي من مكانة الفرد في مجتمعه ، بمساواته مع غيره من أفراد بني جنسه ، الأمر الّذي يُعدّ ثورةً حقيقيّة في الفكر الفلسفي الحديث ، خصوصاً إذا عرفنا كم هي المدّة الّتي بقي التّمييز قائماً فيها بين البشر على مرّ العصور التاريخيّة السّابقة .
من ناحية أخرى يرى أن كانط أنَّ الأمريّة والجزم أمران ضروريّان للقانون الأخلاقيّ ، ذلك "أنَّ الأخلاقيّة عبارةٌ عن الطّاعة لأوامر جازمة ، أي أوامر تأمر بأفعالٍ هي لنفسها غايتها . مثال ذلك : لا تكذب ، لا تقتل ، فما مأمورٌ به هنا إنّما هو الفعل نفسهُ لا النّتائج الّتي يستطيعُ أن يُحدثها الفعل الأخلاقي .." (40)، وبالتّالي يتطابقُ هذا القانون في الأوامر والنّواهي الّتي يُصدرها مع تلك الأوامر والنّواهي الإلهيّة ، على نحو ورودها في الكتب الدّينيّة المقدّسة .
وللبرهنة على صحة القاعدة المذكورة للقانون الأخلاقي ، يسوق كانط أربعة أمثلةٍ مرتّبة وفقاً لقسمة الواجبات إلى :1- واجبات نحو الذّات ؛ 2- واجبات نحو الغير ؛ 3- واجبات كاملة ؛ 4- واجبات ناقصة .
المثال الأوّل : إنسان تحالفت عليه المحن والآلام فَكَرِهَ الحياة . فهل يحق له أن ينتحر ؟ حبّاً لذاتي ، فإنّي أنتحر ، لأنّني لو استمررت في الحياة للقيت من المصائب أكثر من النّعم . فهل يمكن حبّ الذّات ، مفهوماً على هذا النّحو ، أن يصير قانوناً كليّاً للطّبيعة ؟ كلاَّ " لأنَّ الطّبيعة الّتي سيكون قانونها هو تدمير الحياة نفسها ، بواسطة الشّعور نفسه الّذي وظيفته الخاصّة هي الحثّ على تنمية الحياة ، مثل هذه الطّبيعة ستكون متناقضة مع نفسها ، ولن تبقى إذن بوصفها طبيعة . وإذن فهذه القاعدة لا يمكن مطلقاً أن تشكّل مكانة قانون كلّيٍّ للطّبيعة ، وهي بالتّالي مضادّةٌ للمبدأ الأعلى للواجب " وبعبارة أبسط : من المستحيل أن نتصوّر أنَّ الطّبيعة ، الّتي قانونها هو المحافظة على الحياة وتنميتها ، تقرّر القضاء على الحياة بسبب ظروف عارضة وانفعالات ذاتيّة . إذا كان حبّ الذّات يقتضي البقاء على قيد الحياة ، فكيف يقتضي بعد ذلك ، لظروف عارضة ، القضاء على الحياة ؟!. ( 41).
من هنا يعدُّ توفّر عنصر الشّموليّة في القانون الأخلاقيّ شرطاً ضروريّاً ، لتفادي حدوث أيّ اعتداءات أو انتهاكات من جانب أي شخص ، وتحت أيّة مبرّرات ذاتيّة ، وهو بذلك يُحقّق وقاية للذّات وللغير من الأذى . من ناحية أخرى ينطوي مبدأ الشّموليّة الأخلاقيّة ، على منع حدوث ما يُسمّى بتنازع الواجبات الأخلاقيّة ، الّتي لا تحصل إلاّ في ظل غياب الشّموليّة و انتهاكها . فقول الصّدق ، والالتزام بردّ الأمانة ، وقول الحقّ ، وعدم التسبّب بالأذى ، واجباتٌ أخلاقيّةٌ لا تنازع فيما بينها في ظلّ شموليّة أخلاقيّة تطاول جميع البشر . وهذا التصوّر رغم صحّته من النّاحية التّصوّريّة الأخلاقيّة ، إلاَّ أنّه من النّاحية الواقعيّة يصطدم بحقيقة عدم توفّر عنصر الشّموليّة الأخلاقيّة في أفعال جزء ليس بالقليل من النّاس وسلوكهم ، الأمر الّذي ينجم عنه التّنازع في أداء الواجبات الأخلاقيّة آنفة الذّكر .
المثال الثّاني : إنسان في ضائقة ماليّة تدعوه إلى الاقتراض . ولكنّه يعلم جيّداً أنّهُ لن يستطيع ردّ المبلغ الّذي هو في حاجةٍ إليه ، لو أنَّ إنساناً آخر أقرضه إيّاه : لكان يعلم أيضاً أنّهُ إن لم يتعهّد بردّ المبلغ ،فإنَّ أحداً لن يقرضه ، فإن قرّر التصرّف وفقاً للقاعدة التّالية : حين أفتقر إلى المال ، أقترض وأتعهّد بردّه مع علمي بأنّني لن أردّه_ فهل يمكن أن تصير هذه القاعدة ، الّتي أملاها حبّ الذّات أو المنفعة الشّخصيّة ، قانوناً كليّاً للطّبيعة ؟ كلاَّ ، فالتّناقض فيها واضحٌ ." لأنَّ كليّة القانون ، الّتي وفقاً لها كلّ إنسان شاعر بالحاجة إلى المال يمكنه أن يتعهّد بأيّ شيء مع العزم المصمّم على عدم ردّه ، ستجعل الوعود ( التّعهّدات) نفسها مستحيلةً ، هي والغرض الّذي يريد المرء تحقيقه بها لأنّهُ لن يعتقد إنسانٌ فيما يوعد به ، وسيسخر كلّ النّاس من مثل هذه القرارات بوصفها إيهامات لا جدوى وراءها ( 42) . من هنا يُعدُّ توفّر عنصريّ العزم والتّصميم إلى جانب عنصر الشّموليّة ، ضماناً أكيداً لصون حقوق الغير من أيّ نوع من الانتهاكات الأخلاقيّة الّتي يمكن أن تتعرّض لها .
المثال الثّالث : شخصٌ أُتيَ قريحةً لو أنّها هُذِّبَت وثُقِّفَت لأصبحَ رجلاً مفيداً من نواح عدّة. لكنّهُ في حالٍ ميسورة ، ويُفضّل أن يستسلم للذّات بدلاً أن يُجهدَ نفسه في تنمية مواهبه واستعداداته الطّبيعيّة ، وهي قاعدةٌ تتمشّى مع ميله إلى الاستمتاع ، تتّفق مع ما يُسمّى باسم الواجب . وسيتبيّن أنَّ لهُ طبيعةً تسلك وفقاً لهذا القانون الكليّ يمكنها دائماً أن تعيش وتبقى ، بينما يدع المرء قريحته تصدأ ، ولا يُفكّر إلاَّ في توجيه حياته نحو البطالة ، واللذّة ، وتكثير النّوع ، وبالجملة نحو الاستمتاع ، لكنّهُ لا يمكن مطلقاً أن يريد أن يكون هذا قانوناً كليّاً للطّبيعة ، أو أن ينغرس فينا هذا بغريزة طبيعيّة ، ذلك لأنّهُ بوصفه كائناً عاقلاً ،يريد لا محالة أن تُنمّى كلّ المكانات الموجودة فيه لأنّها مفيدة له ، ولأنّهُ مُنِحها لأنواع عديدة من الغايات . (43) فالواجبات الأخلاقيّة ينبغي أن تكون واجبات كاملة حيال الذّات و الغير .
المثال الرّابع : إنسان تسير أموره على ما يُرام ، لكنّهُ يُشاهد بعض الآخرين في أزمة ، ويمكنه أن يُعينهم ، لكنّه يقول لنفسه : ماذا يهمّني من هذا ؟ ليكن كلّ إنسان سعيداً بقدر ما ترضى السّماء ، أو بقدر ما يستطيع هو بمجهوده الخاص ، وأنا لن أسلبه شيئاً ممّا يملك ، بل ولن أحسده ، لكنّني لا أشعر برغبة في الإسهام بأيّ شيء في سبيل تحسين حاله أو السّعي لمعونته عند الحاجة . فإن صارت وجهة النّظر هذه قانوناً كلّيّاً للطّبيعة ، فلربّما بقي النّوع الإنسانيّ على قيد الحياة ، وفي حال أفضل ممّا لو كان على لسان كلّ إنسان كلمات العطف والإحسان ، وأظهر الحرص على ممارسة هذه الفضائل في المناسبات ، لكنّه يخدع كلّما استطاع إلى الخداع سبيلاً ، ويتاجر بحقوق النّاس أو ينتهكها من نواحٍ أخرى ." لكن على الرّغم أنّه من الممكن تماماً أن يبقى قانوناً كلّياًّ طبيعيّاً موافقاً لهذه القاعدة، فإنَّ من المستحيل مع ذلك أن يريد أن يكون مثل هذا المبدأ صادقاً صِدقاً كلّيّاً بوصفه قانون الطّبيعة ، لأنَّ الإرادة الّتي تتّخذ هذا الموقف تناقض نفسها بنفسها ، إذ يمكن أن يحدث أن توجد أحوال كثيرة يكون فيها هذا الإنسان بحاجةٍ إلى الحبّ والعطف عليه من الآخرين ، لكنّهُ سيحرم نفسه بنفسه من كلّ أمل في الظّفر بالمساعدة الّتي يرجوها بواسطة هذا القانون للطّبيعة الصّادر عن إرادته " (44).
ثانياً : لا بدَّ للإرادة أن تتصرّف تحت فكرة الشّمول الّتي يأمر بها القانون الأخلاقيّ ، ولابدّ أن تعمل على تيسير قيام حكم قوانين ، أو قيام طبيعة . وعليه فالقاعدة الثّانية للقانون الأخلاقي :" اعمل وكأنَّ قاعدة فعلك لابدّ بإرادتك أن تصير قانوناً طبيعيّاً شاملاً . " (45) . وهنا يربط كانط أداء الأفعال الأخلاقيّة بالإرادة ، بحث تنتقل من مستوى النّيّة والتصوّر إلى مستوى الفعل المتعيّن المحسوس في الطّبيعة ، فالقانون الأخلاقيّ بحاجةٍ إلى توفّر الإرادة الفاعلة لتحقيق الأفكار والمبادئ الّتي ينطوي عليها .
ثالثاً : لا يوجد إلاَّ غاية واحدة يمكن أن تكون شاملة بغير تناقض ، لأنّهُ لا يوجد إلاَّ واحدة هي طيّبة إطلاقاً .. هي الكائن النّاطق ، لذا تنصّ القاعدة الثّالثة من قواعد القانون الأخلاقي على التّالي :" تصرّف بحيث تعامل الإنسانيّة دائماً ، الكائن النّاطق ، سواء في نفسك أو في غيرك ، على أنّهُ غاية لا على أنّهُ وسيلة أبداً " (46). وفي ترجمةٍ أخرى :" افعل بحيث تعامل الإنسانيّة ، في شخصك وفي شخص سواك ، دائماً وفي نفس الوقت، على أنّها غاية ، وليس أبداً على أنّها مجرّد وسيلة " (47). يُطبّق كانط هذه القاعدة أو المبدأ أو الآمر العمليّ المطلق على الأمثلة الأربعة آنفة الذّكر في القاعدة الأولى نفسها على النّحو التّالي :
المثال الأوّل : الانتحار : فبالنّسبة إلى من يُفكّر في الانتحار، فإنّهُ يتساءل : هل فعلهُ هذا يمكن أن يتّفق مع فكرة الإنسانيّة بوصفها غاية في ذاتها ؟ وهنا يجد أنّهُ ، كيما يتخلّص ممّا يلقاه في الحياة من آلام وعذاب، سيستخدم نفسه الإنسانيّة للتّخلّص من الآلام . وهذا يُخالف المبدأ المذكور ، لأنّهُ يقول إنّه لا يجوز للمرء أن يُعامل الإنسانيّة في شخصه أو في شخص سواه على أنّها وسيلة.ولهذا لا يجوز له أن ينتحر.
المثال الثّاني : التعهّد بسداد الدّين :إنّنا حين نأخذ المال من الآخرين متعهّدين كذباً بسداده، فمن الواضح أنّنا نستخدمهم وسائل ، لا غايات . وهذا الإهدار لمبدأ الإنسانيّة لدى الآخرين يتّضحُ أكثر حين نفحص الأمثلة على الاعتداء على حريّة الآخرين أو أملاكهم .
المثال الثّالث : تثقيف المواهب الذّاتيّة : ولا يكفي فقط أن يُناقض الفعل الإنسانيّة في شخصنا بوصفها غاية في ذاتها ، بل يجب أيضاً أن يكون على وفاق معها .. . ففي الإنسانيّة استعدادات لمزيد من الكمال تؤلّف جزءاً من غاية الطّبيعة تجاه الإنسانيّة في الشّخص الّذي هو نحن . وإهمال هذه الاستعدادات ربّما يتّفق مع المحافظة على الإنسانيّة بما هي غاية في ذاتها ، لكنّه لا يتّفق مع إكمال هذه الغاية .
المثال الرّابع : الواجبات نحو الغير : إنَّ الغايةَ الطّبيعيّة عند كلّ النّاس هي سعادتهم . صحيح أنَّ الإنسانيّة يُمكن أن تبقى إذا لم يُسهم أحد في سعادة الآخرين ، في الوقت الّذي يمتنع فيه عن إيذائِهِم عن قصد وإصرار ، لكنَّ هذا ليس إلاَّ وفاقاً سلبيّاً ، لا إيجابيّاً ، مع الإنسانيّة بما هي غاية في ذاتها ، إن لم يُحاول المرء أيضاً أن يُساعد ، قدر ما يستطيع ، في تحقيق غايات الآخرين (48). والسّؤال : كيف أستطيع أن أعامل الآخرين على أنّهم غاية دون أن أنزل بنفسي إلى دور الوسيلة ؟ أستطيع ذلك لو أنَّ جميع الإرادات اتّفقت وأَلِفَت حكم غايات ، ولو أنَّ إرادتي اتّفقت مع الإرادة العامّة . ومن هنا فهذه الصّيغة الأخيرة : أساس كلّ تشريع عملي هو فكرة إرادة كائن ناطق بما هو إرادة تشريعيّة شاملة . ولكن كيف يمكن تحقيق انسجام الإرادات ؟ يرى كانط أنَّ شيئاً واحداً يستطيع أن يؤسّس انسجام الإرادات : طاعة العقل . الإرادة ، على وفاق مع العقل تستطيع أن تعتبر هي المشرّعة الشّاملة ؛ وبالتّالي لم يعد ضروريّاً أن ننظر إلى القانون الأخلاقيّ على أنّهُ مفروضٌ من الخارج على الإرادة ، فالإرادة من حيث هي شاملة لها الحقّ أن تسمّي نفسها القانون : لأنّها التّعبير عن العقل نفسه ، مصدر كلّ قانون . وبهذا نصل إلى ما يُسمّيه كانط المبدأ الأعلى للأخلاقيّة ؛ وهو مبدأ استقلال الإرادة .
• آثار القانون الأخلاقي :
تكمن أهميّة القانون الأخلاقيّ في جعل أفعال الإنسان تتّسم بالمشروعيّة الأخلاقيّة ، وهذا بمثابة خطوة ضروريّة لتعيين الإرادة تعييناً مباشراً وفقاً لمقتضيات هذا القانون ، ولكنّ ذلك لا يكفي للانتقال بالإنسان إلى مستوى أسمى من الأخلاقيّة ، إلاَّ بانتقال القانون الأخلاقيّ من كونه سلطةً خارجيّة آمرة إلى سلطةٍ داخليّة ملزمة ، سلطةٍ تحظى بالاحترام والتّقدير ، يقول كانط : " إنَّ ما هو جوهريّ في القيمة الأخلاقيّة للأفعال ، هو: أنَّ القانون الأخلاقيّ يجب أن يعيّن الإرادة تعييناً مباشراً . وإذا حدث تعيين الإرادة بالفعل ، وفقاً لقانون الأخلاق ، ولكن فقط بواسطة الشّعور ... الّذي يتوجّب علينا أن نفترضه مسبقاً ، كي يكون القانون كافياً لتعيين الإرادة ، لا من أجل القانون ، فعندئذٍ سيمتلك الفعلُ مشروعيّةً لكنّهُ لا يكون مالكاً للأخلاقيّة .. إذَن ، ولمّا كنّا ، من أجل تزويد القانون الأخلاقيّ بنفوذ وتأثير في الإرادة ، يتوجّب علينا ألاّ نطلب أيّةَ دوافع أخرى ، قد تمكّننا من الاستغناء عن دافع القانون الأخلاقيّ بالذّات ، وذلك لأنَّ ما سينشأ عن هذا الأمر هو رياء بدون رصانة أو انطباق ، ولمّا كان حتّى من الخطر أن نسمح لدوافع أخرى (حتّى دافع المصلحة مثلاً ) ، بأن تتعاون من أوّل الأمر حتّى آخره وقانون الأخلاق ، لذلك فإنّهُ لا يبقى أمامنا من أيّ شيء ، سوى أن نعيّن بعناية وحذر ، ما هو الأسلوب ، الّذي يُصبح وفقاً له ، القانون الأخلاقيّ دافعاً ، وأيّ أثرٍ يكون لهذا في مملكة الرّغبة ... إنَّ النّقطة الجوهريّة في كلّ تعيين للإرادة بواسطة القانون الأخلاقيّ ، هي : إنّهُ نظراً لكون الإرادة ، إرادة حرّة ، فإنَّ القانون الأخلاقيّ يقوم بتعيينها ، وهو لا يقوم بهذا التّعيين فقط بدون التّعاون والحوافز الحسيّة ، بل إنّهُ يقوم به حتّى ليرفض وينبذ جميع مثل هذه الحوافز ، وليكبح من جماح جميع الميول من حيث إنّها قد تكون متعارضة وهذا القانون " (49) ، وبالتّالي فإنَّ الأثر الّذي يحدثه القانون الأخلاقيّ في الشّعور ، يتّخذ في بادئ الأمر صورةً سلبيّة كونه يعمل على كبح جماح الميول الحسيّة والتسبّب في الألم نتيجة سحقه وإهداره للأنانيّة والغرور الّلذين يتّصف الشّعورُ بهما . فالانتقال بالشّعور من وضعيّة الشّعور الخاطئ إلى وضعيّة الشّعور الأخلاقيّ يُفضي إلى ما هو أبعد من الإذعان والخضوع للقانون الأخلاقيّ باتّجاه توقيره واحترامه ، وهذا الانتقال في جوهره بمثابة ولادةٍ جديدة ، صاحبها شعور بالأم من بدايتها إلى نهايتها ، ولادةٍ تخلّص الإنسان فيها من هيمنة الأنانيّة والغرور ، ليقف موقف الاحترام من القانون الأخلاقيّ ، يقول كانط :" إنَّ القانون الأخلاقيّ ، بوصفه مبدأً معيّناً للإرادة ، يجب عليه بواسطة معارضة جميع ميولنا وإحباطها ، أن يُنتجَ شعوراً ، الّذي يجوز لنا أن نسمّيه الألم .. إنَّ القانون الأخلاقيّ يُحطّم الغرور تحطيماً ، ولكن لمّا كان هذا القانون هو شيءٌ إيجابيّ بذاته ، أي إنّهُ شكل السّببيّة الفكريّة ، أي سببيّة الحريّة ، لذلك يجب أن يكون موضوعاً للاحترام أو الإجلال ، وذلك لأنَّ هذا القانون بمناهضته لعدائيّة الميول الذّاتيّة ، إنّما يُضعف الغرور ، ونظراً لأنَّ هذا القانون يحطّم ، أيّ يذلّ هذا الغرور ، لذلك فإنّهُ موضوعٌ لأعمق احترام وأسمى إجلال ، وهو بحكم ذلك الأساس للشّعور الإيجابيّ ، الّذي لا يكون من أصل تجريبيّ ، بل إنّما نعرفه معرفةً بدئيّة ، لذلك فإنَّ احترام القانون الأخلاقي هو شعور توّلدهُ علّة فكريّة ، وهذا الشّعور هو الشّعور الوحيد الّذي نعرفه معرفةً بدئيّة تماماً ، والّذي يكون بإمكاننا أن ندرك ضرورته ." (50) .
من هنا يعود الفضل في الارتقاء بشعور الفرد من وضعيّة الحسيّة ، (وضعيّة الميول والأهواء ، والرّغبات والغرائز ، والأنانيّة والغرور ، وانتهاك القيمة الأخلاقيّة ، إلى وضعيّة الشّعور الأخلاقيّ ، وضعيّة الالتزام بالتّعليمات والأوامر الّتي ينصُّ القانون الأخلاقيّ عليها ، بدافعٍ من احترامها وتقديرها ، ليس باعتبارها تعليمات وأوامر خارجيّة عنّا ، بل باعتبارها نابعةً من صميم إرادتنا الذّاتيّة . وبالطّبع فالامتثال لسلطة القانون الأخلاقيّ ليس أمراً اختياريّاً ، أو خاصّاً بفردٍ دون آخر ، فالإلزام والشّمول ، أبرز صفات هذا القانون ، مع إدراك كانط العميق لحجم الصّعوبات والمعوّقات العمليّة الّتي تحول دون تطبيقه ، إلاَّ أنّه كفيلسوف يؤمن بأنَّ مهمّته الفلسفيّة والأخلاقيّة ، هي الدّعوة للانتقال بالواقع من حالة العبث والفوضى ، إلى حالةٍ مثاليّةٍ يُحقّقُ النّاس فيها ذواتهم الإنسانيّة والأخلاقيّة وفقاً لقيم الخير والمحبّة .
• تنازع الواجبات الأخلاقيّة :
ممّا لاشكَّ فيه أنَّ أخلاق الواجب عند كانط بلغت ذروتها عندما قرّر بأنَّ : " ما هو واجب هو واجب بما هو في ذاته وليس بما له من نتائج وآثار تعود على الفاعل " (51). غير أنَّ نظريّته في الواجب لا تخلو من بعض الصّعوبات النّاشئة عن صراع الواجبات الأخلاقيّة فيما بينها . ومن الأمثلة على ذلك : لنفرض أنّني أخذت على عاتقي كتمان سرّ ، ثمَّ سألني أحد النّاس عنه ، فإنّني لا أستطيع أن أقول الصّدق وأحفظ عهدي ، ولكن ينبغي _ حسب الأخلاق الكانطيّة _أن أقوم بالاثنين معاً ، وفي موقف كهذا يتعذّر عليّ من النّاحية المنطقيّة تعميم سلوكي : فإذا قلت الصّدق ، فإنّي أخون العهد الّذي قطعته على نفسي بكتمان السّرّ ، وإذا حفظت العهد ، فلا أقول الصّدق ، فينعدم هنا الاختيار بين موقفين متنازعين (52) ، وبالفعل سيكون مثار اشمئزاز أخلاقيٍّ ردُّ أمانةٍ لصاحبها هي عبارة عن سلاحٍ مميت ، إذا علمنا أنّهُ فاقدٌ للأهليّة العقليّة والنّفسيّة . رغم أنَّ ردّ الأمانة لصاحبها واجبٌ أخلاقيّ ! .
ولكنَّ وجود هذا التّنازع بين الواجبات الأخلاقيّة ، ناشئٌ في الأصل عن معطيات الواقع نفسه ، فالواقع الإنسانيّ لم يرتق بعد إلى مستوى الأخلاقيّة ، الّتي ينتفي فيها العداء والبغض والكراهية ، والأنانيّة والغرور، والحروب ، والشّرُّ بصورةٍ عامّة ، فالأخلاق الكانطيّة خاصّةٌ بواقعٍ تحكمهُ القيم الأخلاقيّة ، والقانون الأخلاقيّ ، واقع يمتلكُ جميعُ أفراده إرادةً طيّبةً وشعوراً أخلاقيّاً ، ينتج المحبّة والسّلام ، فينتفي فيه التّنازع بين الواجبات الأخلاقيّة ، واقعٌ يُصبح فيه الواحد والكثير واحداً في الماهيّة الأخلاقيّة . وبالطّبع فمثل هذا الواقع غير موجودٍ عبر التّاريخ الإنسانيّ ، إلاَّ أنَّ الدّعوة إليه ، ورسم معالمه ، تظلُّ دعوةً أخلاقيّة خليقة بالاحترام ، والسّعي إلى تحقيقها باعتبارها يوتوبيا إنسانيّةً مشروعة عبر العصور جميعاً .
• استخلاص :
ممّا تقدّم يمكن استخلاص أهمّ الأفكار الّتي انطوى عليها مذهب كانط الأخلاقيّ ، أوّلاً : أهميّة القانون الأخلاقيّ في حياة الإنسان ، وضرورة أن يتقدّم الشّعور الطّبيعيّ ، الّذي يميل بطبيعته نحو الأشياء الحسيّة وتحقيق المنفعة وتحصيل اللّذة ، فالأنانيّة والغرور أبرز خصائص هذا الشّعور ، ممّا يحول بينه وبين القيم الأخلاقيّة وفعل الخير ، فالقانون الأخلاقيّ له طابع الأمر والجزم والشّمول ، ويصلحُ أن يكون هادياً ومرشداً أخلاقيّاً لأفعالنا الإنسانيّة . ثانياً : يتّصفُ القانون الأخلاقيّ بالكليّة والشّمول فيتساوى جميع النّاس أمامه دون تمييز ، فالفضيلةُ ليست امتيازاً ، ولا ثمرة لعلم يعزّ مناله على العاميّ ، ولا تفوّقاً يستطيعُ بلوغه رجل ينعم بوقت فراغ ويعفيه الآخرون من هموم الحياة المادّيّة ، إنّها في أكمل صورة لها في متناول الجميع على حدٍّ سواء (53) . ثالثاً: يرتقي الشّعور الطّبيعيّ عند الإنسان من الوضعيّة الطّبيعيّة ( وضعيّة الشّعور الخاطئ ) إلى الوضعيّة الأخلاقيّة ( وضعيّة الشّعور الأخلاقيّ) ، بواسطة إذعانه المطلق للقانون الأخلاقيّ والتقيّد الحرفيّ بأوامره ، ولكنَّ ذلك لا يكفي لكيّ يصنع شعوراً أخلاقيّاً حقيقيّاً ، ما لم يحظ بالاحترام والتّقدير في أنفسنا . رابعاً : يُحدثُ القانون الأخلاقيّ أثرين متناقضين في الحساسيّة أو الشّعور ، أثرٌ سلبيّ يتمثّل في السّحق والإهدار لمظاهر الشّعور الخاطئ من أنانيّة وغرورٍ وكبرياءٍ كاذب ، وأثرٌ إيجابيّ يتمثّل بالاحترام ، فالشّعور الأخلاقيّ هو شعورٌ باحترام القانون الأخلاقيّ ، خامساً :يكشف الاحترام للوعي الفرديّ قانون الواجب والّذي يعود في سلالته النّبيلة إلى الإرادة . سادساً: يُعدُّ اتّفاق الإرادة والعقل واتّحادهما معاً ، عماد الحياة الأخلاقيّة ، إذ يجعل الإرادة عاقلة حرّة ومستقلّة ، فتصبح إرادة مشرّعة للقانون الأخلاقيّ ، إرادة تتّصف بالشّمول والجزم ، إرادةً طيّبةً ، تكون منبع للقيم الأخلاقيّة جميعاً ، تنقل الإنسان من حالة الخضوع للقانون الأخلاقيّ إلى حالة الاحترام والتّبجيل والتّقدير . سابعاً: يعلي القانون الأخلاقيّ من شأن الإنسان عندما يأمرنا أن نتعامل معه على أنّهُ غايةً لا وسيلة . ثامناً : يقوم القانون الأخلاقيّ على ضرورة التّطابق بين صورة الأفعال و مادّتها ، بين الأقوال والأفعال ، لذا يأمر كلّ فرد أن يجعل من سلوكه الأخلاقيّ أُنموذجاً يُحتذى ، فيغدو مشرّعاً أخلاقيّاً للآخرين من حوله ، لا بالقول فحسب بل بالفعل كذلك ، فليس المهمّ أن نريد أداء واجبنا فحسب بل أن نؤدّيه بالفعل ، وأن نكون أخياراً ، وأنَّ هذا الأمر موجّهٌ إلى الجميع على حدٍّ سواء . وكيف يكون ممكن التّحقيق ( 54). تاسعاً: ثمّة تنازعٌ في أداء الواجبات الأخلاقيّة يستحوذ علينا في بعض الأحيان الظّروف ، لعلّة غياب شرطيّ الإلزام والشّمول في تطبيق المبادئ الأخلاقيّة للقانون الأخلاقيّ من النّاحية التّنفيذيّة . عاشراًً : يعود الفضل لفلسفة كانط الأخلاقيّة بوجه عام ، وكتابه : " نحو سلام دائم ، محاولات فلسفيّة " في إرساء الأسس القانونيّة الأخلاقيّة لميثاق عصبة الأمم ، والميثاق العالمي لحقوق الإنسان . والدّعوة إلى إشاعة قيم الخير والمحبّة في نفوس البشريّة جمعاء .
*- كتب هذا الفصل الدكتورة إيمان الصّالح (رئيسة قسم الدّراسات الفلسفيّة والاجتماعيّة بجامعة حلب ) .
مصادر الفصل السّادس ومراجعه
*- الدكتور ، بدوي ، عبد الرّحمن ، "موسوعة الفلسفة " ، الجزء الثّاني ، الطّبعة الأولى ، المؤسّسة العربيّة للدّراسات
والنّشر ، بيروت ، 1984 م .
*- بوترو ، إميل ، " فلسفة كانط " ، ترجمة ، الدكتور عثمان أمين ، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة ، الهيئة المصريّة
العامّة للتّأليف والنّشر ، القاهرة ، 1971م .
* ديورانت ، ول ، " قصّة الفلسفة " ، ترجمة ، الدكتور فتح الله محمد المشعشع ، الطّبعة الرّابعة ، مكتبة المعارف ، بيروت
، 1982م .
*- د. زيادة ، معن ، رئيس التّحرير ، " الموسوعة الفلسفيّة العربيّة "، المجلّد الأوّل ، (الاصطلاحات والمفاهيم )، الطّبعة
الأولى ،معهد الإنماء العربي ، بيروت ، 1986 م .
*- د. زيادة ، معن ، رئيس التّحرير ، " الموسوعة الفلسفيّة العربيّة "، المجلّد الثّاني القسم الثّاني ، (، الطّبعة الأولى ، معهد
الإنماء العربي ، بيروت ، 1988 م .
*- سلّوم ، توفيق ، المترجم ، " معجم علم الأخلاق " ، بإشراف ، إيغور كون ، دار التّقدّم ، موسكو ، 1984 م .
*- كنت، عمانوئيل، نقد العقل العملي،ترجمة، أحمد الشّيباني ،دار اليقظة العربيّة للتّأليف والتّرجمة والنّشر،بيروت
، 1966م .
*- لويس ، جون ، "مدخل إلى الفلسفة" ، ترجمة ، أنور عبد الملك ، طبعة ثالثة ، دار الحقيقة، بيروت ، 1978 م .
*- مجمع اللّغة العربيّة ، " المعجم الفلسفي" ، تصدير ، الدكتور إبراهيم مدكور ، الهيئة العامّة لشؤون المطابع الأميرية ،
القاهرة ، 1983م .
*- د. وهبة ، مراد ،" المعجم الفلسفي" ، الطّبعة الثّالثة ، دار الثّقافة الجديدة ، القاهرة ، 1979م .
**********************
************
*******
**
الهوامش
(1)_ انظر ، الدكتور ، بدوي ، عبد الرّحمن ، "موسوعة الفلسفة " ، الجزء الثّاني ، الطّبعة الأولى ، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر ،
بيروت ، 1984 م ، ص 269 . و لويس ، جون ، "مدخل إلى الفلسفة" ، ترجمة ، أنور عبد الملك ، طبعة ثالثة ، دار
الحقيقة، بيروت ، 1978 م ، ص 121 .
(2)_سلّوم ، توفيق ، المترجم ، " معجم علم الأخلاق " ، بإشراف ، إيغور كون ، دار التّقدّم ، موسكو ، 1984 م، ص 313.
(3)_ كنت، عمانوئيل، نقد العقل العملي،ترجمة، أحمد الشّيباني ،دار اليقظة العربيّة للتّأليف والتّرجمة والنّشر،بيروت ، 1966م، ص 266 .
(4)_ للمزيد، انظر ، موسوعة الفلسفة ، الجزء الثّاني ، ص289، ص290 .
(5)_ د. زيادة ، معن ، رئيس التّحرير ، " الموسوعة الفلسفيّة العربيّة "، المجلّد الثّاني القسم الثّاني ، (، الطّبعة الأولى ، معهد الإنماء العربي ،
بيروت ، 1988 م، ص 967 .
(6)_ المرجع نفسه ، ص967 .
(7)_ انظر ، بوترو ، إميل ، " فلسفة كانط " ، ترجمة ، الدكتور عثمان أمين ، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة ، الهيئة المصريّة العامّة للتّأليف
والنّشر ، القاهرة ، 1971م ، ص 311، ص 312.
(8)_ انظر ، المرجع نفسه ، ص312.
(9)_ ديورانت ، ول ، " قصّة الفلسفة " ، ترجمة ، الدكتور فتح الله محمد المشعشع ، الطّبعة الرّابعة ، مكتبة المعارف ، بيروت ، 1982م ،
ص 334 ، 335 .
(10)_ انظر ، المرجع نفسه ، ص 335 .
(11)_ فلسفة كانط ، ص 354.
(12)_ المرجع نفسه ، ص 353، ص354.
(13)_ المرجع نفسه ، ص 354.
(14)_ المرجع نفسه ، ص 354.
(15)_ نقد العقل العملي ، ص134.
(16)_ انظر ، فلسفة كانط ، ص 354.
(17)_ للمزيد ، أنظر ،المرجع نفسه ، ص355.
(18)_ انظر ، المرجع نفسه ، ص356.
(19)_ انظر ، المرجع نفسه ، ص356.
(20)_ انظر ،المرجع نفسه ، ص357.
(21)_ للمزيد، انظر ، د. زيادة ، معن ، رئيس التّحرير ، " الموسوعة الفلسفيّة العربيّة "، المجلّد الأوّل ، (الاصطلاحات والمفاهيم )، الطّبعة
الأولى ،معهد الإنماء العربي ، بيروت ، 1986 م ، ص 825.
(22)_ للمزيد ، انظر ، فلسفة كانط ، ص319.
(23)_ المرجع نفسه ، ص 313 .
(24)_ المرجع نفسه ، ص 313 .
(25)_ الموسوعة الفلسفيّة العربيّة ، المجلّد الثّاني ، القسم الثّاني ، ص968 .
(26)_ انظر ، فلسفة كانط ، ص 316.
(27)_ مجمع اللّغة العربيّة ، " المعجم الفلسفي"، تصدير ،الدكتور إبراهيم مدكور ، الهيئة العامّة لشؤون المطابع الأميرية ، القاهرة ، 1983م
، ص 145.
(28)_ د. وهبة ، مراد ،" المعجم الفلسفي" ، الطّبعة الثّالثة ، دار الثّقافة الجديدة ، القاهرة ، 1979م ، ص 323.
(29)_ المرجع نفسه ، ص172.
(30)_ نقد العقل العملي ، ص135.
(31)_ انظر ، موسوعة الفلسفة ، الجزء الثّاني ، ص284.
(32)_ د. وهبة ، مراد ، المعجم الفلسفي ، ص 462.
(33)_ انظر ، فلسفة كانط ، 314 .
(34)_ للمزيد ، انظر ، الموسوعة الفلسفيّة العربيّة ، المجلّد الثّاني ، القسم الثّاني ، ص 968 .
(35)_ فلسفة كانط ، ص 357 .
(36)_ انظر ، نقد العقل العملي ، ص 137 .
(37)_ المصدر نفسه ، ص 137.
(38)_ موسوعة الفلسفة " ، الجزء الثّاني ، ص 283 .
(39)_ فلسفة كانط، ص314 .
(40)_ انظر ، المرجع نفسه ، ص315.
(41)_ موسوعة الفلسفة ، الجزء الثّاني ، ص 283.
(42)_ المرجع نفسه ، ص283.
(43)_ المرجع نفسه ، ص283.
(44)_ المرجع نفسه ، ص 283، ص284 .
(45)_ فلسفة كانط ، ص315.
(46)_ المرجع نفسه ، ص315.
(47)_ موسوعة الفلسفة ، الجزء الثّاني ، ص284.
(48)_ المرجع نفسه ، ص284.
(49)_ نقد العقل العملي ، ص129 ، ص130 ، ص131 .
(50)_ المصدر نفسه ، ص132.
(51)_ الموسوعة الفلسفيّة العربيّة ، المجلّد الأوّل ، الاصطلاحات والمفاهيم ، ص825.
(52)_ انظر ، المرجع نفسه ، ص825 .
(53)_ انظر، فلسفة كانط ، ص331 .
(54)_ انظر ، المرجع نفسه ، ص332 .
[الفلسفة الأخلاقيّة عند كانط]بقلم:الدكتورة إيمان الصّالح
تاريخ النشر : 2008-05-19