المدينة بدم كذب بقلم:أحمد ختّاوي
تاريخ النشر : 2008-05-03
المدينة بدم كذب

رواية.
تنحى عن وجهه زخرف الكرز ، مات وهو نائم فوق طيف الماء ..ناوله سيدي كرتول قلنسوة يهودية ..وثمرا من عرجون متيم بخيام الصالحين وخواء اللحظات ..وبعض من التمائم تبركا بولي القرية الصالح . . أنشد وهو ثملٌ : (( الألة ميرا هات الجاوي هات البخور ‏)) الجزء الثاني : ونفر من
:
"لقناوي أمشى للسودان ..جاب خاتم لقناوية ."فوق الوجه المنفي مظلة الحاجة خضرة ، زوجة سيدي كاسي ، بنت المخفي- المنفي - تذكّرَ وهو ثمل ٌ الفنان سعداوي صالح :" قولوا لأمي ماتبكيش – يالمنفي" – ولدك رايح ما يوليش – يالمنفي .".
أستيقظ البرزخ في طيفه ..ليلمح ظل الأشياء ورتابة الدهر ..ووريقات الصفصاف الصامد ..استفاق على نقر الإسكافي في حوانيت (إيناضن ) ..وأولاد موسى في بوسمغون ..
كان شارع لاقوت دور يعج بالمهاجرين والمغاربيين ..وسوق : كليونكور أيضا ..
برز الزبد من كأس الخمر ككأس صحراوي تماما في الجانب الأيمن الأقصى لحانة محمود في ( لوفالوا) بضواحي باريس ..
الرحلة من الذات إلى الذات مسافة البرزخ ، وأغنية ( الغالية ) : ( ياطيارة طيري بي ) تصعق الآذان ..تدور في الحانة أصداؤها مثلما دار حمار ( أولاد كمية ) في بوسمغون ذات موسم حصاد ظافر دورته السابعة أو التاسعة ..وهو يدرس (إمندي ) القمح في بيادر القبة .. أيام كان في ( البلاد ) يعبث بالقمح ...يلعب لعبته المفضلة قبل أن يهاجر إلى فرنسا عبرميناء وهران دون تأشيرة دخول قبل إستقلال الجزائر سنة 1962..فيما كانت إذاعة باريس في الحانة تبث أغنية هجينة للشيخة الرميتي ..تلتها أغان لدحمان الحراشي ، أونريكو ماسياز ..وشارل أزنافور ، وجاك برال ..أعقبها ربط إذاعي خفيف للمذيعة مريم عابد .
****
مشيئة الدخان في الحانة قدر ُ اللامعقول في أصداء ذباب ظل يحوم حول شطيرة لحم خنزير كان محمود يطهوها فوق نار فاترة ..على فحم خاص ، من نوع ( بروميي شوا) لتقدم طازجة إلى العربي القابع في أقصى المصرف ..شنباته المصفرّة من كثرة التدخين ترتجف ..فيما يداه تدقان ببطء ،و على وتيرة نوع ( الهداوي) على جانب المصرف وهو يدندن ( يالرايح وين مسافر تعي وتولي ..لدحمان الحراشي ..
عائشة (البقرة ) ( الخادمة) لم يحن أوان دوامها بعد ، تبدأ العمل إعتبارا من الساعة الخامسة مساء ، إلى مطلع الفجر أو أزيد ..فهي تتكفل بطاولات القمار ..هذه هي المهمة الموكلة إليها من قبل محمود صاحب الحانة ، منذ أن أختارها خادمة بالحانة ..في مطلع الستينات لما تتوفر عليه من دهاء وخبث ومكر ، ولاعتبارات أخرى ..
لم يكن من عادتها أن تعتاد الحانة في فترة الصبيحة ..هذه المرة نسيت ْ شيئا ما جاءت من أجله لاهثة ، وقد ساورها الشك أنه مايزال محفوظا في مكانه ..سالما معافى ..
دقائق الصبيحة إنزلقتْ من مخيلة العربي ..سافرت ْ إلى ربيعة العدوية ..وهو يرمق عائشة (البقرة ) تدلف الحانة بقامتها الهيفاء ..وخانتها ( الوضاءة) وسط وجهها المكور ..الخالي من التجاعيد ..رغم إشرافها على الستين ..هيفاء ..بدينة..عيناها كبيرتان ، تشبه إلى حد كبير عيون المطربة الآردنية سميرة توفيق ..
، أو عيون المها..
الأسم الذي يناديها رواد الحانة به .
تحفظ أعلب أغاني سميرة توفيق عن ظهر قلب ..، مثلما تحفظ عن ظهر قلب أيضا أغاني الريف المغربي ، وخاصة الشيخة ( الحمداوية ) ، هذه الأغاني تساعدها في تموّج خصرها ، وهو تروح وتجيء في خطوات مترنحة عبر طاولات القمار ، حيث توزع مقاطع من أهازيج الحاجة الحمداوية وسميرة توفيق على أطراف الزاوية المخصصة ل((لقمارجية )) من كل الشرائح ..
ترافع ُ الدقائق في هذه الزاوية للأزمنة الغابرة ..ولمسارات التاريخ ..ويرافع ُ ( الذباب ) العائم بالأطراف لموسم عراجين البلح ..في المغرب وفي الجزائر وفي تونس ..ودولة الدولة السنوسية في ليبيا قبل أفول الستينات ..طنين الذباب العائم يرافع ُ أيضا للمهدي بن بركة ..أبرهيم سرفاتي ..,إيديت ْ بياف على شفاه ( القمارجية ) .
زمن الصبيحة ركنٌ من أركان التاريخ في مخيلة ( العربي ) القابع دوما في أقصى يمين المصرف ..وهو يتأمل خطوات عائشة (البقرة )، شطيرة الخنزير ما تزال تشوى على صفيح نصف ساخن ، على نار فاترة .
وترتج الصبيحة .
غليان محمود قفلٌ لمفاتيح المساء القدام ككل المساءات والمساءلات ومضايقات الشرطة أحيانا ..
عهد الخدوي يتردد هو الأخر ، كما يتردد أيضا ذكر ُ قاسم أمين ، على شفاه القمارجية ..وعلى لسان العربي أحيانا . عائشة (البقرة)لا تفقه في الأمر شيئا ..فتكتفي بابتسامة مجاملة عندما يصعقها القمارجية بهذه الأسماء ..
سخرية (برناردشو) قدر المألوف.
ومهاترات ( روميو وجوليات) قدرٌ أيضا للمألوف ..في زاوية المقارجية .
وولادة المنبعثة من أقصى المصرف ، من فيه العربي القابع – مردوفة ببنت المستكفي لأبن زيدون تثير إلتفاتة لافتة من عائشة (البقرة)( سكران ويعرف باب دارو ) ، تجذبها لأن تتجه مباشرة نحوه.

- صح يالعربي خويا ..راك تعرف بنت المستكفي القزانة ( العرافة )
-نعرفها ياولادة ..
- أشكون بنتها ؟
- بنتْ الأجواد ..ياسميرة توفيق ..
- هكذا أريد أن تناديني.
********
( مفاتيح الغيب) لأبن العربي ..أثلجتْ طنين الذباب الذي يرافق رتابة الصبيحة وتأملات العربي ..والنظرة (الإستشرافية) لمحمود مالك الحانة ..خلو الصبيحة من ( فصوص الحكم) لأبن عربي ..خدرتْ خطوات عائشة المروكية وهي تتجه مباشرة نحو العربي .
نادته: ( محي الدين )
رد: أجل يا ولادة بنت المستكفي ،عرافة الريف ..تراشقا بالنظرات ..كان طنين الذباب يقترب من شطيرة الخنزير التي ما تفتأ تشوى فوق الفرن ..وعلى نار باردة ، فاترة ..
وكانت الصبيحة بلا شطائر ، لحم الخنزير ،يصيبه الأرق فوق الجمر ..ومن الدرجة القصوى ..فهو لا يصلح للأكل ..
طيب قالت: عائشة (البقرة) للعربي :
هل وجدت شيئا ما ، نسيته البارحة فوق الطاولة المحاذية لمخدعي..
- هو محفوظ لدي ،يرد العربي ويداه ترتجفان .
وكما تاب أبو نواس في آخر حياته تتوب الدقائق الزاحفة نحو مساء حانة محمود الإستشرافية .
تخترق نظرات العربي عائشة (البقرة) ، حيث ما تزال تنتظر رد العربي على سؤالها..
..وأفلت الصبيحة كنجم في فيافي زاهدة..
أردف العربي : لماذا ياعائشة – بنت المستكفي- يا سميرة غيّر "أتاتوك مصطفى كمال" الحرف العربي باللاتيني ..وهو مؤسس الجمهورية ، وأول رئيس لها سنة ؟ ؟1923
- ذاك تاريخ يذكرني بميلاد أخي مصطفى (بالبلاد) ، لم يعمر طويلا ، أصابه (الجرب) فقضى عليه ، ترد عائشة(البقرة) بابتسامة من لا يعرف جوابا لسؤال محرج ..
- برافو عليك يا مولاة الخانة..خذي أمانتك . ولا تنسي أن تقرئي سلامي لبنت المستكفي الريفية العرافة .. نلتقي مساء على طاولة القمار .
- هذه الليلة ليستْ مناوبتي ، ترد عائشة البقرة ..بخبث..
- ومن يكون خليفتك إذن ؟
- محمود بذاته وصفاه ..( ولد أبلادك ) .
استجمع قواه وغادر أقصى المصرف ، فيما ظل محمود يرشقه بنظرات حادة ..سعال حاد ارتوت به أرجاء الحانة، اقترب العربي من شطيرة الخنزير، بصق عليها وهو يتأهب لمغادرة الحانة.
محمود في وله: وشطيرتك المعتادة ؟
- اعطها للقطط يرد العربي بنبرة حادة ، وهو يغادرالحانة، ملوحا باليد اليسرى : إلى مساء هذا اليوم ..يستوقفه خبر عاجل بمحطة (تي .آف 1 ) الفرنسية : (( مجموعة مسلحة في الجزائر تغتال رهبانا بضواحي البليدة )) ..وسلطات البلاد تشتبك مع مع أخرى في منطقة الأربعاء بنفس الولاية ..تكتف قوات الأمن من عمليات تمشيطها في أدغال غابة ( الأخضرية ) بحثا عن معاقل الجماعات الإسلامية .
يرشق التفاز والمذيع بنظرة ثاقبة ..يتنهد دون أن يعلق ، وينصرف.
إبلٌ تطأ مخيلة العربي .
..وترتسم الصبيحة في تجاعيد عائشة(البقرة) التي لم تبرح الحانة..في مخيلتها سلسلة ( جبال الأطلس ) التي تشق المغرب وتونس والجزائر ...
صراصير تتكاثر تحت سفح الطاولة القصية بزاوية ( القمارجية ) ..تتكاثر ..تتباهى أمام الحشرات الأخرى ، فأرة سمينة تنط كأرنب غير مبالية بالحاضرين ، تختطف شطيرة الخنزير أمام مرأى محمود الذي لم يجد بدا من ملاحقتها بإحدى زوايا ( القمارجية ) ، إذ آوتْ إلى جحر آخر...بإحدى زوايا ( القمارجية ) بالحانة .
يرتسم الرصيف المحاذي للحانة لوحة ً زيتية في تجاعيده ..يرفسه العربي برجليه ( في مخيلته ) تاريخا.. وحقبة تاريخية برمتها ..ينفث ما تبقى من سيجارته ..يعود للحانة في هرولة ..تركل أطرافه ظهره المحدودب .. ويذوب ما تبقى من الدقائق في طيف هجير يتوارى في كنف الشطيرة وأن انسلاخها يكون قد ذاب في شريحة الخنزير ..
وتتدحرج ..
فيما يقبع تسربلُ دقات صمت الصبيحة في هرم الحديث عن مفعول الصفح عند محمود ونظرات عائشة ( البقرة)..وميعاد المساء المزمع يصعقه .
حنين السنين يعاوده ، يجذبه نحو ملامح بدت ذات هجير في رائحة بوسمغون وهو يركل تيسا أبى السير في أزقة مظلمة .
خليها لربي ..قال ودلف الحانة دون أن ينبس ببنت شفة .
*****
شطيرة خنزير أخرى تتدحرج على نار باردة بنفس الفرن ، لمحها من بعيد ، يصعقه المساء الساطع في مخيلته وهو يضع الخطوات الأولى باتجاه الحانة ..قلنسوته اليهودية تعبث بها نسيمات هبتْ فجأة ..يضع يده اليسرى عليها ، ويلتقط شرارة تفكير سافرتْ به إلى صديقه محمد الذي رافقه من ( جريفيل) إلى مرسيليا عبر باخرة رثة ..يستطلع أحواله في ( لاكورناف) ..لملم شذرات تفكير آفلتْ من مخيلته ..استحضر مساره ..واستحضر احتمال وقوعه أسيرا من لحظة لأخرى في يد الشرطة الفرنسية ، لتماديه في تعاطي المخدرات والسطو على أمتعة المهاجرين وبعض دراهمهم .
يلج الحانة..ينتهي إلى أقصى المصرف دون أن يحيي أحدا.. عائشة (البقرة)كانت هناك تنظف أجزاء الحانة المقابلة لمكانه المعهود ..تبرقُ في اتجاهه ابتسامة خبيثة أدرك كنهها قبل أن تصله ( برقية مشفرة ) غزر نظرة ثاقبة في اتجاهها وأؤمأ للنادل أن يترع كأسه بجرعات ( ريكار) ..ففعل ..
ثملث اللحظة في عيونه ..تدفتقتْ أمانيه في كأسه المترعة ..رخو اللحظة البائسة يستدرجه إلى متاهة الغرق في كأس مترعةب( الريكار) ، فيما كان النادل يمده سيجارة محشوة ويهمس في أذنه : ( هذه هبة من عائشة (البقرة)..ما زال الخير القدام ) ..
امتطى صهوة مخيلته ولفيف السيجارة المحشوة يلف أرجاء الحانة دون أن يعير أدنى اهتمام لعائشة (البقرة)وهي تطهو على الفرن ..اقترب من النادل: ( لمن تلك الشطيرة )؟ .
- عائشة(البقرة) هي التي دثرتها كما ترى بقطعة فلفل حار..لا شك أنها ( وسكت) ..
- لعنة الله على المعتوهة ،رد العربي بصوت صارخ ، افتك إلتفاتة حادة من عائشة (البقرة)التي نصبت المكنسة على إحدى الزوايا..وهرعتْ إلى نفخ الجمر على الشطيرة وهي تدندن إحدى مقاطع الحاجة الحمداوية .
العربي (أفهما طايرة ) ، فأفتك جرعة من ( ريكار) جاف بدون ماء جرعة واحدة ، أردفها بنفس من سيجارته المحشوة .
إمتص اللحظة ..سكبها في لفح الهجرة والهجيرة ..في منفاه ومنفاها ..خنقه صياح ( الباعة) من تحت ( المصاريف) .. وكواليس الحانات وأزقة ( بارباس) ..وبعض مدارجها ..سكب اللحظة في ( ريكار) اللحظة بدون ماء ..
وأتعاب المنافي ..
تطاول عليها ..وتطاولتْ عليه ..
لفهما ذات ليلة لحاف مشترك ..سكب حاضرها فيما تبقى من زبد في كأسه الثانية التي أمر النادل بملئها بدون ماء ..فيما علق بذاكرته حديث ( المثن) و( النص الغائب) (امتصاص النص) ..( الإستقراء) ونسخة من ( البؤساء) لفيكتور هيقو كان قد أهداها أياه معلمه الفرنسي ( دوفواشال) بالقرية وهو إبن التاسعة من عمره دون أن يدرك وقتها معنى الهدية ولا مضمون الكتاب ، فاكتفى بمدها للحاج الميلود الحوانتي الثري بالقرية ليلف بأوراقها الكاوكاو والحمص للباعة الأطفال ..وقد كان من زمرتهم .
إستوقفته ألفية أبن مالك ، والأجرمية ، وما علق في ذاكرته من القرآن الكريم ، وقد كان يحفظ الجزء الأكبر منه (حوالي 45 حزبا تقريا) تلاشتْ كل هذه الأيات من ذاكرته ..استوقفه ( كنفاني ) على الرصيف الآخر من الدنيا..كما استوقفته ( أرض البرتقال الحزين ) وهي منفية بين مقابر الأدوات القديمة و ( لوالب..خوذة عامة .. وشطائر خنزير .. وعصير أطياف ..وبرتقال عائم في أكواب مترعة ) .
ضم اللحظة إلى صدره .
عانقها بشوق في شوق كمن إلتقى بغريب تائه في الأوحال منذ أمد بعيد ..
إستجوب اللحظة مثلما خضع عدة مرات لأستنطاقات الشرطة ، ولم يكن يحمل إلا كتبا مهترئة لكتاب الرومانسية والإنطباعية والكلاسيكية .قال للحظة والكأس الثالثة مترعة :
(( ..خيريني يا لحظتي العزيزة : البطاطا في الضفة و((أرض البرتقال الحزين )) في الأرض الأخرى ..وشطيرة الخنزير على الفرن تطهى ؟ ..أي هذه الأشياء تختارين ؟ يا عزيزتي – آه- نسيتُ ، أضاف : حذاء أنثى تقطع ..وقلنسوتي الملازمة لرأسي ..؟؟ .
الصيف على الأبواب ....وفلسطين في خلدي ..إختاري يا عزيزتي : - البطاطا- ماء اللحظة- كنفاني – أم شطيرة الخنزير .أم مدى قادم هذا المساء على طاولة الخمار ؟؟؟ ..
كانت اللحظة تحتضر.
لم تجب ..ركب العربي هول الصعقة ..لأن اللحظة كانت خرساء بكل بساطة ..
يتمتم وهو يطلب النادل سيجارة محشوة ...
*****
المكنسبة منتصبة على الحائط كتاريخ هرم .
يبحث عن إستقامة .. عائشة (البقرة)ماتفتأ تنفخ الجمر على الشطيرة .. المسافة الفاصلة بين أقصى المصرف والفرن مسافة توصل بما فيه كفاية ( السمع ) .. أهازيج الحاجة المحداوية التي ما فتئت تطلقها مصحوبة ببعض الإشارات والأهات الومضية تتناثر أشلاء وشظايا في أعماق العربي الذي ( تلقفها) بمجرد أن جذب نفسا من سيجارته المحشوة ..
يلتقفها برقيات مشفرة ..ورسئل ومضية ..
(( على سعدي لبستْ ( الطابلية ) في بلاد ( الناس) ما نخليكش يا خويا أطيح ).كانت الصرخة الأكثر وقعا في نفس العربي ..الذي (زارت) مخيلته ليلة باردة حين دثرته أثنائها عائشة وتجردتْ من صفاتها؟ .
حين انسابتْ دموعها وهي تبلل اللحاف الشفاف
..وحين عاودها الحنين والأرق ..والهيجان ..؟؟
ونسيتْ حكاية النخلة الباسقة ..في أقصى الجنوب المغربي ..وبالضبط في منطقة ( فيقيق ) وبعض المشارف في ( بني ونيف ) القرية الجزائرية المحايذة لفيقيق .
الشطيرة ما تزال تطهى على الفرن .. والمكنسة تتوسد الحائط ..فيما دخان السيجارة المحشوة يستبق تنهدات عائشة ( البقرة ) .. وهي تلامس خصرها ..تمرر يدها الهزيلة عبر مناطق جسمها العامر..
وقد أرخت أهدابها.
تقفز اللحظة الخرساء نحو مداها..نحو أمسية ( طاولة القمار) المنتظرة ، ..وتقفز عائشة ( البقرة ) ، تدك البلاط في اتجاه المكنسة . ترفس ما تحتها..تقبل المكنسة ..فيما العربي يلاحقها بنظراته الثاقبة ..بقية الزبائن القلائل مشغولون بلعبة ( ألبيار) على الجانب الآخر ....
وتقبل بعنف ( أعلى) المكنسة ) .
أثارتْ إنتباه لاعبي ( ألبيار) ..وهي تدندن : ( على سعدي أرفدتْ النشاف.. ولبستْ الطابلية .. ما نخليكش يا خويا العربي ) .
كان هذا التأوه نداء جارفا للعربي الذي تمكن من إفتكاك إبتسامة من عائشة تبدو صادقة ..فيما كانت الصرخة تجلجل كرصاصة أصابت الطريدة ، إخترقتْ أغواره ..
كانتْ إيذانا لشيء ما ..يصيب القطط أحيانا..
..وكان الصوت يتوارى في الكأس المترعة ..يأسر عائشة ا( البقرة) التي قبلتْ بحرارة رأس المكنسة مرة ثانية ..وهي تعدو ..خطوة خطوة نحو العربي القابع بأقصى المصرف ..صعقته بنظرة ثاقبة ، دنتْ منه إلى أن لامستْ ركبتاه المرتعشتين ثم ..تناولتْ كأسا ..طلبت ْ النادل كأسا فارغة ..؟ إمتصتْ لعابا علق بأقصى يمين شفتيها ..زفرتْ ، حيث كان النادل يدمها كأسا أخرى مترعة ً ب( الويسكي) وسيجارةً محشوة ملفوفة في قطعة جريدة. .
إمرأة ٌ صلبة كصخرة في جبال أثقلها الجفاف ..لا تصيبهاالثمالة بسهولة ..ولا تموت فيها الرّعشة ولا الأطياف ..تناولتْ موسىً صغيرا من مئزرها ..مررتْ شعرها الأسود الغزير ، بالرغم من تقدّم ِ سنّها على جسدها الباهث وجزء من كتفها الأيمن ، فأيقظتِ الدم القاني من سبابتها ليملأ ربع الكأس الفارغة .ا ناولتْ العربي جرعة منه .لم يمانع .
قال : ها هو ذا عرقي الغزير يختلط بالدم القاني ..وهاهي النخلة الباسقة تزداد علوا وشموخا نحو السماء ..أردف : ( أطعمينا يا عائشة من سنابل النخلة الملقحة بالتمر الصحراوي ، علنا نغيّر مكان اللحظة)) .
ردتْ بوجه محتقن :
(( أتريد أن يحدث لنا ما حدث لأدم وحواء ..إلزمْ حدودك أيها الرجل الأعزب ، وإلا قذفتْ بك جنون الأرض إلى جزر الوقواق ))) ..
تسمّر في مكانه ، راح يعض سبابته وهو يزمجر ككلب مسعور.. وتوارى تحت معطفه الذي دثّر به قلنسوته
..يهلوس كلمات مبهمة ..
..وعلا شخيره ..وهو يقظ ..
قال لها: (( دثريني بمئزرك ِ يا عائشة ، قد صرتُ الآن خصيّاً ..عرفتْ الآن أسرار النخلة .زامنه الخوف من مصيره ورجولته الضائعة وسط نهدي أمرأة بحجم ظنونه ومعتقداته ..حاول الهروب ومغادرة المصرف .لم يقو .
كانت النخلة الباسقة تغطي كل المنافذ ..وكان الدم الأحمر القاني يفيض من كل الثقوب ..ا إرتدى رجولته ..حرّك عضلاته المشلولة ..حاول السباحة في الدم القاني ، لم يستطع تخطي حواشي المعطف والمئزر ..ا إنكمش مذعورا كشيخ هرم انهارتْ قواه من كثرة الحرث وخدمة أرض بور بوسائل تقليدية .
أحسَّ بأنه أجرم حينما جرع دم أخته وقد ألفه منذ مدة..في حين لازمها الفرح والنشوة ، وهي تجلس بقربه ..تغازله ..تمرر يدها الناعمة فوق صدره النحيف ..شعر بهيجان ينتابه من جديد ..قاطعها : لا تنسي شطيرة الخنزير وحبّة الفلفل الحار ،
- دعها تحترق مثلما احترقتْ شطيرتك ، وتحترق الآن أشلاؤك ودسائسك أيها المعتوه – قالت - ..
*****
..وتحلقتْ حوله شجرة بأفنانها ، كانت قد ملأتْ فمه ، وتحولتْ إلى موسم خصب لا يعرف الجفاف عندما أكل ثمارها أيام كان مرؤوس قضيته وما فتيء ..أحس أن النخلة الباسقة تزحف نحو كأس الدم ، راح ينطح جدعها ، ..قفز مذعورا من كرسه بأقصى المصرف ..خرج إلى الأفق الواسع خارج الحانة يتبختر في نشوة عارمة .
لحقته المرأة الصلبة .
إلتفت صوبها
إلتفت صوبها : (( أستري عورتك إنك عارية ))..
رجعا على التو إلى الحانة ، لم يجدا النادل بمكانه..بحثا عنه ..طويلا..ضيّعه التيه في أرجاء سيجارة محشوة ..صنعتْ تيها موازيا..
بصقا على الأرض
إنفلق العشب والفقاع ..مضغا العشب ..بصقا مرة ثانية على الأرض .كان العشب والخصب يغطيان جسد عائشة العارية .
قالت : لن أفارقكك يالعربي حتى نتبين أمر اللحظة الغامضة ،، العارية .
رد بانتشاء: (( الآن تبدو اللحظة صافية )) .
عانقته بحرارة .
سألها : والذي قالوا عنه (( قُتل غدرا)) هل ما يزال يعاودك أنينه ؟ .
- لا ، كنت مخطئة،مات شهيدا ..
غيبهما الزحام في أكبر رشفة دم ،، وفي قطرة (( ويسكي) لا ، تقل ، أردفتْ (( المهدي بن بركة)) ..
أبتسم العربي ملء شدقيه : أرجوك لاتصعقيني بعبان رمضان ، أو مفدي زكريا ..
على نخب إبتسامة صادقة هذه المرة تناولا كأسيهما المترعتين بسرّ دفين ، ظل يعتلج في الشطيرتين المحروقتين ..إمتص كل منهما لعابه ..نطقا بصوت واحد : (( لهلا تربحهم )) ونطقتْ مريم عابد : هنا إذاعة باريس ، ونطق محمود "كل هذا مسجل " ..زمن مريم عابد آفل ..ألم ترشق يالعربي بنظراتك مذيع " تي..آف ..1 ، وهو يسرد الأحداث الأمنية في الجزائر ..وأنتَ تغادر الحانة .
- خدعتني يا محمود ..لهلا تربحك ..
- خذلتك مواقفك يا خويا العربي ..
- لهلا تربحك ، قالها مازحا ..
****
رتلٌ من الشباب يلج الحانة..ثم ينصرف لتوّه ..يثير أنتباه مريدي الحانة ..يمّمت عائشة (البقرة) شطر الشطيرة ..الهامدة على الفرن ..أومأت للعربي المشدوه: أن لاخوف من هؤلاء ، هم زبنائي – وضحكتْ ..
- اشتموا رائحة الأمانة التي نسيتها بقرب مخدعك ، قال العربي مبتسما .
- هم أيضا لهم نصيبهم منها.
ولنا نصيبنا من شرائح وشطائر الخنزير ، رد العربي ، وهو يغمغم :
(( قرأتك عدة مرات ، قرأتك في التوراة وفي الإنجيل والزابور ..وفي القرآن ..بحثتُ عنك في ماء الله .. وفي كل القارات ..تطاولت ُ على السبت والخميس ما عدا الجمعة ، وفتشتُ عنك في أقبية الماء لأنجب الماء الذي يجبلني ..وينجبني إبنا عقا ..سكنتُ أيام الأحد .. من الفجر إلى إلى ما وراء الدهر ..لأسترق صخورا صلدة ..
الأيام تسير لاهثة إلى الخلف ..وأنت تسيرين بلا هوادة نحو جبنك ووهنك المعهودين ..تغازلك أطياف البراري وبقر الجاموس القابع دوما على قارعة الطريق .. تخافين معاكسة الثيران لك .. ينتشلك الحياء من الحياء ..، لكنك تتوفرين على (( معيار)) الجودة .. وسهو اللحظة .. وتجيئين دوما متاخرة إلى البيت لتقرئي من جديد فصول (( ود )) الثيران ،، ووله أبناء الحارة .. ماعدا عمي (( جابر)) الذي يمقتك .
وقتما جئتِه ، أجيء ونفترق لتونا .
- وأقرأك عدة مرات – أنت الممنوعة من الصرف ، ومن (الطهي ) وقتما جئتك ، يجيئك الفضول الزائد ، وتجيئين مع ( المبني للمجهول) ،يخيل إليك ،يخيّل إليك أنني ساعي بريد الحي ..الذي تنتظرين قدومه .. وترشقينه من كوّة القبو بالحجارة والقبلات وبالنظرات الساخرة .
قال القاضي : ( مثنى ..وثلاثى .. ورباع .. وقال القانون ( مثنى وثلاثى ..ورباع ..) وفي سورة النساء ما يكفي ..

شطيرة لحم الخنزير ما تزال قابعة على الفرن ، تغطيها حبة فلفل حار .. الحانة خالية من الزبائن .. الذين أخلوها بموجب مذكرة (غلق) كل المنافذ فيها ، حتى أجهزة إيصال الموسيقى والريح والهواء ..، بأمر من رئيس بلدية المقاطعة ، لأن امرأ ما مشبوها كشفتْ عنه الشرطة .. إعلان بغلقها لمدة ثلاثة أيام ريثما تستكمل فرق التحريات تحقيقها بشأن هذا (( الأمر المشبوه )) ، يذيل إعلانا لافتا بمدخل الباب .. العربي يصيبه الدوار ، تصطك أ سنانه ، وهو يرمق عون البلدية يضع الدبوز الأخير ، يرفسه بمطرقة صغيرة ، .. ويثبته بشريط لاصق .... ثم انصرف دون أن يلقي السلام على أهل الحارة ،، ..تصطك أسنانه ، ينفث ما تبقى من سيجارة .. ينفض بقايا سيجارة محشوة ، يرفسها بمنفضة السجائر ..، يغمس يده اليسرى في جيب معطفه ، يخرج نصا كان قد كتبه حديثا ، لم يعرضه بعدُ على ( عمي جابر)) ، يطلب من النادل نبيذا وسيجارة محشوة أخرى ، وموسيقى ايحائية تصويرية ، .. هذا الأخير يمتنع لأن الأمر غير ممكن ، والحانة تحت مراقبة الشرطة ،كما ترى ، يضيف النادل : ألم تقرأ الإعلان ، وأن الحانة مشمعة ، إلى إشعار آخر ..أو على وجه التدقيق لمدة ثلاثة أيام ..

هو ذا حداد المجاملة عند الأنظمة يضيف العربي ، وهو يلح على النادل أن يضغط على زر آلة الموسيقى ليسمع موسيقى هادئة أو صاخبة ترافقه في قراءة ما كتب حديثا ..
صادروا كل الأشرطة ياسيدي ، يقول النادل في نبرة حسرة ..وسجائري المحشوة ، هل مستها المصادرة ...؟
-كانت بمنأى عنهم ، يضيف النادل مبتسما – خبأتها في جحر الفأرة الكبرى تحت المصرف مباشرة بعد دخول أعوان التفتيش الأولى .. ألا أتتذكر تلك الفأرة الكبرى التي قضمت شطيرة الخنزير
– حسنا – فعلت – وحسنا فعلت ْ الفأرة .. شطيرة تحذف من مجموعة شطائر أخرى ..طيب ، وعلى من أقرأ ما كتبت..هل تفهم شيئا في الشعر ..
- لا يا سيدي ..أساعدك بالتصفيق .. عندما تنتهي من قراءتها .. هذا ما أملك ..
- فليكن ، لك ، أطلب منك أن تنفخ في الجمر ..بدت فكرة قراءتها على الشطيرة المطروحة فوق الفرن لعلها تكون جمهوري الغائب الحاضر ، وربما ، تضيف كف يد أخرى في التصفيق ، الآ تسمع بالمثل العربي القائل : (( يد وحدة ما تصفق – هيا- اشعل النار على الفحم .
- صادروا النار يا سيدي .
حتى النار صادروها ( لهلا تربحهم ) وما العمل إذن ؟
- إقرأها عليها هامدة ..جاثمة فوق الفرن ..ألم ترها جاثمة .
فكرة حسنة : قدّمني لها بشيء من الإطناب والتهليل وقل أنني شاعر كبير .. أنحدرُ من سلالة المهلهل أول من قصّد القصائد على وقع إيقاع النياق ، وأن أحمد الفراهيدي هو الذي أبحر في البحور وأقام أوزانها وأن نازلك الملائكة هي التي تمردت على الشعر القديم وأن مظفر النواب صديق عمي جابر . هل تحفظ كل هذا ؟
- مع الأسف لا ، يا سيدي ، قد أقول إليكم اليكم الشاعر العربي ولد (الهجالة ) (الأرملة) كما ينعتك محمود صاحب المحل ..
قل ..هذا ، هذا كاف .. كلنا أولاد (الهجالات ) حتى محمود ..فكرة جميلة ..هيا إبدأ التقديم ..يا ندْل .
تقاطعهم عائشة (البقرة) التي كانت مختبئية بين أضلعه كحواء تماما ، وقد سمعت كل شيء . .: أنا أقدمك التقديم الكافي ..
المهم أن أقدم تقديما مستفيضا ، والمهم أن يصفق علي الجمهور .

-أتلو ما كتبت وسأقدمك بما فيه الكفاية وأزيد عقب قراءاتك .
- لا .. أريد الآن .
- وأن أقول بعد القراءة ..
طيف عابر يحجز مكانا له بالكراسي الأمامية ، مباشرة قبل قرب المنصة التي لم تجهز بعد ، ..وشطيرة لحم الخنزير تستوقف الحاضرين المدعويين ، من خفافيش وجرذان الحانة .. التصفيق يغزو الحانة .. أطياف تصفق وأخرى ترقص ..
- المهم أن أقرأ قال العربي بوجه محتقن .. وشرع :
مثلما الحب لا يُجمرك
كذلك الوطن لا يُجمرك
مثلما الندى لا يسرق

كذلك اوراق لا تجمرك
هذي الأفنا ن تورق ..
عش لها غصنا أو تمرد.
عش لها أصلا ..وتحدث ..
فالجزائر.. أصلا .. لا تُجمرك
أعرْها وجهلك .. لا تسكتْ.
أمنحها عهدك .. لا تسكت
كن مثلها . لا تُجمرك .
تحيا الجزائر . قلها ، لا تسكتْ
إمض حرفا..
إمض عهدا .
إمض فرحا ..
أمض فرحك الأزلي ..
وأمضي املك الأزلي ..
سكبت عائشة (البقرة)دمعها في فنجان كان يسترق السمع ..إتكأت على المكنسة بإحكام كإمام على المنبر ، يرمقها الصمت ..السائد ..وشطيرة لحم الخنزير ..دنتْ منها .. نفخت ْ فيها من رئتها هواء نقيا .. أردفته ببصقة ..لململت لعابها ..إنجذبتْ مسودة من مئزرها ..تعلو أطرافها بقع دم بدت بارزة على المسودة ..أطرقتْ ، ثم قالتْ ، حيث كان العربي يصغي :
- ظللت تبحرين .. تمخرين عباب الشوق..
مركبتنا.
وانتظارنا بالمرفإ الموعود .. خبز معجون ..
رحلتِ.. والأمل خمر في فمك ..
واصيافنا بالمربع المنشود وعدٌ ممقوت..
وأغنيتنا طفل بألف لقب ..
وأنتِ كالشمس تطوفين بشاطئنا المهجور ..
تطوفين بنا .. نطوف بك ..
نحمل الأغرودة غيمة بلا مطر .
وشراعا ممزقا .. بلا زورق
بلا وطن .
أيا شوقنا المحمول فوق نعش الشوك ..
فوق نعش النار ..
فوق نعش الشوق .
بمرفئك رسونا زمنا نقتطف الخوف ..
أيا وطنا مغروسا في رحلتنا ..
أيا وطننا المنزوف ..
وظللنا نرسو .. نرسو ..نرسو ..
نقتطف الخوف ..
نقتطف الخوف .. وغيمة محمولة على أكتافنا .. نجلب منها الخوف .
نحلب منها الخوف .
كأطفال الحي المسيّج .. في زمن الغلبة ..
ننتظر الآتي .. وحليبا من غيمة بلا مطر ..
ننتظر الآتي ..ورغيفا من بحر بلا حُفر..
ننتظر الأتي .. وصديقا من وطن بلا ضجر ..
ننتظر الأتي ..وأملا من رحلة بلا سفر..
طهارة المكان تدنسها خطوات فأرة أخرى رافقتْ الفأرةالتي سرقت شطيرة لحم الخنزير ..من كثرة التصفيق بالت فدنّستْ المكان .. لم تُحاسب لأنها أعتذرتْ – بلطف- ، قالت: أعذروني ،إني أحضر لأول مرة أمسية شعرية ، لولا جارتي الفأرة ألحتْ عليّ لما جئتُ .. تركتُ ضيوفا بجحري .. وجئتُ مجاملة .
اللحظة آفلتْ .. وأعشوشب المكان .. نخلة باسقة أينعتْ ثمارها .. في لحظة حاسمة .. يائسة .. بائسة ،كستْ بجريدها شطيرة لحم الخنزير التي أختفتْ إلى الأبد
النادل من وراء المصرف : إنها مقيدة في سجلات الشرطة...عليكم أن تحضروها ، أو نوجهوا لها دعوة أو أستدعاء ، هذا شأنكم ،إني أمضيت عليها في سجلات الشرطة وكانت ضمن الجرد تماما كالأثاث وطاولات القمار .. وكل ما تحويه الحانة .
لا تجعل من الحبّة قبّة يا وحيد ..—يا ... ثم تصمتْ ..تحمّرُ وجنتاها .. ترتعش أوصالها ..تتمتم .. زلّة لسان .. نسيت أن أقول يا " دجيمي " نسيتُ أعذرزني ..آه رأسي ..أصابني دوار ، غثيان ....وتنصرف عائشة بسرعة إلى دورة المياه ..تذكّ الأرض بأرجلها .. ينتعش العربي من غيبوبة أصابته بمجرد سماع إسم " وحيد " .. ينشق صدره من السعال ..يبصق على الأرض .. على مكان الشطيرة ..
يحمرّ وجهه الشاحب .. يلتفتُ بدهشة صوب النادل :
- هل هذا هو إسمك : وحيد ؟
- لا ياسيدي – أسمي "جيمي " كما تعلم ، يقولها بلعثمة ، يخرج سكينا حادا من جيبه ، يبريه على سبائك كانت مطروحة .. يتطاول عليه ، محاولا غرزه في ظهره .. يختفي النادل تحت المصرف .. تجيء عائشة (البقرة) مسرعة وقد سمعت هول صرخة العربي .. وهو يزمجر كأسد جائع:
- دعه .. دع – جيمي - لا شأن له فيما حصل ..
، تضيف ، لتمويه الحقيقة ، دعنا منه إنه مجرد نادل جاء مغتربا من الجنوب التونسي ، وأنه لم يسو بعد أوراقه .. لا تخلق له مشاكل مع الشرطة .
تنزف هذه الكلمات دما قانيا في وجه العربي الذي يزداد إحمرارا .. وبوجه محتقن : وكيف أراه يتعامل بلطف مع الشرطة .. ويعاملونه بالمثل .. ألم يكن شيئا آخر ..أو له وظيفة موازية .. وإلا كيف لم يتم القبض عليه ؟.
- ذاك شأن الشرطة – لا دخل لنا فيه – حدّثني عن مضمون قصيدتي التي ألقيتها ، هل أعجبتك ؟ .
هذا شأني يا فدوى .. الآن أقولها .. وقد عرفتُ الحقيقة .
-أية حقيقة يا صديق عمي جابر ..هكذا أسميك من الآن .. أليستْ هي ذي القصيدة التي غيّبها اللحاف ..في شقة كنا نشغلها سويا بشا رع " ساندوني' ؟ .
- هي بالضبط سرقتها منك ، قبل أن تضبطها فرق المباحث عندك
--أي فرق تقصدين ؟ .. أو يختطفها مريدو الشقة رقم 01 (...) التي كنا ..(..)
..ازدادتْ وجنتاه احمرارا ..تسمّر في مكانه .. لم ينبس ببنت شفة .. واكتفى بالقول : جميلة يا فدوى ..
لكن حدثيني عن وحيد .
- شربت دمه من سبابتي ، ألا تذكر ْ؟
- فعلا حصل ذلك ..يا فدوى .
*****
شربتْ اللحظة ماءها من فوهة المدينة .. وشرب التيه ماءه من كأس بزغ ضوؤها من دخان سيجارة محشوة ، ظلت صامدة بين أنامله وهو يرتشف ساق الريح ،حين أحس بزفرة وحيد تقطع أوصاله إربا إربا ..
انتشى حتى الثمالة .
حرك قلنسوته اليهودية . أمرته فدوى الأ ينطق بسوء وهو يتسلم كأسا أخرى من الويسكي الجاف .. من وحيد .
قال : شكرا يا .. ول.. دي ..
وارتوى مع الريح التي شاطرته جرعة حارة ، ناولها أياه .. و... ل... د.. ه ..
؟
الريح تضرب الكأس ، من يدري قد تكون الريح همزة وصل بين شطيرة تعذر طهوها لا لسبب .. فقط لأن طهوها يؤجل من حين لأخر دون مبرر ، أو لعدم توفر نار كافية رغم توفّرها ..وتوفّر الوقود ..
أم لأنها تطهى بدون ملح .
الشطيرة تصاب بوعكة صحية . والحانة أيضا ..تنطفيء الأنوار .. قبل موعد القمار هذا المساء . لأن الريح مصادرة أيضا ..
تدب الرعشة في المكان والزمان .
وتنطق( فدوى) وامعتصماه ..اا
تمتصّني – لحظة الإرتعاش .. يخثر كأسي بالكاكوكاو المغربي . والجزائري .وتنجلي من خيط أبدية الشك بأن وحيد لم يكن سوى " جيمي " . ولم تكن عائشة (البقرة) سوى فدوى ..
كانت الآزفة .. وأزفت اللحظة ..
أزف الضب الصحراوي على مشارف جبال بوسمغون .. في يوم قائظ - .
وحده الضب الصحراوي( السمغوني) يشرب الريح ويتغذى منها .
وحدها القبائل الصحراوية تمارس القيافة .. وتعرف الأنواء والفراسة .. وحدها اللحظة ترحل مداها .. في انتظار مساء القمار ..
مساء الخير والقمار .. قالت .فدوى ..
الشطيرة تصب الماء على وجهي وتغذيني بالريح كما لو أنني ضب صحراوي وحدها المجاهيل تقودني حتما إلى كأسي، وسيجارتي المحشوة ـ،هذا إعتراف مني ، خذني إلى لحظتك – قلت لفدوى – أوان القمار – لم يتحدد بعد ، .. أفلتِ اللحظة ، ارجوك تسكعي بين أضلعي ، ألم تخرجي منها ؟ يا امرأة بحجم كأسي دثريني باللحاف السرمدي .. ودثريني بالدم القاني ..،، خذيني إلى مثواك ، ومرّغيني ألف مرة على حواشي الشطيرة ، لم أعد أقوى على البوح .
أخاف التعذيب .
ألم أكن جحشا ذات ليلة بين أحضانك .. أنسيتِ أن القدر خانني في أن أتحوّل مثلك تماما ..شرسا .. ؟؟ شرها ..تخفق أوصالي وأحزاني ..ألم أبحْ لك بطفولتي
وأنتِ توزعين اللحاف المهتريء في شقتنا المأجورة في شارع ساندوني .. بين خصري وأطراف رجلي العارية عندما لسعني البرد وأنا وأنا أتوسد صدرك وأنكمش بين فخديك ..
ألم يكن وحيد – ذاك الجنين – هلا نسيت ِ .
، - أصمت أيها الأخرس ، هااهي الأنوار عادت ْ ، كان مجرد إنقطاع طفيف في التيار الكهربائي ، هاهي الشطيرة – بدون ملح .. أبلعها ودعني من هلوستك .
كان أزيز القدر في المطبخ وأزيزها..على شفاف وحيد ..خلف المصرف ..في يده سبحة.
.تأزز المكان بهما..
تأزز العربي بقميصه ..وبلحاف شفاف..تأزق المكان..أزفته..ثم سرعان ما غادرته إلى المطبخ..ثم إلى بهو آخر..وتأزت عنه مرة ثانية..وتأزى عنها بدوره..
ثم تآصرا بالمنكبين..أم وحيد..
-ها أنا ذا يا......
كانت السبحة بيد وحيد .وفي شفتيه هذا الذكر(ربنا لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا)
...وكان الوقت أصيلا..تأفف..إل..أ..ب..قال في غضب:
(إفك)..هذا إفك يا بنت الناس ..ورأس وحيد..
ما عساك تفعل قدّر الله ما شاء فعل ..وتوالت دقائق أصيل باهث ..
أسند ظهرك المحدوب الأجرب ..على كتفي..أقطف عرا جين بلحك من خصري الممدود وأنفت سيجارتك عليه كما تفعل ..إنه الآن مربع الخيل ...ولعبة "التيارسي.".يا عاشور..ألم تكن تشتهي هذا الاسم....أطفئ سيجارتك على فخدي كما تفعل يا عاشور لعل الخصب يأتي من خصري وينجب وحيدا أو جيمي آخر..من صلبي..ألم أكن عاقرة وكنت عتبا..اعترف بالعيب...الخمرة دارت في رأسك بالقاعة..قولي ما شئت ..يا كلبة..
لا..أنا في تمام وعيي يا لعين ..
تنكمش اللحظة في دفء العتاب المتبادل ..تسكنها السكينة وفصول الخطايا والخطيئة ..يتجول الشجس مع بقايا رماد السيجارة التائهة بين الفخذ والخصر إلى فصل في أيام خلت ..وينامان ..
يتسلل "وحيد" النادل ..إلى خارج الحانة..وتغفو في عينيه المدينة ....يهيم في أحشائها..تهيم المدينة..يسكن أولادها في نحيبها..في ضجيجها ..تفيق الكلاب حين تغفو المدينة ..التي يصحو سكانها الشرعيون ظهيرة كل يوم ..على وقع. ترتطم رجلاه بالثلج الأبيض الذي يكسو المدينة..ينتهي إلى حي (سان ميشال).. يهلوس : معادلة العصر لا توازي يقظة الثلج الأبيض إلا عندما يتنكر لي الآخرون..ثم يصمت ..
ما ذنبي، إنه صمت المدن الغربية عندما أتعرى من جلدي..أو أسبح ..أو يسبح (هو) في كوب خمر عصارته عرق جبينه كما يدعي ..فيجد نفسه سباحا في كوب ملأه بعصير ثلجه الأبيض كما يدعي أيضا.. كلنا بيض كالثلج وكصفائه ..هكذا سمعتهم في الحاضر يقولون..
وأنا أين محاضري ..؟
يفيق ..يستدرك المحاضر..فتنكمش المدينة في عينيه ....في شرايينه..
آواه..أعود لتوي إلى الحانة وأفاتحه في الموضوع..
..من تقصد تقول المدينة والأصداء..يوقضها ..تتنكر..تتقنع..
-آه ما أحوجني إلى رداء أُدثر به عندما يتسلل البرد إلى أضلاعي..التي ابتلعتها المدينة ..وعبارة بمستشفى الولادة..ثم دور الحضانة فيما بعد ..وكذا شارع فيكتورهيقو..وهي (باربارس) .
آه ، ما أبلهني .. وما أتعستي .. المعادلة سهلة ، تكمن في غفوة وصحوة ، وسبحة – كانت بيدي – وذكرٌ تلوثه .
تتلوى الخطوات كأفعى بين أقدامه ، زخات مطر مفاجئة تبلل شعره ، يحتمي بإحدى الحانات ، يتردد في أن يقتني ((بيرة )) أو أن يتلو أيات بينات من الذكر الحكيم بلهجة فرنسية أصيلة ، على أرصفة الحانة ، أو أن يصغي إلى حشرجة تصعدها الشوارع التي ابتلعته ، يصحو من غيبوبته .. تعتريه إرتعاشة جامحة .. يقف مشدوها .. أمام إفريقي يوزع على المارة مقابل واحد أورو نسخا من ( حصن المسلم )، يحملق في وجهه الشديد السواد ، يتمتم : )
- الثلج أبيض .. وهذه النسخ منسوخة أو ربما محرّفة ، كالإنجيل .. يقترب من الإفريقي : يسأله هذا السؤال :
- أين يدفن أحياؤكم ، في مدنكم ؟
تجيبه المدينة والأرصفة ..فيما يحجم الإفريقي عن الجواب :
- في سجل لا يولد مرتين .- عجيب أمر هذه المدينة وهذه الارصفة كيف عرفت أنني من الأحياءالموتى ؟
يعتريه شعور .. بأن خطواته تتجه في اتجاه معاكس .. ذرات المطر التي تساقطت فجأة توقفتْ ..يعود إلى الإفريقي .. يناوله نسخة من ( حصن المسلم ) يتصفحه في لهفة دون تركيز .. وتمضي خطواته نحو مجاهل أخرى .
- أجل أنا حي ميّت..لكن كيف ؟ غفوتُ عندما .. صحوتُ..غفوتُ... كانت حارتي الكبرى ..كيانا بلا علامة .. بلا غطاء . يهلوس .. تُبعث المدينة ..والأرصفة قهقهة كبرى وبسخرية تقول :
- إلق ما بيدك .. ثم نتفاهم .
تبادرتْ إلى ذهنه آيات من القرآن الكريم كان يسمعها من إمام حي ( نونتار) من جالية مغاربية ، عقب صلاة المغرب ..حفظها .. هذا مدلولها : إلق ما بيدك يا موسى ) .
تضيف المدينة : معلوماتك ناقصة .. حارتك الكبرى أضحت جدة ولها أحفاد ..تقص عليهم حكاية الغول ذي السبعة رؤوس .
لعنة الله عليك ما حييت أيتها اللعينة .. يرد في نبرة مبحوحة .:
- أين نحن من حكاية الغول ذي السبعة رؤوس ..- ها ها ها لم أر أحمق منك .
يغمس رجله اليسرى في بقايا (( قيء )) لفظه لتوّه سكير جزائري مر بجانبه وهو يرشق المارة بكلمات بذيئة .. يترنح من السكر .
الضب هو الذي يشرب الريح .. لا المدينة .
المدينة تتقيأ (( نبيد ) باريس في الجزائري الثمل ..
تجذبه هبّة السكير نحو الرصيف.. تطرحه أرضا تتسخ ملابسه ، يقول السكير : Vive Zidane, vive l’ algerie,vive maradona..abat kastro..vive mossaab azzarkaoui..abat belladen ..aussi vive « le petit »..merde pour toi Catherine..
« ينعل بو كواغطك .. سوق الدلالة ولا أنتِ .
كما تدور الحكمة على الألسن سبعة أشواط تكررت باريس في مخيلة وحيد .. يفتش عن وجهه .. في حقيبة مملوءة بحبات ثلج إختزنها منذ أيام في جيبه معتقدا أنها لا تذوب .. فلم يجدها .
يقول : فعلا الضب يشرب الريح ، لا المدينة .. جيوبي لا تتسع للثلج .. –
- آه كم أنا أحمق .. آه ضاع مني وجهي الحقيقي ، بأي وجه أقابل الوجه الأكبر .. ظننتُ أن الثلج يحافظ دوما على صلابته .. وبياضه .
ما أتعسك ، باريس ، وما أجملك .. ! ..
وينتهي إلى مدخل الحانة ليوقظ أهل الكهف ..يغمغم : لعني تأخرتُ.
****
المدينة مفتش في شرطة المعادلة .. ودفتر مفتوح على كل الإحتمالات .. ويطوي أجفانه قبل أن يلج عتبات الحانة ..
تفيق المدينة ..تعبر الشوارع ..ترأف بالمتسكعين .. والثقاة معا ..تدور الدنيا دورتها السابعة وهو ما يزال واقفا أمام عتبة الحانة يتأمل الإعلان بغلقها .. يقرؤه .. ويعيد قراءته .
رحلتِ الأشرعة نحو الشرق بأمر من نابليون بونابرت .. وأزدهرت الطباعة .. جفّ ضرع عراجين البلح في العراق .. وجفت مآقيها .. أصابها القحط والسنين العجاف ، لكنها ما زالت تثمر بلحا ً ..كما أثمرتْ ساقية سيدي يوسف بلحا من الرماد .
تمامان تماما.
ساقية سيدي يوسف مسقط رأسي .. وسند ظهري إلى ذاكرة آلتْ كما نجوم الليل الحالك .. في ليلة قمراء .
تماما .. تماما..فأيقظها السعال الذي ابعد عنها الكرى .. تموت السنون عندما تموت أخرى ..
تماما .. تماما ..
وتبقى حكاية الغول ذي السبعة رؤوس صدى في الآذان ، ولحافا يدثّر مصعب الزرقاوي ، حسن البنّا .. بن لادن وغيرهم ..
تماما ، تماما ..
كما الضب يشرب الريح ..كذلك مصعب الزرقاوي يستحم في نهر الأردن لتقتات من مائه .. عراجين ظمأى.
كانت " زرقاء اليمامة " قد تنبأتْ بقدوم ماء على نهر الأردن ،لم تره من بعيد كما يُعرف عنها .. الهدهد هو الذي كشف الماء من أعلى السماء ، هكذا أوردت دفاتر المدينة في أوراقها المفتوحة على كل الإحتمالات ..
.. وينزل اللقطاء أبهى الفنادق .. يلتقي النقيض بالنقيض ..على كأس خمر .. يتباذلان أطراف الحديث ويتصاحبان ..ويتعانقان ..
تماما ويتعانقان . تعبثُ التماسيح بالماء بنهر الأردن .. ودجلة والفرات . والليطاني .. وخرداوات سوق كيليوباترا ..
- أصمـْت ، تقول المدينة .. ينكمش مذعورا ..
- عفوا سيدتي أنا من مواليد ساقية سيدي يوسف التي رأها الهدهد في المنام ، فأجبرها على اليتم ، وأجبرته على العشق .. تماما .. تماما ..
كما تفعل الحيتان في البحر .. في فترة التكاثر ..
- عفوا سيدتي هزتني المساحيق .. فأصبغتُ وجهي بلون البلح ، تماما ، تماما ..ولقحتني بتمر المزابل .. الذي أضفى رونقا لوجهي .. تماما ، تماما كما الأجلاف .. تماما ، تماما ..
كما المثل العربي القائل : '' أحشفا وسوء كيلة "" تماما،، تماما .
عفوا سيدتي المدينة على الإطناب ، أنا شاعر وديواني : مائي من طنجة إلى مضيق هرمز ليس كمثل ريحك الجارفة ، .. إنها ريح الضب المسكين الذي يرتشفها مثلما أرتشف مساحيق وجهي وأنضوي تحتك كعرق نتن ينبعث من إبط نتن ..
أمتص زغيبات إبطك العفن ، عندما أشعر بالعطش .. أشرب رائحتك النتنة – العطرة – وأمتصها لأظفر بنوم عميق –
- أنتِ مرضعتي من الإبط النتن ، كم أتلذذ بقراءة أشعاري تحت كنف رعاية إبطك الطاهرة .. أتلو قصائدي وأشعاري .. وأنظر إلى ما تحت إبطك ..تماما ، تماما كما يتوهم " أوديب ".
لستُ من ملّته .. على كل حال .. أعوذ بالله .. لكنني ملهم بقراءة أشعاري تحت أبطك .. لا أعرف السر في ذلك . فقط لأنني شاعر ، أستبكي إبط طلك كما يفعل إمريء القيس تماما .
إبطك طللي .. وفاتنة أيامي .. ووفاتي .. ورمسي ..
ارتخي مرضعتي ، لا تتحركي .. دعيني أرضع عفونتك .. شيطان الوحي قد ألهم قريحتي ..
قالت العرب قديما : إعط القوس باريها ..
ها أنذا باريها .
وقالت جوليا بطرس عبثا : '(( دم العربي ((وين )) .
هاهو دم العربي يشق أمصاري ،، يحتدم بحفنة تراب وشعر في وجداني ..هاهو ذا (( العربي )) هاكيها أقوالي .. قصيدتي ، لا تمانعي ..
صعقتني ، تقول المدينة – ب(( تماما.. تماما )) .
إقرأ ما عندك .. تماما ، تماما .
تتملكني فرحة عارمة ،، أستجمع قواي ، أرتطم كالجمع المؤنث السالم في جملة إعتراضية .. أستحضر سيبويه .. وفقهاء البصرة والكوفة .. وأقرأ إنصياعا .. لها (( تماما .. تماما)) كما أمرتني : .
سيداتي .. سادتي ...
تنهرني المدينة : انطق .. بدون مقدمات ..
طيب سيدتي .. عنوان قصيدتي :( بكائية على ضريح السيدة )) .
هاهي ذي كما جادت بها قريحتي : أنا شاعر .. أنا شاعر .
أنبح .
- طيب ، طيب ..
يرحل الأمل ،، ينتعل الحزن / الإقامة / الصلب/ الدفء..
يسافر الحل .. الشمس / الصورة / المرفأ.. يتهور ..
يتهور
يتهور
أتهور معه ..تتجبّر المساحيق .. على وجهك ..
يسافر الوجه
يتدحرج .
ترضع حليمة السعدية طفلا لم يبعث نبيا .
المورد :
تتغازل على جنباته القبعات الغربية
يفشل الحب .. الخصب .. العشب ..
يتوهج .. توهج ..
يتوهج ..
يتوهج ..
يغضب اللهب / الفارس / يتقيأ الخبز .. والتمر / والرغيف / الدفء ..
يفوتني مركب الراحلين ..نحو مرفأ الشمس المحمومة ..
يأسرني الشوق ..
أسمع صهيل فرس عنترة مبحوحا ..
مبحوحا ..
مبحوحا ..
أصرخ : ومعتصماه..أتلوّن كالحرباء ..
ينكرني ..
يلفظني
يرفضني باقة أزهار ..
لسيدة تسكنها المساحيق ..
يهاجر وجهها .. نحو صالونات
يمنع فيها الجلوس على أبناء حليمة السعدية ..
..ووجهي المنفي .. تطارده المساحيق ..
****
يحصدني الشوق غبارا في صحراء تدمر ..
وأعود أقبّل وجهك ..كصغار تبرأّت القطط منها ..
لغم الجوع ،، يخيّم على الأعشاش ..
أخلع موتي من حياتي ..
فتصادفني المساحيق ..
ترش الضريح ..بأزاهير الأمل المصلوب ..
..وحلوى الأطفال المصلوبة – المحجوزة ..
عند ضابط الجمارك ..
يمتصها / يتبول عليها / يصفع الطائر الصادح بها ..
.. وأنتِ كجوازي المطبوع في ألف محطة ..
يبحث عن تأشيرة ..تبيح دخولي المدن المحظورة ..

***
أتقيأ القائمة / السفر/ الحلم ..
أتقيأ قسرا .. جبرا .. خارطتي المرسومة ..
أتقيأ إنتمائي تحت السوط ..أتقيأ الطهارة .. الوضوء .. أفرش القبعة سجادة تحت السوط ..
يا زمنا يربض فيه أبو ذر ..
ينتظر مجيء زوج السيدة ..يُدخله مدن العرق المهدور ..
الإعتراف :
أعترف بأن الخطر مطبق ..
وأن الوجه الجاثم فوق وجه رداؤه المساحيق ..
ومائدة الفقراء..قائمة / واجهة المساحيق ..
باقة حزن يرتديها الرفاق ..
يا سيدتي الراقدة تحت المساحيق .
-إحساس :
بعض من مناطق وجهك ..
خارطتي المرسومة بالأنتماء / بالحلم / بالحرف/ باللون..
أعشقها ..
كاللولب يدحرجه فلاّح ..
في عائلة تنتمي للبؤساء ..****
*****

مستبدٌ كالحلم .. سيدتي .
يردعني ريح إنتمائه ..
أستقر مع الحقد الأزلي ..
وجموع المنتمين .. إلى القائمة المرسومة .. في غور وجهك .
****
ظلا أرتديك .. سيدتي ..
فجرا / حلما/ أرتجيك ..
وشمسا منكوبة على ضفة النهر الأخر ..تجيء القوافل ..
محمّلة بالزاد ..
تحاصرها المساحيق
..والشوارع المقفرة ..
تصير أرضا خربة ..
إلا من القبعات الغربية ..
وريحك العاتية ..
تنهر الصّبية ..
ترش رية خالد ..
رايةعمر ..
راية أبن العاص ..
فتصير الراية حصارا ..
وحلما مدفونا ..
في الشوارع المقفرة إلا من القبعات الغربية ..
- ما رأيك سيدتي في قصيدتي ؟
- كنتْ تنبحْ ..
تستبيحه هذه الكلمات ، يتسمر أ مام مدخل الحانة – الإعلان - ما يزال مثبتا على المدخل ..يزفر.. يلج الحانة .
يقول : بدأتُ أدرك لماذا لا تنبح الكلاب في هذه المدينة في كل أوان ..ولا تنهش كل المارة .. يطوي أجفانه .. رحيق الإبط العفن كان يختزن وعيه .. كل ما في الحانة كان مصادرا حتى الزيت المستثنى من قائمة الجرد .
من وخزني بالإبر ..الصينيون – تطببا- أم حيلتي ، عندما فقأتُ عين حارس الغرفة 54 بمستشفى رعاية الطفولة ، وهو يمرر يده فوق خصري .. من علمني أن أحشو المصل بالكوكايين ..أليس هو .. حتى حين صار صديقي .. لزمن طويل قبل أن يبعث جيفة إلى مقابر الغرباء .. قال هذه الكلمات وهو ينسحب بهدوء من تخوم السرير العتيق ، إذ لاحظ عناقهما .. وأجزاء عارية من جسميهما .
اعتراه الحياء .
اكتفى بالقول سرا : (( العربي لا يتخلى عن عائشة أبدا وإن تشاجرا)) ..
كانت اللحظة تبدو منتصف ليل بلا منازع ..يُسدل دهاءه مثلما اللحية البيضاء تُسدلُ ذات مجلس وقور .. وكانت تبدو عادية مثل عرجون تمر تململتْ شظاياه من نخلة باسقة فرعها في العراء وضرعها خارج الماء ..
ليستْ هذه النخلة كافرة ولا ملحدة ..ولا من أصل يهودي .. مهما قالت القوافل ومهما أدّعتْ أصداء بعض النزلاء ..
قلتُ من استل المصل .. لعلها الريح التي يشربها الضب ..
اللحظة عائمة .. تحبو نحو مساء القمار الذي لم يعلن عنه بعد لأن الحانة مغلقة . مقفلة ..
- وأما من خفّت موازينه ؟؟
وهوت المكنسة التي توسدت الجدار .. وأما من ثقلت موازينه .. يعتريني من جديد شعور جامح بأن من ثقلتْ موازينه وخفت موازينه .. قد جُنّ ..وأنا واحد منهم .
- ويغطان في نوم عمق ..
تماما.. كأهل الكهف ..
تماما.. تماما ..
أتسلّق هرم ذاكرتي ..أسأل المكنسة المائلة قبالة الحائط .. تتوسده في أنتشاء .. وارتخاء.. أيمكن لي أن أعرف الآن من وأد عرش كسرى .. وأتلف أموال قارون ..أيمكنني الآن أن أدنو .. كما سمعت الذي لا أطيق تسميته ..الا سيدي * تيسا أبى السير في زنقة مظلمة ..
أسئلة مسيّجة تطوّقه ..
يقترب ُ من المكنسة .. يجثو .. محاولا سرقة سبائك متناثرة تحت السرير .. يتذكر قول الإمام من الجالية المغاربية بحي ( نونتار) .. يتراجع .. يرمس المكنسة .. تستيقظ عائشة مذهلة .. كانت المكنسة موصولة بخيط شفاف ..( خيط الصيادين ) إلى معصمهما.
كان على بعد أمتار ..
- وأما من ثقلتْ موازينه ُ .. فقد خفت موازينهُ .. وأما من تأكلت أطيافه .. ونام بعد العصر .. فقد جُنّ .. وأنا واحد ٌٌ منهم ..
وأصغيتُ لحشرجة الخيط الواصل بين المكنسة والمعصم ..
وابيضّتْ عيناه من كثرة البكاء ..
ولولا أن رآه لما عرف حقيقة الأشياء .. ولما أدرك أن الخدوش التي حفرتْ أثلاما في جسده وذاكرته .. وأجزاء من خصره وذراعه من كثرة غرز الإبر الصينية ..ولسعات مصل الكوكاكيين ..
واسودت عيناه . ..
الآن أُُجهر بها ....وأجهشَ بالبكاء ..
تخترقني زوبعة .. وتسكنني طمأنينة .. الآن أجهر بها .. الآن أوانها ..أوليس الآن أواناها ..وقد ضبطتهما متلبسين .. ؟؟ بجنحة أخلاقية .. لا ليست جنحة أخلاقية .. من يدري أنه شيء آخر ..؟
أنا في حاجة إلى الحقيقة ، يلزمني أن أراجع كتبي في القانون وأنا خريج جامعة .. لا بد من تحرّ ومنهجية والرجوع إلى المواد القانونية والإجراءات العدلية .. وغيرها .. ثم من أنا .. وما علاقتي بهما .. حتى أحشر أنفي فيهما .. لا يعنيني بتاتا ... هل هو نهي عن المنكر .. أم هو تغيير لسلوك أخلاقي ..تشجبه الديانة الإسلامية ..
قال : ودجّنتني الأيام .. واستدار دون أن يكمل ..
لعل الدّلتونيّة قد أصابتني .. من يدري أيضا .. ( عمى الألوان ) .. لم أفرّق بين المهجع ومن عليه .. وربما .. لكنني رأيتُ على تخوم المخدع '' الجريمة والعقاب" لدوستوفيسكي .. من أصدق ؟ .
تخوم المخدع تتهاوى منها زفرات خلت .. واخرى زاحفة نحو سلّم ذكريات خلت أيضا ..ونهر جارف ..
رمقاه وهو يتسلل إلى المكنسة .
لعها يومها أصابتْ عندما نفضني غبارا ولفظتني إلى دار الإسعاف وعلقت على معصمي سلسلة يشدها خيط شفاف يلفه رقم يدعى (54 ) هل كان صدفة هذا الرقم ، أم أختير لي عمدا من قبل القائمين على دار الطفولة المسعفة ، أم أن راعيتي كاثرين ومساعدة القابلة جوليات جذبتا هذه القلادة دون ترتيب أبجدي ، أم أن لكل شيء حساباته .. أم أن المُسعفة الإجتماعية جوليات هي التي أخضعتها لترتيب يتطابق مع الأطفال المسعفين الذين تمت ولادتهم بطريقة قيصرية مثلما حدث لي ذات ليلة حالكة من 1971 على الساعة منتصف الليل بالضبط من يوم 1/11/ من نفس السنة .. عندما تعسر على أمي انجابي بطريقة طبيعة ، فخضعتْ لولادة قيصرية .
نهر جارف من الأسئلة يقوده إلى معرفة الحقيقة ..العملية تستدعي بحثا .. ثم هذا لا يهم .. حتى جوليات مسعفتي التي أرضعتني حولين كاملين بواسطة رضاعة بلاستيكية وكانت تأخذني إلى بيتها نهاية كل أسبوع بترخيص من إدارة المستشفى عندما كان الرجل الإسباني يجيء كل أسبوع ليمضي بسجل " الخرو ج " كما كانوا يسمونه انتهى إلى مسمعي أنها فارقت الحياة ....وتركت وصية بأن أرث مزرعتها وحوشا للدجاج والخنازير ..
لماذا هذا الرجل الإسباني بالذات كان يمضي بدلها ...أليست مؤهلة أم أن ثمة شيئا آخر كان مدبرا..من أطراف معينة ..
زفر وقال :دجنتي الأيام ..تسللت بسكينة إلى جيبه سحب بلطف "حصن المسلم"الذي إبتعاه إياه الإفريقي كان يقرأ بلكنة فرنسية ذكرا مكتوبا بالعربية "اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا ..وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا " مرر يديه عقب التلاوة التي تلعثم فيها على كتفيه ..كما يفعل المسيحيون تماما ثم سلم ..
ترقد أسئلة أخرى في مخيلته ..يطردها بهذا الدعاء من نفس الكتاب "سبحانك وبحمدك لا إلله إلا أنت " أستغفرك وأتوب إليك
ترتعد أوصاله ، يتسيّج بسئلة أخرى :
- كان لي ألا أثقل كاهلي بكل هذه الأشياء .. ألم يقل لنا إمام نونتير (( لا ترهقوا أنفسكم بكلمة ( لو )) فإنها من الشيطان ، كان علي أن ألتمس العذر من مخيلتي .. وأن أذهب الوساوس هذه بمساع الموسيقى ، كان علي أن أبث في الأمر بصورة قطعية بتهدئة أعصابي بقرص مخدر أو سيجارة محشوة .. هو ذا الحل .. أو أن أخلو بنفسي ببلال أو الشاب خالد ، .. ثم لماذا لا تغادره قلنسوته ، ما لسر في ذلك.. ألم يكن جزائريا .. أو في الجزائر يهودا ؟؟ ..
أسئلة أخرى تزاحمه .. سرعان ما يقول بالفرنسية : laisse- tomber، ،
تنزل ضيفا ثقيلا،، خفيفا على حواشي السرير .. تطفو كما الزيت على الماء ..كما الشطيرة التي لم تشو على (( المشوية )) كما وقار السلحفاة في بوسمغون وهي تسير في سكون غير آبهة بما حولها .. لا خوف عليها من الأطفال ولا من الصبية .. فهم يحترمونها ويبجلونها .. لأنه لم تقترف ذنبا سوى أنها لاتتدخل في شؤون الغير ، هذا هو ذنبها ربما ..هذه السلحفاة ولي صالح .. يقول مشاييخ القرية .. من يؤذيها يدخل (( النار)) ويأكل (( الجيفة)) ولولا أن حباها الله وقارها.. وألهمها سكونها وطمأنينتها .. لم تأتِ الفاحشة ولا قول الزور ولا قالت (( البهتان )) لا تعرف للغيبة والنميمة سبيلا .. ولا سبيل إليها ( من يؤذيها يدخل (( النار)) ويأكل الجيفة ، مسّجة ، بل محفوظة بالهبة والوقار ، من حصّنها المعاصي والكبائر ، والرذيلة والفسق ؟ لعله أبن طفيل في حي بن يقضان ..لا ليس هذا ..هو سارتر الذي ألهمني إلحاده .. لا.. هي الظبية التي كفلتْ أبن يقضان .. ماتتْ فبكاها ..حتى ابيضتْ عيناه .. هو غرامشي الإيطالي الذي مات في سجنه ولم يلحقني به ، لأنني كنتُ أعشقه .. هي لا ، بل هو مظفر النواب الذي يحشر أنفه في شؤون الأنظمة العربية ، ويمتهن النميمة والغيبة .
لن تكون أبدا مواقفه ُ (( المشوية )) على فرن (( أجدادي )) بل أشعاره البذيئة التي تكون سوى شهرزاد التي تخاف شهريار أن يلحقها بزوجاته السابقات عندما يهددها بالحكي والقص ..فتتكلف ( ودبّر راسها) لتسرد ما تبقى من حكايتها الألف .. مثلما أصنع التكلف مع دخان سيجارتي المحشوة مثلما أبحث عن قافية أو رويِّ ..أو تفعيلة في أشعاري .. لأكملها .. لا .. ليس كل هذا .. هو وقار السلحفاة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .. ماعدا أنها كانت محل أحاجي الأطفال ببراءتهم .. وهم عائدون من مدرسة القرآن الكريم يتقاذفون كرة محشوة بالتبن الذي كنت أحصده وأدرسه وأتغنى بأهازيج شعبية طاهرة .. وأنا أرفسه برجلي عندما أحس بدوران الأرض أمام مر الأحمرة التي أوقظهم ، وأواصل الدرس وحدي ، رأفة بهم ..
هو ذا النقاء بعينيه ، ليس حواشي ولا قوافي القصائد ..ولا إلحاد سارتر ، بالرغم من اعترافه بأن قوة خارقة قوية ..تتدخل عندما غضب ذات مرة وهو يصرخ : (( إنها قوة أخرى .. لا أنها قوة أخرى )) أو في ما معناه ..
ما حجمي ووزني أمام سارتر ،، وكبار الملا حدة والزنادقة ،، ألم أستحضر ذات مرة وأنا ثمل .. ربيعة العدوية ؟ هو ذا طيف السؤال الذي يسيّجني أنا أيضا .. أحاجي أطفال القرية علمتني أن السلحفاة لغز مفاده أنه من فوق لوح ومن تحت لوح ، وفي الوسط روح )) ألهمني هذا اللغز ، ومها أن أطأ الحقيقة لا أن أطأ الدجاج والتيس الذي أبى السير إلى زنقة مظلمة ، لأن دبره كان يؤلمه ولأنه كان يدرك بحدسه أو بحاسة أخرى أنني أقتاده إلى فعل مخل بالنقاء ..
وقتها كان خالي ( الطالب ) ( الفقيه ) مؤذن ( المسجد العتيق) و(مقّدم) الزاوية التيجانية ينهرني عندما تلفحني ريح الكسل عن الصلاة في وقتها ،
كنت حريصا عليها ، كما كنت حريصا على ( قراءة) ( الحزب) عقب كل صلاة العصر ، مع الجماعة ( بالطريقة المغربية ) وأسمع الكبار يتحدثون عن ( ورش) و ( حفص ) ، لكنني لا أعرفهم ..كل ما كنتُ أحرص عليه هو أن أحترم ( الوقفة)) في قراءة القرآن ، وإلا تسللتْ يد خالي إلى خصري ( فيقرصني ) كلما تجاوزتها ـ
كان حريصا عليها .
لعنة الله عليه ،مرة ( قرصني) بعنف حتى تأوهتُ وقد استحضر الشيطان تيسي المتمرد عندما صاح ( ماع) وأنا أطأه ..
عند ( تكرار ) نهج البردة للبصيري ( في الحضرة التيجانية ) كان خالي لا يأخذني معه .. وكنت أرغب في ذلك .. لكنه كان يأخذني بين ركبتيه لأسمعه (( ألفية بن مالك وابن عاشر، وأحفظ بحضرته الأجرمية ..وآيات من الذكر الحكيم عقب صلاة كل مغرب ، ، أتعجل الخروج لألعب مع أترابي ، ، وأتعجل الإنسلاخ من لحظتي .. اليأس يطوقني .. ستائري هناك غمامة ..سحابة ... لكنها مشارف أوطار وأوكار وأذكار ، ولذة الطوطمية .. تشدني ركبتي بخالي مثلما أتشدق أحيانا بلوائح الأمم المتحدة .. ابتداء من عصبتها إلى أمميتها .. تشدني الأطياف .. تخزني حيّات مؤذية وأخرى تنشد السلام ، في عضدي.
لا أدري لماذا استحضرت الأمم المتحدة ولوائحها .. ركلت خالي ،، نهضت بسرعة فائقة ..
الأفرشة هي ، هي ..ولحظات الدفء والمجوسية هي ، هي لم يصبها التحلل كما يصيب كل الجيفة .. ولم تمسها الطهارة ..
واحتدم الرواق – في الحانة – بالأفاعي .
لم أكن أعلم في صحراء الله ، أروقة للأفاعي .. وأخرى للبشر ، كما الشأن بالنسبة لأروقة السماء والطائرات المحلقة في سماء الله .
كما السماء تحلق فيها الطيور ، والصقور والطائرات ، في الأرض أيضا تحلق الأفاعي والثعالب ..
ويحلق الأبرياء .
ويركن الجيران للاستشفاء والاستحمام .. والاستسقاء..الزمن ناعم من الألوان التي .. تحتدم بجوار عمامة عمي (( قدور ))المضياف ، الذي يغدو كريما إلا عندما تلتقي القبائل وسط الصحراء .
صحراء الله .
هذا ما بدا جليا للالة ميمونة زوجته التي تحمد الله كثيرا وتسبّح له كثيرا .
قالت للالة ميمونة : امنحني فائضك من الدم الخاثر ، إن تعذر الحال ،، امنحني فائضك من التسامح .. والضيافة ،، أمنحك فائضي من البياض على سواد أو العكس ، أما أن أمنحك فائضي من الدم ، فلك فائض يسيل من كل التخوم ، يعبر كل الروافد .. إلى لوائح الأمم المتحدة .. !
ويسيل في الو هاد ..
عار ما تقول ، قالت فيروز وأنشدت : '' أعطني الناي وغن .. ثم توقفتْ .. ثم أضافت ْ .. : " من سر الوجود " .
وانصرفتْ ..
قال عمي قدور : وعي هذا ( الغلام ) الأمرد ، يكمل ( التويزة .. في حقول ( السماغنة) ..
قلتُ .. وأنا أتوسدها في الحانة : دعني أجيب ( عمي قدور ) .
وأكمل ما طلبت عمتي ميمونة ..
قال: حدد لي مياهي الإقليمية في صيغة المخاطب ..
وأشاح عني غاضبا .
وأتوسدها .
التبس الرد في حلقي : رددتُ أغرودة شعبية ، تعلمتها مع أترابي بدون وعي في زنقة ( اليتامى) مطلعها :
(( ريحة القسري والمسري وأم السيسي تعطس )) .
لا أعرف معناها .
*****
لسعني برد الخريف . ودفء التي أتوسدها. في آن واحد .. وهزني الشوق إلى موسم جني الرمان .. وحضور ( وعدة سيدي أحمد المجذوب) بعسلة وأنا أتطفل على لعبة الكبار.
ولوائح الأمم المتحدة التي أتوسدها .. كالتي تتوسد ني وأتوسدها ..
وتشيح عني أحيانا .
قالت ( فيروز ) (( شحرورة الوادي) : للاة ميمونة ( العورة ) ( تربح العيب مع الجيران ) قالتها بلهجة جزائرية .
ترهّل عمي قدور ( بدا يخرط ) ويخرف .. أكبر في السن ، أجابت فتيحة من وراء الستار ، وهي تجفف الفلفل اليابس .. تطحن ما تبقى من قمح ( التويزة ) و( عرق الكتاف) وما لفظته الجلسات الأممية من لوائح في أروقة الأمم المتحدة .
- اسكتي يا خشبة جهنم ؟ ..ا .
-اربح ْ فيها صلاة النبي ، أسيدي قدور ، قالت لللاة ميمونة لبعلها وقد أحست بغيظه .. وبارتفاع في ضغط الدم لديه
كتموّج كما الريح التي تهب على مشارف القرية ..
قالت : هو ذا اليوم الفائض الذي أنشد ه .
تزحزحتِ الستائر ..، ودحرجت ْ شطيرة الخنزير .. إلى فرن آخر .
نصيب للاحتياط .
أطلت فأرة من جحرها .
رمقتها بعينين جافتين ، استنهضتُ التي أتوسدها .. أبتْ .. تسللتُ بهدوء .. ابتعدت إلى بهو آخر .. غمستُ رجلي اليسرى العرجاء وسط إناء به ماء ساخن .. زفرتُ كما الشاة ( النساء بقرات إبليس ) ، كنستُ رغبتي الروحية ، ، تنصّلتُ من الماء الساخن ، عدتُ إلى مخدعي، أركل طفولتي .. مرحلة ، مرحلة ، أتمرغ في ( كسوتي ) أطل من نافذة مشرعة .. وأنا لم أتعد التاسعة .. لا أميّز بين الكلام القبيح والطيب ، أسمع مع مطلع كل فجر عمي قدور يتسلق درج المرحاض الوحيد بالحوش ، لا يقوى على السير من كثرة شحومه ، رجله اليسرى العرجاء ، يحدث ضجيجا .. وهو يسخن الماء ليتوضأ .. أو يشعل النار التي يصلني دخانها وأنا ملفوف في رداء رث .. أعانق أمي ( فتيحة ) أردم رجلي بين فخديها ، سرعان ما أحسن بأن شي ما يعصرها ، تؤلمني تخزني أتدثر بلحافي ، أغمض عيني أو أستسلم للنوم في غالب الأحيان .. يحز في نفسي أن أنهض لألعب قرب الكانون ، بأي شيء أجده .
حدث أن فعلتُ ذاك مرة ، في غسق الليل بعدما أصابني أرق من جراء خوفي المتقطع من معلمي الذي عاقبني بكتابة ((لا أنام في القسم )) ألف مرة ، تسللتُ خلسة من فخد أمي ، هرولتُ نحو باحة الحوش ، أحمل جريد نخل ( وثقاب ) .
كبريت
تعترث :
نهرني عمي قدور ، فانكمشت مذعورا .. بإحدى زوايا الإسطبل ، أتوسد روث البقر وبعض الشويهات ، ( كالتي أتوسدها الآن ) أحسستُ بشيء من العفونة والعطر في آن واحد ..كدت أختنق .. لكنني صبرتُ خوفا من جدي .
أزداد إحساسي بأن هذا ( الشيء) يتحرك نحو جسدي ..
لكنني صبرتُ .
غادرت الإسطبل ، إلى غربتي الروحية ، إلى صندوق معتقداتي ، وأنا لم أتعد التاسعة من عمري .
تحركت البقرة ، ، أصابني هلع .. غير أنني تسمّرت في مكاني .. أمضغ بقية ما يجول في خاطري من أوهام وأسرار الطفولة .
وأسرار الكبار .
تسلقت ظنوني كما يتسلق عمي قدور أدراج المرحاض كل فجر ، وأدراج الوطن .
لم ألامس حدسي .
لم أصنع من توابل حديثي متكئا لطفولتي وملحا لشرعية (( الخنزير) على النار .
أصغيتُ لآهاتي .. كبرتُ كما الأطفال يكبرون .
وأنا أجثو في موقعي ( الأرض ببلادنا لا تتحرك ولا يشملها نظام الجاذبية ولا الدوران ) متوسدا روث البقرة التي عادت بعدما تحركت قليلا ( كما حدث تماما لشطرة الخنزير التي غيرت موقعها ) .
قبعتُ بموقعي ، أتوسد الروث حتى أصابني النعاس ، .
وسكتت شهرزاد عن البوح بدورها ، وكذا فيروز عن الإنشاد .
الحوش كان باردا .. الروث بات دافئا .. يختلف في (دفئه ) عن صدر أمي .. ، ..
بزغ الفجر ، لسعني صقيع بارد ، أحسست بخطوات جدي تثاقل نحو مرحاض الحوش كعادته ، ( توغلت ) إلى أقصى الإسطبل ، ترتعد فرائصي ، أقرفص ..أسكن وهني ، أسكن ذاكرة الكبار ، أمضغ حشيش الروابي في مخيالي ) .. أتسلق نسق كوني الصغير ،
لم أكن أعرف أن الرمل ناعم مثل دفء الروث .
جاورني الإحساس بنعومة الموقع بالرغم من أنني بت بالإسطبل أجتر دفئي ، كما البقرة ، أو الإبل .
وأخترقُ بعض أحاسيس الكبار .
الولع بلذة اللحظة كان رهيبا ، هروبي إلى ذاتي ، من ذاتي ومن نهرات جدي بات يؤرقني ..
لكنه منحني لذة البقاء بالإسطبل .
أتلذذ روث البقر والماعز والشويهات ، لم أعبأ بالصقيع إلا حينما غادرت ُ الإسطبل ،متجها نحو غرفتي .. ومخدعي لأردم رأسي مرة أخرى بصدر أمي
.

*****
تتأزز رجلي وهي تحاول التسلل إلى صدري أمي في همس إلى فخد أمي .. مثواها المألوف كل ليلة خاصة في فصل الشتاء ..
.. ****
أألف وحشتي ودهشتي وأنام .. أم أتوسد هشاشتيي .. ومنافذ ذاكرتي .
سفوح القرية تتوسد شموسها .. وأطيافها ..كما الصمت والصخب تماما في لوفالوا .. وباريس بأحزمتها وتواريخها ، وأطيافها .
الضباب يتوسد الأخلاق وميتافيزيقيا سارتر الوجودي .. ودسائس العشائر الطوطمية ..
قريتنا وباريس آنستان لم تتزوجا ..
وباريس حطب هش .. وذاكرة متقدة.. وأنا أنا في الأنا رغم وجودية سارتر ..وأفكار سلامة موسى الذي ألفتُ وحشته.
عوت اليوم ، كما عوت الريح .. وضحك الضب الذي يشرب الريح ، يزاحمني تشوهي ، تحت التي أتوسدها .. وكنتُ أغار من ستائر الحنة ومن صمت محمود .. صاحب الحانة .
لماذا أنا ثرثار.. وغيري أخرس كالغبار ..
لا الغبار يصفع الريح ولا الضب هذه المرة يشربها .
أترعتُ كأسي بالويسكي .. حملقتُ في محمود مليا : -
- تكلم ، تحدث .. عن غطرستك .. وتنازلك .
قلت: لماذا تنازلت َ لي عن (( عائشة البقرة )) أهي الإرث الحضاري .. أو "الوقف" أم هي خرداوات سان دوني ،، وأسواق كليونكور ..
كانت الشمس تطل علينا ليلا .. ونحن لم نبلغ بعد وقت القمار المنتظر .. هي ليلة القمار وليال عشر ،، والنجم إذا هوى .. لم يهو لحد اللحظة ..لحد اللحظة ..لأن تباشير ليلة القمار لم تحن بعد .. فقط السدرة هاهي تحكي أوجاعي .. وأيام ذات رجع وصدع .. وطعام الاستسقاء ..
أنصت محمود ، أيها الذي بايعتني تحت جدع النخلة العاقرة ، ذات صبح بمشارف باريس ( وأنا من لحمك ودمك ) .
أشوِ محمود نيابة عني شطيرة الخنزير .. لم أعد أطق رؤيتها فوق الجمر ..باتت تؤرقني رائحتها كما الصمت يسري في عروقك ، وكما أغانيك المسجلة لفترة مريم عابد وقد خلتْ..وأفلتْ . أن تخدعني بتحنيط الحقب التاريخية .. وفصول التيه .. في حضرة حانتك المشمّعة ..ورتْلٌ من الشباب الذي اقتحمها ..
أن أتوسد صمت الحانة وضجيج فئرانها وجرذانها .. وألتفت بستائرها ، أن أسحب (( الجريمة والعقاب )) لدوستوفيسكي ، أو أنتعل حكاية السدرة .. أحكيها فصلا ،، فصلا برتابتها ، وتقريريتها وبراءتها ،
أن أشوي على السبائك .
لا تكمل ، قال محمود : أسرد فصول السدرة .. إني أصغي .
سدرة .. ومساحات البوح .. إرضاء لمحمود .
.- وكان محمود يصغي : والستائر تهتز
***************.
دقت دقائق الفجر ..فالتوى الشيح على رجلي .. ورقصت الحلفاء لمقدمي ..زرتُ البراري والتلال ، رحتُ أركض كجواد مدلل .. أقطع المساحات والمسافات .. ينتابني شعور أكيد بأنني سأظفر بالطريدة .
كانت الطريدة وجودا بأكمله .
قفز أرنب صغير . أحدث عجاجا تطاير رذاذه على وجهي .
قلت له : لست الطريدة . عش (هانئا) في هواك النقي .. إننا نتقاسم المسافات .لم .تعد تفصلني عن وثبتك سوى الريح التي يشربها الضب ، لم يكترث .. شق الأمصار .. والأيام ذات الرجع .. وسبع ليال ذات ..
توارى .
تهشّم كإبريق من الخزي ..
ضربتُ كفا بكف .. تأسفتُ لهروبه ..
لم يكن الطريدة .. أبدا ..
مسكين هذا الأرنب .. الصغير .. أعتقد أن الإنسان شرير ، لا ينشد السلام ، لم يكن يعي أنني سألتقي به في يوم ما عبر الخلاء ..ونشرب معا ريح ( الباقيات الصالحات) وراء فروع أشجار السدرة المتوحشة ، لم يكن يعي أنني تعلمت الوثب مثله ، بل أكثر .
تلفتتُ صوب الفضاء الكوني الشاسع .. تلفظتُ ( بالباقيات الصالحات ).
أمرق الودق .. الأفق ينشد ألحان الرعد .. والبرق ..
تواريت تحت فرع سدر متوحشة ، لم يكن الأرنب الصغير بجواري . كان هو الآخر ينشد السكون .. يتقي الأمطار الغزيرة في مخبئه .
********
كان بعيدا عني .. عن طاولة القمار .. وعن ستائر الحانة
لم يشعر بالوحدة .. بالغربة ، ربما هذا ما بدا لي ..لكن كان يحس بالغربة ، لحظتئذ والأمطار تنهال على كتفي .. الأيسر ، وقد كان عاريا إلا من وشم أفعى ملتوية .. لا تستره فروع السدرة المتوحشة التي استشرت بنزول الغيث ، كنت أمسح بناظري الأفق حيث تعم رحمة الله .
وخزي الليالي ..وخزي شوكها..
قلت : شكرا أيتها السدرة ، ربما أنت سدرة المنتهى ..
قاطعني محمود : ( أصمت ما هذه الثرثرة )) .
- اختفى الأرنب الوديع عن ناظري .. والسدرة التي غذتني بنبقها ، وكستني بردائها وبلعت تمر تموز ..
قال عنترة لحظتها :
(( وظلم ذوي القربى أشد مضادة من وقع الحسام المهند )).
نطقت عبلة .. نطق الأرنب .. نطق الضب ، ونطق حمود : أكمل قال .
الريح موجعة .
قال العربي لمحمود في عنجهية : لماذا لا تكتب الشعر أنت كذلك .
- عنترة والمتنبي فيهما الكفاية .
وقالت فيروز : صاحت الديكة ، و(الدبكة ) بين الليطاني ونهر الأردن : الماء للجميع ..
وامتعض يوسف سعدي ، ونطق محمود الذي يضع نقطة ( الفاء ) ( من تحتها).
من تحتها ردوم ،،، وتخوم المخادع .. وإعلان غلق الحانة
صاح محمود : أنا فقيه أبن فقيه مالكي ( الألف ما ينقطش شيء ) .. الباء نقطة من تحت .. لفاء نقطة من تحت .. النون نقطة فوق )) .
وحيد واقف ،، ينتشل اللحظة من غبيبوبتها ، يمتص غضب يوسف سعدي ،، يرتزق من السماوات السبع ، ومما يقتات أهل البيت .
قال : دنوتُ من المخدع ، حيث الخط الواصل بين المكنسة ، ومعصم عائشة ( الفاء نقطة من تحت) أنا فقيه مالكي ابن فقيه مالكي ..
الدلاء تعوم في الأبار ، كما الشياه في البراري ( الفاء نقطة من تحت.
ورحلت اللحظة عن مكانها.
قال محمود : وعائشة التي بيني وبينك ؟؟ )) .
قال العربي : ورتل الشباب الذي غزا الحانة كالنمل والقمل والحانة المعلبة ،، كذلك ( فاء نقطة من تحت ) .
المدينة غارقة في أوحالها .. في طيبة أهلها ، في تيه السياح والعجزة ،
تحاملت على الدلاء في الأبار .. وعلى الشياه في البراري ،، ( خوردتُ) أقمصة ومجموعة ألبسة من سوق ( كليونكور) بباريس ،، قبل أن أسحب الكنيسة ، لملمتُ كافة ( فاءات) محمود ذات النقاط ( من تحت) . إختزنتها تحت أبطي .
حاولت غير ما مرة ، لكن دون جدوى .كان الخيط مثينا محكما ..
يا ساحة ( الفاء ) عفوا سماحة ( الفاء ) ، قلت وترددتُ حين ساورني الشك بأن المحاولات القادمة سوف لن تتثمر هي الأخرى .
عبثا أحاول ، أستأنستُ ب( حصن المسلم ) ،، أدعو ،، وأتلو ،، فيما القامة الهيفاء للمكنسة ترنو نحوها ..
قلت : يا سبحان الله ، المكنسة تتحرك دون أن يمسسها بشر ،، تدحرج في مخيلتي سرب الشباب الذي غزا الحانة ، وأسراب السياح الذين غزوا القرية وسفوحها ، حين كان أأترابي يتوزعون بين ( التوظيف) المجاني ،، زرافات .. زرافات ..
- آه .. ما دهاني ، لست أنا ،، هو محمود الذي كان .. لعلها السيجارة تطلبني ، كما تطلب المكنسة ودّ صاحبتها .. أجل محمود هو الذي توزع بين التوظيف ( المجاني) رفقة أترابه .
شياطين ( السماغنة) الصعاليك هم الذين حدثوني عن ذلك ذات مساء أمام محلات ( طاطي) .
قلت على لسان محمود : سياح أجانب جاؤوا إلى القرية ذات موسم ، فانبهروا بنخيلها ، وعذرية سفوحها ، أخذوا لنا صورة جماعية . كنا نمتطي أحمرة سمينة زاهية ، ركزوا على تصويرها ، لم نكن نعلم لماذا كل هذا التركيز.
صوّروا مداخل القرية ومداخله نحو البساتين ، وأخذوا صورا كثيرة لعجائزنا ،، بلباسهن التقليدي .
إحدى العجائز امتنعتْ عن التصوير ، لأنها لا تملك نقودا تدفعها للمصور ،، هذا ما قالته لأحد الفتية الذي ترجم ما قالت بلهجة أمازيغية ..
ضحك أحد السياح .. ناولها قطعة نقدية بعدما أخذ لها صورة .. امتنعتْ عن أخذها ، بل غضبت
أحست بالإهانة .
تفوهت بكلام غليظ ، حدّ قت في هذا ( القاوري) ثقبته بنظرة حادة ، لاحقته ، وهو يركض نحو حمار ليحتمي تحته ( اتقاء للحجارة التي كانت تلتقطها من الأرض بيد واهنة .. قوية لتقذفه ، وهي تتمتم بغضب ( يحرق والديك يا ولد الكلبة ) واش تحسبني (طلابة) حتى تعطيني الدراهم .( تعرف الدراهم لمن يعطوهم ) يا واحد الخامج ..
تدخلنا ، لم يهدأ هديرها ، نعتتنا ب( الجياح ) ( الجياع ) عندما عرفنا سبب عزوفها عن تناول النقود .السائح يحتمي تحت الحمار
تواريتُ في دهشتي . تقمصت تلك اللحظة
هرولتُ والأتراب – نحو أزقة ملتوية .. أسمع هدير العجوز الذي لم ينقطع .. حتى دلفت بيتها .
****
كما في البؤبؤة .. كنوز الطحلب .. وصفد المآقي يغازل جوابها ..
أسألها عبر الصلب والثترائب .. تغادر مصنع الحوت .. ...ويونس في فم الحوت لترتطم بكنوز الدنيا .. و ... الوشاح المسيّج بأقحوان الأماسي الناعسة ،،تكتب رسائل للشهداء ،، للمهدي بن بركة ، لعبان رمضان ولكنفاني ،
أنا العابرة لمتاهات سرو الونشريس ، وتقاطيع جبال الأطلس ، التي تخترق المغرب ، تونس مرورا بالجزائر
يخفف الصفد في حرارة التأوه ..
أنا المتحدثة : عائشة ، لا محمود ولا العربي .
(( ميسّة )) أرشم .
سوطة لاز ، أرشم يقول محمود
- كواطرو .. أرشم يقول العربي ..
لفحتِ اللحظة هديرها بالدخان والرماد .. وهما يتطايران عبر أرجاء الحانة ..
وأبيضت عيناه وحيدا .. تقدم ، بل تراجع إلى الوراء ، يطفيء الأنوار حتى لا تشتعل الحانة وقد أصابتها شرارة (( السوطة)) .
نهره العربي : اشعل الأنوار ..يا..... سقطتْ بطاقة الهوية من شدة الهلع من جيبه .. ركلها في اتجاه الفرن ، سقطت المكنسة أرضا .. تهوي ..تهشمت كإبريق من فخار ..
قال وحيد : ولم يمسسها بشر ن.
تحسو اللحظة لذتها .. يحسو الضب ريقه ، بل ريحه ، منطاد يحمل الجميع إلى السما الأولى ..
صلبوا جميعا .
أرشم .. قراض .. ري .. ميسة ( أبّح) .
***** **أريــــــــــــــانــــــــــــــــــــا فــــــــــي جيـــــــــــب وحيد:
الأسطح العارية كأنما السماء تمطرها .. والحانة من تحت ) ( فاء) نقطة من تحت ) تتأوه .. تموء كالقطة تسقط ..يعبر جسمي تيس طاعن في السن .. تتدلى لحيته .. تحاول عبثا انتشال المكنسة من غرقها .
- قلت: خطفتها السماء .. عبثا تحاولين ..
- ابحث عنها في ( كوّة سليمان ) بأفغانستان ، هي ذي الجبال المتفرعة من سلسلة الجبال المتجهة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب ، كجبال الأطلس التي تشق المغرب ، تونس مرورا بالجزائر ، تماما .
وعانقتْ جبال سليمان كابول .. وآفلتِ اللحية ..
- تتكلم لحية التيس لغة ( البشتو) وأتكلم لغة ( التاجيك ) والشرطة تستقري أوضاع الحانة التي انهارت .
من قال انهارت ،، تهاوت أتربتها فقط .
قالت شرطة العالم ( الأنتربول) : وصلتنا أخبار بأن إبلا حطت بساحة الشهداء بالجزائر العاصمة .. وبمشارف مسجد كابول ببلكور ، قادمة من أسوار هذه الحانة ومن أسوار أخرى .. ومن جبال ( البابور ).
كنا سبعة ، طوالا ن ثامننا يهودي الأصل ن غزير الشعر ، يتوسط سطح الحانة ..نحرسها من عيون بارس الناعسة .. ومن ومضلت الإشهار عبر قنواتها ، كنانلفها بالتناوب .. أرسلنا منطادا يبحث عن جرة في السماء لراعي القبيلة ، كانت عائشة قد ضمتها إلى صدرها ، ترتشف عصير ما فيها .. كنا نسترق السمع من الجن والإنس .. وكان فينا العربي والنصراني واليهودي .. كثفنا البحث في سماء الله وفي كل أرجاء الدنيا ، من الشرق إلى الغرب ، ومن الشمال إلى الجنوب ،، إستأجرأنا منطادا .
توزّعتْ (( سرايانا)) نحو البادية ، نحو الحواضر ..كانت شهب من السماء تقذفنا .. نتوزع مثنى وثلاثى ورباع ..
ولا نسمع في السماء لاغيه ..
حط منطادنا بالأراضي السبع .. كنا لانسمع فيها أيضا لاغية ..
سوى شهب من نار ..ترْجمنا ..نصبنا خيامنا .. بالبادية ، نشتم أطلال فاطمة .. ورماد ..
ماؤنا الآسن لم يطفئ نارنا .. غيرنا مكاننا إلى أكمة أخرى ..وكان فينا (( رجل راقية )) استرقيناه ، مازحين .
قال : 55 أخرج عدو الله وإلا ستحرق )) .. كان الرماد يهتز .. قفزنا من أكمتنا نحو الرماد، أنشد خامس فينا: أيا فاطم مهلا بعد هذا التدلل ..
استذكر إمريء القيس .
قلنا أصمت أستاذنا لست بالثانوية ..أنت ضمن (( سرايا)) البحث عن منطاد ..في مهمة رسمية ، ليس هذا وقت العبث .... استوقفنا أحدنا .. برتبة مساعد رئيس (( السرية )) أو بالأحرى قائد فرقة البحث والتحري )) .
دعوه يفرغ شحناته في هذه الصحراء الخالية التي لا تسمع فيها لاغية .. أشار بالبنن إلى أستاذ (( الثانوية )) . أنشد خامسنا : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل )) .. صفقنا له ..في البادية التي لا تسمع فيها لاغية .. صفقنا إمتثالا لمساعد رئيس السرية الذي بدأ بالتصفيق.
قال : أفرغوا شحناتكم في هذه الصحراء ، وهذه البادية التي لا تسمع فيها لاغية ، هاتوا ماعندكم .. إلى جانب مهمتكم المحددة ، في رحلة إلى صحاري الله التي لا تسمع فيها لاغية .. في سفرة مدفةعة الأجر ..، أمرحوا ..قولوا ما شئتم .. أنكم في عطلة مدفوعة الأجر.. تماما كما الطغاة الموظفين .. الذين نحاربهم ونقاتلهم ..أنتم الآن في صحراء الله .. أنظرواما أوسعها .. وما أوسع قلبي .. دعوني أسمع وأستلطف الهواء النقي للبادية التي لا تسمع فيها لاغية ..
استلقى مساعد رئيسنا على الأكمة يفترش عباءاتنا وألبسة بعضنا الأفغانية والباكستانية وعقالاتنا و( جاكيتاتتنا) . وبعض كتبنا وزادنا ..
بيده كما عصاه كما فقيه الكتاتيب أو إمام مسجد ، أو أستاذ بالمدرجات والثانويات ، أو كما الحاكم الناهي ، الأمر ، بكل بساطة .
أفرغنا بطارياتنا .. وشحناتنا كما لو كنا نتهيأ لنسف ميترو أنفاق في إحدى المدن الغربية .. أو حافلة أة ملهى أو حانة .
أفرغ كل واحد منا ذاكرته.
وكما الثعابين أيضا تفرغ سمومها قبل أن نشرب الماء ..
اشرأبتْ أيادينا نحو السماء .. ننتظر إشارة المساعد .
قال : لا داعي لهذه الجلبة ، كلكم شباب حقا .. لكن يجب أن تمرحوا بنظام .. وأشار إلى أحدنا ليبدأ..
أخرج قصيدة من جيبه كان قد كتبها حديثا ، قبل أن ينضم إلى إحدى السرايا بتوجيه من إمام الحي ، وهو يمد يده إلى جيبه ، صعقته إرتعاشة لاحظها المساعد ..مد يده بلطف إلى جيبه .. أخرج القصيدة قبل أن يتلوها ، قال :
-عذرا سيدي إنها ..
أكملْ ، رد المساعد : عاطفية ؟
-أجلسيدي ن هل تأذن لي بقراءتها ؟
-قلت : إنكم في عطلة ، ثم ما المانع ..ألسنا في صحراء ..لا تسمع فيها لاغية ، إقرأْها كاملة .. أنا أيضا أتذوق الشعر .. وستحظى برأيي فيها ، تفضل.
لملمتُ لعابي ، قرأتُ:
تلاحقني ياسمراء عينيك ..
وسماؤك الأزرق يلاحقني ..
يناجي أفقي ،، يخاطبني ..
يفرش ربيعي الناظر ..
يسامر معابري .. وأفقي الأزرق
وأنا ممدود يا رفيقة معابري ..
تحت ظل الشعر الأشقر..
أيتها السابحة في يمي المرهق ..
خذيني لأغازل العين الناعسة ..
خذيني لأسامر الرمش الأزرق ..
وأسبحُ في يمي أنا والرمش الأزرق ..
أيتها السابحة في يمي المرهق ..
فأنا أعيش للقلب المرهق ..
وإن كنتِ رحبي أيام كنت أعشق ..
يا سمرائي ، الرمش الأسمر .
أغازل الأمواج ، أغازل الأبحر ..
وأسبح في دنى التغاريد ..
يدفئني الرمش الأسمر ..
لحاظ الماضي ..
أيتها السابحة في يمي المرهق ..
وخطاب الماضي أضحى ..
للحاضر صدى وحكاية ..
تنام تحت الشعر الأشقر
.. والعين النائمة في حاضري ..
أضحت للحاضر أفقا أزرق .
خذيني ، خذيني ..أغازل الرمش الأزرق ..
فأنا أعشقه .. وأعشق حاضري أسبق ..
كل الماضي أضحى كتابا ..
أيتها السابحة في يمي المرهق ..
يلاحقني ، يفتش ع قارئه ..
تحت الرمش الأخضر ..
خذيني ، أعيش إليه ..
كتابي : أنا قارئه ..
خذيني أعيش إليه ..
أراه .. يناديني لأقرأه ..
فأنا له أعيش ..
أيتها السابحة في يمي المرهق
..فأنا أعشقه ، وأعشق زمني الآزرق أسبق .
كتابي يناديني ..
يحملني إليه زورق ..
خذني إليه .أهيم ..
أيها الرمش الأزرق ..
أهيم وأشدو :
أنتَ أيها الحاضر أسبق ..
أنت أيها الحاضر أسبق .
صفق الحاضرون بحرارة اقتداء بمساعد الرئيس ، طنين ذباب أزعج الحضور ، كان فوق الأكمة يحوم كما الحوامات العسكرية في كل نواحي الدنيا .
قال رئيس السرية الذي ظل صامتا : أراكم تبعثون بقيمنا وحضارتنا ومقوماتنا .. إننا حسبما أرى.. في وادي عبقر ، تحيط بنا الجن والعفاريت .. ونقول لغوا ..وفاحشة .. خذوه إلى الوادي ، قيدوه لنقيم عليه الحد: فقد زنى ..
ارتعشت فرائصي .
لا تخف : قال المساعد وهو متكيء على الأكمة .
- ألم يكن حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ .
ثم أنا الذي أمرتهم بقول ما يحلو لهم ، ومن أفتى بهذا ، موجها كلامه في راحة تامة إلى رئيس السرية .. ؟ .
- كبار العلماء .
- هات – السند - ؟ ثم من بايعك عنا – حتى تفتي فينا – ألم نعزلك مرة .. وأعدنا مبايعتك بعد إلحاحك ووساطتك ، الآن أن أوان أن ننزع منك الثقة ..
كان من ضمننا عون بلدية ( برتبة ضابط الحالة المدنية ) .. أخرج َ كناشا من صدريته .. فشطبه من سجلات المبايعة .. رنين الذباب إحتفى .. السرية بدون رئيس آمر .. حليم نائب رئيس السرية .. يسير شؤونها :
حليم أسم على مسمى . تمتم أحدنا ، قال حليم : (( الحلم في شمائلنا)) من قال الشعر حرام ..
احتد الخلاف . وسط الجماعة . قال أحدنا : لا يشطب رئيسنا هكذا ..يجب أن نبايعه ، أو نبايع أحدا غيره .. هي ذي .
قاطعه حليم : قل الديمقراطية.
أعوذ بالله أردف ، أنت طاغية ..
بحِلم رد حليم : في صحراء لا تسمع فيها لاغيه ؟.
-كافر ن طاغوت ، تستهزيء بالقران الكريم ، وبكلام الله .
-ماذا قلت؟
- قلت : لاغية.
- وما هي كلمة لاغية ..
- إنها في الجنة .. قرأت هذا في القرآن ، في سورة ( الغاشية ) ، وما هي الغاشية يا سيدي الفقيه ؟ .
لا أعرفها..
دعنا (في ) لاغية ،، ما معناها – ولك الإمارة - .
تحمر وجنتاه .. فرحا ،، طمعا في الإمارة .. ينحنحُ .. تهتز مناكبه ..
في انتشاء : إنها نعمة الجنة ..
ضحكنا ، في الصحراء الغالية التي لا تسمع فيها لاغية .
قال حليم: لاغية ، تعني كلمة فاحشة علا ، لكنها تعني أيضا لاغية بمعنى ملغاة ، ثم هل صدرتْ منا كلمات لاغية .
-قل لي ماذا كنت تشتغل في حياتك المدنية قبل أن تلتحق بنا .
-كنتُ حدادا بأحد الأحياء الشعبية .
- آه الآن فهمت ن لم يعلق ، وابتسم .. ودعا للجميع بالخير ..
إلتفت َصوبي ، قال :
قصيدتك جميلة ، لكن عندي بعض المآخذ عنها ، في قولك : (( وإن كنتْ رحبي أيام كنت أعشق )) هذا المقطع تقريري ، ، أخلّ بالوحدة العضوية وبالوزن ، ثم أنه ليس شعرا ، ، تعبير مهلهل، ركيك °° ..كما أن هناك مواطن إخفاقات أخرى في الكناية والتشبيه والبناء الدرامي والإنتقال من حالة إلى أخرى ، هناك باختصار (( فوضى في النمطية في البناء الهندسي للقصيدة )) لكن هذا لايعني أنها ليست شعرا..إنها شعر مرسل نثري ،ن يبدو أنك متأثر ، أو كنت متأثرا بنزار قباني. على العموم جميلة وصادقة .
اشتممتُ من شيخي أن كان في حقل التدريس .
غمغم الحياء في داخلي .
حاولتُ الخروج نمن شرنقة أفكاري وتخميني الذي بدا جليا.
قاطعني : ألم أكن أستاذ الأدب بالثانوية ياولدي ..
أحجمت أن أسأله ، واكتفيتُ توجيه الشكر لشيخي : شهادتك أعتز بها ) .
قال مبتسما : في الصحراء الغالية التي لا تسمع فيها لاغية .
كانت السماء مدادا .. في صحراء غالية لاتسمع فيها لاغية .. احتدم النقاش بين مؤيد ومعارض .. وفصل الخلاف ،، .استمتعنا بهواء لطيف .. وحلم حليم ،، وفظاعة الرئيس ...
مزنً يقطع جدالنا .. نحتمي بالخيمة .. يتوسطنا حليم ، بخير هذا المزن النافع : قال قبل أن نبدأ ك (( اللهم غيثا نافعا)) صيبا .. قلنا آمين .. سألنا واحدا واحدا .. عن مستوياتنا ..الدراسية واختصاصاتنا ، كان فينا المهندس والطبيب والمدرّس ..والراقي ، والميكانيكي ، والطالب الجامعي والحداد ، وما دون ذلك ، ومن كل الأجناس ، حتى من اليهود .
حدثنا شيخنا عن ماهية المهمة الموكلة إلينا ، وتفرع بنا الحديث إلى إبن تيمية ، والشيخ العثيمين ، وابن الباز ، وعمرو خالد ، والسلف الصالح ، والخوارج وسقوط غرناطة ، انهيار الحاةنة .. وغيرها من شؤون الدنيا ..
كنا في اجتماع رسمي ، بمحضر رسمي .
ضابط البلدية لم يدع شيئا، كل شيء دوّنه في ( كناشه ) .
المزن يتواصل .. فوق سطح الخيمة ، ينهمر من السماء .. فاضت الوديان ، لحقتنا صلاة المغرب ، صلينا جماعة .. وقرأ الشيخ الركعة الأولى يالغاشية والثانية بالكافرون .. إلتفت إلي عقب الصلاة والدعاء ..وقد كنت أجهر بالقراءة معه وأنا مأموم .. سألني عن اسمي .. قلت ( جيمي ) تجهم وجهه .. أردفت ن عفوا سيدي : وحيد هكذا سمعتهم يقولون ، أخاف أن أكذب في حضرتك ،، بالرغم من أنني لا أفهم العربية كثيرا ، بقدر ما أتحدث الفرنسية بطلاقة لأنها اللغة التي رضعتها رفقة رضاعتي البلاستسكية في إحدى المستشفيات بباريس .. استقام في جلسته ، فرك عينيه ، برقني بنظرة حادة .. ممزوجة بدهشة عارمة .. وحشرجة .
- ألست نادل الحانة بلوفالوا .. أنت جيمي الذي اعتدنا رؤيتك بالحانة ..مالها ملامحك تغيرت .. وتعفر وجهك .. مادهاك .. ماهذه اللحية المعفرة بالغبار .. ، قال كل هذا بلهجة فرنسية باريسية سليمة.
قلت بعدما توسمت فيه الخير:
- أجل سيدي ، أنا هو بالذات والصفات ..أما لحيتي المعفرة بالغبار ، فلأنني لم أتعود غبار الصحراء التي لم أزرها إلا عبر هذا المنطاد ..
قال مبتسما بالعربية : الصحراء الغالية التي لا تسمع فيها لاغة .
ابتسمت مجاملة ..ثم أردفتُ : لم أفهمها بالعربية ، مخاطبا اياه ..بالفرنسية .
رد بالفرنس

ية : désert saint et sacré : ( وحيد) .
أومأـث برأسي أنني فهمت عمقها ..
ساد صمت بالخيمة .. والمزن بالخارج يملأ الوديان . نطق أحدنا :
- أل نواصل سمرنا ، ياشيخنا ، ألسنا في عطلة مدفوعة الأجر .. ألا تسمع خلجات أغوار مشاعرنا .. أل تمنحنا فرصة أخرى .
قال الشيخ حليم : للعبث .
ححاشا : ياسيدي ، للتعبير فقط عن ..
فليكن ، قال بوجه مبتسم : هات ماعندك .
أتأذن لي يا سيدي أن أغني في حضرتك ؟
رد ببشاشة : قلها شعرا أفضل ..
توسطت الجمع .. شرعت أقول : (( راني نادم على الأيام اللي ضاع صغري وشبابي فيه ، قلت هذا المقطع .. وخصري يتمايل ، كأنني في مجلس لهو ..لم ينهرني الشيخ .. ولم يوبخني بالرغم من أنني شعرت بأن اهتزاز الخصر كان بدافع إنفعالي مع الأغنية .
قال الشيخ ببشاشة : إنها أغنية حسني .. أيها الميكانيكي .. اجلس مكانك .لم يعلق .ولم يبدو الغشب على وجهه ، لكنه قال : هذا لغو ..لو غنيتها كما يغنيها حسني لكانت كلمات لاغية ..
وإن كانت .. وأردف: المنطاد ، أنت مصلحُه .. إذن إنك تفيد ، رغم أنك لا تعرف أن لكل مقام مقال .
تملكني ارعب . غمرني الرعب ، خفت أن يقيم علي الحد ، ، أو أن أشنق أو أعاقب .
حليم كان حليما .حين قال مازحا ضاحكا:
- ماعسانا نسمع أكثر من ميكانيكي .. هذا ما كان في جعبتك ياولدي ،، الذنب ليس ذنبك ، كل ما في الأمر أن هذا ما في جعبتك .، أردف مازحا : ( أتهلى في المنطاد )) أنت ميكانيكي الفرقة ..
قلت : أنه بخير .. ويوصلنا إلى أقاصي أخرى ..
المزن يتواصل هطوله .. وكما الريب يسري في شرايين المرء، من جراء أمر ما ، فرك الشيخ حليم عينيه مرة ثانية .. استدار . نحوي ، كنت قابعا باقصى الخيمة : حك رأسه ، خرج من الخيمة يستطلع أوضاع المزن .. أومأ برأسه أن نواصل السمر ..
تملكنا الخوف من أن تكون أحاديثنا دون المقام ، نهض أحدنا من مكانه ، مرتجفا ، ذاولا ، يتلعثم في كلامه ، قال :
هل تأذن لي سيدي أن أطرح سؤالا ؟ .
قال الشيخ : تفضل ؟ .
- لماذا فركت عينيك ، واستدرت نحو جيمي أثمة أمرا ما ؟ ، تزاحمت الأجوبة في حلقه .. اكتفى : شكرا : هذا الأمر بيني وبين جيمي ( لدجاجة لا تبيض في السوق) ثم إن لكل مقام مقال .
قال آخر : سمعناك تردد كثيرا: صحراء غالية لا تسمع فيها لاغية ، هل لنا أن نعرف عمن هذه الحملة ؟.
قال الشيخ : أرض ٌ بكر ، أرض أجدادنا ، كانت الإبل فيها تشق الأمصار ، نشرب لبنها ، ونحلبها . وننتفع بخيراتها ( أي الصحراء ) إني أخشى أن تلطخها المدينة بعفونتها .. وبكلماتها اللاغية .. هذا باختصار مدلولها يا ولدي ..
قال آخر : ولماذا نعسكر فيها ؟ ..
ابتسم الشيخ .. فرك عينيه ، خرج مرة ثانية يُطل من الخيمة .. رجع ..تنهد ، قال : عسكر أسلافنا بمشارف مكة .. دخلوها فاتحين ، لم يؤذوا ل الشجر ولا الحجر ولا الأطفال ولا الشيوخ .. ولا حتى أبا سفيان.
قال سابعنا : لماذا ياسيدي نزرع القنابل في أنفاق الميترو ؟ وفي المنتجعات السياحية ولأماكن العمومية .. وغيرها ؟ ..
خرج الشيخ قبل أ ن يجيب مرة مرة ثانية من الخيمة والمزن يتهاطل .. فرك عينه ، تنهد ، زفر ، ابتسم ، قال : هو ذا الذي يؤرقني في هذه الصحراء الغالية التي لا تسمع فيها لاغية ..فرك عينيه مرة أخرى .
وابيضت ْ عيناه .
أحجم عن الكلام .
كان المزن ينزل بغزارة . خفنا عليه من العمى ، قلنا في جلبة : اللهم أحفظ ياربنا شيخنا من العمى ، فرك عينيه ، حملق فينا ، ابتسم دعا حين صعق أذاننا رعدٌٌ .. فوق سماء الله ممزوجا بمزن رحمة .
تضرّع شيخنا : اللهم طيبا ( دعاء الرعد ) ..
فتشت في جيبي عن ( حصن المسلم ) وجدته ، قرأت دعاء سماع الرعد ، رمقني الشيخ ن قال : مد يدك إلى التمر واللبن يا جيمي .. غبار الصحراء الغالية التي لا تسمع فيها لاغية أفضل من كاشير باريس وجبن هولندا .. وملذات الدني ا .. مددتُ يدي إلى الذي كان وزع اللبن والتمر ن علينا في طبق من حلفاء .
كان عشاؤنا .
قال ضابط البلدية : أأسجل كل ما جرى في محضر المداولات ياسيدي .
قال الشيخ : في الصحراء الغالية التي لاتسمع فيها حرقة ولا كلمة لاغية .
لا ، يا ضابط الحالة المدنية .
قال أحدنا ك ما رأيك يا سيدي في ابن تيمية ؟
قال اشيخ : شيخنا ، وشخ مشايخنا ...
قال آخر ك : لاحظت ياسيدي أن كلمة ( قال ) تكررت كثيرا ، وأما أسلوبنا ن فتبدو عليه الركاكة والرتابة . لا كتابة ن ولا بلاغة ولا تشبيه .، ولا أقتصاد لغوي ولا سيمولوجية اللغة ، ولا جناس ولا طباق ولا حنكة . ولا تدوير .. ولا بناء روائي محكم ببنيوية ..
قال الشيخ : اسأل الراوي الذي أغدقنا بكلمة ( قال .. قال ) .
قلنا للراوي ك هل هذا هو أسلوبك في الرواية ؟ .
قال ك في هذا المقطع فقط ن في هذه الصحراء الغالية التي لا تسمع فيها لاغية .. ضحكنا ، قال ك كما قال الشيخ حليم : اسل الراوي عن رتابة هذا البناء الروائي ن فهو استثناء .. فقط .. وهو الذي جادت به القريحة.
وأنا أعبر معكم براري الله بواسطة المنطاد ، بدون أن نعثر عليهم ، نتأ شيخنا
عنا ،،عن حديثنا . النتأة لتت تصغي له ( قال ، : استنثل الراوي ..تناتل النبت ععلى حواشي الخيمة .. حيث كان المزن ينتف النبت على الحواشي ، نث الراوي الخبر ، نجمتِ لكواكب في مخيلة كل واحد منا ( قفا نبك )) للملك الضليل ، قلنا ، والريح الخفيفة إذا أدبرت ْ .
قال الشيخ : يشربها الضب .. قالت العرب .
******
قال مبتسما : أفلتْ ، نرجئها إلى غد له نظيركما أردفت العرب .
قلت عن) .. ( رانيا قلنا في جلبة : والمهمة التي رابطنا من أجلها .سيدي : لم تسألني

قال : هو الإسم القديم لأفغانيستان ، إقرأ جغرافيتك ..أمر (( الميكانيكي ) بتسخين المنطاد .. الذي رفعنا إلى سماوات الله .
بـــــــــوح وأجتيـــــاح :
أمتطيت صهوة مركبتي ، وقد انفصلتُ عن جماعتي بالمنطاد ، كاالمكوك الفضائي ن حلقت فوق الحانة ، أحمل بؤسي ومجموعة أسئلة .
أصحابي إبتلعتهم دنيا الله .
الحانة فوقها الشمس ، وتحت طاولات القمار (فاء) نقطة من تحت .. وبقايا إنجيل .. وصفحات مزوّرة من التوراة والزابور .
غربلتُ معلومات حليم في ذاكرتي ..وقد أوصاني الأ أبوح بالسر لأي كان ، بعدما حدثني بكل الحقائق والتفاصيل .
وجها لوجه ، كنت معه .
جوليا مربيتي تعوم في حناني كما الدمية بين أحضان طفلة مدللة ، أستبق الضب ن أشرب ريحه هذه المرة ، يغتالني الأرق .
أمضي الى المزرعة كالريح العاتية ، أسأل الجيران عن أمي ، عن حروف هويتي التي ركلتها صوب الفرن ،، عن تيهي الموزع بين المدينة وسطح الحانة وأقبيتها .
أنا إبن العربي .. وعائشة المروكية .. مافي ذلك شك .. صرختُ.
مرضعتي جوليات أوصت لي بإرثها ومزرعة للخنازير .. ضابط الحالة المدنية الذي رابط معنا في صحراء الله التي لا تسمع فيها لاغية ، دوّن ميلادي في سجلاّته .. بذرني كما البشر في سجلات الميلاد ، من أب وأم معلومتين .
- ياللفرحة .. يالدهشة ..
- كيف أفاتحه .. ومتى ؟ .
يا للفرحة .. يالدهشة ..
كوّرني التيه بين أزقة باريس كالكرة ، ذات زمن ، لكن جوليات اكرمتني بعطاء الدنيا .أخفقتْ في نسبي ، في نسلي ، لكنها منحتني حنانا يهوديا ، وأغدقتني بفاصل من التوراة .. وهضبات الدنيا،، أسكنتني فرحتها .
علمتني أن الجغرافيا جرار يحرث الأرض والنسل .. ويبذر الصفح .
جوليات تبذر الصفح .. وغن كانت يهودية ..
حوائج الدنيا قضيتها في حضنها الدافيء ..في سخائها ، في ودها ..في رتابة أيامي ..
هو ذا ميزان إرثس ..
شكرا لها يهودية ' ( فحلة ) أمدتني ( ليسانسا ) في التاريخ والجغرافيا ، وصححتْ أخطاء إملائي قبل أن تُلحقني بالثانوية ، قرب مدفأة مطرزة بفحم ( الكوك ) وأحاجي اليهود القدامى ، وضب العرب يشرب ريحه من اللاء الفارغة بل يشرب ماءه منها لأول مرة .
ياللعجب .
كانتْ تمضغني علكا طريا ، تقمطني بالتوراة ، وبوشاحها الوردي ، كنـ أبكي كما الأطفال ، لكنها ترضعني بواسطة رضاعة بلاستيكية .
حمدا للرب ، لم أشرب حليب ثديها كما ضب العرب ..
.. وإن شاءا ينصرانه أو يهودانه ..
لك الحمد رب السموات والأرض علمتني اليهودية الفحلة قيم التسامح .
كانت تقول لي في طفولتي : لا غالب إلا الله ، كانت حُلمتُها ذابلة كما الخريف العربي ، لولا ذبولها لأرضعتني إياها ، من يدري ؟ .
في دمي تسري النميمة ، كما أبناء جلدتي من العرب .
لعنة الله على الشيطان حسبي الله ونعم الوكيل .
ومن قال : لا نذكر موتانا بالخير .
ماتت اليهودية ( الفحلة ) لم أزر قبرها ، لأنني لم أكن أعرفه ، ولا أعرف أنها أوصت لي بمزرعة للخنازير والبط والدجاج ، وكتب بالية .وخرقة من ( بنطلون ) بالية ، وستائر وردية .
- شكرا حليم .. على الحقيقة .. شكرا ضابط الحالة المدنية على الحقيقة ، وشكرا لبادية الله النقية التي لا تسمع فيها لاغية .
لطختني باريس بوحل الحقد ، والضغينة ، أمدني بنو جلدتي بالصبر ، بالإنتقام ، بالكراهية لليهودية الفحلة ، امطروني بعشق ماء جرار العرب وأنا لا أجيد التحدث بلغتهم .
أقنعوني أن الحقد صفة حسنة وسلوك حضاري ..
يا للتعب ..اا.
من ينتشلني الآن من وحلي ، أجسامة حقدي لها ،، أم نبض أصداء طفولتي معها ، حتى نلتُ شهادة الليسانس – تاريخ وجغرافيا – تحت رعايتها..
أينع صبري .جف بئري ، واصفرّتْ أوراقي وأوجاعي ..
من أين أغترف نسلي ، من بئري التي جفتْ مآقيه ، أم من سري الدفين ، في حضن اليهودية الفحلة .
- الآن أفاتحه ..
أنا ابن العربي وعائشة المروكية .
تضوعتْ كل هذه الآهات والتداعيات والتجليات في غور وجداني ، وأنا أجثو فوق سطح الحانة التي دخلتها الشمس من فوق ،تسمرتْ أسئلة أخرى في داخلي ، لن أسحبها من دهاليزها حتى أستشير ضابط الحالة المدنية ، تخمين راودني وأنا أتوجس خيفة ، من أن أتقدم أو أتسلل من السطح ، في محاولة للبحث والتقصي .
أصحابي يهومون في براري الله ، وأنا تلسعني لفحات الأسئلة والدهشة .
صوتٌ خافت ينبعث من الداخل : أرشم قراط ..
- ميسة .. أرشم ..
لولبتني الدهشة مرة ثانية كمسمار فوق خشبة هشة تصدعت من النقر عليها .
انكمشتُ وقد كنت أنوي كسر حاجز انكساراتي ، والتقرب من لاعبي ( الكارطة ) .
موعد القمار مساء لم تتضح معالمه بعد ، المدة الممنوحة للحانة بعدم استئناف نشاطها لم ينقض .
ما تزال مشمّعة بختم أحمر لشبهة بها –
عيون الشرطة أغفلتها ...اا؟ .. لأن المنطاد تحرك نحو وجهة أخرى ، بأمر من سلطة الوصاية ، ولأن منطادا آخر رُفع إلى السماء الأولى .
هو الذي كان يحملهم .
وكان الثاني قد حملنا إلى صحراء غالية لا تسمع فيها لا غية .
انتابني شعور جامح بأن المكنسة ما تزال في مكانها تتوسد الحائط ، وأنا أجثو ، أحبو خلسة ن علانية .
كنت على مرمى حجر من المكنسة ، نجحت في ( التقرب) والإقتراب منها ، اكتسحت ساحتها ، كذبابة مأمورة من قيادة عسكرية عليا ، بل من وازع آخر . كانت مفاصلي ترتعد له .
حملقتُ مليا في المكنسة الجاثمة .. ناديتها بإسم (( رانيا)) ل تجب ، لم تتحرك ، جذبتها من خصلتها ..
كانتْ حية تسعى ..
ياللعجب .. ياللدهشة ؟ .من قال أن اليهود سحرة ؟؟؟ ..
فتشتُ عن ( حصن امسلم ) في جيبي ، وإذا بصوت من الخلف يناديني صراحة ك وحيد ،، وحيد .
كانت عائشة أمي .
قالت غيبنا دخان السجائر المحشوة ، شبه لكم أن منطادا رحل بنا إلى أقاصي أخرى ، تقفيتم أثارنا في الصحراء الغالية التي تقولون عنها : لا تسمع فيها لاغية .، أهذا صحيح ؟..اا
-أجل أمي ، انطقها لأول مرة .
أشهرتْ في وجهي بطاقة الهوية التي ركلتها صوب الفرن ، اردفت : أل تذكر هذا يا جيمي ،قلت أجل بل قولي وحيد .
-- كما تشاء يا......و......ل...د...ي..
تجتاحني أسئلة تنخرني، أوصاني حليم الآ أبوح بها ، كدتُ أقول : يست تلك هي البطاقة الحقيقية الأصلية ، لكنني أحجمت بدافع الإحتفاظ بالسر ، وإن بدا لي بأنها أمي الحقيقية ليست جوليات ، وأنني لستُ منحدرا من الجنوب التونسي ، أو أنني بالضبط من مدينة ساقية سيدي يوسف ..
الإدعاء المزعوم عند العربي والدي ..
تلسعني عائشة بنظرة حادة ، اطرق ، أكتفي بالغمغمة ( وبالوالدين إحسانا ) .
وأرحل ملآّحا إلى أقبية أخرى ، لا أطيق الآن سردها، اسمحوا لي ليس أوانها .
رحلت إلى لحدها ، اليهودية الفحلة أقرأ الفاتحة ..
من أوصلني إليهاا ؟ : الذين حضروا مراسيم دفنها .. من الجيران .. ومعارفها بالمستشفى .
غابريال شاخ وهرم .غابريال حارس المستشفى .. ثم فيما بعد دار الحضانة الذي كان ..(...) في فخدي ..زرته أيضا بدار العجزو ، عدت أحمل نعيي وحفة تراب.وأصداءأدعية من تحت لرمس . أمضغُها كالعلك ، مثلما ظللتُ أمضغ كلمات غابريال المتثاقلة على شفتيه .
يمضغها كالعلك قبل أن يقذفها في وجهي .
قال لي :وهو على فراش الموت :
أمك عائشة ، أبوك العربي .. جوليات مربيتك ، اسمح لي ياولدي ، أسأت إليك ، تطاولت على شرفك .
- لكنك أنت الذي كنتَ تصحبني إلى المدرسة ، أذكر هذا وأن ممتن لك ن سيدي غابريال ..قلت هذا وأنا أمرر يدي فوق يده الشاحبة ، بشرايين بارزة كتضاريس جبال الدنيا في كتب الجغرافيا التي تعلمتها بالجامعة ، رمرورا يالثانوية ، ومنها جبال (جبال كوة سليمان )التي لم أزرها .
قبّلت يده ، سحبتها . كانت القبلة قد اخترقت الشرايين الشاحبة ، وكانت دمعة ساخنة ، شاحبة تنساب بدفء كالمزن الذي ما فتيء ينهمر فوق الخيمة أيام رابطنا بالصحراء الغالية التي لا تسمع فيها لاغية .، تغمر شرايينه ، ويدي الممدودة فوق لحيته المعفرة برائحة الأدوية وعطر الزائرين .. وجهه لمنتفخ من كثرة تعاطي السيروم بدا لي صحراء قاحلة ، بها قحط علىمدار السنين .
غدت اللحظة شاحبة ، قاحلة .أسراب ذباب تحوم فوق لحيته المتسخة ، غيرتُ وجهتها بمنديل كان فوق طاولة تحاذيه ، تغطي مجموعة علب أدوية وبقايا فتات أطعمة متعفنة .
قال متعثما : ( أنت الذي تطرد الذباب علي ) قالها متثاقلا ، بهجة عربية مغاربية ( أنت أتنش علي الذبان ) ياوحيد .
أطرقتُ..
ردف متثاقلا في النطق : زرها أيضا ..
- من يا سيدي غابريا ل ؟
- كاثرين ..
- أين هي ؟
- بملجإ آخر للعجزة ، خاص بالنساء .
أطرقت ُ ثانية ، أفتش عن شيء ما في جيبي ، بدون تركيز ، سحبتُ يدي ، قاطعني الشيخ الهرم وقد رمقني .-
- أتفتش عن مصْل يا وحيد ؟
- أعوذ بالله قلتْ .
دارت الدنيا دورتها ، حطت فوق أسرّة المستشفى .
- أفتش عن شيء أهيك إياه ...
- لا داعي .. يا ولدي ، زيارتك فيها كل الخير .
- أه .. وجدت ُ الهدية ، انزلقتْ هذه الكلمة ، بل عفوا هذه الهدية .
- هاك : هذا الكتيب الصغير ، إنه مترجم إلى الفرنسية ، خذه مني هذا ا أملك ( نسخة واحد) قد تقرأها عندما بنتابك الأرق ، أومأ لي برأسه مبتسماا أن أضعها فوق الطاولة ، وأومأ لي أن أسحب كيسا من تحت السرير .
أخرْجْ ما بداخلها ياولدي ..
- قلت مازحا: ليست حية تسعى ..تلفظتها بالفرنسية .. غارت عيناه بالضحك والبكاء : أسند ظهره المدودب إلى مخدة سميكة ، تحرك قليلا فوق السرير، فرك عينيه ، تذكرتُ حليم داخل الخيمة ، أردف وهو يمسح دمعا خفيفا كان يبلل وجنتيه .
قال : هات ياولدي الكيس .
كنت قد أخرجت ما فيه ..
كتب للسيوطي ، لأبن تيمية ، ابن قيم الجوزية ، ومجموعة من نسخن ( حصن المسلم )) .. دنوت منه بإشارة من ذقنه الذي مرر يداه الشاحبتان فوق زغيبات لحيته ، وقد غمرها الشيب ن في جذورها بقايا لون يشبه لون الحناء ..
تدحرجت الأرض من تحي ،، ظللت أتابع تحركاته .. أومأ لي ثانية .. أن أتناول مجموعة أخرى كانت بدرج الطاولة الصغيرة ن قرب السرير .
فعلتُ.
اللحظة كانت رهيبة .. وكانت قد أبيضّتْ عبناه .
فسيفساء ذاك الزمن إغترفت مني لوحة إرتسمتْ مرآة وجدارية في صل تيه ، تحوّل إلى شلال من الدمع والفرحة ..
كبُر مقتهم في عيوني ، هؤلاء خونة الصدق .. وتقلبات الأزمنة ..قرفصتُ جنب السرير ، أتلو ، وأرتل أدعيتي .
قرفص الإثم ، قرفصتْ خطايايا ، فوق سماء ذات اللحظة الموجعة ..رسمتها موناليزا ، رسمتها مونيكا ، المساعدة الإجتماعية في خطواتي المتثاقلة .
جوفاء إلا من روح الإيمان بأن أشرعة الضلال قد ولّتْ..
وإلى الأبد ..
غابريال لوّح للوجع بابتسامة ومنديل .
أشار لي في ولع أن أزور كاثرين .. ومونيكا بجامعة السربون ..
ذهولها ، خشوعها ، أيقظ رنين قفل الغرفة 54 بدار الحضانة ، سألت الشيخ غابريال عن سر الرقم 54 ومدلوله ..
يبوح لي بمدلول طفا على على ذاكرتي كالزيت فوق الماء .. استرقتُ من زفاته تيها ممزقا كشارع تتقاذفه ريح هوجاء في بحر هائج .
أسلمتُ وجهي لذي خذلني ذات مرة ، بل مرات عديدة ..
أفضى لي بكل شيء ، عن قلنسوة العربي أبي وعن الحانوت المستأجر ،، حدثني عن شيء كنت أيقنته بحاستي ، وصبري .. تمزقت دموعي على وجنتي كخرقة بالية .. رحتُ امضغ تمزقي كالعلك ، كتبت ُ على جبهتي حروفا من الصبر ، وأخرى من اللوعة والحسرة والدعاء ..
اللحظة في ممشاها ظلت كيتيمة متيمة بعشق ثديِ ، وضمّة صدر ، أو ضمّة قبر ..وأمسكت بيد مرتجفة ( حصن المسلم )) .. ناولني إياه ذاك الوقور في حسرة ، متلعثما ، باكيا : حصّن به تيهك ..،اتمرغ به في حمإ مسنون ، أو فوق ماء طاهرة ، أو أرجعه في خلرقة (( جريدة )) إلى صاحبه الأسود ، إبن دكارالأسود التيجاني ، السينغالي ، الذي يزورني كل جمعة .
تدحرجتْ كلماته متثاقلة على شفتيه الشاحبتين .
أردف : دثّر بع خطايا البشر .. أغمسه في حمإ مسنون ، أو فوق ماء طاهرة ، عطّر به مياه بحر المانش أو المتوسط – أو الأطلسي – أو قلاع لشبونة .. زر السينغالي ، بحانوته في ببارباس .
اقرئي سلامي إلى إبن الباز .. والعثيمين .. وكل مفتٍ على هذه الأرض ..
أغرز المصل في فخدي .
الدنيا يا ولدي شيك على بياض .. خذ من المدينة ثلجها ، ومن الريف مداخنه ..ارع شياهك وإبلك ..أشرب لبنها بالتمر ..
هاك الكتاب .. أمك جوليات ماتت وفي جوفها صفاء الثلج وأشرعة متجهة نحو مكة .. لفظتْ أم القرى قبل أن تغرغر .. لكنهم دفنوها بمقبرة اليهود .. وقد أوصتْ لك بزادها ، وكما تعلم بمزرعة للخنازير والبط .. والدجاج .
أسلمت وجهي له وغرغر ..
غرغرت ْ حواشي الغرفة .. والسرير الرث .. ودخان كلما تناثرت في وجداني .. أركبها جوادا في براري الله ..أمضغها ، أتقيأ بعضها ..
وغرغرت اللحظة الذابلة .
******
محمود خلقه الله كما البشر من حمإ مسنون .. كذلك عائشة والعربي ..وحليم
الحانة مقفلة إلى إشعار آخر .. قنّ الدجاج بالمزرعة ، ترابط فيه جن الله ، مثقلة كما الحانة ، المزرعة بالرذائل .وثيران إسبانيا .. وشطائر لحم الخنزير على الفرن .. شرطة التقصي لم تعثر على الشبهة .. التهمة لم تدون بعد في محاضر ( الأنتربول) وخزائن كسرى ،، تتسكع في مساجد لندن وأجزاء من ألمانيا .
لم يندمل الجرح بعد .. هكذا بدتْ الأشياء في مخيلتي وأنا أعبر حواشي الحانة .. أبحث عن بشر من سلالة (( الماعز)) أقترب .. أكتسح ، أجتاح هوسا يسمنني.
كان علي أن أحضّر كاسحات ألغام ،، أو ن أفجر الحانة برمتها.. احتى لا تعثر الشرطة عما تبحث عنه،، وإن كنت لا أعلمه .. كان عليّ أن أذبح (( دجاجة )) أو ديكا أسود على عتبة الحانة .. قبل أن أكتسحها من السماء ..تيمّناً ببركة (( العتبة )) واتقاء للمس .هو ذا التخمين الذي غزاني وأنا أتأهب لإجتياح الحانة بمفردي – دون أعوان – أو جنود ، لكنني استحضرتُ وصايا الشيخ غابريال ، فعدلت عن الفكرة .. وعن هذا ( النمط) من الإجتياح .
ثمة طريقة مثلى ، أكثر نجاعة .. أن أسافر إلى أثينا مشيا على الأقدام ، وأسأل عن السم الذي تناوله سقراط ..أو أن ألتحق بسرايا القدس أجلب نمط تدريباته .. وخططهم العسكرية ..أو أن أجلب كل ذباب العالم الصيني والهندي والعربي وأكتسح الحانة.
ربما هي ذي الخطة الناجعة .
لا ،، هذا لا يجدي .
أ ن أستعين بكهنة فرعون ،، وشياطين البر ..وجنود سليمان من الجن ..لأهدم الحانة .. قبل أن يقول العربي لصاحبه : أرشم ميسة .. وربما قبل أن يرتد طرفه ..أو أن أستعين بأبرهة الحبشي ..والفيل محمود .
لأهدم محمود .. بواسطة محمود .
لا ،، هذا عبثُ تاريخي .. وهزأ ، من علّمني هذا؟؟ ..
لا،، لا ن لا يجدي أيضا ، خاصة وأنني كنت أستمع مرارا من إمام نونتير من جنسية مغربية يردد قبل اعتلائه المنبر ، من كل جمعة ..
'(( من قال لصاحبه أنصت ، والإمام يخطب ، فقد لغى ، ومن لغى ، فلاجمعة له )) هذا أيضا لا ينطبق على من يقول لصاحبه : أرشم ..
إذن ، ما العمل .. وما الحل ؟؟ .
تمزّق تخميني صرخة والدي العربي ، وهو يضرب على الطاولة بعنف ، وبعشق متناه ..إلق ما في يدك .. ميسة ( معناه ) كل أوراق الكارطة معي ..
((حصلة )) . إفرجها ربي ..
وأخيرا حصلتُ على استقلالي .. حتفلت بترجيح كفة الإجتياح على الأحتياج ..
ابتلعني عصير الأعاصير ..
غرغرتُ أنا لدوري ..
أفرجها ،، إسلّكها ربي ..
*****
باريس النحيفة .. تنحت آهاتي فوق صدري .. وترتطم كالبخور فوق كف عفريت ،، لا تبالي إن جعتُ أو صنعت من الدفء نار إبراهيم عليه السلام التي كانت بردا وسلاما ..
من لي بطرفة بن العبد ، أو الشعراء الصعاليك ، ، أقتفي نارهم وجرحهم وتأجُجَ عبثهم .أو أن أنعى الخنساء في (( صخرها)) .
باريس لاهثة ..
تبحث عن جوعها في جوعي .. وعن قطة تموء في حانة محمود وقد أبلى من أجلها البلاء الحسن .
خلقه الله من حمإ مسنون .. وخلق باريس من أضوائها ..هي أيضا حمأ مسنون ..وماؤنا الآسن فوق أبنيتها .. وفي أقبيتها ..
وقال محمود في الوكر / الحانة : أرشم .
قالت عائشة للعربي : ميسة أرشم .
من أين أدخل عبثية صعاليكك .. ؟؟
أنا مُدمِنٌ على حب باريس .. مدمنٌ على ع ،، صيانها .. قنطرة تكويني بالعبور .
ويُدمعني علوّها
وشموخ مبنى هيفل ،، أتقيأ الحمأ المسنون . والماء الآسن ..ووخز الإبر ،، والمصل .. في باريس .. التي هي باريس ..

باريس مهيبة الجانب على كل حال ..لكنها أصابها النصحّر ..
منحتني باريس عشقها على بياض .. ومنحتها عصياني على بياض .. حيث كنتُ على وشك الألتحاق بجبال (( أريانا )) لا أسميها أفغانستان ، أسميها ( أريانا ) ، إذ ألمس فيها خليلة وجرسا موسيقيا ..واسما جميلا يثير شهوتي .
أريانا كادت تكون مثواي ووجهتي ..وقبلتي .
لا أسميها أفغانستان ، هذا الإسم ذميم (مثل أنفها الأفطس) بجبال ( أريانا) ..اا.
أسميها (( أريانا )) بمفاتنها وعذريتها ورمادها ،، وأفيونها ،، ألمس فيها ألهة عشقي .. أريانا كادت تكون قبلتي .. ووجهتي لأشبع من الأفيون حتى الثماللة ، ولأجاهد الكفار في سبيل الله .
أريانا جميلة كالشمس بظفائرها ، لا كما قرأتها عبر تضاريس الجغرافيا في أوراقي بالجامعة .. قرأتها جافة ،، حافية .. تتعرى أمامي بالجامعة .. وعشقتها في غوري فاتنة .. أخاذة ساحرة .. كنتُ سأظفر بعشقها .. لا كما قرأتها في كتب الجغرافيا ..والتاريخ .
كنتُ سأرحل إليها .
لكن لم أستطع إليها سبيلا ،، ظلت في ( خاطري ) كالحج مرة واحدة في العمر ..
ظللتُ على مدار شبابي متيما بها ..أعشقها كما يعشق قيس ليلى ..
حدثني عن مفاتنها حفظة القرأن الكريم في باريس .. التي أصابها التصحر ..
ظلتْ إسما جميلا يثير شهوتي ..
صوّروها لي ( حورية ) .. لا حرية ..كما بدأتُ أدرك الآن ..
ولهذا إزداد عقوقي لها ..
لا تقيموا الحد ّ علي ..يا حفظة القرآن الكريم . إذا أعلنتُ ردتي عن ( أريانا)) التي أحببتها .
الآن أحب باريس الفاتنة رغم ما أصابها من تصحر .. لأنكم أنتم كذلك ياحفظة القرأن الكريم تسكنون أحياءها الشعبية لاجئيين ..مغرمين بحضانتها ،، بمفاتنها ..
لماذا كل هذا النفاق ..
ألم أقل لك الدنيا شيك على بياض .. ياولدي ؟
حينها ترهّلتْ أجوبتي ...اا ترمّلتْ .. أضحت ثكلى ..وحينها أضاف الشيخ غابريال : ((مهمتك محدودة )) .
محمود فطس الأنف هو ذاؤك .. أقتحمه ، لا تخجل ..تقدم باتجاهه .. برا،، بحرا .. على الأسطح ، المهم أن تقتحمه .
حضرتني هذه (( التوصية)) ..هذا (( التحريض )) .. وتسللتُ ذات ليل غاسق ،، عبر منافذ الحانة . الأنوار الخافتة لاتعكس حتى طيفي .. لا يبدو علي أثر التسلل..نجحتُ في تخطي بعض المواقع .. تقدمتُ بنجاح باهر نحو المصرف الذي كان العربي يتكئ عليه ، كوّنتُ لنفسي حصنا منيعا من أوراق وبقايا أكياس ، على شكل كومة بها كوّة صغيرة ، أطل من خلالها على أرجاء الحانة التي تسربتْ إليها الشمس .
عسكرتُ هناك .. السجائر المحشوة لم تبرح مكانها ، لم تتأثر بالعفونة ولا الرائحة النتنة المنبعثة من فرن يشوي شطائر خنزير تحللتْ ، لأن محمود تخلى عنها ، فهو مشغول بلعب ( الكارطة ) . عائشة أيضا ..رحت لأتصنت على ما يدور بينهم دون أن يأبهوا بي ..
فكرتُ في مباغتتهم.. وإلقاء القبض عليهم متلبسين ، ونظرا لأنني لا أملك الجرأة الكافية لذلك ، بل لأن الأمر ليس من اختصاصي . من اختصاص جهات أخرى ن ثم أن هذا غير معقول أن أقتحم حريات الناس .
ومن أنا وبأية صفة أو ذريعة أقتحمهم ،، ثم ،، ثم انتهيت إلى قناعة بأنني مجرد نادل بهذه الحانة .. أقتات منها ، وآخذ نصيبي من السجائر المحشوة ، فلا داعي لأن أحشر أنفي فيما لا يعنيني ، لكن بالمقابل قلت أن ثمة أمي وأبي وزوج أمي الذي طلقها ، أو سلمها لأبي بدون وصل ..
وبدأتُ أتسلق حبال تفكيري ومهاراتي ..
عسكرت حتى مطلع الفجر ..
قلت في قرارة نفسي ( على الأقل أسحب المكنسة )) كنت سأزيح كومة القش التي (( بنيت) منها لنفسي رجا واقيا .. وأهجم عليهم واحدا واحدا ، أغيّر فيهم المنكر ، تذكرت ما قاله لي الشيخ غابريال وما تعلمته من إمام (( نونتير )) بأن نغيّر المنكر بأيدينا ن وإن لم نستطع فبلساننا ..
قبة من الأسئلة راودتني .. طرحتها .. سرعان ما طفت على سطح مخيلتي ..
كانت قهقهاتهم تتعالى ، يصرخون .. وهم سكارى ..
سمعتهم يقولون : ) يعتقدون أننا رفعنا على متن منطاد )) .. وهم يقهقهون ..
إننا هنا واقفون..نصول ونجول ..باقون ، واقفون ..
هذه الكلمات كنتُ أسمعها من الجزائريين الذين كانوا يجيئون ( للتداوي ) بحومتنا ( بنونتير ) من الجزائر ن يشترون الأورو بعشرة أضعافه من إمام المسجد ، ومن بعض المقربين إله ، وعلى وجه التحديد (( كلمة رجال واقفون )) كنت أسمعها تتردكثيرا بمقاهي الحي ،، حتى أنني حفظتها ، أنطقها بلكنة فرنسية ( غجال واكفون ) (( لا أنطق ( الراء ) أو القاف ، ، ترجمها لي أحد الجزائريين هكذا
عرفت أنها صياغة ركيكة وترجمة رديئة ، عرفت ذه من الكلمة ذاتها ومن (s) ومن الزائدة – التي في غير محلها .
كنت أقول حينها (
وكان يضحك علي شيوخ المسجد والقادمون من الجزائر ، وبعض أبناء الحي من جيل أستقلال الجزائر .. أو بعده بسنوات ..
laisse- tomber) S Les hommes debout ..
أجبن كدجاج القن في مزرعة أمي جوليات ..يصيبني الوهنن والإضطراب ،، وتحضرني جبال الأطلس التي تشق الأقطار الثلاثة ( المغرب ، الجزائر ، تونس ) وأتساءل لماذا لاتمتد إلى ليبيا وإلى بقية الأقطار العربية ..
ألتحم كامكوك افضائي ، أجيء كالبرد القارس في فصل الشتاء زائرا ذاكرتي وغسق كلماتي وعشقها ، والتي تجبن هي الأخرى أمام ضحكات الشيوخ كجبن دجاجات أمي جوليات في المزرعة .
لم أسحب المكنسة .
هديـــــــر الستينـــات :
.. وذات دهر ،مطلع الستينات ، يحكي هؤلاء الشيوخ من أصل مغاربي أن محمودا سلّم ، أو تنازل للعربي ( أبي ) عن جوليات ( أمي ) مقابل أن يستره من العار ، ومن ثأر زوجته القروية ، سليطة اللسان ، التي تباغته كل مرة بزيارة مفاجئة .للتداوي هي الأخرى .. وينكشف أمره ، سلمها له بدون وصل كراء ، أو بيان يثبث أنه أسداها له مقابل اعرفان بالججميل ، وكل من أجل أن يشربب العربي ( الويسكي) مجانا ( هدية من لا مزو )

Cadeau de la maison tous les matins
هي ذي المقايضة ، عائشة التي تنسق بإحكام مع إمام الحي ..، تستثمر كل هذا من أجل أن تأتيها أمانتها وحصتها من ( الكيف المعالج) مقابل التستر على الإما م ، لأنه بدون وثائق رسمية ، التي في حوزته مزورة ..بعلم من بعض عناصر الأمن بالمقاطعة ، لأنهم هم أيضا لهم حصصهم من هذه ( البركة ) كما تسميها عائشة ، حسبما يروي أهل الحي خاصة زبائنها ...
هديــــــــر الستــــــينـــات : سكلـــــوبيـديــا الدم
هدير الستينات ... جرف الكثير منهم إلىوادي لويس اراغون السريالي .. الشيوعي ..أنكبوا على روايته ((قروي باريس )) هي بالذات ن فيهم من جرغه التيار إلى كارل ماركس و(( رأس ماله ))
وكثيرا انساقوا وراء فريد الأطرش ، محمد الجاموسي ، الأستاذ أحمد البيضاوي .
عمي جابر اللاجيء العراقي ، أمد الععربي ومحمود بأفكار أنطونيو غرامشي ..
قلت : وتفرقتْ بهم السبل .
قل تلورد الفرنسية عاصمة السلام ..
أرتكبوا ذنب القراءة في كل "واد "
ورجعتُ إلى كومتي في مخيلتي لأسحب الجرار ، وكاسحات الألغام ، لأجثث المكنسة ، أزعزعها من تحت الحائط ، أستقريء ستينياتها .. هي الأخرى ..
جذبني تيار الستينات ..اقتلعت جذور مخيلتي من جذورها ، من أتربتها ..أجر الستينات من ذيلها كما كنت سأفعل تماما مع المكنسة ..
همّتْ بي ،، وهممت بها ، عندما وضعت يدي على كتفها ، كم كانت جميلة اسكلوبيديا الستينات .. ارتجفت .. ارتعدتْ مفاصلها .. عندما حدثها هامسا في أذنها : أنا من صُلْبِك ، من مواليدك ،، كنت صبيا طاهرا بريئا..
وتفرقتْ بهم السبل ..
عندما اقتربتُ من شفتيها لأقبلها ، صرخ من تحت ذقها محمود..لا تلمسها .. فتصاب بالمس .. صعقني صوته .. تفجّر الدم من أنفي .. ورحت أغتسل من جنباتها .
قال محمود : حسنا فعلت ، هي مفترق الأدوية ، هي الروافد ،، هي أروقة معابرنا ،، هي القافية .. دعني أسرد لك خباياها .. واسرارها ..
- حدثوني عنها بما فيه الكفاية .. قلت حدثني عما قبلها..
- هي البذرة لما بعدها وما قبلها.. واختفى محمود ..
أنطفا التساؤل الكئيب في حلقي ،، في مخيلتي ، لكنني رددتُ : لو حدثني أفضل ..
قلت: أستنطقكم : واحدا تلو الآخر ، أنت .. عائشة .. العربي ،،،
كان محمود يحمل أنفاس الخمسينات ..عندما كانت فتيحة في بوسمغون طيفا عابرا ، وأريجا يعطر المرة ، وكل أبناء القرية ، عندما كان جمالها يتدفق كالآهات من وجدانها ، ليوزع غبارا و (( دكّارا)) يلقح النخلات العاقرات ،، عندها .. تمت الصفقة ،، هناك تفرقت بانا السبل ياولدي ..
أطياف الدهر ، يا وحيد لقحتْ مأسينا ، وأشرفنا على الهلاك ، هل تعذرنا ، أم تشنقنا ، أم تغتسل منا كالجنابة أصابتْ طفلا لم يبلغ بعد ، أم تدثرنا ، بستائر الحرير .. اختر يا وحيد .
كانت " بوسمغون " الزمن (( المحطة ) لي ، وللعربي ، في الخمسينات ،، كنا نلقّح سويا النخلات الباسقات العاقرات ،، كانت أطيافالزمن الآتي من (( التل )) ن من وهران ، وبالضبط من (( مرية )) مرورا ب (جريفيل )) ن تسرقنا كما الجن تسرق الفاتنات تحت (( الكرمة )) وتتزوج بهن ، ألم نسمع هذا من كبارنا وشيوخنا يا وحيد ، كنا نمرح فوق الأحمرة ،، نرعى الشياه .. نشبرب حليبها ،، نعتني بصغارها .
كانت (( فتيحة )) بيننا ،،، رمحا للغيب ، وكانت ميمونة راعية عمي قدور كلما تخاصمنا تنوح ..اا ..تندب وجهها .. تسدل أو تغمض أجفاننا إيذانا بالبعث والموت ..كنا صغارا نروي الأشجار بصفائنا .. نرشها بندى يقطر من ضفائر صبية نهن فتيحة ولم نكن نُعلّب أيامنا في علب السردين كما نفعل الآن .. أخاديد أيامنا كانت أريجا لذاك الزمن الأخاذ..
عنفوانا .. كان .. والجيفة لحظتُنا الآن .. هو ذا بوْحي يا وحيد ..
لا تشرب من سكلوبيديا دمي رحيق الزهر ..اا لأنك لو فعلت سينتحر العفة . لا تسألني عن ((الرمح )) عن عن نبالنا ، ونحن صغار ،، عن (( التبان )) الذي كنا نتقاسمه ن عندما تضجر الريح ..، ويشربها الضب ،، ويروح ويجيء عمي قدور على مرحاض ( الحوش ) يبحث في ( الأحراش )) عن ((روث)) بقرة يابس يمسح به قفه بعد قضاء حاجته .. لاتسألني عن حنين السنين ..
سأسكب على وجهك سكلوبيديا الستينات ، لو فعلت .. أكون مجرما ..
ها أنذا أستفرغت، استنفذتُ زادي ، ها أنت تستنطقني ..
لا تشطب خميرتي من خبزي ،، لاتخذلني أمام أقراني ،، ( العربي ،، عائشة ..عمك المنصف اتونسي لا تعرفه يا وحيد ) أسألهما عما إذا كانت سكلوبيديا دم الستينات ذخرا للأجيال .. ودعني أشرب دمها لأرتوي مثل الشجرة في صيف قائظ .. تطلب ماءا ولو كان آسن مثلما هو الآن .
مثلما اجرح لديك غائر ،، في دمي يحمل سطلا من اللبن الصافي ليسكبه على أرض معطاء ملحقة بالتمر (( السمغونيàà وزفرات أقراني ، وطنين ( الساقية) المحاذية لشجرة (( التين )) .
طواويس القرية في ملكوتهم يترنحون ، كما تترنح أصدائي .. في أصدائي الصدئة .. هي ذي أصدائي الصدئة أسوقها لك مع الريح .. لأنك لا تستطيع استنطاق العربي ابن عمتي ،
أعفيك حمق الإستنطاق ولباقة الفضول :
تتمرغ أيامه ردها من الزمن في إسم الذميم ( ابن الهجالة ) ، العربي ولد الهجالة همذا كانوا يعنتونه ، وهو صغير ، أمه فتيحة ذات العشريسن ربيعا أصابها العقم مباشرة بعد ولادته ، إثر ضربة ( برد) أو تسرب برد قارس إلى رحمها ، حسبما أفاتها عجائز القرية . نصحوها أنذاك بالتوجهإلى أدرار ، حيث توج ( ولادة ) تقليدية تعالج داء العقم بعد مرور 15 سنة من العقم ..
لم تسافر لأن جدك كان يأبى ال تسافر وحدها ، وقد كانت على قدر كبير من الجمال
أما هو ( العربي ) فلم يتسنى له مرافقتها ، لأنه لا يملك رخصة التنقل من مقاطعة عسكرية إلى أخرى ،، وهوابن الخامسة عشرة .. ولكثرة انشغالاته بجمع اشتراكات وايصال المؤونة إلى المجاهدين كل مساء ، أو كلما أوكلتْ إليه المهمة عبر معابر ومداخل القرية ، إلى جبل ( ثمدة)) بمشارف القرية ، الخال أيضا رهن الإعتقال بمحتشدات القرية ،هو ومجموعة من شباب العائلة ضبطهم جند الإحتلال الفرنسي ذات ليلة متلبسين ( بجنحة)) جريمة تهريب مؤونة إلى المجاهدين المرابضين على الضفة الأخرى من الوادي ، عبر نفق بإحدى الأزقة الملتوية بالقصر القديم ، بعدما انكشف أمرهم وقد وشا بهم أحد المعتقلين من خارج القرية ، لم يصمد أمام التعذيب .
نسفوا مخزن الذخيرة .. واعتقلوهم ..
المساحة الفاصلة بين قن الدجاج واستطبل الخنازير في بوسمغون لم يكتكن تتعدى – ياولدي – وحيد – عشرة أمتار
الأول انقطعتْ له ميمونة ، ( جدتك) ترعى الدجيجات والكتاكيت اصغيرة ، تترقب بيضها الصباحي بالقن .
كانت تغدق عليها كل صباح عشرة بيضات أو أزيد ، وكانت لا تبخ جارها مسعود حارس حظيرة الخنازير كل صباح بما جادت به يداها من بيض ..ابنه ( بن عمر ) هو الذي كان يقوم بعملية مد الدجاج عبر السياج الفاصل بين القن والحظيرة .. وأحيانا كان يلج الحظيرة .. يطعم اخنازير ، يتسلم من مسعود ( أبيه ) حفنات قمح لقاء حبات البيض ..
المعلم الفرنسي ( دوفواشال) صاحب الحظيرة كان حريصا على خنازيره ، يطعمها مما تبقى من على فتات الأرض، ومن مخزن المؤونة بثكنة القرية ، لأن المسؤول عن قسم المؤونة كان له قطيع من الخنازير هناك (بالإسطبل ) ، وكان يلح كثيرا أن تحظى خنازيره بالرعاية الكاملة ، كان يميزها على خنازير ( دوفواشال) المعلم الفرنسي ب( نجمة) مختومة باللون الأزرق على جبين كل خنزير ..، كان دائما يردد أنها ( فأل)) ومصدر ( نماء ) .
يشتغل إصافة إلى ذلك مساعد لما يتوفر عليه من بلاغة البيان والإقناع ،، فهو الذي كان غالبا يصدُّ أهالي القرية عن التعامل مع ( الفلاقة ) .
كان سليط اللسان أحيانا .. وكان العربي سيط التمل والملاحظة ،، وهو ابن السابعة عشر من عمره ،، كان يتأمل عبر طريقه المؤدي إلى حوش الخنازير سلحفاة ، تتهاوى بين الأزقة ،، إلى أن تصل إلى مأواها عند الخالة فطومة التي كانت تطعمها من جود ما تملك لقاء أن تُذهب عنها شياطين البيت كما ظل لراسخا في معتقدها ..

كان عندما يؤوب من الكتاتيب كل صباح ، قبل أن يلتحق بالمدرسة الفرنسية الرسمية ، يجلسإلى أمه فتيحة ، تحدثه عن سبع سنوات من العقم – أصابتها - بلعقم في أفكارها ، تحدثه عن جده ، عمي قدور ، وعن ميمونة حديثا كهذا : كأن تقول له مثلا : عمي قدور ،، إحاجي ويفك ..ميمونة تغزل الصوف )) ..يضحك ، تحاجيه أيضا في شكل حكاية عن سيدنا يوسف عليه السلام ، والسنابل السبع ، كثيرا ما كان يقاطعها ليستفسر ..
قال لها ذات مسامرة: لماذا يا أمي نشرب كأسين من الشاي فقط ، وكل الناس كذلك .. ما أصل الحكاية ؟؟؟ .
- تعود إ الحكاية إلى سنة 1945 ، عام ( البون ) ( التموين بالتقسيط) كان عام ( الشر) .. كنت تبلغ من العمر يا ولدي أربع سنوات ، ما زلت ُ أذكر ليلة ميلادك ، ذات صقيع مدقع ، لم أجد ما أقمتك به سوى خرقة بالية ..زفرتْ : ( ميلادك) كان بوابة الريح ..في جوفي …ااا ..؟
كان يأنس كثيرا لحديثها ..
ويتأمل كثيرا حديث ( دوفواشال) في القسم . كان المعلم يركز عليه كثيرا لنبوغه ، كان يسأله معلمه عن جان دارك ن، ولماذا أحرقوها ، يحرج معلمه بأسئلة تفوق سنه . مرة زلت لسان معلمه ، قال : تذكروا حصة الرسم ، وقد طالبتكم برسم نخلة جدعها رمادي ، سعفها : أحمر ،وعرا جنها خضراء ،، محوتها بسرعة من على السبورة خوفا من دخول المدير فجأة ..سرعان ما أستدرك دوفواشال ، أن ثمة زلة لسان ، وأن ثمة رسالة موجهة للعربي لنبوغه " .
رسمتها في البيت ، قرب الكانون ، كما أمرتنا – يا سيدي - ، قال العربي ، يا ولدي وحيد )) .
وقتها تفرقت بناالسبل.
حملقت فيه ،تصبب العرق من جبينه ، تستر وراء جفوني ،، بدا لي سعفا باللون الذي رسمه والدي للمعلم ( دوفواشال) ، وبدا لي خزانا أغترف منه ، عفوا شاملا وصفحا جميلا .. اقتداء بمعلمي حليم أيام رابطنا بالصحراء الغالية التي لاتسمع فيها لاغية .
عرفتُ أن محمود عشق فريد الأطرش والجاموسي وأحمد البضاوي معا ، اسندتُ دهري غلى بقية بقية قش بمخبئي ، أستطلع من ( كوتي)) وضع المكنسة اجاثمة هناك بالقرب من مني ،، لا تتحرك ، أغمغم أشتات كلام عن عائشة ..
عمي جابر .. وعمي المنصف التونسي .. وحكايا شيوخ حيي بنونتير .
*****
رغم ذلك ، قلتُ : أهاهنا التاريخ يصلب؟؟ لن نهين التاريخ أبدا .. ولن أكتب على السعف من الآن لون حمقي .. وسهادي ..
أغمضتُ عيناي ،، أستسلم للنوم ، أرقب يوما أشرب فيه الماء العذب من فوارة لورد الفرنسية ، وأرفع راية السعف بيضاء ، أرشها بماء عين ( الفوارة ) بسطيف ، رغم حكايات أبي بأأننا تناولنا كأسين من الشاي كعادة صحراوية يعود إلى سنة 1945.
هناك ' ياللورد) ، وسطيف وقالمة وخراطة وجنين ، وقرب كنيسة القيامة وحائط المبكى ، أرفع قوس النصر ، قبل أن يلثّم التاريخ .
لن تسد الصخور في وجهي المنافذ ..
ثلاثة نحن بالمغارة .. ندعو ، نرثل ..
وسبحان الذي أزاح الصخرة ..
*******
تراثيل عاصافير فوق سطح الحانة عادت إلى أعششها ، كست الشمس سطوح الأبنية المجاورة للحانة ، عمها الدفء من كل جانب ..
سبحان الذي أزاح الصخرة .
وباريس التي أكفهرتْ ،وصلها خبر الكسوف كما ورده الرواة بدون سند .
قالت الأخبار : أن فيلا سيهدم الكعبة .. ما كنت لصدقها ( الأخبار) لولا أن شاهدتُ أصنافا عديدة تجط بسطح الحانة ، ل يكن موسم الهجرة لدى الطيور ، كان موسم الفرحة .. وكانت الردة ،، لو لم أكن حافيا لما تسلقتُ جدار الحانة لأطعم الطيور الوافدة من كل صوب وحدب صعدتُ سلما حديديا ، كانت الشرطة تستعمله للتصنت ، وتثبيت الميكروفونات ، والكاميرات المجهرية .
لماذا صعدت السلم ، لا أدري ..
ربما كنت أبحث عن أخبار أخرى تأتي من تراثيل العصافير آه تذكرتُ .. صعدت لأطعم العصافير ،، ثقب غائر في ذاكرتي ، يفقدني صوابي s
واتزاني ،، ، هرولتُ مسرعا إلى (( كومتي )) أتصبب عرقا ، ركنتُ إلى الصمت في انتظار عودة وعيي ، بكل بساطة كنتُ في حاجة ماسة إلى سيجارة محشوة ، وجرعة من ( ويسكي )) .
يا للغرابة ،، رغرغتُ كطفل صغير ،، جائع ، رغرغت ،،، رغرغتُ وعلا شخيري ،، أسرفت في الشخير ،، صدرتْ مني أصوات مهلوسة ، عمت أرجاء الحانة .. ما كنت لأفيق لولا أن أحسست بوخز خفيف ينسل من عضدي ..
وأطيافا تبتعد عن عيني ، واحددة نصف مفتوحة ..تلاحق هذه الأطياف وهي تبتعد شيئافشيئا ،، إلى أن تلاشتْ .
كانت تشبه دوار الغبار في الصحراء القاحلة ، كما قرأناها في كتب الجغرافيا عن المناطق القارة والجافة ،، حاولت ُ اختطاف تفاصيلها ن وتشكيلاتها ، فلم فلم أميز إلا بين خصر عريض وآخر نحيل ،، فأدركت أن ورائي إمرأة ورجلا ..
أحسست بثقل يتمدد إلى جفني ، سرعان ما عاودتني الإستفاقة ، قفزت من مكاني في محاولة للحاق بهذه الأطياف ، أحسست ثانية برغبة جامحة في النوم .
فتحتُ عيني الأخرى لأجد نفسي أمام ممرضة رشيقة ترعاني بلطف بإحدى المستشفيات ، أتوسد محدة مزركشة ولحافا معطرا ،،
وشتات أيام أقرأها .. حرفا حرفا في عيون العربي.. عائشة ،، محمود ، عمي جابر ،، وعمي المنصف .هربتُ من عيوني لتسكن أوكار الحانة ووسط الستينات ومادونها ،، لتسافر إلى ساقية سيدي يوسف ، بوسمغون ، وجبال الأطلس ، مرورا بفيقيق بالمغرب ،، والموصل بالعراق ،، وأجزاء من سنة 1955 ، تعبرني إرثا حضاريا ، وفواجع أزمنة ،، تتربص بي ، تعبرني ملحا ،، ودما قان يعيّرني ،، يعاتبني .. يلبسني قميص 20 مارس غصبا عني ، رغم أنني أحبذ أ أرتديه ..
وقد ارتديته زمنا ، إلى أن اكتشفت أمره كما كشف حي بن يقضان سر وجود بأكمله ،، .
حائط الغرفة 54 ، وقلادة تكبل جيدي ، تحمل نفس رقم الغرفة ،،، تخنق أنفاسي ، تصهر لحمي كالحديد الممطط فوق جلدي ،، تكدس غبارا ناعما رش عيني ن فابيضتْ .
مزلاج الغرفة رقم 54 تدفعه أكثر من يد،، منها الناعمة والخشنة ،، تحمل قنينات دم قان من نفس الفصيلة ،، تطرحه بمدخل الغرفة ،، تلتقطه الممرضة االرشيقة ،، كانت الغرفة خالية إلا من تزاويق الصور الإطارية المعلقة على الجدران : منها جداريات كتب عليها : (( التدخين ممنوع )) تحاذيها لافتة ، تتوسطها وردة حمراء ،، ودوامة غبار ..
لا أدري من علّقها ؟؟ بمثل هذه الغرفة الصحية .. استقرأتها ،، لفت إنتباهي طفل يرغرغ .. وآخر يضحك ،، وآخر يمتص رضاعة .. عاريا كما ولدته أمه ،، وإطار لصبية يهرولون وسط ساحة تشبه مدرسة أو روضة أطفال ،، تخيلتُ نفسي أنني في روضة أطفال ،، لا في غرفة إنعاش واستشفاء .
فعلا كنتُ بها .. سألتُ الممرضة ، أحجمتْ عن الجواب ، وهي تلدغني بحقنة كبيرة ،، في فخدي ، وفي زندي ..
واستأرختُ الصور ..
التحقيب كان فيها جليا ...ااا.
***
جعة الريح التي تسقي الضب في بيداء الله ، صارت ْ إعصارا لف لحافي ،، وهوتْ تقارير طبية من فوق سريري .. تناثرتْ كالعجاج في الغرفة رقم 54 ، تفيد أ دمي الوهّاج سيصير أصفى من حصى الينبوع ..وأنقى من دمي ..
سيخرج هذه المرة من (( بين الصلب والترائب)) .
جملة إلتقطتها ،، قرأتها على عجل وأنا أساعد الممرضة في لمِّ أشتات التقارير التي تناثرتْ ، قبل أن تفتكها مني ن بنظرة مصحوبة بابتسامة ملائكية .
بادلتها نفس النظرة .
ساورني الشك في أن شيئا ما يحدث بهذه الغرفة ، وأن مجيئي هنا ليس اعتباطيا ولا عبثيا ..
تذكرت ذلك الشحرور الذي كان ينقر زجاج النافذة محاولا اختراقها ، ذات صباح عندما عاودني .. كنتُ أتصفح أنذاك (( حصن المسلم )) خلسة قبل أ تجيء المناوبة الطبية ،ن و...
وقتها تساءلت ُ لماذا لم يفتك مني ، بينما لم أجد بجيبي بطاقة هويتي .
لم أعر الأمر إهتماما ..
كنت في حالة إغماء ..كنت أشد لجام غيظي ..
وشاح الممرضة الزاهي الذي كان يحمل علامة مميزة ، يلف جيدها ، لفت أنتباهي ؟ا. هيّج فضولي ،، سألتها بلطف : أنسة ، هل لي أن أعرف لماذا جاؤوا بي إلى هنا ، ولماذا هذه الغرفةبالذات ، سألتها جملة من الأسئلة ظلت تزاحمني ، منها : ( من تلك الأيادي الخشنة والناعمة التي دفعت المزلاج ذات يوم ، فرمتْ قنينات الدم دون أن تدخل )) .
ابتسمت ابتسامة ملائكية وهي ترشني نظرات أحسست أ رحيقا عطرا يتدفق منها ،، وهي تغرز بلطف هذه المرة حقنة ، ماؤها أبيض ، يميل إلى الإصفرار ، بزندي الأيمن .. ووشاحها ، أو بالتحديد ذيله ن يدغدغ ذقني ،، ممزوجا برائحة عطور عبقة .
لم تجبني ، اكتفت برشقي بابتسامة بريئة كمن يشفق على يتيم أرقه حاله .
أحسست بهذا ..
ألححت في الأسئلة وتكرارها ، وهي تجذب الحقنة من زندي بلطف ،، استدارت نحو باب الغرفة .. سرعان ما أمطرتني بابتسامة أخرى ، هذه المرة أحسستُ وقعها يخترق أغواري ،، كانت الإبتسامة مزنا صافيا .. يصب على جسدي الهامد فوق سرير مزركش ، ناعمةٌ فرشته ، فيسقيه أنتشاء وارتياحا ..
زفرتُ ، قالتْ " هذه أسرار المهنة " لكن من وجبي أضافت أن أشخص بعضا من مرضك ، في انتظار التحاليل المخبرية
كان الشحرور الذي تعود أن يطل هلي من ثقب النافذة كل صباح ن يزقزق .. فمزق سكوننا بصيحات عذبة كماء السواقي .قالت : ووشاحها يتدلى كعنقود عنب رطب على كتفي :
- اسأل ذاك البريئ ، وانصرفتْ لشؤونها
كانت اللحظة وهاجة ،، استدارت ، ثم قالت بصوت ينساب عذوبة بعدما ابتعدت قليلا على سريري :
جاؤوا بك ليلقحوا دمك الوهاج بعصير العنب )) استدرت نحوها : أنسة ، آنسة : وشاحك .. وشاحك ، تعالي أنزعيه كالورد أو الشوك أو كعنقود عنب .. من على كتفي.. تعالي أنسة ..
تضوعت اللحظة برائحة العبق ،، تسللت إلى كتفي تعقده " عقدا" على جيدي ، تلامسني أناملها ، فيرتعش جسدي . كانت اللمسة أنقى من حصى الينبوع .. تضوعتْ عيناها ولعا ..ولهاً
استبركـُت بها.
قلت سرا : ( بورك فيك ) .
قالت مبتسمة : هذه هدية مني لك .
قلت جهرا : بورك فيك يا آنسة على هذا الصنيع .. ابتسمت ، قالت : وفيك بركة يا وحيد ..
اهتز سريري من الحيرة ، تسمرتُ في مكاني كأنني مغروس بالرضض .. تجهم أديم وجهي ، كانت اللحظة عائمة في آهاتي وحسرتي ، وفي انتشائي .
قلت: هل لي أن أعرف أسمك يا آنسة .
- قالت مبتسمة : -
- اسأل ذاك الشحرور عندما يعاودك كعادته .
قلت مبتسما : لماذا هذا العزوف يا آنستي عن الإجاتي ..
قالت مبتسمة : الآن أجيبك مبتسمة ، ما دمت قد ابتسمت :
قلت وقد ابتسمت .
قالت مبتسمة : كاثوليكية ، من أهل الكتاب ، اسم والدي غابريال : من أصل برتغالي ، واسمي صونيا ...
تدحرجت سريرتي من موقعها كأرجوحة يعبث بها أطفال ، ماء دافق تصبب على وجهي ، انتابتني قشعريرة اهتزت لها فرائصي ،، توقفتْ أهدابي عن (( التحرك ) من كثرة ذهولي .. تداعت حواسي في لا شعوري .. فأورقت خوفا وفرحا مزمنين لدي ..
تداعى لها وجهي الذي تصدع فرحا وأسى .. وذهولا ..ااا .
كنت لحظة سماع " غابريال " سورا بألف حائط واق .. أو برجا بألف مناوب ، تمنيتُ لو انهارت كل كياناتي ، بما فيها المجوسية والطوطمية .
انطفأتْ جذوة ابتسامتها التي كان عبقها ( يؤطرني ) .. تراخت أهدابي .
استأنفت نشاطها .. ( في المد والجزر )) كموجدة هائجة .. .
..توقفت عن الدوران كأن الأرض التي تحمل فوق كاهها خلق الله .
أشحتُ عنها بوجهي ..
قالت بكل براءة : ابتسم يا وحيد ، ما كل هذا الذهول ، أفي الأمر ما يقلقك ؟؟ أرى الشتاء في وجهك ..
-تصنعتُ ابتسامة ، بلعثمة قلت متكلفا :
- لا ، لا شيء ، أحس بالغثيان فقط لعله من كثرة تناولي هذا ( السيروم ) الخاثر ..
الذهول خاثر ، كلبن الفيافي القائظ في فصل ربيع منعش خصب ، تلمست (( البيداء )) ضبابا وريحا همزي ، تحمستُ لقول شيء ، لم أقو ، ولو كلمة : ' الأن أكرهك )) وأكره سلالتك .. توطن التيه في خلدي ،، مررت يدي على زندي ، وعلى فخدي .. رشقتُ الأطر والصور المعلقة بنظرات ثاقبة ،، استوطنني الكفر ،ن قلت : صورة جامدة لا ذنب لها ، ثم ما الأمر الذي دهاني، تساءلت من جديد ..
تحججتُ لدهشتي بالكفر ، بالغثيان ، بالرضا ،، باشرتُ غضبي كعامل استأنف عمله بعد عطلة طويلة الأمد ، باشرتُ فرحي كعصفور يهاجر لأول مرة إلى سواقي جافة ..لا يعرف فيها أحدا ..
احالتي وحدتي على التقاعد القسري ، حاولت قول أي شيء خارج كل الأطر ، لم أقو حتى كراهية البشر ،،ن خذلني الفرح الذي لم يعمر .
لماذا لا يعمّر الفرح عند البشرمثلما يعمّر الحزن حتى اللحد ، ألم يكن جديرا بالقائمين على تصنيف الفرح والحزن أن يضعوا الأول في المقام الأول ،، والثاني ضمن قائمة الإنتظار .. كما تفعل الخطوط الجوية في كل أنححاء المعمورة ..للذين حجزون أماكنهم في المقام الأول ، أم أن ثمة ترتيبات عرقية وبروتوكولية ..
كنتُ على وشك تهشيم الصور الحائطية التي تؤسرني ، كما كنت على وشك تحطيم الرقم 54 بأسناني ،،لتي تأكلت من كثرة التدخين ،،لولا " شفاعة " ابتسامة الممرضة التي ل تبرح شفتيها القزحية .
توسدتْ شفتي العليا شفتي السفلى ،، غضبا وحسرة ،، عضتها بلطف ، بعنف ،، تم توسدتها نشوة وفرحا ...اا مجاملة للوجه الملائكي الذي يقابلني .
كانت شفتي العليا ضفة وأكمة ترابط بها جيوش الحقد والضغينة ، كانت برجا وأسوار مدينة تحصّن نفسها من غدر محتمل ، أو غزوة عارمة .. وكانت الصور المعلقة ، خاصة تلك التي تحمل أطفالا يهرولون بمدرسة أو دار حضانة تبدو لي أنهم مطاردون من قوى الشر نن على سطح هذه الأرض .. وبالتحديد داخل هذه الغرفة (54) ، ومن واجبي أ ن أنتشلهم من قوى الطغيان ..
كانت روما الإمبراطورية على مرمى حجر مني ،، من عيوني التي تدفع شظاياها وتتوسد " شالا"( وساحا) ناعما يحمل علامة .
لا أخفي حقيقتي : أن الغيظ بلغ أوجه في جسدي ، وفرائصي .. كانت شفتي السفلى ضفة أخرى ، تنتظر إشارة الهجوم ..وكان اللعاب بينهما فيضانا جارفا وزبدا و( رغوة) تتبخر تماما كمادة كيماوية في قنينة ، في مخبر تحاليل يخضع لتجربة الغليان أو التبخر ، كان الزبد يتطاير كالعجاج بينهما ، والوجه الملائكي واقف أمامي ،ن يترصدني ، يحفّني بابتسامات لا تنقطع ..
تنكرت لباريس التي أحسنت مثواي .
قلت : مالها تقف على رجل واحدة ..
كنتُ أثأر لشيء لا اعلمه ، ولا أعلم من أين جاء منبعه ، أحسست بهذا .. وأنا الامس " الشال" بأناملي ..لعله الم المستبدل في شراييني ، ولعلها سارة بنت غابريال ، لعله حبي لها ، ولعلها الغرفة رقم 54 ، ولعلهم أصحابي الذين يهومون بالمنطاد ولم أسمع عنهم أخبارا منذ أمد بعيد ، مثلما لم أسمع شيئا عن الحانة وما ألت إليه عقب تشميع الشرطة لها ..
على رأسهم حليم .
ولعلها الدفاتر المبعثرة في الحانة وأخبارها المتفرقة الغائبة ، ولعله التيه الذي يثيبني الآن ..
لعله هذا الدوار ..
التحمتْ شفتي العليا ، مع أختها السفلى ، كأن كل ذلك الغليان مجرد عاصفة أو زوبعة في بيداء خالية .
تعانقنا من الأقصى إلى الأقصى كأن شيئا لم يحدث ،، كما يتعانق الماء من طنجة إلى مضيق هرمز ،، ( من المحيط إلى المحيط ) مرورا بجبال الأطلس ،، وجبال أخرى في بقية أرجاء الوطن العربي ن انتهاء بجبال ظفار بسلطنة عُمان .
لماء يمشي برا،، وبحرا وجوا .. والغضب كذلك ..كل هذا يشربه الضب ..
ما عدا الماء ..
شربت ماء العنب ممزوجا بالدواء وبعض المستحضرات الكيماوية ، لا أدري إن كان العنب زبيبا أوطريا ، أحمر ، أو اصفر باهث .. المهم أنني تجرعت العنب في سائل كيمائي . أذكر هذا جيدا ، ناولتني إياه سارة ، وأنا في شبه غيبوبة ..أذكر هذا جيدا ..
كانت – للتذكير- الحمامة التي دأبت على زيارتي كل صباح تحاول نقر زجاج النافذة ، وسارة تباذلها الإبتسامة .. ذاك اليوم كان ممطرا.. مصحوبا برعود ورياح عاتية ..
أشرب ماء (( الغيب)) وصدقة (( المقربين )) وأتنكر لخيرهم ، هذا ضرب من الجنون ، علي أ، أكون واقعيا إزاء ما يدور حولي ، أو أن أكون يقظا ،، .
الحذر مطلوب .
وأطبقت شفتي العليا على هذه (( الغمغمة ) لتلتحم بأختها السفلى كما المكوك الفضائي .
قفزت بعد الشيء .
كانتسارة تزيح بلطف مقياس الحرارة تحت إبطي ..
حرارتك زائدة بعض الشيء ، عليها أن تنخفض بعض الشيء ..إنها وصلت 40 درجة ..،وأن هذه الهلوسة الصادرة منك جاءت نتيجة ارتفاع في ضغط الدم ، سأحاول يا وحيد التخفيف منه .
هذا أمر عادي ، عندما يختلط الدم بارتفاع درجة الحرارة ، لكن هذا- طبيا- كلينيكيا- يعالج بواسطة مضادات حيوية ، تزيل هذه الحمى .
ناولتني قرصا مهدئا ، جرعته ،وهي تضع قطعة (( ثلج )) على جبيني لتنعش إرتفاع درجة الحرارة التي تسري في جسدي ..
ناولتني أبتسامة جميلة ، كمن يناولني قطعة حلوى محشوة بالسكر .
ودثرتني بلحاف شفاف ..نمت كالطفل تماما .، قالت : الآن دعني أطعم الحمامة ، هي أيضاأرعاها مثلما أرعاك وقد ألفتني كل صباح ، ألا تراها تطل من النافذة ؟؟ .نمت نوما عميقا . على "مهد " مثل الصبي أمضغ الماء الذي يمشي برا ... من طنجة إلى مضيق هرمز ،، أهلوس كلمات خافتة ، مبهمة منها : dors mon petit
تذكرت جوليات .
كان ذات صباح ممطرا أيضا ، كنت على (( الريق )) ما عدا تلك الإبتسامة ، كنت أمتصها كحلوى الأطفال ..
**** *****
أطبقتْ باريس جفونها .. وتلك العيون الساهرة بحانة ( لوفالوا) تمارس القمار جهرا أمام الملأ ، الشرطة لم تعثر على أي شيء ، من شأنه أن يغلق الحانة أو يصادر ممتلكاتها ، بعد كل التحريات ..
انقضّتْ باريس على طريدتها كما السبع المفترس في غابة عريضة ، أكلتْ باريس لحم الفريسة / الطريدة ..نهشت أطرافها ن لم تدع لي شيئا أقتات منه .. أو على الأقل فضلات على المائدة ،، كل شيئ إلتهمته بنهم . لم أكن أكولا ..فقط باريس توهمت ذلك ..لعل درجة حرارتها ارتفعتْ هي الأخرى .
وأُصيبت بالحمى ..اا.
وأنا بدوري لم أدع لباريس مجالا واسعا للتحرك أو المناورة .. حاصرتها من كل جانب ،، رسمتها في مخيلتي ،، في ذاكرتي لوحة تلك الأطفال الذين يهرولون في صورة جامدة معلقة بالغرفة رقم 54 ..
غمغمت بهذه الكلمات ، نصفها كان مسموعا ، منها : (( الشرطة لم تعثر على شيء بالحانة وجمل أخرى ... )) تسربتْ ، قلت كل هذا باللغة الفرنسية .
انتشلني عرق تصبب بغزارة من جبيني ، من هذه الهلوسة ،، هذه الغيبوبة ،، .
-نطق اللاشعور...ااا .
قطعة الثلج .. كانت قد ذابت منذ مدة ، صورة الأطفال تقابلني على الحائط المقابل لسريري ،، سارة تقيس من جديد درجة حرارتي ،، أرمقها ، أضبطها متلبسة بجنحة (( فعل الخير ) نهرتها : (( ما ذا تفعلين )) الأ تعلمين أن السطو على أجساد الناس (( جنحة )) يعاقب عليها القانون ..
طبعتْ قبلة على جبيني ، وطبعت قبلة على جبين الصورة التي نزعتها من الحائط .
قالت بابتسامة عريضة : قبّل أكبرهم ،، هذا الذي يبلس ( ثبانا)) ورديا )) .
قلت بغض: لماذا هو بالذات ، دون غيره .
قالت : هو أنت ، قبّلْ نفسلك ، ووجهك الوردي ،، أنظر كيف كنت جميلا ،، تمعن جيدا في الصورة ، ألستَ أنت في الصف الإبتدائي ، كم كنت جميلا ...
هاتف ، زمكاني رش سريري برحيق الغيظ والحنان . جثمتُ في مكاني . نظرتي للصورة عن قرب التي أستقرأت ملامحها أرقتني ، روعتني ، قلبتْ موازين أتزاني ، أعادتني إلى كم من سنة ، لكنني تساءلت عمن أحضرها إلى هذه الغرفة ومن علقها ، إلى أخره من الألسئلة التي ظلت تحوم بمخيلتي ..قالت الممرضة : أنظر ، تمعّن في تلك البنت ذات الضفائر الوردية ، وأشارتْ إليها ببنانها .. تلك البنت في أقصى الصورة ..
- قلت تلك الصغيرة
-أجل ، هي بالذات .
لكنها دون سن الدراسة ، كيف التحقتْ بمقاعد الدراسة وهي لم تبلغ سن الدراسة بعد ، أليس هذا خرقا للقانون ، ثم من جاء بها إلى تلك الساحة المرسية ، أراها ترتدي لباس الدراسة الرسمي ( جيب) ومئزر ..
لاتتعجل في الحكم ، قالت بابتسامة جميلة كعادتها : أراك تحكم حسب أهواائك ،
تريث قليلا في أحكامك ياوحيد..
تحجرتْ هذه الإشارة في خلدي ، توسدت شفتي التي غمغمتْ ، واصلت الممرضة بثغر تنساب منه عذوبة الدنيا ، قالت :
هي ذي جنحتك ، موصوف بها أنت : ألم تحكم عليّ بجنحة ؟ وأنا أقيس حرارة إبطك ، ألم تقل أي بصريح العبارة : وقد نهرتني : ماذا تفعلين ، الأ تعلمن أن السطو على أجساد الناس جنحة يعاقب عليها القانون ، أي قانون تراه ، ماهي مواده ،، وبنوذه ، ومن أين أستقته ، قالت كل هذا والإبتسامة لا تغادر ثغرها االباسم .
- أحسست وكأنها قمطتني من جديد بهذه الكلمات :
وأبدأ أبجديات أيامي الأولى
( A.B.C.Dfifty – fifty
كما تعلمتها تماما بالمدرسة الفرنسية ، عوا بدار الحضانة الأولى ، قبل أ ن ألتحق بالمدرسة ، وأُ سجل ضمن سجّل المناداة كباقي التلاميذ .
أذكر أول يوم دخلتُ فيه المدرسة ، كان في صحبتي غابريال ، هو الذي كان يلحقني بمقاعد الدراسة ، غالبا ما كنتُ ألتحق متأخرا ، بالرغم من أن المدرسة لاتبعد كثيرا عن دار الحضانة التي كانت تأويني ..، يطبع على شفتي قبلة ، كلما يدخلني الباب الرئيسي للمدرسة ، ويضربني على مؤخرتي . عندما ألج باحة المدرسة .
ألفتُ تلك العادة ، حتى أصبحت أحس لتلك الضربة الخفيفة على مؤخرتي وتلك القبلة ، غالبا ما كنت أبادر بها أنا ، فينحني عمي غابريال ليقبلني .
مرة أحسست بأن شفتي كادتا ترحلان عن وجهي من فرط إلتصاق شفتيه بهما ..
لم أكن وقتها أتوقع أن تلك القبلات والضربات الخفيفة على مؤخرتي ، قد تكون قطرة في إناء ماِؤه آسن .. لم يكن يخطر على بالي إطلاقا أنها تحمل معنى آخر ، سيأخذ منحى آخر مع مرور الأزمنة ، كنتُ أعتقد أنها قبلة أب لإبنه كما يفعل كل الأباء ..
وكنتُ فوق كل هذا بريئا ، مثل كل أطفال العالم .
يا ليتني ما سألتها عن إسمها .. هاأنذا بهذا النبش عكرتُ صفو ذاكرتي ..
أيعقل الآن أن أجتر أيامي كما البقر ، أيعقل أن أستحضر غابريال بكل ما كان تفاصيله ، بكل ما كان يحمله من إساءة لي .. أم يعقل أن أتجاوز ، وقد زرته آخر أيام حياته .. وه يغرغر ، وقد ناولني نسخة من (( حصن المسلم )))
موقف صعب .. ومحرج فعلا ..كان جديرا بيّ الآ أفتح هذه النافذة ، وأل أنبش القبور ..
ما لذي ذهاني ، مالذي دقفعني دفعا إلى هذه المسودة في دفاتر أيامي ..
دعني أسميها هكذا ( مسودّة ) والمسودة غالبا ما تعتمد ، فليكن هذا ، هو ذا الحل الذي يخلصني من هذا المأزق ،، ثم لعنة الله على ذاكرتي المثقوبة ، ما ذا أصابها ..
لا خيار امامي الآن ، علي أن أشطب هذه (( الورقة )) أو أمزقها من مسار حياتي ..
حتى العظماء من العلماء وغيرهم ، أصابهم ما أصابني ، فلتذهب هذه (( الأشياء )) إلى الجحيم ، ثم من أكون أنا ،، مجرد حشرة أو ورقة في مهب الريح ، ألم يقل لي عمي غابريال آخر أيامه (( الدنيا شيك على بياض )
فلتذهب هذه الأشيا لإلى الجحيم نن
علي الآن أن أفكر في جدوى ما قد يصيبني لاحقا ،، هو ذا المهم والأهم ، تمنيتُ لو خمد البركان .. لكن ..
حدثها بهذه الكلمات ..
وحدها الصورة كانت تصغي .. شكرا لمن علقها على الجدان ..
****
باريس واقفة على رجل واحدة ،، وحدها باريس تصغي أيضا لتأوهاتي ،، ولأنبعاث بركاني ،، وحدها باريس تتذكر .. وتصغي ..
أجيء من فوهة بركاني المنبعث من دمي الخاثر .. في الغرفة 54 وفي الرقم 54 المعلق على صدري طيلة السنة الأولى بالقسم الإبتدائي ،، أجيء ، أخرج من هذه الفوهة .. أعبثُ بقدري .. وأتصنتُ على دقات الممرضة .. سارة ، وهي ( تدكّà الحقنة في زندي ..
من أوصاها ، ومن علق ضفائرها ، فوق جبيني ، من وأدها في هذه الصورة الناطقة ، ومن كان يجدل ضفائرها ، ويصحبها إلى المدرسة قبل السن القنونية لذلك ، .. أسئلة كثيرة تزاحمت في مخيلتي ..
انحنيتُ زاوية ً خالية ، هذه المرة غادرت سريري ، لأول مرة منذ أن أودعت هذه الغرفة .. ماعدا خروجي إلى بيت الوضوء ( أو الخلاء ) هذه المرة ، تحررت من سريري ، غيرتُ موقع رقمي 54 ، ترجّلتُ بالغرفة ، أمرح ، أمرح ، أصرخ .. أعبث بالصورة ، أهمس في أذنها ، وأنا أجري في الغرفة الواسعة ، بين الأسرّة ألفّث تارة إزار السرير على وجهي ،، في شكل لعبة (( الغميضة ) كما لدى الأطفال ..
تحررت من كل شيء .. من هواجسي ، استسلمتُ للمرح بكل معانيه ..
للدهشة أيضا..
لماذا الأطفال لا يحلقون في السماء إلا عبر طائرات مصنوعة من كرطون ولماذ ا لا يغزون الفضاء ، ألأنهم صغارا ، أم لأن قاماتهم صغيرة ،، أم لأن الأحاجي العالقة في ذاكرتهم تعيقهم ..
أكتبُ إليك ، عبر مرحي ..
رسالة عتابببببببببببببببببببب بمداد يكسوه الغبار ،، وبقايا الأحاجي ، وتطلعات الصغار .. الآن أمتطي مركبتي أتدحرج من على المنضدة ، من على الأرجوحة ، أكبت إليك من عمق بركاني الذي يتأجج ليمسح دموعي ، وذهولي ، ويطعم حمامة سارة عبر النافذة .. أكتب إليك بماء اورد ،، بالاء الزلال ..من شلالات أوجاعي وأفراحي ..الآن صرت طليقا .. حرا.. تواقا إلى دفء .. هل تصلك أصدائي .. باريس ، أيتها الواقفة على رجل واحدة ..
آه مدادي .. مالك جفت مآقيك ..أأنت أيضا تؤمن بأن لكل لسان عثرة .. ولكل جواد كبوة.
أكتب إليك فصولا من الدهشة ، وفصولا سقطت من مسودة أفكاري ..أحمل إليك شوقي وخزيي .. وأتعابي .. وأشتات الصفح .
هل تصلك ، باريس – أيتها المعتوهة أوجاعي ؟؟؟ .
الآن أركب المكنسة كالجواد ، ألعب بها ، أسةقها ، ي أرجاء الغرفة ، ألعب وحدي ،،، لأن كل الأطفال هاجروني ، لم أعد طفلا بالمدرسة كما كان يسوقني إليها عمي غابريال .. الآن ببلاط الغرفة 54 سيجت (( يهوديا)) بالإسمنت باسمنت من كرطون ، جعلت منه ساحة لعب كما كل الأطفال ، دمي يتجدد من كثرة الركض عبر أرجائها ..
باريس الحبلى بالأيتام، هل تسمعين تباشير أفراحي وانفلاق صبحي .
-صوت دافئ يأتي من خلفي : - ماهذا الهذيان ، ؟ أتريد وردة أم شالا آخر، أم دما جديدا يسري في عروقك كالشياطين ، كالملاك ، اختر .. وحيد ؟؟
- أجيب بالنف .. دعني ألعب ، لم أشبع من اللعب إلا في هذه الغرفة ، ما أجمل أن ألعب فيها ، وأمرح ، وما أتعس السطو على أفراحي ..
أنا لا أسطو على أوجاع الناس ،، احتراما للأعراف والقانون ....
وفري عناءك .. الآن صرت تحفة ، في متحف للآثار والأحقاد ...
وفري جهدك وضحكاتك...وإبتسماتك لما هوأجمل مني ...أو أتعس مني ..لا تحملي بساطك الأرضي..لا تفرشيه بورد من كرطون أو بملح زائف ..الآن صرت..بلا دم..بلا لون ...الشوك يخو زني كل صباح في زندي..
ما كنت لاحقنك لولا أن منحوني أحقية الحقد بالفطرة..ها أنا ذا أحقنك بالفطرة ..
هاأنذا أحقنك بالفطرة ..
أمقتُ أزهار وفراشات البساتين ،، وأسطحُ باريس التي قمطتني ذات طفولة بخرق بالية تنبعث منها رائحة صابون عفن كما إبطي النتن ..
وأمقتُ حتى الحمامة التي تطعمين كل صباح ،، ونجوم باريس ..
لا يهمني الآن إل أن أبحث عن فضاء أوسع من هذه الغرفة التي لم تعد تسعني ..
ما لك لا تجيبين ياسارة ؟؟ظ
- باريس انتهتْ ولايتها تجيبني بابتسامة لطيفة : وأنتَ لست إلا أنت .. لم تتغير فيك إلا شطحاتك ..

تهيّج بركاني بهذه الكلمة.. أستضيف مقتي لها : (( هل صرتُ مجنونا )) ؟؟
تملأ ثغرها إبتسامة أجمل :
- لا .. بل عدت إلى اتزان ك .. كنت في حاجة ماسة إلى المرح ..
وهاأنذا شبعتُ منه ..
تذغدغني كلماتها اللطيفة : أسحب مقْتي لها ،، : " أطعمي الحمامة إنها في انتظارك "
تبتسم ك (( اختل توازنك ) ) ما زلت في حاجة إلى الإستشفاء )) .
انبلجتْ " سارة " صبحا وضاء ً ، زاهيا في شراييني ، أحسست بارتعاشة الأتقياء تسري في كل جسدي ، وأحسست أن وجع الوخز زلَّ ، وأن شيئا ما تغيّر في ّ ،، حتى أنني شعرتُ بالخفة نن وأن باستطاعتي الوثب كأرنب نن في كل الإتجاهات . أضحتِ الغرفة فسيحة عكس ما كنت تصورها ، حتى تفكيري استقام ، أحسست أن بذرة الضغينة غادرت قلبي .
من أين جاءت ، لا أدري ؟؟ .
تساءلت : لعلها من كثرة الوخز .. أو مجرد هستيريا ..
أو من الحجامة ، لأن إمام ( نونتير ) ( من الأصل المغربي ) وضعني ذات عصر بين فخديه ، ليتعلم فيّ ( الحجامة) ..
كان يمتص دمي ..لعل هذا سبب رشاقتي




، انطلاقة من مقولة : تعلم الحجامة في رأس اليتامى ""
المهم أيا كان الأمر ، لا يهم ، المهم أنني رشيق ،ن والباقي لا يهم .
كلنا أشباه بشر ،، هذا ما كنـ أسمعه يتردد بالحانة ...
)حقّة( - (حقّة) ما أخبارها لم يصلني منها أي جديد ، ما حالها مع الشرطة والتشميع ،، ها هو ذا ثقب ثان في ذاكرتي .. ( ياك ) لحانة صدر في حقها عفو شامل من قبل الشرطة ،، لم تعد تلتفتْ إليها ، حتى ميكروفونات السطح نزعتها..
أواه .. هذا ( الثقب) ما يزال يلازم ذاكرتي ، عليّ أن أخضع للعلاج المركز كما قالت الممرضة .
لكن أين دمي المهدور ؟؟؟
وحدها – سارة – تعرف حقيقته ،، لماذا لا أفاتحها في الأمر ؟؟
تخوم ذاكرتي تبقى .. في الأخير ضفافا للأرق .. إذا لم أجرؤ على ذلك ..
طيّب والمانع إذا قلت لها: سارة ، وأضفت نعتا آخر ، كأن أقول مثلا : أيتها الفراشة مثلا ؟؟ ..ما دامت تلوّح بالشال أمامي تعصبه على عينيها .
ماذا تقصد ؟ أتقدم منها ، أسترق نبضات قلبها ، هل تسعفني يدي لألامس شالها أم ثمة سطو على أحوال الناس .. لعلها جنحة..
هاهي تتقدم نحوي ،، جميل .. الإبتسامة لا تفارقها ، ها هي تدنو أكثر ، هي ، هي تتقدم نحوي ، جميل .. الأبتسامة لا تفارقها .. هاهي تدنو أكثر ، هاهي .. أبادرها .. أتلعثم .. أتشجع ، أجرؤ ،، وفي الأخير قلت:
- هلا سارة فراشة الخمائل ، قلتها بفرنسية باريسية بشيء من الغنج ، والدلال ، واللطف .
- نعم وحيد ،ردت بلطف أيضا .. الشال يتموّج بين جيدها وهي معصوبة العينين ،ن ماذا وراءك ؟ تريد أن أحقن زندك ؟ أم تريد أن نمرح وسط هذه الغرفة الفسيحة ، أنا أييضا في حاجة إلى مرح ..
سكبتْ دم أليسوع من مقلتيها ، افترشتْ خدها الوردي ، وسكبتْ ماء دافقا ، على خدها الآخر التي تتوسده .
إلتحفتِ الأرض .
جرّت أثوابها ، وأنا مذهول أنظر إلى حركاتها الرشيقة ..
قالت : ليغفر لك الرب ، يا هذا ، لم تسمني هذه المرة ، لم تقل :وحيد ، خلبني هذا النعت الجديد .. فتشتُ في " أحياء " جسمي عن زنقة أسلكها لأهرب منها لأتوسل ليسوع لعله ينصفني . قلت فعلا : أنا مخبول ، هل ثمة " أحياء " ف جسمي وبها شوارع ، هل تحوّل جسمي إلى مدينة ، يالها من بلادة ، وياله من تشبيه .
إنها الحماقة بعينيها..
كررتُ : ليرأف بك الرب ،، يا وحيد ، ارتبكتُ ، لم أفهم شيئا ، سوى أنني أولت هذه الكلمة وفق ما كان يقوله لنا إمام (نونتير) باستمرار ،، عقب كل صلاة تقريبا ( لن ترضى عليك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ، أولت عزوفها رأسا إلى هذه الأية الكريمة ، وإلا ما السر في عزوفها عني وقد كنت آمل أن تلاطفني كعادتها ، بل أكثر .
رحتُ أصلا إلى ما ظل يردده ها الإمام ، لكن في المقابل استغربت من تصرفاته مع المصلين ، وتضيقهم ، فهو لم يكن يرضى على البعض الذين يتأخرون في دفع الأتاوي له ، أي أجرته لقاء إمامتها ، كا يحرمهم من الصفوف الأولى بالمصلى الذي ندفع إيجاره ومستحقات الكهرباء والماء وتوابعه...من كناسي المسجد..المحسوبين على ميزانية التسيير ،فيما كنا نتطوع نحن شباب الحي ...ودعنا بعض اليهود و النصارى كل يوم أحد ..لتنظيفه ..أو طلاء جدرانه ..كانا فينا الكهربائي و فينا البناء وفينا من كل الشرائح ..
كان يتقزز منهم بدعوى أنهم تأخروا في دفع أجرته الشهرية التي كانت وقفا علينا نحن سكان الحي..كان يجمعها منا رجل من حركي الجزائر..المحسوبون على فرنسا ...ومجدها، أبى العودة إلى الجزائر ..لاعتبارات تاريخية .
كنا نبجله كثيرا لأن الإمام كان يقول لنا أيضا ( لا فرق بين أعجمي وعربي إلا بالتقوى . كنا نناديه : عمي العياشي " كان يتقطع قسطا كبيرا من منحة التقاعد ، صديق حميم للإمام ، غالبا ما يختلي وأياه بالمقصورة ، ليعودا في غالب الأحيان متأخرين ، بعد إقامة الصلاة ، ويعودون إليها بعد انقضائها ، حتى أثارا شكوك لمصلين ، الذين قرروا ذات مرة استبدال الإمام بطالب أزهري ينتسب إلى جامعة السربون لتحضير دبلوم عال في الترجمة ، قال عنه أنه وسطي .
بعض الأوساط تتهم أباه بضلوعه في أحداث الإخوة المسلمين وأنه عضو نشط بها ، ويقال عنه في أوساط البعض من أنه من جماعة الهجرة والتكفير ، يُعزى إليه تشبثه بفكر حسن البنّا وسيد قطب، وهناك من يقول وهناك من يقول أنه من أتباع الحنفية ، أو الشافعية التي تجيز ( الإغتسال) من الجنابة بمجرد أن يعم المء الجسم دون اللجوء إلى الوضوء الأصغر ، وتتبع المفاصل من اليمين إلى الشمال بدءا بغمر الرأس باماء ، ثم الأطراف الأخرى ( العليا ثم السفلى ) عكس المذهب المالكي .بعض المثقفين الشباب ، من سكان الحي المتشبعين بالفكر الوهابي ، كانوا يعزفون عن الصلاة وراء هذا الإمام ، ما عدا أيام الجمعة ، لأخلافات حصلتْ بينهم بشأن السدل والقبض وشؤون فقهية أخرى وكثرة أخطائه النحوية و( لحنه) وكذا ( خواء ) خطبه يوم الجمعة ، حتى طوا أنه ( بزناسي ) فقط ، ولا غرابة أن يكون ( فقيها) عاديا ، جاء يقتات من فُتات فرنسا ،أو تعلم القرآن هكذا بالتلقين في ( كتاتيب ) بلدان المغرب العربي في صباه .
لفقوا له هذه التهمة ، لأنه يلتهمهم بعيونه الوقادة كلما تقدموا من الصفوف الأمامية لإضافة ركعتين أو ثلاثة ( من باب النافلة ) ..
يتحاشاهم .
لكنه يرشقهم بنظرات ملتهبة .
أغلبهم شباب ، بين ملتح وحليق وجه ، الغبار يتطاير من عيونهم غيظا له ..
يرشقهم ، فيطرقون غيظا وحياء من عمي زيان ( الحركي) . يكتفي هو الأخر بجذب زيان وإدخاله إلى المقصورة التي لا تبعد عن محراب المصلى المتحرك .
في أغلب الأحيان يختبئ وراء درج المحراب المتحرك ، أو يهزه قليلا ليفسج مجالا للمرور، دون أن تقع عيناه عليهم .
عيناه تقطران حذر وتحذيرا ..
لا يفهمونه ، بقدر ما يتمتمون ( حسبنا الله ونعم الوكيل )).
(( نانسي) ) تثير اللبس ، بقفازتيها الورديتين ، في عز اصيف ، وبالكيس الذي تحمله على ظهرها والآخر الذي تشده بيدها اليسرى ، يحمل علامة ( طاطي) ، فتاة صغيرة لا تتعدى الخامسة عشرة وترددها على الجهة الخلفية للمصلى ، يثير بعض الفضوليين يرجحون ذلك إلى علاقة مشبوهة بين الإمام وبعض العائلات المهاجرة ، تدأديء ، وهي تلج بوابة صغيرة ، تصل المقصورة نشارع جانبي ..
يدأديء الإمام في أثرها .
عمي زيان ذو ( الجسم ) ( الديبوب) يكاد يسقطها الأرض خجلا ، وهو يزن بعينين جاحظتين ، تُطلاّن من نظارات واسعة ، قامتها الرشقية الخفيفة .
دألا ، يتحرك، لا تسعفه سمنته في ملاحقة الطفلة التي.دبّستْ شيئا ما بكيسها المنتفخ .
تدب في جسمه الحرارة ، وهو واقف أما باب المقصورة ، يزفر ، كمن لاحظ شيئا غير مألوف ، ينصرف ملوّحا للإمام أن وراءه أشغالا تنتظره .
الأمام لا تصله إشارة التلويح بالإنصراف .
يقول : لعل الشباب محقون.. ؟ا.
تدب الحركة في المسجد ( المصلى ) الشباب يتسابقون على ( الأعمدة) للنوافل التي يقال أنها تزيد في الحسنات ، وتحجب الشياطين .
الأعمدة كلها كانت مشغولة .
عمي زيان لم يجد ( سارية ) يضع عليها جسمه الثقيل . يدبّ في جسمه العياء ، بعدما مسح المصلى بعينيه .. يغادره .
بأقصى الشارع الجانبي للمقصورة ، يلمح سيارة فخمة وهي تبتلع ( الطفلة) ( نانسي) والإمام عائد يترنح ، كالضبع بعدما حيّا شابا أشقر ، كان لتوّه قد ركب السيارة من بابها الخلفي ..يرمقه الأمام من بعيد تدب في يده حركات غير عادية ، وهي تتلوىخلف ظهره ، كأنه يتأهب لقذف شيء ما إلى الوراؤ ، أو يطرحه أرضا ،، لم يقو على ذلك ،ربما ( البضاعة ) ثمينة . اهتدى إلى وسيلة ، إذ أخرج من أحد جيوبه بسرعة البرق كيسا كان مطويا ،، استدار نحو وجهة أخرى نقله بشيء يبدو منتفخا بعض الشيء .. ( في شكل مزودة) أقرب ما تكون إلى ( حزمة) أو أوراق نقود ,راح ( يرفسها) ..بيده ،وهو يدنو في اتجاه عمي زيان الواقف المذهول .. ما بالكيس في محاولة للتقليل أو تقليص حجمه حتى يبدو صغيرا ،،، لا يثير الإنتباه عند عمي زيان .الذي كان قد أحصى حتى عدد ( الرفسات )) وتمتمات شفتي الإمام وعدد دقات قلبه ربما ..
الأمر مذهل حقا .. يثير كثيرا من الشكوك والحيرة ..
دكن وجهه عمي زيان رغم سمرته .
دلْدل الإمام منكبيه ، متقدما نحو عمي زيان ، يتلو بصوت منخفض ( مسموع) أدعية لم تكن مفهومة دلع . لسانه كأفعى تتأهب لإقتناص فريستها من الحشرات قرب مخبئها ،، أو بمكان خال خال في الصحراء ،، وسرعان ما دلف فمه كسيف خرج من غمده ، ثم عاد
أدْلم عمي زيان شفتاه ، ادلهمت سريرته .
كان قد فهم كل شيء .
ثم انصرف .وقد غرز شظايا نظرات عينيه الثاقبتين ، رأسا بالكيس ، فيردمها بها .
يطوي الإمام خطواته بالرصيف المحاذي ،، كان عمي زيان قد اختفى عن نظره.
***
باريس التي تقف على رجلِ واحدة ، تندلق من جحرها كالضب الذي يشرب الريح ، ترخي أهدابها ، وتتلألأ أضواؤها .
لكنها لا تصيبها المسكنة .
تلامس جدائل ( نانسي) السنبلية ، ترضعها من ثديها ، كما أرضعتْ غيرها ،،
تتوضأ باريس من ماء المطر ، بل من ماء المزن ، الذي يرش أسطحها ، تصلي صلواتها هي الأخرى عبر كنائسها ، لتدود عن حماها ، بالرغم من أنها باريس مدينة ( الجن والملائكة) كما قال طه حسين .
الذود عن الحمى حق مشروع يكفله الحب قبل اختلاط الدم ، قانيه بفاتره .
باريس صهريج للمعاني .
النسور لاتناضل من خارج أسوارهاوقلاعها ، والأئمة لايفتون من خارج الديار ..
(( أدونيس )) عشقها حتى الثمالة .. حتى النخاع ، لأنها مدينة القانون ، ونسي قريته الصغيرة باللاذقية .. جفتْ مآقيه من ( أغاريد )) الدروز ، ومن شلال جبل الدروز ، لأنها فقط باريس بلد القانون ، وبلد المفرقات النارية في أعياد رأس السنة ..
,أنها أيضا بلد لعملة بوجهين ، بلد المثقفين والنخبة والمتطرفين وحاملي الأحقاد لأوطانهم ،، بلد الغلبة ، من المغرب العربي الذين يكتبون لأهاليهم بالفرنسية على هذا النحو :
JE VOUS ECRIS SES QUELQUES LIGNES POUR VOUS FAIRESAVOIR QUENOUS SOMMES EN BONNE TE PARFAITE SANTE JESPERE QUE VOUS ETES DE MEMES .JEVOUS DIS QUE CHANGE LARGENT BEAUCOUP ET MOI JE VIENT DANS L’ETE PROCHAIN AVEC SLIMANE DANS SA VOITURE.
PASSEZ LE BONJOUR à toutes les voisins et donné moi bénidictions.ma fille malika je lui apporte les robes et les souliers à mes enfants et un grand chall à ma mère et un morceau de tissu de (TISSOR) à mon pere et les medicaments aussi.et la foto de ZIDANE à mon frère.
باريس ليست ( فاضية) لتصحح الأخطاء اللغوية الواردة في ها النص ..لا تعيرها أي أهتمام ، فهي مشغولة ،، بالكيفية التي تم بها إهداء ( تمثال الحرية الشامخ في نيويورك ) وقد صمم بباريس ، ( القصة معروفة ) .
ألم يجدر ببرج هيفل أن يتزوجها قبل أن تزلإ إلى إمريكا عروسة للحرية ، وهو الأرمل : يحرس باريس ويرعاها .
باريس تفكر في شيء أعمق
طيّب ، أقوم أنا بتصحيح هذه الأخطاء ، قد تسألون لماذا ؟ ..
فقط لأن ليس ورائي شيء سوى تصحيح الأخطاء ، والنميمة ، حتى في الإمام الذي يؤمني ، وفي المسائل الفقهية ، وانتقال الدم من شخص لآخر ،، من بني جلدتي ، وأعيش على إملاء الدلاء منن آبار ماؤها أسن كدمي ..
باريس أعذريني ، أنوب عنك ف ي تصحيح الرسالة .
J’espère هكذا: jespere « S » ( ينقصها ( quelque (ces ) : تكتب هكذا (ses
وأترك لكم الباقي ،، لتساعدوني فيه ،،
هذا حقكم يكفله الدم والشرع بيننا ( أن نصحح أخطاءنا ) حتى في مثل هذه النصوص البسيطة ،، تركتُ لكم الجزء الأسفل للتصحيح حتى تهيج ثائرتكم ،ن أعرف ذلك ، لمجرد أن أستحوذ على التصحيح أو أحتكره أتعرض لعملية النفي ا, الإقصاء ، من القبيلة .
لا يا سيدي ( أش أداني ) .
أو ليست هذه هي الديموقراطية ( والتناوب على السلطة (
ما ناكل البصل ما نحصل .
باريس حفيدة الجميع ، آوت الإمام الخميني ،، وآوت الجنرال ميشال عون ، والقائمة طويلة ،، أثقلتْ كاهلها بالإيواء ، وصدّرتْ جثثا في صناديق ..
لم تغسلها هي .
حاشا لله .
باريس أم اليتامى .. لكنها مدينة الأوجاع ، موؤبة بالفرح والحزن ، تعج في ملاهيها بمطربي الراي ، هي ذي باريس التي تقف على رجل واحدة ، هي ذي باريس التي ليست أبنيتها من طوب ، .
السمر يغتال مآقيها نهارا .. ويلبس ليلَها الضجيجُ ، إنها حفيدة الجميع ، تتوسد ركبة الجيران ، وتلتقط نسائم الفجر في فيافي الحوض الآخر ..
من قال باريس بريئة ..
ككل العواصم في العالم تصّر قراراتها ، ومن حقها ذلك ، ألا ترأف بربيباتها ،
أنا ربيبك ، يقول وحيد ، تنتشله هذه الرحلة من تخمين علق بذاكرته ، وهو يستحضر مسار الإمام .
يحضره كل مرة كأنه قرينه ، لا يفارق مخيلته ، ينتشله من غثيان كاد أن يسقطه أرضا ، أو يشطب مرحه..ااا
الأمام في ذاكرة وحيد خزائن أفكار وأوجاع ، ولوحات زيتية لرسام بارع ، يرجع إليها كل مرة ، وفهرسٌ في كتابه لم تكتمل فصوله ، لم تُفتح أبوابه .
ليذهب هو الآخر إلى الجحيم ... أأأ
قالها وركل الأرض ، حتى ارتطمتْ ساقه بكرسي كان قابعا قرب السرير بغرفته 54 ، أن يشطب مرحي.. هذا الإمام ((لا)) .قالها بصوت مسموع ، حيث كادت سارة أن تلتصق به " عصابة " الشال بعينيها ..
ما بك يا وحيد ، هذه النرفزة ،، ليست هذه طبائعك ..
كنت معصوبة العينين .. لم ترحلي معي إلى سردايب ، أنت في غىنى عنها ..
افصح عنها، وليسمح لك الرب ، وأبنه يسوع ، تلدغه هذه الكلمات ،يتأجج غضبه ..أنتِ وقحة ياسارة ،، همّّ بالخروج من الغرفة ..
قال : هذا فراق بيني وبينك ، لم أعهدك هكذا وقحة ..
لا تتعب نفسك، الباب موصدة من الخارج ، ثم أن لا حق لك في مغادرة الغرفة رقم 54 قبل أن تشفى تماما ..
هذه أوامر وتعليمات يا وحيد، دمك لم تكتمل تصفيته بعد، ما زالت مخبولا.. قالتها مازحة .. خوفا من إثارة غضبه ..
-هذه الغرفة مستقر لك ، أضافت مازحة ..
ترمّلت الغرفة ، إلا من ضجيج صخبي ، مازحتها:
- مستقر لك أنت أيضا إلى أن يرث الدم في شرايين دمي .
ردت مبتسمة : آمين .. وذلك ما نسعى من أجله..
ارتجت أرض القاعة 54 لهذا.. رددت أصداؤها : لا تبتلع دم القوارير ، لا تكشف ساقيك للماء بالأرض ، وهي لجة كموج البحر ، أو كمرآة عاكسة ، كما فعلت ( بلقيس ) أمام ملك سليمان وهي تدلف قصره ، وقد كان ذلك إيحاء من شياطينه ..لا تخدعنك ابتسامتها ، الأرض لجة من تحت أقدامك ، كما خدعت الشياطين سليما ن قبل مجيء بلقيس قصره خوفا من أن يتزوجها ، فصوروها له بأظلاف ماعز ..
تتقدم نحوه سارة في استحياء:قالت: إن عصابتي على عيني، إن نزعتها بلطف، أمدّكَ حناني ، وإن لاحظت أن أسنانك تصطك أو أياديك ترتجف أرجعتك إلى سريرك مقيدا بها.. وأرضعتك من قوارير الدم حتى يختلط دمك بما فيها ..
أعذرني ياوحيد هذه هي الأوامر والتعليمات التي أعطيت لي ، أحسستُ أنني فقدت صوابي ، وأنني أمام حكايات ( فولتير)) الناطقة على لسان الحيوانات ، وأن باريس تسوق إبلها إلى (( سوق عكاظ )) وأنا على هودج أزف إلى ملوك الطوائف ..أو أمراء المماليك المملوكة..أو إلى أي عربي متعطش إلى الزواج من إمرأة ثانية ..أو أي إبليس سكنني ..أو أي شيء ما يختلط بدمي..رقصت باريس في عيوني كغواني شارع سان روني أوبيقال ..لم أفهم في الأمر شيئا .
-
-بلقيس أصداء الغرفة..ملك سلميان.. أظلاف الماعز ..اختفت الصورة التي كنت أعانقها .. استقرئها ..كانت جامدة لا تنطق ..حاولت مرة ثانية الهروب نحو الباب ..كانت موصدة.
..وكنت فعلا في لجة..أصغي إلى شهرزاد وهي تسامر شهريار ..باريس التي أرضعتني من ثديها ...لم تنقدني ..من مخالب هذا (الأخطبوط) أصرخ وأبتاه ..يفيض دمي القاني من زندي ..تسرع الممرضة تضع ضمادة عليه..يجف..تنهار قواي ..أجد نفسي مطروحا على السرير ..حقنة من ماء آخر..يسري باردا في عروقي..يحذرني ..تنطفئ الأنوار..تخلو الغرفة من كل شيء..إلا من ابتسامة سارة التي تعطرني..وحمامة تنقر الزجاج عند مطلع الفجر.
كان مجرد عياء عارض...أنتابك أمس يا وحيد ...تقول الممرضة التي جاءت على غير عادتها في مثل هذا الوقت ..
الغرفة تتوشح بردائها الفضفاض المائل إلى الدم البنفسجي ...تتلو تسابيح ..تلهو بأصابعها قبالة السرير أوراق متناثرة ..لم أعهدها بهذا المكان...تدب في أوصال أسئلة فضولية أسألها:ما هذه العباءة الفضفاضة يا سارة ..وما هذا المجيء الباكر..وما أخبار الأمس.
ما كان يثير إنتباهي في هذه الصبيحة الغير عادية أن الممرضة لم تكن بزي الممرضات ..مما أعطاني حجة وديعة لأن أسأل عن باقي الأيام التي كانت ترعاني فيها أنها لم نكن ترتدي زي الممرضات .كما أنها لم تكن تلتزم بوقت الدوام ، مرة تجيئ متأخرة ، ومرات عددة متقدمة ، وتخرج متأخرة ، لا تحترم الدوام الرسمي .
لم أكن أعرف أو ألحظ ذلك إلا هذا اليوم .
لماذا ، لست أدري ؟ ..
لعل تحسنا طرأ علىجرى دمي ،، الذي يجري في دمي ، أو لعل الخوف من أن أصحو من غيبوبتي ومن سريري المزركش أوقفني في هذه الحيرة ..
تحسبا لهذا الإحتمال ،، أسألها ، ما المانع منأن أفاتحها حتى في أمور أخرى كغياب العربي وعائشة عن زيارتي مذ أن أودعوني في هذه الغرفة ..رقم : 45..
وعن أخبارهم التي انقطعتْ .. وعن المنطاد ،، وهو يعوم في السماء كقمر صناعي ، يلتقط أخبار الدنيا من السماء .
وكزة الحقنة أخف من أن أفاتحها،، وأثقل من أن أتستر على أمر لم أعهده من ذي قبل ،، كل ( البروجيكتورات) ( الأضواء ) كانت مصوبة نحوي ، كأنني في قاعة تعذيب ، أرى الآن حشدا من الصحافين ، وبعض أعوان الشرطة ، يلجون
الغرفة ، كان ذلك بإيماء ة خفيفة من سارة ..
ذهلت لهذا الحشد لم أألفه..
يقترب مني صحافي يبدو عليه عليه العياء ، يسألني عن أسباب سقوط غرناطة ،، عما ذا أعرف عن ولادة بنت المستكفي ، وعن علاقتي بالقديس( سانت أوقستان البربري الجزائري ) المولود ((اشفاست ) سوق أهراس ، وهل حصل لي الشرف أن مرحت معه في شواطئ ( هيبون ) عنابة .
سألني آخر ، يبدو عليه العياء أيضا عن مدى .تعلقي بشارل لافيجري ، وسألني آخر عن سر رقم هذه الغرفة 4 5 وعن مدة إقامتي بها ؟؟ ..
وسألني آخر عن دي فوكو ، وفيافي بني عباس ،، والطوارق ، والطاعون ..
تزاحمتْ علي الأسئلة من كل جانب ، وأنا طريح الفراش ، غصت القاعة بالمصورين ، وأنواع كثيرة من المشروبات ، كنت أجيب من على السرير .
قارورة السيروم ن بزندي الأيمن .. تفرغ محتواها ، قطرة ، قطرة ،، بعروق زندي الأيمن ، يممتُ شطر القبلة ، نهرتني سارة ( لا تتحرك ) تسمرت في مكاني .
قلت : لست فصيح اللسان بالعربية .
رد أحدهم : لكنك كتبت بها شعرا .. تظاهرت بالعياء ، وأن قيئا على مشارف بلعمي ،، أشرت إلى سارة أن تناولني سطلا أفرغ فيه قيئي ، فعلت على جناح السرعة ،، لباسها الفضفاض ، يسرق نظري ، تمدني السطل ..
فعلا كان القيء ينزل من فمي ممزوجا بقيح ود قان يخالطه لون بنفسجي يميل إلى اللون الأصفر ،، تهي لي أنه انعكاس للون فستان سارة البنفسجي .
كانت شهرزاد بحكاياتها تتذدق من فمي ، هي لتي قالت ( لست أنا) : علاقتي بالقديس أغستان تعود إلى يوم رافق فيه فيه عيسى الجرموني شاعر الشاوية الفحل ،، إلى قاعة الأوبرا بباريس ليحيي حفلا هناك ، قدم إليها أوقستان من هيبون مرورا بقرطاجنة والرومان .
يومها كان لي شرف السباحة معه في شواطيء ( هيبون ) حيث صهرتنا صهاريج مركب الصلب والحديد بالحجار ، فتقرحتْ أرجلنا ، يومها لم تكن مدينة عنابة ( عاصمة للنعاس ) وسرد الحكايات ولا مدينة العبث ..بونا ،، مهبط لثلج في عز الصيف ، واختلاط الألوان ، لم يكن بوخضرة ضرة بوحمرة لست أدري لماذا لا أفرق بين هابيل وقابيل ومن أقدم على قتل الآخر ..ولم تكن ( الكمنجة) ( البيضاء ) الثلجية للأستاذ (( حمدي بناني) ضرة تلال غرناطة أو قرطبة ، ولا بقايا فتات بيتهوفن على موائد الشمس الحارقة ، لأزرق يمتد مداه ..فيسحق الثلج وجرذان الطاعون الذي جاء ذات دهر عبر بواخر قادمة من حوض آخر ..
،











































الدمع يجب ُّ ما قبله .

كما للتآخي سراديب المحبة ، للماوراء سراب الدمع ..
الجرح يجبُّ ما قبله .. والوجع أيضا .. أهو ذا وهنك .. واتزانك ، أم هو صفحك ..أفصح ؟...
- لا .. الدمع أولى بأن يجبُّ ما قبله .. وقبله الصدقات والقبلات ..وقبلهما الدمع يتوسد صدقاته ....يتوسد دمعه في الماوراء ..في المآقي التي تمتلئ بالفرح ..حيث يطفو على أديمها رضيع يتأوه فرحا وجوعا ..هو ذا يخرجه من حرجه ، من صفحه ، يزرعه وردا على أديمه الملثم .. يغمسه في الفرح حتى الثمالة .. ثم يمرّغه في وحل المنافي .. يتوضأ وإياه بالماء الآسن ..تحت شجرة الصفصاف المنتصبة قبالة شرفات الدمع تماما ..تغازله .. يرتطم بها .. تأكله الديدان ..
- يسرق همس السنين الجارفة .. يتلعثم ، وهو ينهي وضوءه .. تحفه ملائكة الطهر بالدعوات ، تستدرجه إلى ( القول الحسن ) ينصاع .. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .. ترتعد أوصاله .. يخدش آثامه . يكمل وضوءه ، تحت شجرة الصفصاف ..
- يستحضر المثل الشعبي الشائع ( كما دارت المعزة للعرعار في الجبل يندار لجلدها ) .. يحتمي تحت المثل الشعبي ..تتوارى شجرة الصفصاف ، تفل كما النجم ..
- لا يكمل وضوءه ..
- وحدها الريح ..تعرف مغزي ومعنى المثل الشعبي ، ووحدها تعرف لماذا آفلت شجرة الصفصاف . وتعرف أيضا أن ( ماعز) الجبل عاقر ، وأن الإبتسامة ( عاقر) أيضا ..
- وحدها الأطياف الخجولة ،تعرف أيضا معنى صفح اللهفة في اللهفة ،، واللهاث داخل اللهاث ..
- (قم تر) براعم اللوز (1) تختفي من ( ربرتوارات) الأغاني الأندلسية لأن سقوط غرناطة لم يكن سوى سقوط الدمع من المآقي الملثمة .. ولم يكن سوى جحرا تختبيء فيه الفئران ، هذا ما بدا له ، وهو ( يندندن) مقطعا من هذه الأغنية ..
- -- لا تقلق ، ولا تعلق ، قالت شجرة الصفصاف التي أورقت من جديد.
- على هذه الأغنية ، .. لها رب يحميها .. ولها انكساراتها .. ووحدها الإنكسارات تعرف فجواتها وإيقاعتها ..
- قالت هذه ، واستدارت ...
- سكب الدمع سره وسحره في كأس مترعة بالحرج ..
- وأصناف الأغنيات ..
- أهذا هو عنوان هواجسك .. يا ولدي ..
- قال ثم استدار هو أيضا ..
- بحث عن الهامس هذا في دمعه .. لم يجده ، كانت شجره الصفصاف تغذيه بالرعاية .
- قال : وهل لي أن أكمل وضوئي الذي ما يزال معلقا .
- -- أجله إلى موعد آخر .
- - غير ممكن .
- -- بل ممكن ، وأكثر من ممكن ..
- - لكن من أنت ، لا أراك .
- - طيف في دمعك ..
- لكن من خول لك الحديث بإسمي ، لست من فصيلتي ، ولست من معدني .
- -الدمع معادن يا ولدي ، والصفح أيضا معادن .واصل سيرك ممتشقا فرحك ، قد تكون رعايتي وراءك ، وقد لا تكون ..
- همس ثاني .
- - انصاع ، واسمع قول الشيخ .
- -من تكون .
- - فضولي يا سيدي ...كن شجرا وأطيافا وصفصافا.
- - وهل أورِق مثل الصفصاف ؟
- - حتى تكمل وضوءك .
- - وضوئي أُجّل مثلما تؤجل الأحاجي ..
- -إذن نم قرير العين ، فأنت في رعاية وحفظ دمعك الذي يجب لزوما أن يجبَّ ما قبله ..للوضوء رب يحميه ، لا تقلق ..
- صرخة الجرح أفلت كما الشجرة ، كما النجم ، هوت على روؤس قطط كانت تتوضأ حسب طريقتها الخاصة ،كان يكمل وضوءه وسطط قطط لفظتها أمواج ( المحيط الآطلسي ) عندما قالت غرناطة : أجل يا ولدي الدمع يجب ماقبله ..
- وكان الخيط الأبيض من الأسود يطهر ما في الدمع من آثام .. وعندها أكمل وضوءه بعيدا عن القطط ..
- واستدار هو الآخر ليشرح معنى ( قم تر) لمن لم تلفظه الأمواج .
- هامش /
- 1( قم تر ( أغنية أندلسية .
-
أحمد ختّاوي