الكريعـات بقلم:منصور بسيم الذويب
تاريخ النشر : 2008-03-01
الكريعـات :

شبــه جــزيــرة مـن النـخيــل بقلم/ منصور بسيم الذويب

وغابة من شتلات الحمضيات [email protected]

وجـنة من الأزهـار والظليـات

يخشـى عليـهـا مـن الضـيــاع


منطقة الكريعات ، هذه التي تسحر الناس بجمالها وعذوبة مائها وبساطة وعفوية أهلها ، والتي يحوطها نهر دجلة وتصونها بغداد الخير بحضنها الدافئ ، كانت في الماضي القريب جنة أهلها الطيبين الذين حافظوا عليها وزرعوها خضراوات وبساتين ومشاتل تحوي أشجارا وأزهارا وظليات من أحب ما خلق الله لعباده ، وفواكه وأعنابا وأصناف من الورد والياسمين والرازقي والكاردينيا والشبوي الليلي وغيرها ، وأحلى ما أبدع الله وصور من مناظر الطبيعة ، فإنها اليوم تشكو إلينا جفاء زُرّاعها أصحاب نمائها وقلة مائها أصل حياتها .


نبذة تأريخية بلسان أهلها :



حدثني الحاج حمودي صالح الجبوري بأن هذه المنطقة كانت تسمى ( بالشماسية ) في العهد العباسي ، وهي نسبة إلى ( الشمّاس ) ، وهو خادم الكنيسة ومرتبته دون القسيس ، حيث أقيمت هناك الأديرة وهي دور الرهبان والراهبات ، وقد هاجر إليها جده الثالث عشر ( إبراهيم العلي ) قبل نحو أربعمائة عام قادماً إليها من الموصل في منطقة حمّام العليل من قرية ( أم رمّانة ) المسماة أيضاً قرية ( الكرعة ) ) ، وتسمية الكريعات جاءت من هذه الأخيرة كما يبدو ، أو من الرواية التي مفادها أن هذا الجد ( إبراهيم العلي ) كان كريماً مضيافاً ، وقد حدث أن وضع صينية الطعام الحار على رأسه بانتظار الضيف ، وبقي هكذا ينتظر حتى تساقط شعر رأسه من اثر الحرارة فأصبحت له قرعة ( كرعة ) ، ومن ذلك جاءت تسمية ( الكريعات ) ، وقد استقر أحفاده الخمسة ( علي ) و ( حسين ) و ( فانوس ) و ( هلال ) و ( سهيل ) فيها وشكلوا خمسة أفخاذ رئيسية وهي موجودة الآن بالكامل في الكريعات ، وتشكل معظم أهلها مع الذين عاشوا معهم من عشائر ( بني حمدان ) و ( العبيد ) و (بني سعد ) و ( العزة ) وغيرهم .

الكريعات بأقلام المؤرخين :

أما الدكتور عماد عبد السلام فيذكر في كتيبه ( الأصول التأريخية لأسماء محلات بغداد) المنشور من قبل أمانة بغداد ، أن الكريعات ( تقع في أعلى الجانب الشرقي من شاطئ دجلة، سميت بذلك نسبة إلى عشيرة الكريعات العربية التي نزلت هنا إبّان العصر العثماني) ، ويضيف الدكتور عماد عن منطقة الصليخ : ( كان تعرف في العصر العباسي بإسم (الشماسية) نسبة إلى الشماسية ، وهم خدم الكنائس ، مما يشير إلى كثرة الكنائس والأديرة هناك ) !! ما يحتمل أن خلطاً قد حدث بين الكريعات والصليخ.



وجهـاء الكريعات :

ومن ابرز وجهاء الكريعات المرحوم الحاج ( محمد علي أبو نايلة ) ، كان رئيساً لبلدية الكريعات في الخمسينيات وقام ببناء بناية البلدية بمؤازرة وتعاون أبناء المنطقة آنذاك، وبناء المدرسة الإعدادية بتمويل من البلدية ، وتأسيس شبكات الماء والكهرباء وتبليط الشارع الرئيس مع بعض الأزقة ، فضلاً عن الأعمال الأخرى التي خدم بها أبناء المنطقة .

أما الحاج (عبد الأمير عبدالله الجبوري) فقد تقلد عدة مناصب حكومية ومنذ الخمسينيات ، وهو ثاني خريج كلية في المنطقة ، حيث تخرج من كلية التجارة والاقتصاد عام 1955 ، وقد تفرغ بعد تقاعده من الوظيفة لمساعدة الفقراء من خلال نشاطه في جمعية ( حماية السكان من التلوث البيئي ) التي يرأسها ، وفي مؤتمر تحالف قبائل وعشائر العراق ومؤتمر الوحدة الوطنية ، وهو يدعو الآن للإنضواء تحت مشروع المصالحة الوطنية الذي رفعته الحكومة الحالية ، وشدد على ضرورة توحيد الصف الوطني وإشاعة المحبة بين أبناء العراق عامة والمنطقة خاصة وأن يكونوا إخوة فيما بينهم ينبذون كل ما من شأنه أن يفرق الصفوف ، وأنه على استعداد لإخراج كل هذه التوجهات الطيبة إلى حيز العمل والتطبيق .

أمّا الحاج حسين مجيد رشيد أبو نايلة فقد قام بأعمال طيبة وخدمات لأهالي الكريعات ، وقد جاد في ذلك بمعظم ما يمتلك من مال ، مؤثراً الإحسان والعمل الصالح على نفسه .


الحرف والصناعات اليدوية :

وهذه كلها تعتمد على أغصان أشجار المنطقة وعلى سعفها وخوصها وقصبها ، وهي مثل الزنابيل والحصران والمكانس والشرطان ( وهي الحبال التي تصنع من الحشائش وتلف بها طينة الشتلة ) ، والسلال والأطباق ، وفي الماضي القريب صنعت من سعف النخيل الكراسي والأقفاص والعمّاريات ومفردها عمّارية وهي مظلة يستظل بها الباعة في الأسواق الشعبية.

صناعة السلال والأطباق :

قرب شاطئ نهر دجلة التقيت ( حسين علي كاظم ) و ( نوري حسين ) وهما صانعين للسلال والأطباق ( اطباك ) ودخلنا في حديث ممتع عن صناعة السلال فأفادا بأنها تصنع من أغصان التوت ( التكي ) الطرية والصفصاف والغرب والحيوة ( السفرجل ) والرمان الحلو التي تكون أغصانه خالية من الأشواك خلاف الرمان الحامض ، وهذه الأطباق والسلال تستخدم في بيع الفواكه والخضراوات والسلع الأخرى ، والسلة هي التي تستوعب اقل من خمسة عشر كيلو أما ما يستوعب اكثر من ذلك فيسمى طبقاً ( طبك ) .



العبرة :

وهي الموقع الذي يعبر منه الناس مع حاجياتهم إلى الكاظمية عبر نهر دجلة وبالعكس ، وكان يستخدم منذ عشرات السنين لذلك طوف يشبه جسم ( بودي ) الشاحنة يسمى( الشريمة)

تنقل فيه الحيوانات وأحياناً الأشخاص ، وقد ابطل العمل بالشريمة في أواسط الخمسينيات ، وقد أخبرني الحاج ( حبيب الجبوري ) بأنها كانت تنقل أحياناً السيارات عبر نهر دجلة ببدل نقدي يبلغ عشرين فلساً للسيارة الواحدة ، وتنقل إناث الأبقار لتسفيدها ( تلقيحها ) في الكاظمية ، وكم من مرة انقلبت الشريمة بمن فيها حيث كانت الحيوانات تنجو من الغرق لأنها تحسن السباحة غريزياً ، بينما يغرق أحياناً من معها من البشر ممن لا يحسنون السباحة ، أما القفة ( الكَفة ) ( وهي زورقٌ مقيّر مستدير يستعمل في العراق ) فقد كانت تستخدم هي الأخرى في العبور قديماً وأبطل العمل فيها وبقي الآن الزورق الخشبي ( البلم ) .


العقارات أم المشاتل :

أما الإستثمار في مجال الزراعة والمشاتل فقد بات عند الكثيرين أمراً ثانوياً لمحدودية قطعة الأرض المستثمرة أو لارتفاع كلفة الإنتاج في هذا المجال مما بات لا يسد حاجة ومعاش العائلة بينما أصبح الإستثمار في العقارات يوفر مورداً جيداً يمكن العيش منه ، وهذا يفسر عزوف الكثيرين عن الزراعة وإنتاج الشتلات .

الزراعة ماضياً وحاضراً :



جلست إلى السيد ( صادق جعفر سعد الله ) نتجاذب أطراف الحديث وابتسامته اللطيفة المعهودة تكاد لا تفارقه ، حدثني عن خمسينيات القرن الماضي وكيف كانوا يزرعون الطماطم والخيار والجزر والباذنجان والباقلاء والألمازة ، وكانت المصدر الأساسي لمعيشتهم آنذاك ، فضلاً عن التمور التي ما يزال نخيلها شامخاً لحد الآن رغم تجاوز بعضها الثمانين من العمر ، وفي نحو بداية الستينيات عزفوا عن زراعة الخضروات واتجهوا لإنتاج شتلات الحمضيات والنفضيات ، إضافة إلي الأزهار ونباتات الظل والزينة . كانت المكائن التي تشغل مضخات الماء في الأربعينيات والخمسينيات ــ كما روى لي الأخ ( صادق ) ــ من نوع البلوكي والرستم وهي تعمل بالنفط الأسود وبمكبس واحد ضخم ، يتذكرها سكان الشواطئ وسباحو نهر دجلة بصوتها المتردد الذي ألفوه ودخانها الأسود الطالع من فوهة ماسورة كبيرة ، وما يزال بعضها يعمل لحد الآن ، وقد أستبدلت بالمحركات الكهربائية في الستينيات وأوائل السبعينيات ، أما أنواع النخيل فمعظمه الزهدي والخستاوي وبقية الأنواع قليلة جداً ، وقد زرع أهل الكريعات شتلات الحمضيات تحت ظلال النخيل ، وقد توسع أهلها في عملهم الزراعي هذا حتى قام بعضهم بتصدير فسائل النخيل وشتلات الحمضيات والنفضيات إلى دول الخليج ، فكانت تجارة رابحة طورت هذا النوع من الزراعة ، وللأسف فقد أهملت هذه الزراعة الآن لعدم جدواها الإقتصادية ، فكلفتها أكثر من نفعها ، حتى التمور لا تسد مصاريفها ، لذا فقد انصرف الأهالي إلى ممارسة التجارة والإستثمار في العقارات والعمل في الوظائف العامة ، والبعض منهم ما زال يتأمل أن تعود جنة الكريعات إلى سابق عهدها ، لذا فهم ما زالوا متمسكين بهذا العمل الزراعي تخنقهم العبرة على الأيام الخوالي 0

السكان والمجتمع :



سكان الكريعات من العشائر العربية الأصيلة ، وهم منسجمون متسامحون فيما بينهم ومع الآخرين ، في نفوسهم فطرة الفلاح صاحب الحياء والشهامة والمروءة والحشمة ، يطالعك أحدهم بابتسامة ورغبة في المساعدة تحمل الكثير من المبادئ والمثل العليا والطيبة ، وهم يحبون ويوادون من يحيط بهم من المناطق الأخرى ، يسارعون لإسعاف جارهم إن أصابته محنة أو إن شعروا أنه بحاجة إلى عون أو مساعدة ، طابعهم التدين ، لا ينظر أحدهم إلى داخل بيوت الناس إنما يمضي في طريقه مستقيم النظر لا يتلفت ، تعيش أحياناً أكثر من عائلة في دار واحدة ، لذا فقد أضطر البعض منهم إلى بناء وحدات سكنية إضافية ليستقل بعائلته عن أهله.



المناحل :

هناك الكثير من المناحل في الكريعات وإنتاجها يصدَّر أحياناً ويسوق محلياً ، وقد التقيت هناك بأحد النحّالين الذي حدثني عن ما يسمى بالنحّالة المرتحلة ، وهو أسلوب يشبه ما يمارسه الرعاة عند البحث عن العشب والماء لمواشيهم من ارتحال من مكان إلى آخر طلباً للماء والكلأ ، فالنحّال يأخذ خلاياه إلى الأماكن التي تحوي الأزهار لتنتج عسلاً مجانياً ، والمزارعين يرحبون بذلك لما يحصلون عليه من فائدة ، فإنتاج بعض مزروعاتهم قد يزيد بهذه الطريقة إلى أربعين بالمائة .