نقد عمل فني...مسلسل التغريبة الفلسطينية بقلم:معتصم عوض
تاريخ النشر : 2008-01-24
قررت أن يكون نقدي للعمل الفني "التغريبة الفلسطينية" وهو مسلسل سوري للكاتب الدكتور وليد سيف، والمخرج حاتم علي وهو من ابناء الجولان المحتل. عند الإعلان عن مسلسل التغريبة الفلسطينية، في قناة MBC، وعلى مدار شهر تقريباً، تخيلت من إسم المسلسل الأحداث التي ستجري فيه. إعتقدت أن أحداث المسلسل ستتمحور حول المقاومة الفلسطينية للإحتلال الصهيوني، ومأساه اللجوء والثورة الخ...لكن عند مشاهدتي المسلسل تبين لي أن هذه القضايا كانت أحد محاور المسلسل لكنها ليست الرئيسية.

لقد جسد هذا العمل مرحلة تاريخية مهمة في التاريخ السياسي والإجتماعي والإنساني الفلسطيني امتدت من عام 1932 ولغاية 1967. وقد أبدع هذا العمل من خلال محاكاته لواقع مأساة اللجوء، ودراما التهجير والترحال ومحاولة اللاجئين الإستمرار في البقاء رغم فقر المخيم والصراعات الإجتماعية والسياسية التي مروا بها، و املهم بالعودة، هذا من جهة ومن جهة أخرى رأيت في هذا المسلسل محاكاة لواقع عائلتي التي عاشت هذه التجربة بكل جوانبها، خلال التهجير وبعدة.

بإعتقادي ان مسلسل التغريبة لم يأت بجديد ولم يكشف عن اسرار دفينة، بل وضح بعض الحقائق التي شوهتها الدبلوماسية العامة الإسرائيلية خلال العقود الماضية ، واهمها محاولة تضليل الرأي العام العالمي بأن فلسطين كانت أرض خالية من السكان وأن الفلسطيني باع ارضه لهم. لم يكن هدف المسلسل إيجاد حلول لقضية اللجوء الفلسطينيي، التي عجزت عليه الجيوش العربية، إنما كان الهدف تنشيط الذاكرة الفلسطينية وعمل مخزون قيمي يبقى للأجيال القادمة، بعدما راهن الاحتلال الإسرائيلي على طمس هذه الذاكرة من عقول الأجيال الفلسطينية المتعاقبة.



والواقع ان مسلسل التغريبة الفلسطينية تناول قضية اللجوء الفلسطيني بتوازن وعمق وغلب فية الطابع الانساني على الشعاراتي فإستطاع نقد الذات وتشريح بنية مجتمع اللجوء الفلسطيني لملامسة الحقيقة دون تذرع بهول المأساة من اجل تجميل الصورة. فنرى في المسلسل مفارقات الغنى والفقر .. والكفاح والاستغلال ..والطيبة والقسوة، الخ.. لقد شاهدنا أنفسنا من خلال هذا العمل، لقد جسد الذات الجماعية والكل الوطني.

ما أعجبني في هذا المسلسل أنه لم يسلط الضوء على القضية الفلسطينية في مفاصلها الأساسية أو الكبيرة بتطوراتها الدولية أو الخارجية أو الداخلية، كالعادة، بالقدر الذي سلط فيه الضوء على تلك العائلة الفلسطينية وتفاعلاتها مع محيطها الإجتماعي.

عائلة الشيخ يونس، والكثير من ملامح شخصيات المسلسل، شكلت الاساس الانساني الذي استمدت منه الحكاية جاذبيتها الحقيقية، وجسد أبو صالح، وهو الأخ الأكبر لهذه العائلة شخصية الرجل المناضل، القيادي، المخلص لقديتة، الصبور، الذي حمل هموم الأب قبل أن يكون أباً وعاش المعاناة

الأنسانية بكافة جوانبها النفسية والأجتماعية والأقتصادية قبل التغريبة وبعدها ، و الذي لازم الصمت والهدوء رغم حالة الإحباط والإذلال التي عاشها وهو يصارع من أجل تأمين لقمة عيش أبناءة.

أعتقد أن نجاح المسلسل نتج عن خروجه من بوتقة الثورة والصراع مع الإنتداب البريطاني والإحتلال الإسرائيلي، وإن لم يتجاهلها، وأبرز الصراعات الإجتماعية في صفوف اللاجئين الفلسطينيين من خلال هذه العائلة. فمثلت الصراعات في قرية صالح الشيخ يونس مثالاً تصلح أن تنطبق على كل فلسطين. فهناك صراع طبقي بين البسطاء والفقراء من جهة وبين المختار الإقطاعي وبين الرجل والمرأة، فالمرأة وفي أكثر من مشهد قد تحملت العبء الأكبر في النكبة الفلسطينية، ونرى الصراع العائلي بين العائلات المتنفذة في فلسطين من جهة والصراع بين الشعوب المضهدة وبين المستعمر الغاصب من جهة أخرى.

من أكثر المشاهد التي أثرت في نفسي حي تلك الحالة التي صورت الفلسطيني اللاجئ وهو يقف بالطابور، أمام موظف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأنروا" لأخذ المعونة المقدمة منها. لقد صور المخرج حالة الشعور بالحرج التي عانى منها اللاجئون وهم يفتحوا أيديهم، لأول مرة، لموظف وكالة الغوث المتعجرف، فيصرخ أبو صالح في وجه ذلك الموظف بعد محاولة طويلة على كبح جماح غضبه، يعلنها صرخة مدوية بأنه القائد ابو صالح، ويأخذ الموقف بالتصاعد حتى يصل ابو صالح لمرحله "الا يطاق" فبضرب ذلك الموظف.

ما أدهشني في هذا المسلسل الإبداع في الصورة و العناية الفائقة باللهجة، لهجة أهالي طولكرم، و الزي الفلسطينيي، لقد كان في مقدرة الممثل إتقان اللهجة الفلسطينية في منطقة طولكرم دور كبير في تقريب هذا العمل إلى المشاهد. ومن هنا ، اعتقد ان الكاتب والمخرج رسما كل شخصية بدقة سواء من حيث المظهر الخارجي أو التركيبة السلوكية السيكولوجية حيث خلقا شخصيات حقيقية واقعية حملت كل ابعاد الواقع الاجتماعي للاجئين وغيرهم من حولهم.

إستخدم الكاتب الأسلوب الروائي ببعدية: الحكائي، الذي يبرز من خلال شخصية الراوي ( علي) وهو أحد شخوص العمل؛ ليعلق على الأحداث ، بعرض تفسيري تارة وتارة أخرى بعرض تحليلي. والسردي، الذي جسد عملية الوصف المفصل لكثير من المشاهد والمواقف والشخوص بعيداً عن التفسيرية الحوارية المباشرة.

أما المخرج و من الناحية النظرية حاول قدر الامكان ترجمة النص الذي بين يدية من خلال العناصر الفنية، التمثيل، الملابس، الموسيقا، الديكور، السنوغرافيا، الماكياج، فكل هذه العناصر لابد من ان تسخر لإظهار افكار النص ومحتواه الانفعالي والعاطفي.

من خلال قرائتي للسيرة الذاتية لكلا من الكاتب والمخرج تبين لي أن من أهم أسباب التناغم بينهما في العمل الفني يعود لأنهما عاشا تجربة نزوح مشابهة في للتفاصيل بالاضافة إلى أن المخرج نشأ في مخيم اليرموك وكان منغمسا الى حد كبير في العمل الفلسطيني من نشاط ثقافي وغيره، واعتقد ان كل ذلك وجد لنفسه صدى في التغريبة الفلسطينية، ما ساهم في إثراء العمل والإبداع به.