من أبطال المقاومة الأمازيغية: يارباس (24)بقلم:د.جميل حمداوي
تاريخ النشر : 2008-01-23
من أبطال المقاومة الأمازيغية: يارباس Iarbas ( الحلقة 24)

الدكتور جميل حمداوي

تمهيـــــد:

من سينبش في صفحات التاريخ الأمازيغي القديم باستقصاء عميق ودقة علمية وبحث متأن، فإنه بلا شك سيصادف أثناء قراءة سطور هذا التاريخ العظيم الممتع ملكا أمازيغيا وزعيما أسطوريا قيل عنه الكثير والكثير في المصادر والمراجع التاريخية القديمة والحديثة على الرغم من قلة سطورها المكتوبة على هذه الشخصية الغامضة، واعتبروه أقدم ملك بربري في تاريخ الحضارة الأمازيغية. فقد استقدم هذا الزعيم البربري مجموعة من الفينيقيين إلى حوض البحر الأبيض المتوسط وبالضبط إلى تونس ضيوفا محترمين ونزلاء أعزاء، بعد أن سقط هذا الملك النوميدي عشيقا متيما في حب أميرة فينيقية وهي إليسّا Elissa الأميرة الحسناء الشهيرة التي تلقب كذلك باسم ديدون Didon حسب ما أورده المؤرخ اللاتيني يوستينوس Iustinus في القرن الثاني الميلادي نقلا عن غيره .

إن هذا الملك الأمازيغي الذي تتحدث عنه الآداب الأمازيغية الكلاسيكية هو يارباس Iarbas أو هيارباس Hiarbas ، وتؤشر فترة حكمه السياسي على بداية العلاقات الأمازيغية الفينيقية، وانطلاق الملاحة التجارية وانتعاش التبادل التجاري بين البرابرة والبحارة الفينيقيين الذين سيجعلون من حوض البحر الأبيض المتوسط فضاء اقتصاديا لتعزيز التجارة بين الشعوب المجاورة وتطوير الصادرات والواردات وتعزيز نظام المقايضة واستخدام التبادل النقدي بعد ذلك.

إذا، من هو يارباس؟ وماهي علاقته بالفينيقيين بصفة عامة وأميرة قرطاجة إليسا بصفة خاصة؟ وماهي نتائج هذه العلاقة على المستوى الشخصي والمجتمعي والحضاري والعسكري؟

1/ مـــن هو يارباس؟

يعد يارباس Iarbas أو هيارباس Hiarbas في الدراسات التاريخية القديمة من الملوك الأمازيغيين الأوائل في شمال أفريقيا، كان يحكم مقاطعة تونس، وهو من جذور بربرية ليبية، ومن قادة الجيتوليين الأوائل في بلاد تامازغا، ومن أهم الزعماء النوميديين المرموقين والمحترمين الذين كانت لهم مكانة مدنية ودينية ممجدة.

هذا، وقد اعتبر يارباس عند البعض شخصية أسطورية خيالية ، وعند البعض الآخر شخصية واقعية حقيقية. وعرف يارباس أيضا بكونه راهبا غاتيليا (جيوتيليا) نوميديا، وقد جعل نفسه ابنا للآلهة جوپيتر آمون على غرار مجموعة من القواد الكبار كما هو الشأن بالنسبة للإسكندر الأكبر الذي عد نفسه ابنا للإله اليوناني زيوس . وتروي الأساطير بأن الملك يارباس بنى لأبيه مائة معبد رائع، يشعل فيه النيران ويقدم القرابين والصلوات للإله جوبيتر قصد أن يزوجه من الأميرة الفينيقية الجميلة إليسا.

وتروي الأساطير أن الملك الأمازيغي يارباس أغرم كثيرا بالأميرة الفينيقية إليسا التي جذبته إليها بابتسامتها الماكرة، فاستقدمها يارباس من قبرص توا إلى تونس، بعد أن فرت إليسا من مدينة صور اللبنانية هاربة من بطش أخيها پيگماليون الذي قتل زوجها. فنزلت إليسا مع مجموعة من مواطنيها الأغنياء ومقربيها الأثرياء عند يارباس مكرمين في ضيافته وسعداء في مملكته الواسعة الأطراف . لذا، سمح يارباس للفينيقيين ببناء مدينة قرطاجنة التي صارت من أكبر العواصم المتمدنة والمتحضرة اقتصاديا وعمرانيا وبشريا في شمال أفريقيا .

2/ يارباس والفينيقيون:

من المعروف أن الفينيقيين كانوا يسكنون بين جبال لبنان وساحل البحر الأبيض المتوسط، وقد أسسوا بقعة تسمى بفينيقيا، واتخذوا مدينة صور عاصمة لهم. ومن ثم، فالفينيقيون هم " سكان الجبال في بيت لحم وحبرون(الخليل) أصلا، ثم انتقلوا شمالا إلى صور وصيدا وجبل لبنان، لهذا امتلكوا الخصائص الجبلية والبحرية. وكان الفينيقيون يتحدثون بالكنعانية . فالفينيقية تساوي الكنعانية."

واستند الفينيقيون إلى إدارة منظمة ونظام سياسي محكم ، وقام اقتصادهم على رأسمالية تجارية احتكارية تقوم على المقايضة وجمع الأموال وتكديس الثروات العظيمة بفضل حبهم للتجارة وجمع الأرباح الطائلة. وشيدوا أسطولا بحريا متعدد القطع والسفن، وانطلقوا به يمخرون عباب البحر الأبيض المتوسط في رحلات تجارية وبحرية واستكشافية كرحلة حانون Hannon ورحلة حاملكون، وشيدوا عدة مدن ساحلية ، وأسسوا ثلاثمائة مركز تجاري في ليبيا وحدها، كما أرسوا مراكز تجارية أخرى في تونس والجزائر والمغرب ، وهنا نذكر: مدينة قرطاجنة، وسوسة ( Hadrumete)، وتونس ( Tunis )، وبنزرت (Hyppo Diarrhytus )،وإيكوسيم (الجزائر العاصمة)، وسكيكدا، وشرشال، وسوق هراس، وتبسة، وعنابة ( Hippone)، ومليلية (Rusaddir ) ، وطنجة ( Tingis ) ، والعرائش( Lixus)، والمهدية (Thimiaterion )، والصويرة ( Coricon Teichos)، وأگادير.

وقد انتقل الفينيقيون من نظام المقايضة التجارية إلى سك النقود الخاصة بهم، ووضعوا أولى أبجدية في تاريخ الإنسانية تأثرت بها الكتابة اليونانية والرومانية والأمازيغية وسائر الكتابات الموجودة في تلك الفترة من التاريخ قبل ميلاد المسيح بسنوات كثيرة. ويقول المؤرخ الجزائري عبد الرحمن الجيلالي بأن البربر أقبلوا على اللغة الكنعانية الفينيقية، " عندما وجدوا ما فيها من القرب من لغتهم وبسبب التواصل العرقي بينهم وبين الفينيقيين".

بيد أن أهم حدث يهمنا في هذا الصدد هو بناء الفينيقيين لأكبر مستعمرة في أفريقيا وهي قرطاجنة سنة 883 أو 813 قبل الميلاد حسب روايات تاريخية أخرى. ولكن السؤال المطروح كيف انتقل الفينيقيون إلى قرطاجنة؟ ومن سمح لهم بالاستقرار داخل هذا الفضاء الأمازيغي؟ وما علاقة الملوك الأمازيغيين بالفينيقيين ونذكر على سبيل الخصوص الزعيم البربري يارباس؟

يمكن أن نحدد أربعة أسباب لهذا الانتقال الفينيقي للاستقرار في قرطاجنة بتامازغا، فالسبب الأول يتجلى في الصراع الأخوي حول الحكم بين الأميرة الفينيقية إليسا وأخيها پيگماليون حول امتلاك السلطة والحكم، لذا اختارت الفرار من بطش أخيها الذي قتل زوجها سيشارباس ، واصطحبت معها مجموعة من الفينيقيين الأغنياء. ويكمن السبب الثاني في التضخم السكاني الذي أصاب المدن اللبنانية بعد ازدهارها وتحسن مستوى معيشة السكان وتطور الاقتصاد اللبناني في تلك الفترة من حكم الفينيقيين؛ مما فرض على الساكنة الفينيقية ضرورة البحث عن منافذ أخرى واكتشاف مجالات حيوية صالحة للحياة والبقاء.

ويتجلى السبب الثالث في قصة عاطفية رومانسية أسطورية بين يارباس والأميرة إليسا التي أظهرت له ابتسامة حب وحرشته وجدانيا بضحكة العشق والهوى. لذا، رجا يارباس الفينيقيين للاستقرار بين إخوانهم الأمازيغيين داخل مملكة قرطاجنة رغبة في التقرب من العشيقة إليسا تمهيدا لطلب الزواج منها.

أما السبب الرابع فينحصر في حاجة الأمازيغيين إلى معونة الفينيقيين في مجال التجارة وتطوير الاقتصاد ولاسيما الفلاحي منه بالإضافة إلى تنمية المعارف والفنون وتعلم طرائق الكتابة وخوض الحروب ." وبالفعل كان الأمازيغيون في حاجة إليهم في مايصنع من الأدوات والآنية والملابس وغير ذلك. ومما لاشك فيه أن الأمازيغيين عرفوا فينيقيين آخرين قبل إليسا ومرافقيها، وأنهم تعاملوا معهم في المبادلات. وما قدوم ديدون وتأسيس قرطاجة حوالي 814ق.م إلا تكريس لعلاقات سابقة بين مجتمع رعوي انتجاعي وبين وفود من التجار والصناع. ".

ويقول محمد محيي الدين المشرقي في كتابه القيم:" أفريقيا الشمالية في العصر القديم" بأن" جماعة من الفينيقيين هاجروا من مدينة صور(Tyr ) سنة480 ق.م، وعلى رأسهم الأميرة عليشة(Elissa)، وقد فرت من سيطرة أخيها پيگماليون Pygmalionحاكم بلادها المستبد الذي قتل زوجها لانتزاع الحكم من يده، ومنهم من يعتقد أن الجالية المذكورة لم تغادر مدينة صور، إلا لأنها ضاقت بعدد سكانها المتزايد يوما بعد يوم.

وسواء أصحت هذه الأسطورة المأخوذة عن الشاعر اللاتيني ڤرجيل ( Virgile ) - في ملحمته الإنيادة- أم لم تصح، فإن الأقدار حملت تلك الجماعة من المهاجرين حتى ألقوا عصا التسيار بالساحل التونسي وبنوا به مدينة سميت" قرطاجنة" بمعنى المدينة الجديدة ( Quart Hadacht ) الهائلة التي لازالت بعض أطلالها ماثلة العيان إلى حد الآن..."

ويورد الباحث أيضا في هذا السياق التاريخي الخاص بشخصية يارباس الرواية الرومانسية التي أدت بالفينيقيين إلى المكوث ضيوفا مكرمين في قرطاجنة ، ومضمون هذه الرواية التي اعتبرها المؤرخون قصة حكائية أسطورية :" أن الأميرة عليشة ( إليسا) رغب في التزويج منها ملك القبائل البربرية" يارباس" صاحب البلاد التونسية غير أنها كانت ترغب في غيره... ووقع أن تركها عشيقها ونزح عن البلاد فاغتمت لذلك عليشة ولم تر إلا الموت يخلصها من موقفها الحرج، فسددت السهم في صدرها وقتلت نفسها بنفسها... إما خوفا من أن تسقط في يد ملك البربر وإما غما وأسفا على عشيقها الأول!"

أما هذا العشيق الذي ترك إليسا وحيدة هائمة متيمة فهو البطل إيني Enée، ذلك القائد المغوار الوسيم الذي غادرها متجها حيال إيطاليا لبناء مدينة روما كما يشير إلى ذلك الشاعر الروماني ڤرجيل في إنيادته الخالدة.

وتذكر الوثائق التاريخية القديمة أن يارباس قد منح الأميرة الفينيقية إليسا قطعة صغيرة من الأرض ليستقر فوقها المواطنون الفينيقيون مقابل إتاوة سنوية اتفق حولها الطرفان: الفينيقي والجيتولي . وبذلك، تكون إليسا قد ارتاحت من تسفارها الطويل وتعراجها اللامحدد، بعد أن عانت الأميرة الكثير في تنقلاتها من صور إلى قبرص، وهي تبحث عن مكان آمن يحميها من هجمات العداة الذين يترقبونها كيدا ويتتبعونها غدرا. لذا، اختارت أن تستقر بقرطاجة الشاطئية احتماء من كل مكروه قد يحدق بها. لكن الفينيقيين سيوسعون هذه القطعة الأرضية لتصبح من أكبر المدن الساحلية في شرق البحر الأبيض المتوسط حضارة وتمدينا وقوة عسكرية.

وتذكر المصادر التاريخية بأن يارباس لم يكن الزعيم الوحيد الذي كان يحب إليسا حبا جنونيا، بل كان هناك مجموعة من الملوك البرابرة في شمال أفريقيا كانوا يشاركونه في حبه ، ويتواددون إلى إليسا عشقا ومحبة وزواجا، ونذكر من هؤلاء المنافسين الملك البربري يوفاس أو يوپاس أو يوفان Iopas، بيد أن إليسا لم تمل إلى إلى هؤلاء الملوك البرابرة العشاق ، بل كانت تميل بكل جوانحها إلى الذي كانت تحبه حبا كثيرا وترتاح إليه نفسانيا وعاطفيا ووجدانيا، وهو البطل إيني Enée اللاتيني إذا صحت أساطير ملحمة "الإنيادة " الخيالية، وما تذكره الروايات الأدبية الأمازيغية من أحداث تتعلق بالملك يارباس العشيق.

إضافة إلى هذا، فقد تأثر البربر أيما تأثر بالحضارة الفينيقية أولا وبالحضارة القرطاجنية ثانيا. " وليس من شك في أنه كان لمثل هذه النهضة أكبر الأثر على نشر اللغة والتقاليد وكثر من مظاهر الثقافة والحضارة الفينيقية في البلاد البربرية، وهي مظاهر شرقية، مصرية وإغريقية في الغالب. فقد سجل التاريخ أن القرطاجنيين"كان لباسهم شرقيا بحتا، فكانوا يرتدون الجبة الطويلة ذات الأكمام الواسعة عامة، وكانوا يضعون على رؤوسهم القلنسوة ويلبسون معطف السفر".

كما أن البربر شاركوا في بناء حضارة قرطاجة، وشكلوا نواة الجيش القرطاجي، وخاضوا معهم حروبا قاسية ضد الرومان، وانصهروا في المجتمع الفينيقي القرطاجني انصهارا كبيرا، وتمثلوا عاداتهم وتقاليدهم. وكان الفينيقيون أثناء استقرارهم في قرطاجة يدفعون الإتاوة السنوية وبعض الضرائب المتفق عليها للملوك الأمازيغيين مقابل الاستقرار في هذه البلاد الغنية.

" ومع مرور الزمن توطدت العلاقات بين الأهالي البربر وسكان المدن البونيقية. فقد انبهر الأمراء النوميديون الذين أقام عدد كبير منهم في قرطاج بحضارتها، وتزوجوا بنات طبقاتها النبيلة، وسموا أبناءهم بأسماء قرطاجية، وعبدوا آلهتها السامية، وحرضوا رعاياهم على العمل بأساليب ماغون الفلاحية".

وهكذا، نستنتج بأن البرابرة استفادوا كثيرا من القرطاجيين في مجالات اقتصادية عدة، و قدسوا معبوداتهم، وتزيوا بأزيائهم، وتمثلوا طقوسهم الاحتفالية ونواميسهم الاجتماعية، واستوعبوا حضارتهم المتمدنة أيما استيعاب، فوظفوها في بناء حضارتهم التي كانت تسمى في حوض البحر البيض المتوسط بالحضارة الأمازيغية أو بالحضارة البربرية.

3/ يارباس والقرطاجيون: بين التعاطف والتنافر:

وإذا كان يارباس قد تعامل مع الفينيقيين القرطاجنيين معاملة حسنة، فإن الضيوف الجدد بدأوا يعاملون الأمازيغ معاملة سيئة فيها نوع من الجور والحيف والإقصاء والعدوان، فبدأ القرطاجنيون يتخطون نطاقهم الحدودي ويفكرون في التوسع على حساب الساكنة البربرية. هذا ما جعل يارباس يعلن الحرب ضد القرطاجنيين. وقد يكون هذا الفعل السلوكي المقاوم الذي استخدمه يارباس ضد القرطاجيين سببا من الأسباب غير المباشرة في اندلاع الحروب البونيقية التي خاضها القرطاجنيون مع الرومان، كما أن رفض إليسا لطلب الزواج الذي تقد م به الملوك الأمازيغ كان من الدواعي التي أججت الحقد في نفوس الملوك المحليين لمناهضة التوسع القرطاجني في شمال أفريقيا.

ويقول المؤرخ المغربي محمد شفيق في هذا السياق بأن:" تأسيس قرطاجنة وغيرها من المراكز التجارية الفينيقية الأخرى على ساحلي أفريقيا الشمالية ستكون له مضاعفات لم يكن الأمازيغيون يريدونها، ولم يتصرف القرطاجنيون التصرف الكفيل بتلافي وقوعها ، أو باحتواء مفعولها. لقد ظلت العلاقات طيبة بين القرطاجيين ومضيفيهم مادام دورهم ينحصر في التبادل والمتاجرة، أي طوال ثلاثة قرون ونيف. ولما أخذت أنظارهم تتجه إلى الأراضي الداخلية، وصاروا يستعمرون المنطقة المحيطة بمدينتهم، وتغير الوضع شيئا فشيئا، ابتداء من أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وليس من المجازفة أن يقال إن التعاون الأمازيغي القرطاجي، لو بلغ مداه في المجالين السياسي والحربي، كما بلغه في المجالين التجاري والثقافي، لغير مجرى التاريخ قليلا أو كثيرا.

لكن واقع الأمر هو أن التعايش السلمي انقضى عهده بسبب رغبة قرطاجة في التوسع خارج مجالها البحري الذي منحت إياه عن رضى. فنشبت بينها وبين الأمازيغيين تحرشات ابتداء من مطلع القرن الرابع قبل الميلاد. فحاصروها حصارا شديدا سنة 396ق.م. واستغل الصقليون كل فرصة لإغراء أحد الطرفين بالآخر. ".

ونفهم من هذا، أن سياسة التوسع التي نهجتها حكومة قرطاجة على حساب الساكنة البربرية أدت إلى إشعال فتيل تمرد الجيش البربري عن السلطة القرطاجية الحاكمة ، ونشوب مجموعة من التحرشات العدائية وقيام المعارك بين الجانبين أدت إلى اندلاع الحروب البونيقية التي كان فيها الأمازيغيون طرفا بارزا وشريكا أساسيا. ومن هنا، يمكن الحديث عن البوادر الأولى للمقاومة الأمازيغية ضد التواجد الفينيقي القرطاجي والتي شارك فيها الملك الأمازيغي يارباس بشكل ما.

ويعني هذا أن سياسة التعايش والتعاطف انقلبت إلى عدوان وصراع جدلي ومقاومة مع الزعماء البرابرة الذين لم يرضوا بسياسة التوسع على حساب الساكنة المحلية. ومن هنا، فقد " تطورت التحرشات إلى عداء وتباغض، فثار على قرطاجة جيشها، المؤلف في أغلبيته من البربر، بقيادة ماظوس Mathos سنة 241ق.م، ولم تعد المياه إلى مجاريها إلا بعد ثلاث سنوات من التناحر، سيطرت إثرها قرطاجة على الموقف. فشارك الأمازيغيون في الحرب ضد روما- الحرب البونية الثانية- وحقق حنبعل، بفضل قوتهم الحربية، انتصاراته الخالدة، في شبه الجزيرة الإيطالية. فلم يخف على الرومان دور البربر في تلك الانتصارات كما يشهد على ذلك قول تيتوس ليڤيوس TiTus Livius :" إن سيوف النوميدين هي التي فصلت الفصل النهائي في معركة قناية Cannee . لكن الأحقاد بين الأمازيغيين والقرطاجيين كانت قد تسربت إلى أعماق النفوس: فاستغلها الرومان بحنكتهم المألوفة ووجدوا طريقهم إلى الاحتلال التدريجي لمناطق أفريقية الشمالية المحاذية للساحل المتوسطي وما اتصل بها من الأراضي الداخلية، كما هو معلوم."

ونصل من هنا إلى أن علاقة القرطاجنيين بالأمازيغيين كانت تتسم بالتعاطف والتعايش في بداية أمرها لتنتقل إلى علاقة عدوان وتنافر وتحرشات عدائية.

وعلى الرغم من ذلك، فقد كان القرطاجنيون بالنسبة للأمازيبغين أرحم بكثير من الرومان المتوحشين والوندال الهمجيين والبيزنطيين المجرمين. إلا أن الأمازيغيين لم يعرفوا الاستقرار الحقيقي والتمدن الفعلي إلا بدخولهم في الإسلام مع الفتوحات العربية التي شرقت وغربت لتخرج الساكنة البربرية من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهداية .

خاتمــــة:

يتبين لنا من خلال هذا العرض الوجيز أن يارباس من الملوك الأمازيغيين الأوائل الذين استقروا بشمال أفريقيا أو من الزعماء البرابرة الذين سكنوا تامازغا. و" تخبرنا المصادر المصرية بأنه كان للأمازيغيين الليبيين ملوك، في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد." لذا تشير بعض المصادر اللاتينية إلى ملكين مهمين في تاريخ ليبيا الأمازيغية وهما: يارباس ويوفاس.

وعلى الرغم مما قيل عن شخصية يارباس من قصص رومانسية وحكايات أسطورية ، فإنه أول ملك يعطي الضوء الأخضر للأجانب لكي يستقروا في وسط الأمازيغ، كما فعل مع الفينيقيين الذين تمثلهم أميرتهم إليسا.

وقد مكن انفتاح الشعب البربري على الحضارة الفينيقية والانصهار في المجتمع القرطاجني أن يبني حضارته الخاصة به، وأن يفيد الآخرين ويستفيد منهم، واستطاع بفضل هذا التعايش والاندماج أن يستوعب جميع التناقضات ، وأن يتمثل إيجابيات الحضارات المجاورة الشرقية والغربية الموجودة في حوض البحر الأبيض المتوسط كالحضارة اليونانية والحضارة الفينيقية والحضارة القرطاجنية والحضارة الفرعونية والحضارة الرومانية.

بيد أن سياسة التعايش التي كانت تتحكم في علاقة القرطاجنيين مع البرابرة سرعان ما تحولت إلى صراع وعداء بسبب سياسة التوسع التي نهجتها حكومة قرطاج؛ مما جعل يارباس وتابعيه من الملوك النوميديين يستبدلون سياسة التعاطف والمهادنة بسياسة المقاومة والتصدي للدخلاء.

ملاحظــــة:

جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور، 62002، المغرب؛

[email protected]

www.jamilhamdaoui.net

www.jamilrifi.net

الهوامش:

- محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام، للنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى ، 1989م، ص:24؛

- عز الدين المناصرة: المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، دار الشروق،عمان، الأردن، الطبعة أولى سنة 1999م، ص:83؛

- عبد الرحمن الجيلالي: تاريخ الجزائر العام، دار الثقافة، طبعة رابعة، بيروت، 1980م، ص:30-141؛

- محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام، للنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى ، 1989م، ص:24؛

- محمد محيي الدين المشرفي: أفريقيا الشمالية في العصر القديم، الطبعة الرابعة، 1969من دار الكتب العربية، ص:40؛

- محمد محيي الدين المشرفي: أفريقيا الشمالية في العصر القديم، الطبعة الرابعة، 1969من دار الكتب العربية، ص:40( الهامش)؛

- محمد مجدوب: (أشواط من مقاومة أهل المغرب القديم في الفترة المورية)،المقاومة المغربية عبر التاريخ أو مغرب المقاومات، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الرباط، الطبعة 1، 2005م،ص:138؛

- د.عباس الجراري:الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، الجزء الأول، مكتبة المعارف، الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1982م،ص:23؛

- د. العربي أكنينح: في المسألة الأمازيغية، أصول المغاربة، مطبعة آنفو برانت ، الليدو – فاس، الطبعة 1، 2003م،ص:12؛

- محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام، للنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى ، 1989م، ص:24؛

- محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام، للنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى ، 1989م، ص:25؛

- محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام، للنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى ، 1989م، ص:24.