خصائص الهجاء في شعر بشار بن بـرد بقلم: أحمد الظرافي
تاريخ النشر : 2007-12-10
بشار بن برد (96 - 168هـ ) شاعر مولد ، يكنى أبا معاذ ، وهو - فارسي الأصل ، عربي النشأة والولاء - يعتبر من كبار الشعراء المخضرمين ، فقد عاش جزءا من حياته في أواخر عهد الدولة الأموية ، وعاش شطرا منها من صدر الدولة العباسية . نشأ في بادية البصرة في حجور مواليه بني عقيل ، وهو أحد المطبوعين الذين لا يتكلفون الشعر ولا يتعبون فيه، وقد جعله الجاحظ على رأس طبقة الشعراء المحدثين، وقدمه ابن رشيق على سائر الشعراء، وفضلا عن ذلك كان من الخطباء .

" جيد الشعر حسنه، خبيث الهجاء، عجيبٌ في تشبيهاته وهو أعمى، وسبق إلى ابتكار كثير من المعاني والتي أخذها عنه بعض الشعراء، وكان عهده فاتحة لشعر البديع الذي بلغ ذروته على يد أبو تمام حبيب بن أوس الطائي "

" وكان بشار رجلا حاد الطباع سيء الخلق ، متبرم بالناس مفطور على استعدائهم ، متقلب المزاج سريع الاستجابة لما حوله شديد الانفعال، يمكن أن يثور لأقل الأسباب "

" وكان دميم الخلقة، ضخم الجسم، طويلا، جريئا في الاستخفاف بكثير من الأعراف والتقاليد، نهما مقبلا على المتعة بصورها المتعددة الخمر والنساء والغناء...وكان بشار إلى جانب جرأته في غزله يهجو من لا يعطيه ".

" بل شهر الهجاء بوجه عامة الناس والسوقة ، والدهماء بل وتجاسر على الكبراء والقادة والرؤساء فهجا عظام الدولة العباسية وأشراف الناس والخليفة المهدي ووزير ابن أبي داؤد . ولم يسلم العلماء والنحاة من هجاء بشار فقد عرّض بالأصمعي وسيبويه والأخفش وواصل بن عطاء "

ولشعر بشار بن برد بشكل عام وفي مجال الهجاء بشكل خاص سمات وخصائص فنية عديدة اتسم بها ، وأضفت عليه طابعا فريدا في نهجه وفي موضوعه ، ويمكن حصر خمسا من تلك الخصائص وهي : السخرية اللاذعة ، والتذييل بالحكم والأمثال ، والنزعة الشعوبية ، والاقتران بالفخر . وقصر المقطوعات .

أولا: السخرية اللاذعة:

أضفى بشار بن برد على شعره الهجائي ألوانا من السخرية اللاذعة بالمهجو ، والتي تزيد من مهانته والتشنيع به، فهو لم يكتف بذم المهجو وتجريده من الفضائل والخصال الحميدة، وإلصاق النقائص به، إنما زاد على ذلك بأن رسم بشعره شخصية عجيبة وغريبة للمهجو تثير الاشمئزاز أو الضحك، على نحو قوله في هجاء عبيد الله ابن قزعة - وهو أبو المغيرة أخو الملوي المتكلم - وهذا من هجائه المقذع الخبيث ومن التجديد في المعاني الذي حسب له - :



خليلي من كعـبٍ أعينا أخاكمـا

على دهـره إن الكريمَ معينُ

ولا تبخلا بخـل ابن قزعة إنّـهُ

مخافـة أن يرجى نداه حزينُ

إذا جئتهُ في الخلق أغلق بابـهُ

فلـم تلقـهُ إلا وأنت كميـنُ

إذا سلـم المسكيـن طار فؤادهُ

مخافةَ سؤلٍ ، واعتراه جنونُ

كأن عبـيد الله لـم يـر ماجدا

ولم يدر أن المكرمات تكونُ

وفي هجاء ابن قزعة يقول أيضا :

بجـدّك يا بن قزعة نلت مالا

ألا أن اللئـام لهـم جـدودُ

ومن حذر الزيادة في الهـدايا

أقمت دجاجة فيـمـن يزيـدُ

فبشار هاهنا – وهذا من التجديد الذي حسب له أسبقية فيه – لم يكتف بإلصاق صفة البخل بابن قزعة ، ولكنه تجاوز ذلك بأن أقذع في وصفه ، وشنع به أيما تشنيع ، ورسم له صورة تثير السخرية والاستهزاء والعجب فهو من ناحية – أي المهجو - في حزن وتجهم دائم ، خوفا من أن يقصد جنابه أحد لنيل عطائه ، وهو – من ناحية ثانية - يغلق بابه في وجه ذوي الحاجات – إن هم قصدوه –ولا يستطيع أحد منهم أن يلقاه – لفرط حذره واعتزاله الناس – إلا وهو كمين ، وإذا حدث أن صادفه مسكين وسلم عليه طار فؤاده وخرج عن طوره وتظاهر بالجنون خوفا من أن يسأله هذا المسكين حاجة . وهذا ديدنه دائما حتى كأنه لم ير رجلا كريما ماجدا في حياته بل وكأنه لا يعرف أن هناك شيء أسمه الكرم .

ومن باب تلك السخرية اللاذعة قوله أيضا يهجو مسعودا :



وسائلٍ عن يدي مسعود قلت لهُ

هو الجوادُ ولكن ليس في الجودِ

غيثُ الروابي إذا حلت بساحتهِ

وآفة المـالِ بين الزقِ والعـودِ

ثانيا: التذييل بالحكم والأمثال:

مما يميز سعر بشار بن برد أن كثيرا من أهاجيه المقذعة تأتي أحيانا مذيلة بالحكمة والمثل . نحو قوله يهجو محمد بن العباس :



ظل اليسار على العباس ممدودُ

وقلبـه أبـدا بالبـخل معقـودُ

إن الكـريم ليخفي عنك عسرته

حتى تـراه غنيا ، وهو مجهودُ

وللبـخيـل على أمـواله عللٌ

زرق العيـون عليها أوجه سودُ

إذا تكرهت أن تعطى القليل ولم

تقدر على سعةٍ لم يظهر الجودُ

أورق بخيـرٍ تُرجى للنوال فما

ترجى الثمارُ إذا لم يورق العودُ

بث النـوال ولـم تمنـعك قلتهٌ

فكل ما سد فقـرا فهو محمـودُ

فهذه الأبيات وإن كان موضوعها الهجاء إلا أنها تميل نحو الحكمة، كما أن قوله " زرق العيون عليها أوجه سود " " فكل ما سد فقرا فهو محمودُ " كل منهما تذييل يجري مجرى المثل.

ومن ذلك أيضا قوله يهجو بني سدوس :



كأن بني سـدوسٍ رهـط ثـورٍ

خنافس تحت منكسر الجـدارِ

تحــرك للفخـار زبـائنـيها

وفخـر الخنفساء من الصغارِ

فقوله " وفخر الخنفساء من الصغار " تذييل جارٍ مجرى المثل. ونفس الشيء يقال بالنسبة لقوله " إن الكريم معين " في مطلع الأبيات السابقة التي قالها في هجاء ابن قزعة .

ويعتبر هذا – بجانب قصر المقطوعات - من عوامل ذيوع شعره وانتشاره في الآفاق وجريانه على السنة الناس . وكثرة التذييل بالحكم والأمثال في شعر بشار يدل على " كمال العقل وكثرة التجارب ودقة الحس وشدة الملاحظة وصفاء الذوق وتمام الرشد "

ثالثا: النزعة الشعوبية:

وهي نزعة نجمت عن كونه فارسي الأصل وأودت به إلى أن يقف موقفا عدائيا حاقدا ضد العرب والإسلام ، وضد كل ما يمت لهما بصلة ، فقد كان بشار بن برد شعوبيا زنديقا متشبعا بالتعاليم المانوية ، وكان يميل إلى التفكير الحر ، ويأخذ بالشك والجبر وقد أورثته عاهته تبرما بالناس ونقمة عليهم " بل ولقد كان جريئا على التعاليم الإسلامية والتقاليد العربية ، وكان : يجد في هذه الجرأة متنفسا للتعبير عن حقده على العرب والتشنيع بعاداتهم والسخرية من أحوالهم، الذين جاءوا بالدين الإسلامي وقضوا على حضارة أبائه وأجداده الفرس من جهة وللتعبير عن من جهة أخرى عن نقمته على الأقدار التي أبتلتهٌ بعاهة العمى منذ ولادته "

وقد نفى البعض عنه تهمة الزندقة غير أنه – في أحسن الأحوال - كان شيعيا يجاري الرافضة في العديد من الأقوال منها قوله بكفر الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقوله برجعة الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة .

ومن أهاجيه التي تكشف عن زندقته بشكل لا لبس فيه قوله مصوبا رأي إبليس في تقديم النار على الطين :

إبليسُ خيـرٌ من أبيكـم آدمٌ

فتبينـوا يا معشـر الفجار

أبليس من نارٍ ، وآدم طينةٌ

والطين لا يسمو سمو النارِ

أما أهاجيه التي تكشف عن شعوبيته فمنها قوله في هجاء من افتخر من الأعراب:

أحيـن كسيت بعد العري خزاً

ونادمت الكـرام على العقـارِ

تفـاخـر يابن راعيـةٍ وراعٍ

بني الأحرار حسبك من خسارِ

وكنـت إذا ضـمئت إلى قراحٍ

شركت الكلب في ولغ الإطـار

فبشار بن برد في هذه الأبيات يعبر عما في نفسه من حقد وكره تجاه العرب ، وهو يتخذ من هجائه لهذا الأعرابي منطلقا ومتنفسا لذلك ، فهو يذكر الأعرابي بماضيه الذي لم يكن ناصعا – بطبيعة الحال - ويعيبه به وبحياته البدوية الخشنة والعفنة في الصحراء ، والتي كان فيها راعيا للغنم ، وشبه عار من الثياب والتي لا يجد ما يلبس منها ، ويشارك الكلب في الشرب من إناْ واحد ، ويسخر من التحول الذي طرأ على حياة الأعرابي فأصبح يعيش في ترف وبحبوبة ، حتى انتهى به الأمر إلى منافسة بني الأحرار – أي الفرس – والذي يعتبر بشار واحدا منهم .

ومن هذا الضرب قوله أيضا – ويبدو أنه يهجو نفس ذلك الأعرابي – :

أتـذكـر إذ ترعى على الحق شاءهم

وأنت شريك الكلب في كل مطعم

وتلحس ما في القعب من فضل سؤرهِ

وقد عاث فيـه باليـدين وبالفـمِ

رابعا: الأقتران بالفخر:

عرف بشار بن برد بعصبيته لأصوله الفارسية، ومبالغته في الإشادة بنسبه، واعتزازه الشديد بقوميته،

ومن ذلك قوله في هجاء باهله :

ودعــاني معشــرٌ كلهـمُ

حُمُقٌ دام لهــم ذاك الحُمُـقْ

ليس من جـرمٍ ولكن غاظهم

شـرفي العارض قد سد الأفقْ


خامسا: قصر المقطوعات:



إن بشار بن برد في كثيرٍ من شعره الهجائي الذي اشتهر به وتفوق فيه يكتفي غالبا بما قل ودل من الأبيات والتي عادة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة بل وفي كثير من الأحيان يكتفي بالبيت أو البيتين أو الثلاثة فقط طالما وهي تؤدي الغرض وتفي بالمقصود منها ، وقد كانت كذلك بالفعل ، فقد كانت قصيرة لاذعة ، وهذا يعكس عمق ثقافة بشار بن برد ، وإلمامه بأصول الفصاحة العربية ، وأصالة اللسان العربي ولا غرابة في ذلك فهو ربي في مهد عربي وتخرج من البادية ومن حجور بني عقيل - بالتحديد - وذلك بعد أن أتقن العربية وتمثل سليقتها بكل مقوماتها . وكانت تلك هي سجية الفصحاء من العرب فقد سأل أعرابي : مالك لا تطيل الهجاء ، فقال : يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق ، وسأل آخر : لم لم تطيل الهجاء ، فقال : لم أجد المثل السائر إلا بيتا واحدا "

ومن الشواهد على ذلك – فضلا عما ورد في سياق هذا الموضوع - قوله في هجاء سويد وتولب :

عددت سويدا إذ فخرت وتولبا

وللكلب خير من سويد وتولبِ

وقال في هجاء عمرو بن العلاء التميمي – النحوي المعروف -

أرفـق بنسبة عمرو حين تنسبه

فإنـهُ عـربي مـن قـواريـرِ

مـازال في كيـر حـدادٍ يردده

حتى بـدا عربيـا مظلم النـورِ

إن جـاز آباؤه الأنذال من مضرٍ

جازت فلوس بخارى في الدنانيرِ