الفرح الفلسطيني: من عرس الجليل إلى عرس النتيل بقلم:رجب ابو سرية
تاريخ النشر : 2007-10-28
الفرح الفلسطيني: من عرس الجليل إلى عرس النتيل



رجب ابو سرية



قبل نحو خمسة عشر عاماً تقريباً نجح المخرجان السينمائيان السوريان الكبيران محمد ملص وأسامة محمد، استناداً الى كونهما عضوين في ادارة مهرجان دمشق السينمائي، في دعوة المخرج الفلسطيني المبدع ميشيل خليفي للمشاركة في عرض أفلامه، ولكن على هامش المهرجان!

حيث كانت تعقيدات السياسة تحول دون حتى عرض فيلم أسامة محمد نفسه، الذي كان قد فاز بجائزة قرطاج في تونس، والمنتج من قبل المؤسسة العامة للسينما في سورية "نجوم النهار" الا على هامش المهرجان، الذي يعتبر مناسبة تعقد دورياً كل عامين، في دور السينما السورية نفسها! عرض ميشيل خليفي في تلك الدورة، او بمعنى أدق على هامشها، اي خارج اطار المسابقة، وخارج دائرة المساءلة الرسمية عدداً من أفلامه، كان منها "نشيد الحجر"، الذي اخرجه بمناسبة الانتفاضة الاولى، والفيلم الشهير "عرس الجليل".

وعرس الجليل هذا له حكاية مع المخرج ومع الناس، لكن حكايته الأبلغ في دلالتها، كانت قصته التي حاكت قصة واقعية اظهرت مفارقة نظام الحكم القائم على القمع والتمييز، بعد مرور اكثر من اربعين سنة على اقامة "دولة" اسرائيل، حيث كان يخضع المواطنون العرب الفلسطينيون لأنظمة الحكم العسكري/ العرفي، والتي من ضمن ما كانت تشترط عليهم، ضرورة الحصول على اذن مسبق من الحاكم العسكري، حين يرغب المواطنون في اقامة اي تجمع شعبي، ومن ضمن ذلك الأفراح.

اشترط الحاكم العسكري على أب العريس الفلسطيني، حتى يوافق على اقامة العرس ان يحضر شخصياً، ومعه بالطبع عدد من الجنود والمجندات، ما أحاط مناسبة فرح الفلسطينيين في الجليل، بإطار من المفارقة ووضعها في دائرة من التوجس والقلق.

كيف يمكن للفلسطينيين ان يطلقوا العنان لمشاعر الفرح في حضرة الحاكم العسكري وجنده المدججين بالسلاح، ربما كان ذلك سبباً في ظهور حبكة قصة الفيلم، حين عجز العريس عن القيام بواجبه تجاه عروسه في تلك الليلة. وفي قراءة الفيلم من هذه الزاوية ذهبت التأويلات بعيداً في اسقاطات الرموز، لتصل الى حدود القول ان اجهزة الدولة الاسرائيلية تشل الحياة الطبيعية للمواطنين العرب، في محاولة منها لتشويه ثقافتهم وتراثهم، الذي يجد في مناسبة العرس فرصة لإظهار لوحة ثقافية، يستعرضون من خلالها كل جماليات هذه الثقافة.

المناسبة التي دعتني الى تذكر قصة عرس الجليل، وحكايته مع مهرجان دمشق السينمائي، هي ما تعرض له جار لي، حين عزم على اقامة عرس لأخيه، وهو من آل النتيل، حين فوجئ بقوة التنفيذية تطلب منه الذهاب الى مركز الشرطة للحصول على ترخيص بإقامة العرس!

ضمن موجبات الحصول على الترخيص المسبق، هناك ما هو حق عام، وهناك ما يستند الى الرغبة في "ضبط" ما يتخلل العرس من "أغانٍ" لا تروق لأولي الامر من سلطة تنفيذية، بعد تجربة يعرفها الجميع، تتعلق بعدد من حوادث الاحتكاك بالناس في مناسبات أعراسهم، لما يشدون به من أغانٍ او أهازيج تندرج في اطار سياسة الفريق المناوئ لسلطة الامر الواقع.

هذه السلطة التي بدأت عهدها، ليس فقط بمجابهة "نخب" من كوادر او عناصر تنتمي للتنظيمات الاخرى، ولكن في مواجهة حالتين شعبيتين، كلتاهما تعكسان مشكلة في التعامل مع الحالة الشعبية العامة: الاولى تتمثل في الأعراس والثانية في صلاة العراء. واذا كانت مثل هذه المجابهات تشير الى ان المشكلة تكمن في طبيعة الإدارة، وفي طريقة حكمها، فإنها في الوقت ذاته تؤكد ان الحالة العامة لا يمكن ان تخضع ضد مشيئتها ورغبتها بالقوة، وكل من يعتقد بغير ذلك، فإنه يخسر الناس، هذا اذا لم يجد نفسه كل يوم على الطرف المقابل في مواجهتهم.

من الجليل الى غزة، تختلف الدوافع وربما الاسباب، لكن الصورة الفلسطينية تصر على إكمال عناصرها، في تحديد حجم التحديات التي تواجهها داخلياً وخارجياً، ليبقى الإصرار الشعبي العظيم على ممارسة الحق في الحياة، وعلى كفاح الفلسطينيين الدؤوب من اجل انتزاع لحظة الفرح، مهما تعاظمت المعيقات التي تقف في طريقها.

فهل تلخص خلاص الفلسطينيين وكفاحهم في كلمة سر بسيطة، وهي البحث عن موجبات الفرح؟ ربما كانت الإجابة مرتبطة بالمآل النهائي لنتائج الكفاح السياسي من اجل الحرية والاستقلال، بتعميم الحرية على جميع المواطنين، لكن هذا - وقد أثبتت ذلك التجربة - لا يتوقف عند حدود الخلاص وحسب من قهر الاحتلال.

فعلى الطريق الى الفرح النهائي والحرية المطلقة، كفاح فلسطيني داخلي لإقامة دولة واحدة موحدة، محكومة بنظام حكم تعددي، نظيف، وشفاف، معتدل، يجد الجميع فيه مكاناً لهم، على قاعدة المساواة والاحترام المتبادل. واذا كانت الثقافة الوطنية قد تأكدت بالحفاظ على التراث، وعلى الهوية في مواجهة كل محاولات التبديد، فإن الحفاظ على الذات، وعلى الهوية الوطنية، يتطلب ايضاً اقامة نظام حكم متوازن، على كل قطعة ارض من فلسطين يتم تحريرها، او ينحسر عنها الاحتلال، حتى لو كان الحديث يدور عن "مجرد" حكم ذاتي، او حتى عن ادارة مجالس محلية.

في الصلاة يتساوى المواطنون أمام الله، وفي العرس تكون المناسبة لتجاوز الأحقاد ولمّ شمل العائلة والحارة والقرية، دامت الأفراح عامرة في بلادنا، ما دام إصرارنا على الحياة ما استطعنا اليها سبيلا، وما دمنا نرص الصفوف على الصفوف، ونجاور الأكتاف بالأكتاف ونشبك الأيدي بالأيدي، رحماء فيما بيننا أشداء على الآخرين.