فوضى الالقاب و كتاب دنيــا الوطن بقلم : ثائر الفهمـان
تاريخ النشر : 2007-09-12
خبير استراتيجي، فيلسوف، المفكر، العبقرى , الدكتور , سليل الشرفاء , أو اختصاصي في شؤون «الشرق الأوسط»، كلها ألقاب يخرج بها المتكلمون او الكتاب على صفحات الصحف، وكأنها التصقت بهم. لكن ماذا تعني هذه التوصيفات، وما الذي تمثله في الواقع، وهل هي مطابقة لما هو عليه المتكلم أو الكاتب؟ أم انها مجرد خدع تنطلي على متلقٍ ليس بمقدوره ان يتأكد من أي شيء؟ انها فوضى الألقاب.

بالألقاب المعرفية التي تسبق الأسماء تبدو مثيرة للتساؤل: هل يستحقها أصحابها فعلاً؟ وما هي المرجعية التي تقرر استحقاقها أو عدمه؟ كذلك ما هو التأثير الذي تمنحه لأصحابها؟ وما مقدار مساهمتها في أن يغدو اللقب دلالة ملتبسة؟ واستطرادا: هل يكفي إقران اللقب باسم صاحبه، حتى يصير سمة ملازمة للاخير، او صفة منطبقة عليه؟ ذات أمس غير بعيد، كانت الألقاب تمنح لأهل الفن خاصة: كوكب الشرق أم كلثوم، سفيرتنا الى النجوم فيروز، العندليب عبد الحليم حافظ، وصولا الى سيدة الشاشة فاتن حمامة، ووحشها فريد شوقي، وآخرون اقل أهمية ممن ورد ذكرهم، حازوا القابا خلعها عليهم ندماء من اهل الصحافة الفنية، بعضها استوفى شروط خلعه، وسواها يبدو ورطة للحائزين عليه، أكثر منه نعمة تلقفوها في لحظة مباركة. اليوم غدت المسألة اكثر تعقيدا، ثمة شخصيات مغمورة تفرد لها صفحات الصحف، وتشرّع أمامها أبواب الشاشات، وتفرش لأسمائها سجادة الألقاب مترفة: خبير استراتيجي، محلل سياسي، ناقد، مفكر، وأحيانا فيلسوف، حلقة زار أصلية، كان للصخب الذي تميزت به أن دفع مسؤول صفحة «رأي» في صحيفة «السفير»، حسام عيتاني لاستعادة قول الشاعر العربي في معرض توصيفها: «ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي اختيالا صولة الاسد». قد تكون للوسيلة الاعلامية مصلحة في منح ضيوفها ألقابا غير مستحقة، لأنها تروج بذلك لبضاعتها المقترحة على المتلقي، وهي لا بد لها من صفات نخبوية كي تمهد سبل التفاعل مع الضيف كمصدر للمعرفة، والوعي المتجاوز للأطر العادية. لكن ثمة من يرى فيها أكثر من ذلك، ويدعو الى استطلاع أسبابها لدى الاختصاصيين في علم النفس.

يروي مسؤول صفحة «قضايا النهار» في صحيفة «النهار» اللبنانية الكاتب جهاد الزين مثلا يتعلق به شخصيا، وذلك «حفظا لمقامات الغائبين». يقول ان إحدى المقدمات التي استضافته في حلقة من برنامجها التلفزيوني، استسهلت تعريفه بوصفه خبيرا في الشؤون التركية، لكنه رفض التسمية، وفضل عليها لقب «متابع» لتلك الشؤون، بالرغم من كونه غير متواضع، على حد قوله، وذلك بدافع الحرص على الدقة في التوصيف. فأضعف الإيمان ان يكون الخبير في شأن ما ضليعا في اللغة الحاضنة لذلك الشأن، وهو شرط ضروري، وان كان غير كاف.

الكاتب الزين يرى أن بدعة الألقاب قد أفلتت من عقالها على الشاشات التلفزيونية، أكثر منها على صفحات الصحف، لا سيما الرصينة منها، ويضيف أن «الفلتان» ظهر على الشاشات في استسهال توصيف الخبرات الاستراتيجية، والصفات التحليلية الى حد الهزال. ويصر أنه بالرغم من الغث والسمين الذي تحمله الصحف، إلا أن المسألة تبقى مضبوطة نسبيا على صفحاتها، قياسا الى «الإنجازات الهوائية».

ويوضح الزين: «شخصيا لا أقر كلمة «مفكر» لأنها صالحة لإطلاقها على أي إنسان سوي، كذلك انا لا أحبذ كلمة «خبير استراتيجي» إلا في الحالات التي يثبت صاحبها أنه يستحقها، وهي حالات نادرة، وتكاد تكون معدومة في الحيز اللبناني. وأفضل عليها كلمة خبير في الاستراتيجيات المتعلقة بموضوع معين». ويستدرك الزين كما لو أنه يسعى لإيفاء الموضوع حقه: «هذه توصيفات كبيرة جدا، يجب أن نبدي، بطبيعة الحال، الكثير من التحفظ في استخدامها، ثم ان كلمة «كاتب» جليلة جدا، وأيضا كلمة «متابع». طبعا انا أتكلم هنا في ما يتعلق بالأشخاص الجديين، وليس عن سواهم، إذ حينها يغدو الأمر أقرب الى مهزلة». ويختم الكاتب كلامه بالقول: «هذا في ما يتصل بالجانب الرصين من المسألة، أما في ما يتعلق بالخبريات المسلية، فهي أقرب الى الطبيعة الفضائحية، ولن أتطرق لها».طرحنا السؤال على قسم الأخبار والبرامج السياسية في تلفزيون «المستقبل»، واكتفى «المصدر»، الذي رفض ذكر اسمه، بالقول ان ألقاب الضيوف تقع على كاهل مسؤوليتهم الشخصية: «نحن نسأل الضيف بماذا يحب أن نعرفه، ونعتمد التوصيف الذي يقدمه لنا»!

ولكن ألا يجدر بكم التوقف، ولو قليلا، عند مقدار انطباق الصفة على الموصوف؟ لا يبدو المصدر كما لو أنه يعترف بمشروعية السؤال: «في اغلب الأحيان ضيوفنا هم من المشهورين في مجالاتهم، ولا نرى من الضروري أن نجري عملية إعادة تقييم لهم». تستهوينا اللعبة فنصر: «لكن معظم الضيوف صاروا مشهورين لفرط ما كانوا ضيوفا»؟! هنا يفهمنا المصدر التلفزيوني أنه لم يعد لديه ما يضيفه. الزميل حسام عيتاني يجيب عن سؤالنا بالقول: «نحن نتعامل مع الامر بحساسية بالغة، نكتفي في غالب الأحيان بكلمة «كاتب»، إلا اذا كان صاحب المقالة ينتمي الى جهة سياسية محددة، ويريد لمقاله ان يعبر عن رأي تلك الجهة، حينها فقط نذكر الصفة، لكننا نتحاشى ذكر المؤسسات التعليمية، او المراكز الدراسية التي يمثلها تفاديا للدخول في مقارنات».

ويضيف عيتاني: «المعايير غير واضحة، والبعض يستخدم المسألة لغايات ترويجية وتسويقية، ونحن نعتقد أن توصيف كاتب يكفي للدلالة على الشخص الذي يمارس هذه المهنة، أما البحث عن التمايز، وهو حق مشروع، فعليه ان يستند الى مدى جدية الشخص وكفاءته، خاصة أننا نثق بقدرة القارىء على التمييز بين الجيد والرديء».

لا ينفي عيتاني أن تجريد الكتّاب من أي صفة قد يلحق الغبن ببعضهم، ممن يستحقون تمايزا في المعاملة، لكنه يرى أن الظلم في السوية عدل. بكثير من التحفظ يكشف محدثنا أن بعض المتعاملين مع صفحته يتوقف عند «حادثة» شطب التذييل المرفق بالمقالة، بينهم من يقتنع بالتبرير، وقلة منهم ترى في الامر مبررا للتوقف عن الكتابة. أحد المعنيين بالأمر فضل الإجابة دون كشف هويته، «تفاديا للمزيد من العداوات»، هو يرى أن الإصرار على التعامل مع اللقب بوصفه ملكية خاصة، يدل على حالة نفسية غير سوية، ويشرح: «لقد تعقدت شؤون الحياة، بحيث أن سقراط نفسه لو عاد اليها اليوم لفكر طويلا قبل أن يسمح بإضفاء لقب مفكر على اسمه، مع ذلك ثمة من يصر عليه لمجرد أنه قرأ من الكتب ما لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة». هو يروي مواقف أقرب الى الطرفة عن بعض حملة الشهادات القادمين من الغرب، الذين سرعان ما يضيفون الى أسمائهم عبارة «خبير في الشؤون الاميركية». ويسأل: «ألا يعرف هؤلاء ان زملاءهم من الاميركيين أنفسهم، يترددون كثيرا قبل أن يضيفوا الى أسمائهم لقب خبير في شؤون الكونغرس، أو القضايا الخارجية، او سواها. ثم يأتي هؤلاء المستعجلون ليقولوا لنا إنهم خبراء في كل هذه الشؤون مجتمعة»؟!

المحللة النفسية نجاة ابراهيم، ترى ضروة التمييز بين الألقاب العلمية التي تحمي الكيان المهني لحامليها، كما للمتعاملين معهم، مثل الطبيب والمهندس والمحامي، وبين تلك المنطوية على قدر من الرغبة في التباهي والزهو والتمايز الطبقي عن الآخرين، استنادا الى معايير غير واضحة، خاصة أن معظم الألقاب المنتمية الى الجزء الثاني من التصنيف تنتمي الى مهن لا تحتمل التأهيل العلمي، بقدر ما هي تشكل استجابة لطفرة تعيشها المجتمعات «النامية»، وتجعلها ترد على المؤثرات الوافدة بمختلف الاشكال المتاحة، دون كثير عناء بموضوعية الاستجابة وعقلانيتها، فضلا عن مشروعيتها. أمام هذه الحالة، التي تصر المحللة ابراهيم على وصفها بالفلتان، «نبدو كما لو أننا نولد ألقابا، وفقا للمعطيات الطارئة، دون ان نكلف أنفسنا عناء السؤال عن المسوغات التي شرعت لنا مثل هذا العمل». وترى محدثتنا أن قراءة الظاهرة على ضوء معطيات علم النفس تتيح الاستنتاج أنها تخفي وراءها رغبة جارفة في اكتساب غير مشروع لهوية اجتماعية معينة. وهي تعكس خللا ليس لدى الشخص المعني وحده، وانما في التركيبة الاجتماعية التي تسمح بحصول مثل هذه الاختراقات المتكررة دون اعتراض أو محاسبة. بالانتقال الى المستوى الشخصي ترى ابراهيم أن الموقف ينطوي على احساس واضح بانعدام الثقة بالذات، وبدونية صارخة تدفع صاحبها للبحث عن نوع من الارتقاء الوهمي، وذلك تعويضا عن احساس كامن بالنقص، ورغبة في تصحيح خلل يعتري علاقة الشخص المعني مع ذاته.

لعل وعسى ان يقراء بعض كتابنا هذه المقاله حتى لايكونوا اضحوكه فى اوساط المثقفين .

هذه المقاله منقوله من صحيفة الشرق الاوسط .. على المزير