شجرة التوت (22) بقلم:خيري حمدان
تاريخ النشر : 2007-09-09
فقد سعيد الكثير من وزنه بعد أن تعرض لتعذيب طويل ومبرح. وقد تفاقمت أزمته الذاتية، ممّا دفعه الى التسلح بالصمت الطويل والمضني. أفقد معذبيه الصبر، ولم يخطر ببالهم للحظة بأن سعيد لا يملك الكثير من المعلومات للإدلاء والاعتراف بها. سعيد قال كل ما لديه خلال الأسبوع الأول لاعتقاله. وذلك تحت وطأة التعذيب. وباختصار لم يقل شيئاً وليس بإمكانه فعل ذلك، حتى ولو قضى تحت التعذيب.

وهكذا قرر معذبون وضعه بسجن انفرادي. كانت ظروف اعتقاله صعبة للغاية. زنزانته رطبة للغاية. ولم يمض وقت طويل حتى بدأت الآلام تهاجم مفاصله ورأسه، وصداع حاد كان يستمر لأيام طويلة دون أن يعتقه ولو للحظة واحدة. وفي أحد الأيام أخذ سعيد يضرب رأسه بالحائط، حتى فقد وعيه ودفق الدم من رأسه. وبالطبع قام حرس السجن بمعالجته وتضميد رأسه. وقدموا له بطانية دافئة وإن كانت بالية، وقرصين من الأسبرين.

بدأ جسده يتأقلم مع الظروف الجديدة القاسية. وأصبح الصداع أمر يومي استطاع بشكل ما التعامل معه. وقد لجأ أخيراً لربط رأسه بقطعة قماش مزقها من قميصه. فقد سعيد الإحساس بالوقت. كانت الأيام والليالي تتعاقب عليه دون أن تقدم له أي جديد. وكان يطيل النظر لتلك الكوة الصغيرة من أعلى الزنزانة. وبرغم صغرها فقد كانت مزينة بقضبان فولاذية قصيرة ومرعبة.

_سعدية... سارة... ماما... عمر... وليد... محمد... زنزانة... جورج، فؤاد عز الدين.

كان سعيد يردد تلك الأسماء وبشكل تلقائي دون تعب أو كلل. رغبته الهائلة بالحديث والمناجاة جعلته يهذي ويحدث نفسه لساعات طويلة. لم يحاول سعيد إلقاء الذنب على أحد وخاصة عمر... فقد كان يحترم هذا الشخص ويكنّ له الكثير من المشاعر الدافئة. وكان يتخيل صورته وتقاسيم وجهه وهو يضرب الطاولة غضباً. ربما كان عليه أن يسمع كلام عمر الذي أوصاه بعدم البقاء في ذلك المكان طولاً. لكن الأقدار رسمت له مستقبلاً مختلفاً بعكس ما كان يتمنى ويريد.

_وينك يا سارة...أين أراضيك؟

_بسرعة يا سعيد… مسموح لك ساعة في الشمس… اطلع الى الساحة.

لم يصدق سعيد أذنيه فقد كان خبر مغادرته الزنزانة ولو ساعة واحدة على الأقل صدمة مفاجأة. لكنه تدارك نفسه وأسرع بمغادرة الزنزانة. شعر بألم شديد في مفاصله ونمنمة مقلقة بأسفل قدميه. كان يريد أن يركض ليقطع المسافة بأسرع وقت ممكن، لكنه لم يجرأ أن يستبق الحارس المرافق له.

أغمض عينيه بشدة حينما تدفقت خيوط الشمس الذهبية لكيانه، أحس بأن أشعة الشمس تخترق كل خلية في جسده. تدغدغ روحه وتبعث له آلاف الرسائل. لم يكن يعرف أحداً في ساحة السجن، لكنه تعرف على بعض الرفاق خلال وقت قصير، وأخذ يبادلهم أطراف الحديث. سأل أحدهم:

_ما هو تاريخ اليوم؟

_يبدو أنك قضيت وقتاً طويلاً في الانفرادي يا سعيد؟

_نعم يا سميح.. صدقني لا أدري في أي شهر من السنة نحن الآن.. كان قد سمع الآخرين ينادونه بهذا الاسم.

_أكتوبر... غريب... لم أكن أعرف بأن شمس أكتوبر قوية لهذا الحد.

_ذلك لأنك قضيت وقتاً طويلاً في الانفرادي. حيث الرطوبة شديدة.

_يا جماعة ما هي أخبار في الدنيا؟

_صافية يا سعيد؟. طبعاً الأخبار شحيحة في السجن. ولكن لا جديد. أنت شو قضيتك يا سعيد، حبس انفرادي!!

_مثل كل واحد فيكم. مقاومة ومحاولة للعيش الكريم. قبضوا علينا في نابلس القديمة قبل... والله نسين يا جماعة. وكأن إحساسي بالزمن توقف.

_أنت من خلية فؤاد عز الدين.

_نعم. كنت في الموقع ذلك اليوم.

_رحمة الله عليه. نظر سعيد للشباب الذين يحيطونه فزعاً وقال:

_فؤاد استشهد؟

_معقول ما معك خبر باستشهاد فؤاد؟

_كنا في المخبأ… قبو تحت الأرض حين سمعنا صوت الرصاص يملأ المكان. ثم خيم صمت ثقيل هناك. وحين اقتادونا الى المركز لم نشاهد أحداً... كانت هناك بقعة دم كبيرة... لكننا لم نعرف من الضحية في تلك اللحظة... وكما تعلمون قضيت وقتي في السجن بين التعذيب والحبس الانفرادي.

_جثته موجودة لديهم. على أية حال، رحمة الله عليه.

مضت الساعة بسرعة كبيرة. مضت وكأنها لم تكن. أراد سعيد أن يختزل الدنيا وأخبارها خلال تلك الساعة. وكأنه لن يعو أبداً لتلك الساحة. أراد أن تخزن ذاكرته طعم الهواء ووقع خيوط الشمس في أعماق روحه. أراد أن يطبع أوجه رفاقه في السجن لكن الساعة انتهت. وأعيد مرة أخرى للسجن الانفرادي.

كان الرجل الوحيد بين تلك المجموعة الذي لم يقم بأي عمل ميداني ضد الاحتلال وكان أن عوقب بقوة غير معهودة. ربما لأنه كان يجهل آلية المقاومة وفن الكر وفرّ... سعيد لم يكن يملك أكثر من جملة "لا أعرف"... "ليس لدي معلومات". وفي الوقع لم تكن قدرته على التحمل كبيرة. فقد كان يفقد وعيه لساعات طويلة. ثم يعود للإنكار ثانية مما يزيد من وحشية معذبيه.. وقد حاول الكثير بطرق غير رسمية العمل على إطلاق سراحه مما زاد الطين بلة. "لماذا كل هذا الاهتمام بسعيد؟" على أية حال أدرك السجانون بأنه من الاستحالة في مكان انتزاع أي اعتراف من فم سعيد… لهذا تركوه وشأنه إلى حين. وقد يلجئون لأساليب أخرى لمعرفة أي شيء آخر أو معلومات قد يدلي بها سعيد لأحد السجناء، مثل سميح وأمثاله وهم كثر.

وفي اليوم التالي حضر السجان وطلب من سعيد مرافقته للساحة. لم يصدق سعيد أذنيه. لحق السجان وحث الخطى ليجد نفسه مجدداً في الساحة. شعر ببعض البرد، كان الهواء نشطاً ذلك اليوم. لكنه لم يُعره أي اهتمام.

_سعيد، مرحباً، اعتقد بأنك تجاوزت الفترة الحرجة من السجن والاعتقال. أنا مسرور جداً لرؤيتك. قال مبتسماً.

وأنا أيضاً يا سميح أشعر بأن البرد وجد الطريق لعظامي.

_أستطيع أن أقدم لك كنزه صوفية. فنحن الآن على أبواب الشتاء.

_سأكون شاكراً لك يا سميح... أنت تعلم بأن زيارتي ممنوعة. ولا أدري إلى متى سيستمر هذا الحال.

_جميعناً مررنا بهذا الوضع يا سعيد... عليك أن تتحمل، ولكني أشعر بأنك تخيفهم .

ابتسم سعيد وقال بمرارة :

_كل شيء يخيفهم. الشجر والحجر تخيفهم. أحلامنا، صمودنا وقدرتنا على أن نكون أنفسنا. أنا إنسان عادي جداً، ولا أظن بأني قادر على إيذاء نملة تدب على الأرض. هل تفهم يا سميح معنى هذا "سلبية التفوق".

_سلبية التفوق أو التفوق السلبي.

حاول سميح أن يوحي لسعيد بأنه يفهم هو الآخر بعض أمور الفلسفة، لكن سعيد رد عليه بحدة وبسرعة بديهية.

_لا.. لا. التفوق السبي أمر مختلف تماماً.. أنا قصدت بأن مجرد وجودنا واستمرار قضيتنا على مر الزمن وتدويلها هو التفوق.

_نعم، نعم... لقد فهمت.

فضل سميح الصمت ولم يشأ أن يخوض حديثاً لا يفهم الكثير منه. بل أنه أدرك السبب في إخفاق المحققين من انتزاع أي معلومات منه.

_الشهيد فؤاد كان من أخطر رجال المقاومة ضد إسرائيل يا سعيد.. هل تعلم ذلك؟.

_فؤاد عز الدين ابن قريتي يا سميح.. وتربطني به صلة قرابة بعيدة.

انتهت فترة الاستراحة وأعيد سعيد لسجنه الانفرادي. بقي يحدق بسقف زنزانته لوقت متأخر من الليل. لم يشعر بأي رغبة في النوم على الإطلاق. كان يؤرقه وجه سميح وأسئلته الكثيرة. وكأنه مفرغاً من الأحاسيس وبالأحرى أحاسيسه لم تكن صادقة.

_من أنت يا سميح!

أدركه النوم في وقت متأخر من تلك الليلة، لم يدر كم مضى عليه من نهار اليوم التالي حين استيقظ. تناول بعض الطعام الذي وجده موضوعاً في سجنه، وأخذ ينتظر سجانه ليقوده لتلك الساحة. ولكن انقضى النهار دون أن يظهر أحد. ما الذي حدث؟ لماذا أهملوه ثانية؟

أخذت الهواجس تهاجمه ثانية. لا تحقيق ولا تعذيب... لا شيء في الأفق... لم يكن يسمع صوتاً... وكأن الزمن توقف في تلك اللحظة. ربما يحتفلون ببعض أعيادهم الدينية. دوى صوته كالقذيفة في أجواء زنزانته.

_وينك يا سميح. لا أظن بأنني سأرى وجهك بعد اليوم.

يحتفل المحققون ويحصل السجانون على إجازات ويرتاح السجّان وتمر الأيام في غرف التعذيب. غادر سميح السجن بعد أن كتب تقريره. وعلى الأرجح لن يعود في القريب العاجل لذلك المكان. لم يكن أمام سميح الكثير لكتابته، لكنه أشار لقدرة سعيد على التنظير ولجموح مشاعره الوطنية. ويبقى القرار الآن بين يدي حفنة من القضاء ورجال العدالة، ليبتوا بأمر هذا الرجل.

انقضت بضعة أيام طويلة وسعيد وحيداً في زنزانته الضيقة. لا أحد يقترب من مركز اعتقاله. حتى أنه لم يكن يدري متى يوضع الطعام أمام الزنزانة ومتى يأتون ليختلسوا النظر لكيانه. ربما ليتأكدوا إن كان على قيد الحياة. أخيراً فتح السجان الباب وقال بسخرية:

_ساعة هواء طلق. ما رأيك!

وقف سعيد على قدميه وتحرك نحو الباب بصعوبة.

_ودّع السجن يا سعيد. كلها بضعة أيام وتغادر البلد.

_نعم! ما قصدك!

ضحك السجان وقال بصوت أجش:

_ترانسفير يا ابني... ترانسفير. بقي سعيد محدقاً بالسجان غير مصدق ما يسمع.

_ترانسفير... يعني أنك ستسافر بعيداً عن البلاد. هذا ما يحصل لكل من يتجرأ على معاداة إسرائيل.

_لا... هذا مستحيل إلى أين...

_حظك كبير... ستغادر إلى قبرص.

_قبرص... قبرص؟

_قبرص، جزيرة تقع على حوض المتوسط.

دوى ضحك السجان في الأروقة وبان الدمع سخياً بين عيني سعيد.