ناجية من حرب السابع من أكتوبر
بقلم: لورين يوسف الطني
أنا لورين الناجية من الحرب، لقد شهدت الدليل على المأساة التي ضربت حياتنا في غزة؛ حيث نجوت أنا وعائلتي وسط العديد من الحروب السابقة، ولكننا اليوم نواجه أخطر وأشرس معركة في الحرب الحالية، كل شيءٍ تغير بلحظات، سقطت الأفراح في قاع مدينتي فلم نعتاد ما حصل بها كانت للمرة الأولى وأتمنى أن تكون المرة الأخيرة أيضاً، نحن أبناء هذه المدينة ولا أحد يحبها مثلنا، منذ السابع من أكتوبر تغيرت حياتنا إلى الأبد ..
كانت لنا ليلة من أشد الليالي قسوة؛ ففي يوم السادس من نوفمبر، وحيث كُنا نصلي صلاة العشاء أنا وعائلتي جماعةً، وإذ بأصوات مرعبة أرعبتنا جميعاً، أصوات الانفجارات في كل مكان (حزام ناري)، ولكن ما كان يطمئننا أننا كنا نصلي ولا خوف لدينا حتى واذا حصل ما حصل فيصبنا نصيبنا بالشهادة فلنستشهد راكعين بين يدي الله، حتى انتهت صلاتنا وتنافرنا جميعاً لنعلم أين كانت هذه الأصوات، ولكن ظلت الأصوات مرعبة ومتواصلة مع إنارة السماء باللون الأحمر، كلما اقتربت من النافذة أبعدتني قوة الصوت وإطلاق الرصاص وقنابل الغاز، الظلام الدامس يلف البيوت والأزقة لا كهرباء ولا ماء تختنق انفاسك، وتضيق مساحة الفضاء في عينيك، فكل شيء يزدحم بكل شيء إحساسنا المحيط بالناس من كل مكان كاف لتحس بالموت خوفا، وكاف في الوقت نفسه لأن يشعرك بأحاسيس تعجز عن تصنيفها ، أو يزودك بكم كبير من الاشعور والاتصديق: لم نستطيع أن نحدد ما الأمر أو الاتجاه جلسنا جميعاً في الكميدور، لقد كانت الليلة الأشد رعباً والأشد ألماً، حضنتنا والدتنا وقالت: (اثبتوا جميعاً واجلسوا بحضني يا ماما عشان إذا متنا نموت كلنا وما حدا يتحسر على حدا).
بقينا بحضنها لوقت ما خلصت الغارات ونحن في حالة هلع وخوف، وبعد مرور نصف ساعة من الغارات المتواصلة جلسنا جميعنا نحاول نستوعب ما الذي حصل، نَظَرت لنا والدتنا نظرة الخوف والألم نظرة الأم لأطفالها وكأننا في الخامسة من العمر، وبعدها بيومين اضطررنا لمغادرة منزلنا تحت التهديد وأوامر الإخلاء وخرجنا بعد سبعة وأربعون يوماً من منزلنا، وكان هناك في الطرقات إخلاء لمستشفى الشفاء الذي بجوار بيتي في شارع الوحدة، ورأينا الناس يركضون بأمتعتهم والجرحى بأسِّرتِهم حتى كان البعض منهم مكسوراً والبعض منهم جريحاً والبعض خارج من العناية وبيده المحلول، استوقفني مشهد لن أنساه عندما رأيت أب يمسك طفلهُ حديث الولادة وهو يأذن في أذنيه أثناء خروجه بعد ما جاء أمر الإخلاء لمستشفى الشفاء بشكل عاجل، كان المشهد يبكي العين، ولكن كنا مجبورين لترك منزلنا الذي هو قمة سعادتنا وآمالنا وتركنا فيه أحلام طفولتنا على أمل أن نعود قريباً، لكن لم يكن ذلك مقصوداً، ذهبت إلى منزل جدتي على أمل أن يكون الخطر علينا بعيداً، وفي نفس اليوم الذي خرجنا فيه من منزلنا علمنا أنه تم قصف بيت بجوارنا وأن المنزل الذي كان في يوم من الأيام حصناً للأمل، أصبح الآن في حالة خراب، وهو تذكير صارخ بأحلامنا المحطمة.
وفي تلك الليلة التي قضيتها في بيت جدتي كانت الليلة التي اجتيح فيها مستشفى الشفاء صارخة كانت أصوات القصف في كل مكان، محدثةً ضجيجاً عالياً بدا وكأنه يخترق أرواحنا، كل انفجار هز الأرض مثل الزلزال يُرسل موجات عبر أجسادنا المرتجفة، حاولنا النوم ولكن لم نستطيع حتى حل الصباح، الجميع يصرخ في الخارج أصوات إطلاق نيران من حولنا، كان الهواء تفوح منه رائحة الدمار والدماء من حولنا، صرخت اختي بصوت الخوف أمي أنا لا أريد أن أموت هكذا لقد أمرنا الاحتلال في إخلاء شمال القطاع والذهاب إلى جنوب القطاع.
كنت أقول في نفسي، ومنذ متى يأمن الإنسان عدوه؟
يأمرنا أن نذهب للجنوب لنكون في مأمن من شره، وهل لشره وانتقامه مكان مُحدد ! وهل في الجنوب ملاهي أطفال وسكاكر وحلوى وأمان ! الجميع يُباد هنا، الجميع يُقتل هنا ولا يستثني منّا أحداً من شمالها لجنوبها، غزة يُنزِف دمُها.
ولكن اصَرَّت أختي على النزوح أصبح كل شيء يملأنا بالخوف، لم يعد لوالدتي خيار سوى النزوح معها، تركنا كل شيء ورائنا وذهبنا في طريقنا بين إطلاق النيران ونحن ننطق بالشهادة على يقين بأننا لن نسلم من وحشية الاحتلال، تركنا شمال القطاع بغصة، لقد مشينا في رعب وخوف وحسرة، كنا نمشي بين الجثث المُلقاة على الأرض في الطرقات تصطدم العينان بمناظر لا قبل لها بتحملها، وبرائحة لم تستنشقها من قبل، من أجبره الدهر ان يشمها مرة ليس من السهل عليه ان ينساها حتى أخر يوم في حياته، وكاد أن يحصل معي مثل ما حصل مع الشهيد (محمد الدُرة) عندما كانت أمي تحتضنني على حافة الشارع عندما أطلق الاحتلال نيرانه بشكل عشوائي ولكن بحمد الله لم تصبني، ومن ثم اكملنا طريقنا بقهر وخوف وذُل إلى أن وصلنا إلى منطقة (مجمع الصحابة) وفي الطريق قابلنا شاب معه سيارة، فأوقفته والدتي وقالت له: (أريد أن اذهب إلى دوار الكويت ’’وهذا الدوار الذي تفصل به قوات الاحتلال شمال قطاع غزة عن جنوبه‘‘) فقال لها (آخذ منكِ مئة دولار حتى أوصلك إلى هناك)، وهي في الحقيقة ليست بمسافة بعيدة جداً ليأخذ كل هذا المبلغ، ولكن ليس لدينا حلاً آخر؛ فلا يوجد وقود إلا بأسعار خيالية، فوافقت والدتي وركبنا، وقلوبنا تنزف على المشاهد التي رأيناها في الطريق حيث تعج بالناس كأنها يوم القيامة، الجميع ذاهب للمجهول وكأن الجنوب هو المكان الأكثر أماناً، وصلنا إلى دوار الكويت، ومن أجل أن نصل للحاجز ركبنا ’’عربة بحصان‘‘ وذلك بناءً على تعليمات الجيش الإسرائيلي، إنهم يريدون ان يشاهدوا حسرتنا ونحن على عربة الحصان، وصلنا بعد نصف ساعة إلى (حاجز نتساريم)، وصلنا وكان هناك الجيش الإسرائيلي مُأجج بدباباتهِ ومركباتهِ، كان مشهد لا يوصف ويقول لنا عبر مكبرات الصوت ارفعوا أيديكم وارفعوا ’’الهوية الفلسطينية‘‘ لقد شعرنا هناك أننا نُعيد رحيل أجدادنا الفلسطينيين يوم النكبة عام 1948م، وكان يوقفنا بين الفترة والأخرى والقصف يحيط بنا وطائرة (الكواد كابتر) من فوقنا تطلق الرصاص بشكل عشوائي، وكنا نسمع أصوات الاشتباكات بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي كان القصف يحيط بنا من كل جانب ونسمع أصوات أنين وصراخ الأطفال عبر (مكبرات الصوت) بين الحين والآخر الذين أخذوهم من أهاليهم كدروع بشرية، ومكثنا في الطريق حوالي أربع ساعات تحت أشعة الشمس الحارقة وزحمة النازحين، والدتي تعاني من مرض مزمن وهو الضغط كانت تختنق بين الفترة والأخرى ومثلها الكثير الذين يعانون من أمراض مزمنة، وهناك من هم أكبر سناً وهناك من هم في سرير المرضى وبيدهم المحلول، كنت انظر لوالدتي بغصة وخوف شديد تغير لون وجهها وطغى اللون الأحمر على وجهها كادت عينيها تدمع لست أدري إن كان ذلك من حرارة الطقس أو من ارتفاع منسوب القهر في داخلها كادت تختنق وتتنفس بصعوبة بين الفترة والأخرى إلا أن وجدنا في طريقنا شاب يحمل في يده زجاجة ماء طلبتها منه أمي فأعطاها ولم يبخل عليها، وهذه المياه التي اعادت إليها نفسها وأصبحت أفضل مما كانت عليها واستطعنا تكملة مسيرة المشي إلى أن رأينا سيارة وبجانبها صاحبها كان يشرب القهوة جميعنا وقف وجميعنا خاف اعتقدنا أنه يهودي ولكن بحمد الله اقترب وقال: (لا تخافوا أنا جئت هنا لاستقبالكم وتقديم المياه لكم)، جلست والدتي على كرسي في الطرقات وطلبت منه أن يوصلها بسيارته إلى (دير البلح) وسط قطاع غزة، صعب عليه حالها عندما رأى والدتي تبكي بحرقه وطلب منها 300 شيكل، فوافقت والدتي وركبنا ووصلنا إلى دير البلح، وهناك استقبلتنا عائلة بكل احترام وتقدير جزاهم الله كل خير، ومكثنا في دير البلح ثلاثة شهور ونصف كنا هناك نسمع ونرى القنوات الاخبارية ونتابع الأحداث خبر عاجل قوات الاحتلال تهاجم مجمع الشفاء الطبي بعد محاصرته لمدة اسبوع تحت غطاء كثيف من أطلاق النار، دقائق قليلة وكانت الشاشات تعرض صور الأقتحام لمجمع الشفاء الطبي إنها مجزرة حقيقة وصور رهيبة، سيارة الأسعاف تزاح كما تزاح القمامة دون أن تأبه الدبابة ومن فيها إن كان بداخل السيارة جريح او جثة شهيد، صور المحاصرين عند اعتقال كل من في المبنى بمن فيهم الجرحى وقد ألقوهم على الارض، أحدهم كان مغطى، كنا ندقق النظر طويلا هل هؤلاء أحياء أم شهداء فمنهم دفن تحت الارض ومنهم دهسته الدبابة بشراسة ومنهم تم اعتقاله في سجون الاحتلال ومنهم اجبر على النزوح إلى جنوب القطاع على أساس انها مناطق أمنة ، بعد الأنتهاء من مستشفى الشفاع كانت التقارير الصحفية والأخبار على جميع الفضائيات ما مفاده اقتحام قوات الاحتلال لجميع البيوت في( دوار ملعب فلسطين) في شمال قطاع غزة بعد ان حاصرته الدبابات وقصفته بقذائف الدبابات والرشاشات الثقيله وأصيب عشرات المواطنين، من ضمنهم أبن خالي عند محاولته أغلاق النافذة حيث ارسل لي خالي رسالة عبر ال SMSتقول (مشان الله ياعالم ابني بينزف حد يكلم الصليب يسعف ابني يموت بين يدي ) لقد حاولت عبر السوشال ميديا ارسال مناشدة عاجله ولكن لا احد يستطيع الوصول إلى هناك المنطقة محاصرة بالكامل بعد مرور ستة أيام على خبر محاصرة الجيش للمنطقة أعتقل الجنود كل من في البيوت بما فيهم بيت جدتي تم اعتقال كل من هم في البيت من رجال ما فوق ال16عام بعد أن أرغموهم على خلع ملابسهم تحت المطر وإخلاء جميع النساء إلى مستشفى الشفاء بعد انتهاء محاصرته، كان خبر الاعتقال صعب ومحزناً نسترجع خلال تلقينا له ما يمكن ان يدور في الزنازين من تعذيب جسدي ونفسي ونتخيل ما يتعرض له السجين من برد شديد في وقت الشتاء، كان في بداية شهر يناير شديد البرودة أخبرتني زوجة خالي بعد يومين أنه تم إطلاق سراحهم جميعاً بمن فيهم اخي الذي تركناه وهو يحمل الجنسية الاجنبية ورغم ذلك لم يسلم من وحشيتهم والتعذيب ولكن بحمد الله اطلق سراحهم جميعاً،
بعد الأنتهاء من شمال القطاع بدأ الجيش يستعد ويتوعد بمهاجمة جنوب القطاع أيضاً وبدأ في ارسال رسائل نصية، حيث كنا في جنوب القطاع بين اللحظة والأخرى نسمع طلقات الرصاص من حولنا وأصوات الاشتباكات والقصف المستمر، لقد صعقتنا أصوات الانفجارات وبكاء الأمهات عندما قصف بيت بجوارنا وتناثرت الحجارة على المنزل، استشهد ستة أشخاص، سمعت أصوات وصراخ الأمهات فنظرت إليهم من نافذتي كدت أن افقد عقلي، نظرت إلى السماء ورجوت الله أذدرفت عيناي بالبكاء لهول ما شعرت به، عندما اقترب الليل انهارت كل القوة التي كنت أدعي امتلاكها، تذوب مع العتمة لتكشف عن قلب صغير ضعيف خائف لا يحتمل الحزن، كنت أخبر الله في كل يوم أنه أحن وأكرم علينا، وعلمنا في ذلك اليوم أنه لا يوجد ’’مكان آمن‘‘ بالفعل ومكثنا تلك الفترة في جنوب قطاع غزة إلى أن جاء شخص تابع للسفارة (الهنغارية) وأبلغنا أنه سوف يتم إجلاؤنا حتى نخرج من هذه الحرب بسلام، وبالفعل خرجنا في الثامن من فبراير لعام 2024م، وغادرنا البلاد وقلوبنا تتمزق على فراق وطننا الحبيب أحبائنا الذين تركناهم خلفنا.
يا إلهي، كيف تقدر لحظة توتر ما، لا يقين فيها بالبقاء أن تهز الكيان وتفتك بمفهومك للدنيا، تمزقك وتعجن مشاعرك بالطين فلا تستطيع ان تفهم شيئا مما يدور حولك هل كل ما يجرى يجرى فعلا، أم أنه مشاهد من فيلم رعب طويل لا ينتهي ؟ نعم مشاهد رعب نشاهدها على شاشة بلا أزرار، فلا نستطيع ان نغير القناة ولا نخفض الصوت والصراخ فيه، ولا حتى نستطيع أن نغير المكان حتى لا نرى فنحن المشهد وأحباؤنا هم الأبطال، وأهلنا هم الضحية التي نفذت فيه الجريمة ، بمحض صدفة بقينا نحن أحياء، كلها صدف حمقاء الصدف التي أبقتنا أحياء هي ذاتها الصدفة التي قتلت أخرين ، لا يقين لديك بأنك حي رغم أنك تأكل وتشرب وتتنفس وتتكلم وتبكي وتقوم بكل وظائف الجسد، جميعنا نعاني من وخزة بالصدر وأمراض نفسية لا اعتقد بأننا سنجد طبيب نفسي يفهم حالتنا؛ لأنه من الصعب ومن المستحيل أن يشعر بما شعرنا به، لا شيء يوصف ما شاهدناه وشعرنا به .
بقلم: لورين يوسف الطني
أنا لورين الناجية من الحرب، لقد شهدت الدليل على المأساة التي ضربت حياتنا في غزة؛ حيث نجوت أنا وعائلتي وسط العديد من الحروب السابقة، ولكننا اليوم نواجه أخطر وأشرس معركة في الحرب الحالية، كل شيءٍ تغير بلحظات، سقطت الأفراح في قاع مدينتي فلم نعتاد ما حصل بها كانت للمرة الأولى وأتمنى أن تكون المرة الأخيرة أيضاً، نحن أبناء هذه المدينة ولا أحد يحبها مثلنا، منذ السابع من أكتوبر تغيرت حياتنا إلى الأبد ..
كانت لنا ليلة من أشد الليالي قسوة؛ ففي يوم السادس من نوفمبر، وحيث كُنا نصلي صلاة العشاء أنا وعائلتي جماعةً، وإذ بأصوات مرعبة أرعبتنا جميعاً، أصوات الانفجارات في كل مكان (حزام ناري)، ولكن ما كان يطمئننا أننا كنا نصلي ولا خوف لدينا حتى واذا حصل ما حصل فيصبنا نصيبنا بالشهادة فلنستشهد راكعين بين يدي الله، حتى انتهت صلاتنا وتنافرنا جميعاً لنعلم أين كانت هذه الأصوات، ولكن ظلت الأصوات مرعبة ومتواصلة مع إنارة السماء باللون الأحمر، كلما اقتربت من النافذة أبعدتني قوة الصوت وإطلاق الرصاص وقنابل الغاز، الظلام الدامس يلف البيوت والأزقة لا كهرباء ولا ماء تختنق انفاسك، وتضيق مساحة الفضاء في عينيك، فكل شيء يزدحم بكل شيء إحساسنا المحيط بالناس من كل مكان كاف لتحس بالموت خوفا، وكاف في الوقت نفسه لأن يشعرك بأحاسيس تعجز عن تصنيفها ، أو يزودك بكم كبير من الاشعور والاتصديق: لم نستطيع أن نحدد ما الأمر أو الاتجاه جلسنا جميعاً في الكميدور، لقد كانت الليلة الأشد رعباً والأشد ألماً، حضنتنا والدتنا وقالت: (اثبتوا جميعاً واجلسوا بحضني يا ماما عشان إذا متنا نموت كلنا وما حدا يتحسر على حدا).
بقينا بحضنها لوقت ما خلصت الغارات ونحن في حالة هلع وخوف، وبعد مرور نصف ساعة من الغارات المتواصلة جلسنا جميعنا نحاول نستوعب ما الذي حصل، نَظَرت لنا والدتنا نظرة الخوف والألم نظرة الأم لأطفالها وكأننا في الخامسة من العمر، وبعدها بيومين اضطررنا لمغادرة منزلنا تحت التهديد وأوامر الإخلاء وخرجنا بعد سبعة وأربعون يوماً من منزلنا، وكان هناك في الطرقات إخلاء لمستشفى الشفاء الذي بجوار بيتي في شارع الوحدة، ورأينا الناس يركضون بأمتعتهم والجرحى بأسِّرتِهم حتى كان البعض منهم مكسوراً والبعض منهم جريحاً والبعض خارج من العناية وبيده المحلول، استوقفني مشهد لن أنساه عندما رأيت أب يمسك طفلهُ حديث الولادة وهو يأذن في أذنيه أثناء خروجه بعد ما جاء أمر الإخلاء لمستشفى الشفاء بشكل عاجل، كان المشهد يبكي العين، ولكن كنا مجبورين لترك منزلنا الذي هو قمة سعادتنا وآمالنا وتركنا فيه أحلام طفولتنا على أمل أن نعود قريباً، لكن لم يكن ذلك مقصوداً، ذهبت إلى منزل جدتي على أمل أن يكون الخطر علينا بعيداً، وفي نفس اليوم الذي خرجنا فيه من منزلنا علمنا أنه تم قصف بيت بجوارنا وأن المنزل الذي كان في يوم من الأيام حصناً للأمل، أصبح الآن في حالة خراب، وهو تذكير صارخ بأحلامنا المحطمة.
وفي تلك الليلة التي قضيتها في بيت جدتي كانت الليلة التي اجتيح فيها مستشفى الشفاء صارخة كانت أصوات القصف في كل مكان، محدثةً ضجيجاً عالياً بدا وكأنه يخترق أرواحنا، كل انفجار هز الأرض مثل الزلزال يُرسل موجات عبر أجسادنا المرتجفة، حاولنا النوم ولكن لم نستطيع حتى حل الصباح، الجميع يصرخ في الخارج أصوات إطلاق نيران من حولنا، كان الهواء تفوح منه رائحة الدمار والدماء من حولنا، صرخت اختي بصوت الخوف أمي أنا لا أريد أن أموت هكذا لقد أمرنا الاحتلال في إخلاء شمال القطاع والذهاب إلى جنوب القطاع.
كنت أقول في نفسي، ومنذ متى يأمن الإنسان عدوه؟
يأمرنا أن نذهب للجنوب لنكون في مأمن من شره، وهل لشره وانتقامه مكان مُحدد ! وهل في الجنوب ملاهي أطفال وسكاكر وحلوى وأمان ! الجميع يُباد هنا، الجميع يُقتل هنا ولا يستثني منّا أحداً من شمالها لجنوبها، غزة يُنزِف دمُها.
ولكن اصَرَّت أختي على النزوح أصبح كل شيء يملأنا بالخوف، لم يعد لوالدتي خيار سوى النزوح معها، تركنا كل شيء ورائنا وذهبنا في طريقنا بين إطلاق النيران ونحن ننطق بالشهادة على يقين بأننا لن نسلم من وحشية الاحتلال، تركنا شمال القطاع بغصة، لقد مشينا في رعب وخوف وحسرة، كنا نمشي بين الجثث المُلقاة على الأرض في الطرقات تصطدم العينان بمناظر لا قبل لها بتحملها، وبرائحة لم تستنشقها من قبل، من أجبره الدهر ان يشمها مرة ليس من السهل عليه ان ينساها حتى أخر يوم في حياته، وكاد أن يحصل معي مثل ما حصل مع الشهيد (محمد الدُرة) عندما كانت أمي تحتضنني على حافة الشارع عندما أطلق الاحتلال نيرانه بشكل عشوائي ولكن بحمد الله لم تصبني، ومن ثم اكملنا طريقنا بقهر وخوف وذُل إلى أن وصلنا إلى منطقة (مجمع الصحابة) وفي الطريق قابلنا شاب معه سيارة، فأوقفته والدتي وقالت له: (أريد أن اذهب إلى دوار الكويت ’’وهذا الدوار الذي تفصل به قوات الاحتلال شمال قطاع غزة عن جنوبه‘‘) فقال لها (آخذ منكِ مئة دولار حتى أوصلك إلى هناك)، وهي في الحقيقة ليست بمسافة بعيدة جداً ليأخذ كل هذا المبلغ، ولكن ليس لدينا حلاً آخر؛ فلا يوجد وقود إلا بأسعار خيالية، فوافقت والدتي وركبنا، وقلوبنا تنزف على المشاهد التي رأيناها في الطريق حيث تعج بالناس كأنها يوم القيامة، الجميع ذاهب للمجهول وكأن الجنوب هو المكان الأكثر أماناً، وصلنا إلى دوار الكويت، ومن أجل أن نصل للحاجز ركبنا ’’عربة بحصان‘‘ وذلك بناءً على تعليمات الجيش الإسرائيلي، إنهم يريدون ان يشاهدوا حسرتنا ونحن على عربة الحصان، وصلنا بعد نصف ساعة إلى (حاجز نتساريم)، وصلنا وكان هناك الجيش الإسرائيلي مُأجج بدباباتهِ ومركباتهِ، كان مشهد لا يوصف ويقول لنا عبر مكبرات الصوت ارفعوا أيديكم وارفعوا ’’الهوية الفلسطينية‘‘ لقد شعرنا هناك أننا نُعيد رحيل أجدادنا الفلسطينيين يوم النكبة عام 1948م، وكان يوقفنا بين الفترة والأخرى والقصف يحيط بنا وطائرة (الكواد كابتر) من فوقنا تطلق الرصاص بشكل عشوائي، وكنا نسمع أصوات الاشتباكات بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي كان القصف يحيط بنا من كل جانب ونسمع أصوات أنين وصراخ الأطفال عبر (مكبرات الصوت) بين الحين والآخر الذين أخذوهم من أهاليهم كدروع بشرية، ومكثنا في الطريق حوالي أربع ساعات تحت أشعة الشمس الحارقة وزحمة النازحين، والدتي تعاني من مرض مزمن وهو الضغط كانت تختنق بين الفترة والأخرى ومثلها الكثير الذين يعانون من أمراض مزمنة، وهناك من هم أكبر سناً وهناك من هم في سرير المرضى وبيدهم المحلول، كنت انظر لوالدتي بغصة وخوف شديد تغير لون وجهها وطغى اللون الأحمر على وجهها كادت عينيها تدمع لست أدري إن كان ذلك من حرارة الطقس أو من ارتفاع منسوب القهر في داخلها كادت تختنق وتتنفس بصعوبة بين الفترة والأخرى إلا أن وجدنا في طريقنا شاب يحمل في يده زجاجة ماء طلبتها منه أمي فأعطاها ولم يبخل عليها، وهذه المياه التي اعادت إليها نفسها وأصبحت أفضل مما كانت عليها واستطعنا تكملة مسيرة المشي إلى أن رأينا سيارة وبجانبها صاحبها كان يشرب القهوة جميعنا وقف وجميعنا خاف اعتقدنا أنه يهودي ولكن بحمد الله اقترب وقال: (لا تخافوا أنا جئت هنا لاستقبالكم وتقديم المياه لكم)، جلست والدتي على كرسي في الطرقات وطلبت منه أن يوصلها بسيارته إلى (دير البلح) وسط قطاع غزة، صعب عليه حالها عندما رأى والدتي تبكي بحرقه وطلب منها 300 شيكل، فوافقت والدتي وركبنا ووصلنا إلى دير البلح، وهناك استقبلتنا عائلة بكل احترام وتقدير جزاهم الله كل خير، ومكثنا في دير البلح ثلاثة شهور ونصف كنا هناك نسمع ونرى القنوات الاخبارية ونتابع الأحداث خبر عاجل قوات الاحتلال تهاجم مجمع الشفاء الطبي بعد محاصرته لمدة اسبوع تحت غطاء كثيف من أطلاق النار، دقائق قليلة وكانت الشاشات تعرض صور الأقتحام لمجمع الشفاء الطبي إنها مجزرة حقيقة وصور رهيبة، سيارة الأسعاف تزاح كما تزاح القمامة دون أن تأبه الدبابة ومن فيها إن كان بداخل السيارة جريح او جثة شهيد، صور المحاصرين عند اعتقال كل من في المبنى بمن فيهم الجرحى وقد ألقوهم على الارض، أحدهم كان مغطى، كنا ندقق النظر طويلا هل هؤلاء أحياء أم شهداء فمنهم دفن تحت الارض ومنهم دهسته الدبابة بشراسة ومنهم تم اعتقاله في سجون الاحتلال ومنهم اجبر على النزوح إلى جنوب القطاع على أساس انها مناطق أمنة ، بعد الأنتهاء من مستشفى الشفاع كانت التقارير الصحفية والأخبار على جميع الفضائيات ما مفاده اقتحام قوات الاحتلال لجميع البيوت في( دوار ملعب فلسطين) في شمال قطاع غزة بعد ان حاصرته الدبابات وقصفته بقذائف الدبابات والرشاشات الثقيله وأصيب عشرات المواطنين، من ضمنهم أبن خالي عند محاولته أغلاق النافذة حيث ارسل لي خالي رسالة عبر ال SMSتقول (مشان الله ياعالم ابني بينزف حد يكلم الصليب يسعف ابني يموت بين يدي ) لقد حاولت عبر السوشال ميديا ارسال مناشدة عاجله ولكن لا احد يستطيع الوصول إلى هناك المنطقة محاصرة بالكامل بعد مرور ستة أيام على خبر محاصرة الجيش للمنطقة أعتقل الجنود كل من في البيوت بما فيهم بيت جدتي تم اعتقال كل من هم في البيت من رجال ما فوق ال16عام بعد أن أرغموهم على خلع ملابسهم تحت المطر وإخلاء جميع النساء إلى مستشفى الشفاء بعد انتهاء محاصرته، كان خبر الاعتقال صعب ومحزناً نسترجع خلال تلقينا له ما يمكن ان يدور في الزنازين من تعذيب جسدي ونفسي ونتخيل ما يتعرض له السجين من برد شديد في وقت الشتاء، كان في بداية شهر يناير شديد البرودة أخبرتني زوجة خالي بعد يومين أنه تم إطلاق سراحهم جميعاً بمن فيهم اخي الذي تركناه وهو يحمل الجنسية الاجنبية ورغم ذلك لم يسلم من وحشيتهم والتعذيب ولكن بحمد الله اطلق سراحهم جميعاً،
بعد الأنتهاء من شمال القطاع بدأ الجيش يستعد ويتوعد بمهاجمة جنوب القطاع أيضاً وبدأ في ارسال رسائل نصية، حيث كنا في جنوب القطاع بين اللحظة والأخرى نسمع طلقات الرصاص من حولنا وأصوات الاشتباكات والقصف المستمر، لقد صعقتنا أصوات الانفجارات وبكاء الأمهات عندما قصف بيت بجوارنا وتناثرت الحجارة على المنزل، استشهد ستة أشخاص، سمعت أصوات وصراخ الأمهات فنظرت إليهم من نافذتي كدت أن افقد عقلي، نظرت إلى السماء ورجوت الله أذدرفت عيناي بالبكاء لهول ما شعرت به، عندما اقترب الليل انهارت كل القوة التي كنت أدعي امتلاكها، تذوب مع العتمة لتكشف عن قلب صغير ضعيف خائف لا يحتمل الحزن، كنت أخبر الله في كل يوم أنه أحن وأكرم علينا، وعلمنا في ذلك اليوم أنه لا يوجد ’’مكان آمن‘‘ بالفعل ومكثنا تلك الفترة في جنوب قطاع غزة إلى أن جاء شخص تابع للسفارة (الهنغارية) وأبلغنا أنه سوف يتم إجلاؤنا حتى نخرج من هذه الحرب بسلام، وبالفعل خرجنا في الثامن من فبراير لعام 2024م، وغادرنا البلاد وقلوبنا تتمزق على فراق وطننا الحبيب أحبائنا الذين تركناهم خلفنا.
يا إلهي، كيف تقدر لحظة توتر ما، لا يقين فيها بالبقاء أن تهز الكيان وتفتك بمفهومك للدنيا، تمزقك وتعجن مشاعرك بالطين فلا تستطيع ان تفهم شيئا مما يدور حولك هل كل ما يجرى يجرى فعلا، أم أنه مشاهد من فيلم رعب طويل لا ينتهي ؟ نعم مشاهد رعب نشاهدها على شاشة بلا أزرار، فلا نستطيع ان نغير القناة ولا نخفض الصوت والصراخ فيه، ولا حتى نستطيع أن نغير المكان حتى لا نرى فنحن المشهد وأحباؤنا هم الأبطال، وأهلنا هم الضحية التي نفذت فيه الجريمة ، بمحض صدفة بقينا نحن أحياء، كلها صدف حمقاء الصدف التي أبقتنا أحياء هي ذاتها الصدفة التي قتلت أخرين ، لا يقين لديك بأنك حي رغم أنك تأكل وتشرب وتتنفس وتتكلم وتبكي وتقوم بكل وظائف الجسد، جميعنا نعاني من وخزة بالصدر وأمراض نفسية لا اعتقد بأننا سنجد طبيب نفسي يفهم حالتنا؛ لأنه من الصعب ومن المستحيل أن يشعر بما شعرنا به، لا شيء يوصف ما شاهدناه وشعرنا به .