أخطاء ماكرون الإستراتيجية في أفريقيا وتحديداً في المشهد الغابوني
بقلم: ميشيل كلاغاصي
هي فرنسا الماضي والتاريخ الأسود, وماكرون "الزعيم" الأوروبي, ووريث معقد الرئاسة الفرنسية كملك العنصرية ومالك العبيد, الذي لم يحيد عن ممارسات أسلافه بسرقة وإغتصاب مقدرات وثروات دول القارة الأفريقية وشعوبها منذ عام 1434م , وعلى مدى 600عام تقريباً.
إن استمرار فرنسا بإتباع هذه السياسة حتى عهد إيمانويل ماكرون, دفع بها نحو الغرق واستقرارها في القاع, بإنتظار وعود ماكرون الكاذبة حول ضرورة "تغيير النهج الفرنسي في أفريقيا", والسياسة الخارجية التي يتبعها الإليزيه, بعدما أصبحت تابعة للولايات المتحدة وكأنها احد عبيدها, نتيجة اندفاعة ماكرون في مسار وسلوك الغطرسة, وعدم احترامه حقوق الدول وشعوبها في الكرامة والسيادة, قبل انطلاقتها نحو حماية ثرواتها ومقدراتها من الأطماع واللصوصية والممارسات العنصرية الفرنسية.
ويبدو أنه من المنصف والعادل إدراج عهدي رئاسة إيمانويل ماكرون في التاريخ الفرنسي, بإعتبارهما يشكلان حقبة انهيار النفوذ الفرنسي في القارة الافريقية, خلال فترة وجيزة ( 2021- 2023 ), حيث خسرت فرنسا وجودها ومصالحها وهيبتها ونفوذها, ووجدت نفسها تًطرد من مالي, وجمهورية أفريقيا الوسطى، وبوركينا فاسو، والنيجر، واليوم من الغابون أيضاً, في مشهدٍ دراماتيكي يؤكد احتضار الإمبراطورية الإستعمارية الفرنسية, وسط توقعات موتها ودفنها بعيداً عن المراسم والطقوس اللائقة, ويبقى السؤال عن مدى استيعابها الدرس الأفريقي.
تُظهر العودة إلى حقبة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأزمنة إعلان الدول الأفريقية استقلالها عن باريس, وتلك المشاهد الإحتفالية و المصافحات بين القادة الفرنسيون المتعاقبون, وزعماء الدول الأفريقية الذين وضعوا أيديهم بأيدي جلاديهم, وأقسموا على الصداقة الأبدية, لكنهم اليوم يُطردون بعد عشرات المحاولات والإنقلابات العسكرية الفاشلة والناجحة, ويبقى جوهر الحدث, إنقلاب المدنيين على نخبهم السابقة, ومن يرونهم عملاء للإستعمار, والمسؤولين عن الماّسي التي عاشها المواطنون لعقود, وترجمت نفسها عوزاً وفقراً وجهلاً, يضمن استمرار الحال, وبأن تغييره بات شيئاً من المحال.
ففي الإنقلاب العسكري الذي شهدته الغابون عام 1964، أرسل الرئيس شارل ديغول وحدات عسكرية من القوات الفرقة المظلية الفرنسية, إلى العاصمة ليبرفيل وتمكن من القضاء على "التمرد" خلال 48 ساعة , وتم تحرير "عمر بونغو" نائب رئيس الغابون - وقتها - من الإحتجاز، لكنه سرعان ما أصبح رئيساً وحاكماً للغابون, وسط غطرسة الإعلام الفرنسي الذي وصف الغابون بعيداً عن القبضة الفرنسية, بأنه لا يعدو سوى "حافلة بدون سائق".
ومع الإنقلاب العسكري الذي حصل مؤخراً, وضع قادة الانقلاب الرئيس علي بونغو (بونغو الإبن) تحت الإقامة الجبرية، الذي لم يهدر الوقت وسارع لدعوة من وصفهم بـ "أصدقائه في العالم", إلى عدم الإستكانة ولإعلاء اصواتهم ورفضهم للإنقلاب على حكمه, وبدا معتداً بنفسه كإبن وخليفة للرئيس بونغو الأول, متكئاً على كونه سليل عائلةٍ نالت حظوة المستعمر الفرنسي على مدى أكثر من نصف قرن.
لقد ظهر بونغو الابن, من خلال إعتداده بنفسه وعائلته وكمن يؤكد تغريده خارج السرب الوطني لبلاده, بالتوازي مع مظاهر الفرح والإبتهاج الذي استقبل به قائد وزعيم الإنقلابيين "بريس أوليغ" في شوارع ليبرفيل، وسط مشاعر شعبية وطنية هللت لإستعادة بلادهم من برائن الإستعمار, وهي الغنية بالنفط واليورانيوم، والتي وصفها بونغو الأب على أنها "محطة وقودٍ للدولة الفرنسية".
لم يقرأ الرئيس ماكرون وحكومته, السطور وما كان متوقعاً حدوثه, أو حتى ما بين السطور, وبأنه ليس بمقدوره الإدعاء بهزيمته أمام القدر, أو جراء مخططٍ ولعبة سياسية خارجية, تارةً تتجه فيها أصابع الإتهام نحو روسيا والصين, وتارةً أخرى تتجه نحو الولايات المتحدة, التي وجدت أنه يتوجب عليها نفي الموضوع, فكان لها ما أرادت وحصلت على تبرئةٍ خاصة من صحيفة "لوموند", التي عنونت "الولايات المتحدة لا تريد طرد فرنسا من افريقيا", يبدو ان ماكرون فكر في جميع الأسباب التي أدت إلى حدوث الإنقلاب, ما عدا سوء الأداء والممارسات الفرنسية العنصرية اللصوصية واللااخلاقية.
فالغابون بلد غني وعدد سكانه لا يتجاوزن الـ 2.3 مليون نسمة, وغالبيتهم الساحقة من الفقراء, في الوقت الذي تسجل فيه المداخيل الكبيرة للأقلية المتحكمة, ما يضمن جعل الغابون واحداً من أكثر البلدان ازدهاراً في القارة السمراء، في حين يبقى ما يعادل ثلث سكان الغابون من العاطلين عن العمل, وبلا أي دخل, ويعيشون على ما تنتجه حدائقهم من المزروعات.
وما لم تقرأه فرنسا بشكلٍ خاص, الهوة والفجوة العميقة ما بين الطبقة الكبرى وهي الفقراء, وما بين أفراد سلالة وعائلة بونغو، الذين سجلوا اسمائهم على لوائح أثرياء العالم وأكثرهم فساداً, خلال حكمٍ استمر إلى 57 عاماً, تمددت فيها ولاية السلالة, عبر الإنتخابات الرئاسية بطريقة أو أخرى, دون أي إعتبار للإحتجاجات التي رافقتها, ورفض المعارضة الاعتراف بنتائجها.
كذلك لم تقرأ المشهد ذاته, الذي حدث أثناء الإنتخابات الأخيرة في اّب/أغسطس 2023، والتي أُعيد فيها إنتخاب بونغو الإبن وكأنه قدر الشعب الغابوني, على الرغم إصابته بسكتة دماغية عام 2019, تسببت بغيابه عشرة أشهر عن ممارسة مهامه كرئيسٍ للبلاد, وسط شكوك بعدم تعافيه بشكل كامل.
من الواضح أنه بعد انتهاء الإنتخابات الرئاسية الأخيرة، لم يكن أمام رئيس الحرس الوطني، بريس أوليغى، سوى القيام بإقتلاع "مسمار جحا", وإطلاق الإنقلاب, في ظل الواقع الذي تعيشه البلاد, وسط تدهور الحالة الصحية للرئيس, وغياب التأييد الشعبي للسلطة الحالية, بما يعيد المشهد الغابوني إلى مرحلة ما قبل الثورة, خوفاً ومنعاً لإنتشار الغوغائيين وبما يشكل غطاءاً لتحركات الإرهابيين المدعومين من الدولة الفرنسية وغيرها, الأمر الذي يقود نحو الإعتقاد بأهمية ما أقدم عليه الحرس الوطني بقيادة بريس أوليغ, لحماية البلاد من إدخالها بحالة الفوضى والخراب, وبجعل البلاد عرضةً للمزيد من أطماع الفرنسيين وغيرهم.
لقد ارتكب ماكرون وإدارته خطأً استراتيجياً فادحاً, باستمرار تعليق الرهان والنفوذ والمصالح الفرنسية في الغابون على الرئيس علي بونغو , في لحظاتٍ لا يحسد عليها, بسبب وضعه الصحي وفقدانه التأييد الشعبي, وهذا يوضح سبب سعادة الجماهير وإلتفافها حول قيادة الإنقلاب, والحكومة الجديدة والرئيس الجديد بريس أوليغ, فهل تكون الغابون القشة التي قصمت ظهر ماكرون, وسط مخاوف حقيقة تسود الشارع الغابوني, من تدخلٍ أمريكي يحكم قبضته ومخالبه حول الرئيس والسلطة الجديدة, بهدف الحفاظ على المصالح الأمريكية هناك, ولو أتى ذلك على حساب المصالح الفرنسية.
على الرئيس ماكرون ورئيس حكومته إليزابيث بورن, الإعتراف بالفشل السياسي الذريع, الذي أغرق فرنسا وأوصلها إلى قاع المستنقع الأفريقي, على الرغم من تفرد فرنسا بمراقبة تفاصيل الحياة في الغابون على مدى عقود, وإختيارها لأتباعها الأكفاء و"الأوفياء" بعناية فائقة , ناهيك عن تواجدها وقواعدها العسكرية, للإشراف المباشر على حماية مصالحها في الغابون.
من الواضح أن غياب الرؤى والأفق السياسي للرئيس ماكرون وحكومته, بدأ من مالي وانتهى – حتى اليوم - في الغابون, ولم تقرأ باريس قدرة الأفارقة على كسر الخوف من سطوتها وهيمنتها وبطشها في اللحظات الحرجة.
لا يمكن التكهن حول الأثمان التي قد يدفعها ماكرون في الداخل الفرنسي, فالمشهد الغابوني كفيلٌ بإسقاطه, على الرغم من كونه تتمة وتكملة للمشاهد التي سبقته في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية اّسيا الوسطى والنيجر, فيما يعتبر البعض أن ماكرون لا زال يملك الفرصة في البقاء , ومعالجة الأمور وإصلاحها, عبر تنفيذ وعيده وتهديده بإعادة بانغو إلى الحكم, وما بين مروحة الحلول المحدودة للغاية, يبقى ماكرون معلقاً بين باب الإليزيه وباب الإقصاء وربما باب الباستيل.
لن يغفر الكثيرون في فرنسا خطايا وذنوب ماكرون, خصوصاً وأنهم يحملونه مسؤولية خسارة مصالحهم ونفوذ فرنسا في أفريقيا, ويؤمنون بضرورة التدخل العسكري لحماية أتباعهم وشركاتهم ورؤوس أموالهم, ومصالحهم الشخصية والوطنية, ويرون أن غروره وغطرسته لا بد أن تدفعانه لبدء حربٍ شاملة في غرب أفريقيا, لإستعادة ما يمكن استعادته, وسط الهزائم التي تسبب بها.
لكن ماكرون لن يجرؤ على تنفيذ تهديده بغزو الغابون, ولن يجد من يؤيده, وستكون الولايات المتحدة على رأس الرافضين وبحزم, في حين حاول ماكرون استخدام عدم مغادرة السفير الفرنسي وعدم امتثاله لقرار المجلس العسكري والحكومة الإنتقالية في النيجر, ذريعة وسبباً كلاسيكياً لإعلان الحرب, الأمر الذي شكل الدافع الرئيسي للسلطة الإنتقالية لرفع الإقامة الجبرية عن الرئيس المخلوع علي بونغو, وبالسماح له بحرية التنقل, وبالسفر خارج البلاد للعلاج إن رغب ذلك.
لا يمكن لفرنسا والرئيس ماكرون التعامل مع الرغبات فقط, فالامر يتعلق بالقدرات السياسية والعسكرية الفرنسية والمكانة الدولية, في وقتٍ تقوم فيه بتزويد أوكرانيا بأطنان الأسلحة, وبتزويد عديد الجبهات الساخنة كما في السودان وليبيا وغير ساحات, وسط قناعة البعض بأن فرنسا في عهد ماكرون أدمنت الهزائم والخيارات والسلوكيات الغبية, وبأنه سيحافظ على مستوى الخدمات النوعية التي يقدمها للولايات المتحدة, ويؤجل تغيير"وجهه" بشكلٍ إجباري, أو "وجه حكومته" ككبش فداء, بعد السلام في أوكرانيا, أو بعد الحرب العالمية الثالثة.
تبدو مجريات الأحداث خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، النظام الإمبريالي القديم الذي فرضته القوى الأمريكية والأوروبية دخل في أزماتٍ حقيقية نتيجة الحروب وحملات زعزعة استقرار الحكومات في افريقيا وغير مكان, وبشن العدوان الشرس على الشعوب الرافضة والمقاومة لإستمرار الإستعمار، خصوصاً بعدما أظهرت الولايات المتحدة وأوروبا عنادها وإصرارها ووحشيتها لضمان سيطرتها وبأي ثمن على الثروات والموارد الطبيعية التي يتطلبها نظامهم الرأسمالي, واستمرار هذا المشهد إلى أزمنة لا تنتهي.
يبدو أن إنقلاب الغابون, والإنقلابات العسكرية الأخرى في القارة الأفريقية عموماً, رغم طريقها الشائك المحفوف بالمخاطر, لكنها أعادت الروح وأحيت اّمال شعوب القارة السمراء, للخروج من النفق المظلم, على أمل تحقيق الحلم الأفريقي بالحرية والكرامة والسيادة والإزدهار , فهل يرضخ "الإستعمار" وهو الوحش القديم – الجديد, أم سيعاود الهجوم بأثوابٍ جديدة ويسرق الحلم الأفريقي ثانيةً ؟.
بقلم: ميشيل كلاغاصي
هي فرنسا الماضي والتاريخ الأسود, وماكرون "الزعيم" الأوروبي, ووريث معقد الرئاسة الفرنسية كملك العنصرية ومالك العبيد, الذي لم يحيد عن ممارسات أسلافه بسرقة وإغتصاب مقدرات وثروات دول القارة الأفريقية وشعوبها منذ عام 1434م , وعلى مدى 600عام تقريباً.
إن استمرار فرنسا بإتباع هذه السياسة حتى عهد إيمانويل ماكرون, دفع بها نحو الغرق واستقرارها في القاع, بإنتظار وعود ماكرون الكاذبة حول ضرورة "تغيير النهج الفرنسي في أفريقيا", والسياسة الخارجية التي يتبعها الإليزيه, بعدما أصبحت تابعة للولايات المتحدة وكأنها احد عبيدها, نتيجة اندفاعة ماكرون في مسار وسلوك الغطرسة, وعدم احترامه حقوق الدول وشعوبها في الكرامة والسيادة, قبل انطلاقتها نحو حماية ثرواتها ومقدراتها من الأطماع واللصوصية والممارسات العنصرية الفرنسية.
ويبدو أنه من المنصف والعادل إدراج عهدي رئاسة إيمانويل ماكرون في التاريخ الفرنسي, بإعتبارهما يشكلان حقبة انهيار النفوذ الفرنسي في القارة الافريقية, خلال فترة وجيزة ( 2021- 2023 ), حيث خسرت فرنسا وجودها ومصالحها وهيبتها ونفوذها, ووجدت نفسها تًطرد من مالي, وجمهورية أفريقيا الوسطى، وبوركينا فاسو، والنيجر، واليوم من الغابون أيضاً, في مشهدٍ دراماتيكي يؤكد احتضار الإمبراطورية الإستعمارية الفرنسية, وسط توقعات موتها ودفنها بعيداً عن المراسم والطقوس اللائقة, ويبقى السؤال عن مدى استيعابها الدرس الأفريقي.
تُظهر العودة إلى حقبة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأزمنة إعلان الدول الأفريقية استقلالها عن باريس, وتلك المشاهد الإحتفالية و المصافحات بين القادة الفرنسيون المتعاقبون, وزعماء الدول الأفريقية الذين وضعوا أيديهم بأيدي جلاديهم, وأقسموا على الصداقة الأبدية, لكنهم اليوم يُطردون بعد عشرات المحاولات والإنقلابات العسكرية الفاشلة والناجحة, ويبقى جوهر الحدث, إنقلاب المدنيين على نخبهم السابقة, ومن يرونهم عملاء للإستعمار, والمسؤولين عن الماّسي التي عاشها المواطنون لعقود, وترجمت نفسها عوزاً وفقراً وجهلاً, يضمن استمرار الحال, وبأن تغييره بات شيئاً من المحال.
ففي الإنقلاب العسكري الذي شهدته الغابون عام 1964، أرسل الرئيس شارل ديغول وحدات عسكرية من القوات الفرقة المظلية الفرنسية, إلى العاصمة ليبرفيل وتمكن من القضاء على "التمرد" خلال 48 ساعة , وتم تحرير "عمر بونغو" نائب رئيس الغابون - وقتها - من الإحتجاز، لكنه سرعان ما أصبح رئيساً وحاكماً للغابون, وسط غطرسة الإعلام الفرنسي الذي وصف الغابون بعيداً عن القبضة الفرنسية, بأنه لا يعدو سوى "حافلة بدون سائق".
ومع الإنقلاب العسكري الذي حصل مؤخراً, وضع قادة الانقلاب الرئيس علي بونغو (بونغو الإبن) تحت الإقامة الجبرية، الذي لم يهدر الوقت وسارع لدعوة من وصفهم بـ "أصدقائه في العالم", إلى عدم الإستكانة ولإعلاء اصواتهم ورفضهم للإنقلاب على حكمه, وبدا معتداً بنفسه كإبن وخليفة للرئيس بونغو الأول, متكئاً على كونه سليل عائلةٍ نالت حظوة المستعمر الفرنسي على مدى أكثر من نصف قرن.
لقد ظهر بونغو الابن, من خلال إعتداده بنفسه وعائلته وكمن يؤكد تغريده خارج السرب الوطني لبلاده, بالتوازي مع مظاهر الفرح والإبتهاج الذي استقبل به قائد وزعيم الإنقلابيين "بريس أوليغ" في شوارع ليبرفيل، وسط مشاعر شعبية وطنية هللت لإستعادة بلادهم من برائن الإستعمار, وهي الغنية بالنفط واليورانيوم، والتي وصفها بونغو الأب على أنها "محطة وقودٍ للدولة الفرنسية".
لم يقرأ الرئيس ماكرون وحكومته, السطور وما كان متوقعاً حدوثه, أو حتى ما بين السطور, وبأنه ليس بمقدوره الإدعاء بهزيمته أمام القدر, أو جراء مخططٍ ولعبة سياسية خارجية, تارةً تتجه فيها أصابع الإتهام نحو روسيا والصين, وتارةً أخرى تتجه نحو الولايات المتحدة, التي وجدت أنه يتوجب عليها نفي الموضوع, فكان لها ما أرادت وحصلت على تبرئةٍ خاصة من صحيفة "لوموند", التي عنونت "الولايات المتحدة لا تريد طرد فرنسا من افريقيا", يبدو ان ماكرون فكر في جميع الأسباب التي أدت إلى حدوث الإنقلاب, ما عدا سوء الأداء والممارسات الفرنسية العنصرية اللصوصية واللااخلاقية.
فالغابون بلد غني وعدد سكانه لا يتجاوزن الـ 2.3 مليون نسمة, وغالبيتهم الساحقة من الفقراء, في الوقت الذي تسجل فيه المداخيل الكبيرة للأقلية المتحكمة, ما يضمن جعل الغابون واحداً من أكثر البلدان ازدهاراً في القارة السمراء، في حين يبقى ما يعادل ثلث سكان الغابون من العاطلين عن العمل, وبلا أي دخل, ويعيشون على ما تنتجه حدائقهم من المزروعات.
وما لم تقرأه فرنسا بشكلٍ خاص, الهوة والفجوة العميقة ما بين الطبقة الكبرى وهي الفقراء, وما بين أفراد سلالة وعائلة بونغو، الذين سجلوا اسمائهم على لوائح أثرياء العالم وأكثرهم فساداً, خلال حكمٍ استمر إلى 57 عاماً, تمددت فيها ولاية السلالة, عبر الإنتخابات الرئاسية بطريقة أو أخرى, دون أي إعتبار للإحتجاجات التي رافقتها, ورفض المعارضة الاعتراف بنتائجها.
كذلك لم تقرأ المشهد ذاته, الذي حدث أثناء الإنتخابات الأخيرة في اّب/أغسطس 2023، والتي أُعيد فيها إنتخاب بونغو الإبن وكأنه قدر الشعب الغابوني, على الرغم إصابته بسكتة دماغية عام 2019, تسببت بغيابه عشرة أشهر عن ممارسة مهامه كرئيسٍ للبلاد, وسط شكوك بعدم تعافيه بشكل كامل.
من الواضح أنه بعد انتهاء الإنتخابات الرئاسية الأخيرة، لم يكن أمام رئيس الحرس الوطني، بريس أوليغى، سوى القيام بإقتلاع "مسمار جحا", وإطلاق الإنقلاب, في ظل الواقع الذي تعيشه البلاد, وسط تدهور الحالة الصحية للرئيس, وغياب التأييد الشعبي للسلطة الحالية, بما يعيد المشهد الغابوني إلى مرحلة ما قبل الثورة, خوفاً ومنعاً لإنتشار الغوغائيين وبما يشكل غطاءاً لتحركات الإرهابيين المدعومين من الدولة الفرنسية وغيرها, الأمر الذي يقود نحو الإعتقاد بأهمية ما أقدم عليه الحرس الوطني بقيادة بريس أوليغ, لحماية البلاد من إدخالها بحالة الفوضى والخراب, وبجعل البلاد عرضةً للمزيد من أطماع الفرنسيين وغيرهم.
لقد ارتكب ماكرون وإدارته خطأً استراتيجياً فادحاً, باستمرار تعليق الرهان والنفوذ والمصالح الفرنسية في الغابون على الرئيس علي بونغو , في لحظاتٍ لا يحسد عليها, بسبب وضعه الصحي وفقدانه التأييد الشعبي, وهذا يوضح سبب سعادة الجماهير وإلتفافها حول قيادة الإنقلاب, والحكومة الجديدة والرئيس الجديد بريس أوليغ, فهل تكون الغابون القشة التي قصمت ظهر ماكرون, وسط مخاوف حقيقة تسود الشارع الغابوني, من تدخلٍ أمريكي يحكم قبضته ومخالبه حول الرئيس والسلطة الجديدة, بهدف الحفاظ على المصالح الأمريكية هناك, ولو أتى ذلك على حساب المصالح الفرنسية.
على الرئيس ماكرون ورئيس حكومته إليزابيث بورن, الإعتراف بالفشل السياسي الذريع, الذي أغرق فرنسا وأوصلها إلى قاع المستنقع الأفريقي, على الرغم من تفرد فرنسا بمراقبة تفاصيل الحياة في الغابون على مدى عقود, وإختيارها لأتباعها الأكفاء و"الأوفياء" بعناية فائقة , ناهيك عن تواجدها وقواعدها العسكرية, للإشراف المباشر على حماية مصالحها في الغابون.
من الواضح أن غياب الرؤى والأفق السياسي للرئيس ماكرون وحكومته, بدأ من مالي وانتهى – حتى اليوم - في الغابون, ولم تقرأ باريس قدرة الأفارقة على كسر الخوف من سطوتها وهيمنتها وبطشها في اللحظات الحرجة.
لا يمكن التكهن حول الأثمان التي قد يدفعها ماكرون في الداخل الفرنسي, فالمشهد الغابوني كفيلٌ بإسقاطه, على الرغم من كونه تتمة وتكملة للمشاهد التي سبقته في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية اّسيا الوسطى والنيجر, فيما يعتبر البعض أن ماكرون لا زال يملك الفرصة في البقاء , ومعالجة الأمور وإصلاحها, عبر تنفيذ وعيده وتهديده بإعادة بانغو إلى الحكم, وما بين مروحة الحلول المحدودة للغاية, يبقى ماكرون معلقاً بين باب الإليزيه وباب الإقصاء وربما باب الباستيل.
لن يغفر الكثيرون في فرنسا خطايا وذنوب ماكرون, خصوصاً وأنهم يحملونه مسؤولية خسارة مصالحهم ونفوذ فرنسا في أفريقيا, ويؤمنون بضرورة التدخل العسكري لحماية أتباعهم وشركاتهم ورؤوس أموالهم, ومصالحهم الشخصية والوطنية, ويرون أن غروره وغطرسته لا بد أن تدفعانه لبدء حربٍ شاملة في غرب أفريقيا, لإستعادة ما يمكن استعادته, وسط الهزائم التي تسبب بها.
لكن ماكرون لن يجرؤ على تنفيذ تهديده بغزو الغابون, ولن يجد من يؤيده, وستكون الولايات المتحدة على رأس الرافضين وبحزم, في حين حاول ماكرون استخدام عدم مغادرة السفير الفرنسي وعدم امتثاله لقرار المجلس العسكري والحكومة الإنتقالية في النيجر, ذريعة وسبباً كلاسيكياً لإعلان الحرب, الأمر الذي شكل الدافع الرئيسي للسلطة الإنتقالية لرفع الإقامة الجبرية عن الرئيس المخلوع علي بونغو, وبالسماح له بحرية التنقل, وبالسفر خارج البلاد للعلاج إن رغب ذلك.
لا يمكن لفرنسا والرئيس ماكرون التعامل مع الرغبات فقط, فالامر يتعلق بالقدرات السياسية والعسكرية الفرنسية والمكانة الدولية, في وقتٍ تقوم فيه بتزويد أوكرانيا بأطنان الأسلحة, وبتزويد عديد الجبهات الساخنة كما في السودان وليبيا وغير ساحات, وسط قناعة البعض بأن فرنسا في عهد ماكرون أدمنت الهزائم والخيارات والسلوكيات الغبية, وبأنه سيحافظ على مستوى الخدمات النوعية التي يقدمها للولايات المتحدة, ويؤجل تغيير"وجهه" بشكلٍ إجباري, أو "وجه حكومته" ككبش فداء, بعد السلام في أوكرانيا, أو بعد الحرب العالمية الثالثة.
تبدو مجريات الأحداث خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، النظام الإمبريالي القديم الذي فرضته القوى الأمريكية والأوروبية دخل في أزماتٍ حقيقية نتيجة الحروب وحملات زعزعة استقرار الحكومات في افريقيا وغير مكان, وبشن العدوان الشرس على الشعوب الرافضة والمقاومة لإستمرار الإستعمار، خصوصاً بعدما أظهرت الولايات المتحدة وأوروبا عنادها وإصرارها ووحشيتها لضمان سيطرتها وبأي ثمن على الثروات والموارد الطبيعية التي يتطلبها نظامهم الرأسمالي, واستمرار هذا المشهد إلى أزمنة لا تنتهي.
يبدو أن إنقلاب الغابون, والإنقلابات العسكرية الأخرى في القارة الأفريقية عموماً, رغم طريقها الشائك المحفوف بالمخاطر, لكنها أعادت الروح وأحيت اّمال شعوب القارة السمراء, للخروج من النفق المظلم, على أمل تحقيق الحلم الأفريقي بالحرية والكرامة والسيادة والإزدهار , فهل يرضخ "الإستعمار" وهو الوحش القديم – الجديد, أم سيعاود الهجوم بأثوابٍ جديدة ويسرق الحلم الأفريقي ثانيةً ؟.