السودان.. أبعاد الأزمة الراهنة وجذورها العميقة
بقلم: فيصل علوش
■ تمهيد
1- ماضي السودان وجذور الأزمة
2- الفشل في بناء الدولة الحديثة
3- الوضع القبائلي في السودان
4- دارفور.. نموذج السودان المصغَر
5- الاقتصاد السوداني والأوليغارشية الجديدة
6- الجيش السوداني: تاريخ حافل بالانقلابات والولع بالسلطة ومنافعها
7- «قوات الدعم السريع» .. يافطة جديدة وانتهاكات مستمرة
8- تأثير الدور الخارجي
9- رفض الحرب والبدائل الممكنة
أيلول(سبتمبر) 2023
تمهيد
■ حين انتفض الشعب السوداني، ما بين 2018 و2019، ضد حكم الرئيس السابق عمر حسن البشير، كان يتوخى تحقيق الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحكم القانون. لم يكن بحسبانه أبداً الوصول بالبلاد إلى هذه الحرب المدمرة التي نشهدها الآن، والتي ستكون نتائجها كارثية على مختلف الصعد والمستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والانسانية.. الخ.
الجيش السوداني، وهو القوة المهيمنة على الحكم بشكل شبه متواصل منذ استقلال البلاد- 1956، بالتعاضد مع «قوات الدعم السريع»، (وهي ميليشيا تأسست في ظل النظام السابق، لتقوم بمهام خارج نطاق القانون، تشمل القتل والحرق والاغتصاب والسرقة والتهريب بكل أشكاله)، بادرا، كما هو معروف، إلى قطع الطريق على تحقيق هدف الاحتجاجات العارمة، وذلك عبر الانقلاب على نظام البشير - 11/4/2019، بعد أن أيقنوا أنه لم يعد ممكنا الدفاع عنه أمام غضب الشارع، معتبرين أنّ الإطاحة به «تحقيق لطموح المحتجين»!.
■ غير أنه لم يطل الوقت ليتبيّن للجميع أن القادة العسكريين، (بجناحيهما؛ الرسمي والميليشيوي)، أرادوا التخلص من رأس السلطة، (أو التضحية به)، كتمهيد لإعادة إنتاج النظام القديم ذاته بحلّة جديدة. على غرار ما جرى في غير بلد عربي، علماً أنّ لجيوش هذه البلدان دورا تاريخياً مشهودا، منذ استقلالها، في «صناعة الرؤساء».
إتفق هؤلاء القادة بداية مع المكون المدني على «وثيقة دستورية»، وتشكيل حكومة مدنية (ترأسها عبدالله حمدوك)، وكذلك «مجلس سيادة» مشترك، كانت رئاسته أولاً لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، لكنّ الأخير سرعان ما افتعل أزمة سياسية مع ائتلاف «الحرية والتغيير»، وبادر مع نائبه محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، إلى الانقلاب في 25/10/2021، على اتفاقهما الموقع مع القوى السياسية، وذلك عندما اقترب موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني.
وما بين الاتفاق والانقلاب لم يوفر العسكر فرصة لوضع العصي في عجلات حكومة حمدوك المدنية، واتهامها بالعجز والفشل والتقصير، بل واتهام كافة الأحزاب المدنية بـ«التكالب على السلطة، وعدم الاهتمام بأوضاع الناس المعيشية والحياتية». إضافة إلى اللعب على مختلف التناقضات والهويات والخلافات؛ فجرى تحريض بعض القبائل وفلول النظام القديم وحركته الإسلامية للتحرك ضد الحكومة. كما تمّ الاعتماد على رموز وفصائل لم تلتحق بالثورة أصلاً، للانضمام إلى الميليشيات المناصرة للعسكر. كلّ ذلك بهدف إغراق المكون المدني وحكومته بفوضى الأزمات المتلاحقة، تمهيدا لتقديم الانقلاب بوصفه «المنقذ الوحيد للبلاد».
■ لكن وبعد أكثر من عام على انقلابهما (البرهان وحميدتي)، وتحت ضغط الشارع السوداني والعواصم الغربية والاتحاد الأفريقي، تم التوقيع على ما سميّ بـ«الاتفاق الإطاري» بين القيادة العسكرية ومجموعة من القوى السياسية- 5/12/2022، على أمل أن يجري استكماله والتوقيع النهائي عليه في بداية شهر
4/2023، بهدف التأسيس لواقع سياسي جديد يقود إلى إكمال مسار الانتقال الديمقراطي.
وقد أثار هذا الاتفاق كثيراً من الجدل داخل الساحة السياسية السودانية، لكن المهمّ فيه أنه تسبّب في اشتداد التوتر بين قادة الجيش وقائد قوات الدعم السريع، ثم أدّت الخلافات الحادة حول الجوانب الفنية الخاصة بورقة «الإصلاح الأمني والعسكري» ودمج قوات الدعم السريع في الجيش، إلى تفجّر الحرب الدموية الشرسة بين الطرفين.
■ ما نقل في هذا الصدد، أفاد بأن الاختلاف تمحور حول مسألة مواقيت دمج قوات الدعم السريع وكيفية تشكيل هيئة القيادة، حيث تمسك الجيش بثلاث سنوات كحد أقصى للدمج، في حين طالب الدعم السريع بـ 10 سنوات، كذلك اقترح الجيش هيئة قيادة مشكلة من 6 مقاعد يحوز فيها على أربعة وتكون الرئاسة له، بينما تنال قوات الدعم السريع مقعدين، أما الأخيرة فاقترحت إضافة مقعد سابع مخصص لرئيس مجلس السيادة المدني القادم، ويكون رئيساً للهيئة.
وكانت ورقة قوات الدعم السريع طالبت، في وقت سابق، بضرورة إيراد نص في الدستور ينأى بالمؤسسة العسكرية عن التدخل في السياسة، ووجود رقابة مدنية على المؤسسة العسكرية، وإخضاع ميزانية الدفاع للمراجعة والمساءلة من البرلمان، كما اعتبرت أن ثمة ضرورة لتصفية القوات المسلحة لعناصر النظام السابق وأصحاب الأيديولوجيات. في حين تحدث الجيش عن «إخضاع استثمارات الدعم السريع لإشراف وزارة المالية، ووقف أي تعاقدات خارجية لتزويدها بالسلاح، وأن يتم ذلك عبر الجيش».
■ ولكن كلّ هذا لا يكفي وحده لفهم وتفسير أسباب اشتعال فتيل الأزمة ونشوب الحرب على هذا النحو الدموي بين الطرفين. كما لا يكفي كذلك الحديث فقط عن «ازدواجية سلطة»، ووجود قوتين مسلّحتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى، من منطلق أنّ ذلك لا يمكن أن يكون أكثر من حالة إنتقالية يتحتّم حسمها لصالح أحد الطرفين في نهاية المطاف.
كما لا يكفي أيضاً ما تناقله البعض من أنّ معسكر «الصقور» داخل الجيش، الذي يمثله عضو مجلس السيادة الجنرال شمس الدين الكباشي، هو الذي أشعل الحرب بمهاجمة معسكر قوات الدعم السريع من دون علم الجنرال البرهان، (حتى يضعوه أمام الأمر الواقع)، يدعمهم في ذلك أنصار النظام السابق بقيادة علي كرتي وغيره.
فكل الأسباب السابقة هي عناصر إجرائية وإدارية، أشبه بما يطلق عليه بـ«الشرط اللازم وغير الكافي» في الفلسفة. وعلى سبيل المثال، فعندما كان يطالب المحتجون السودانيون بحل قوات الدعم السريع وعودة الجيش إلى ثكناته، لإفساح المجال أمام نشوء حكم مدني، بل ويحذرون من خطورة تنامي دور الدعم السريع على حساب الجيش، كان قادة الأخير، وخصوصاً البرهان، يبثون التطمينات بأن «الدعم السريع» هي جزء من الجيش وتعمل تحت إمرته، وكثيراً ما أكد قائد الجيش، أنّ من ينتظرون صداماً بين الجيش والدعم السريع سينتظرون طويلاً!
■ والحال، فإنّ الحرب الدائرة الآن في السودان بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، التي بدأت في منتصف نيسان(إبريل) 2002، تمثل نموذجاً «متقدّماً» (بمعنى أكثر خطورة) عن الحروب المتكررة التي شهدها هذا البلد واستغرقت الزمن الأطول من عمر دولته الهشة منذ استقلاله - 1956، وحوّلت بمجملها السودان الذي كان يُعدّ «سلة غذاء العرب»، إلى بلد يعتمد على الإعانات والمساعدات الدولية كأحد أفقر بلدان العالم وأكثرها تخلفاَ. فحروب السودان الداخلية لم تعُدْ استمراراً للسياسة بأشكال أخرى فحسب، كما يقول المفكر العسكري البروسي الشهير كلاوزوڤيتز، بل باتت، هي بحد ذاتها، تجسيداً وترجمة فعلية للممارسة السياسية المتصلة بكيفية التعامل مع الآخر في الداخل، وإدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم عموما.
■ وإذا ما قُيّض لهذه الحرب أن تطول أكثر فأكثر، فهي قد تقوّض، وعلى نحو نهائي، أسس ومرتكزات الوجود المادي والمعنوي للدولة السودانية، ككيان سياسي وجغرافيا موحدة، لأنها ستتحول، كما يرجّح المراقبون، إلى حرب أهلية مفتوحة، تنفجر فيها مختلف أشكال العنف القبلي والمناطقي، إستناداً إلى التركيبة الاجتماعية والديموغرافية المعقدة في السودان، وما تنطوي عليه من تنوع إثني وعرقي وديني وثقافي، وتعدد في المعتقدات واللغات والتقاليد، ما أهّل ويؤهل السودان ليكون بيئة خصبة للعنصرية والصراعات القبلية والمجتمعية، في وقت مثلت فيه سياسات التهميش والإقصاء وإشكالية السلطة و توزيع الثروة والموارد، المتراكبة مع ما يوصف بقضية التمييز بين القبائل والإثنيات، وخصوصاً العربية وغير العربية منها، محورا دائماً للتمردات والحروب الأهلية التي شهدها غير إقليم وجهة فيه.
■ إنها حرب خاسرة للجميع، باعتراف قادة الطرفين، وقد وصفها الفريق البرهان بأنها «حرب عبثية»، وقال الفريق حميدتي إن الجميع خاسرون فيها، ومع ذلك فإنها تستمر. والمدهش أكثر أن الأنصار الجدد للحرب، ومعظمهم من أنصار النظام القديم، لم يُعرف لهم موقف واحد ضد قوات الدعم السريع طوال السنوات الأربع الماضية؛ أما المجموعات التي تقف ضد الحرب من حيث المبدأ، فهي في معظمها من أنصار الحركة السياسية المدنية التي ظلت ترفع شعار ضرورة حل قوات الدعم السريع وتكوين جيش وطني موحد. والفرق أنهم يرون أن موضوع حل الميليشيات ودمجها يجب أن يتم عبر عملية سياسية واتفاق ملزم، بدلاً من الحرب التي لن يكسبها أي طرف، والجميع فيها خاسرون. [فيصل محمد صالح/ «حرب السودان: من يخسر أكثر؟»/«الشرق الأوسط»: 24/5/2023]■
(1)
ماضي السودان وجذور الأزمة
■ عندما غزا البريطانيون السودان - 1899، كانت البلاد تضطرب على وقع «الثورة المهدية» التي قامت لإنهاء استعمار السلطنة العثمانية. وقد ابتدع البريطانيون إتفاقية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، إذ جعلوا «السيادة» على السودان مشتركة بينهم وبين الدولة العثمانية، (ممثلة في مصر)، وأطلقوا على هذه الاتفاقية الفريدة إسم «اتفاقية الحكم الثنائي».
وعلى رغم أن هذه الاتفاقية كانت مجرد إجراء دبلوماسي شكلي، لأن بريطانيا كانت تستعمر كلاً من مصر والسودان في آن، إلا أنّ تأثيرها على السودان كان عميقاً ومزدوجاً. فبموجبها أُتبع ملف السودان إلى وزارة الخارجية البريطانية التي أرسلت حكاماً وإداريين إليه من موظفيها ودبلوماسييها، وجلّهم من خريجي جامعاتها الشهيرة، ويتمتعون بخبرات وعلوم واسعة في الإدارة المدنية ومؤسساتها، على عكس المستعمرات البريطانية الأخرى التي كانت تتبع ملفاتها لوزارة «المستعمرات»، التي ترسل حكاماً وإداريين إليها من موظفيها، ويكون أغلبهم من العسكريين المتقاعدين، أو من الذين لا زالوا في الخدمة، أي أن كفاءتهم تكون أقلّ من نظرائهم الذين ترسلهم الخارجية البريطانية.
■ وبغرض مساعدتهم على إدارة الدولة ومؤسساتها، ساهم حكام وإداريو السودان بقيام طبقة وسطى ذات تأهيل وواسعة نسبياً، وذلك بفضل انشائهم لمؤسسات تعليمية، ومشاريع اقتصادية ناجحة، وخدمات مدنية ومهنية متميزة، إضافة إلى جمعيات أدبية وثقافية عديدة، وحتى تنظيمات نقابية وسياسية متطورة. هذا كلّه شكل «إرثاً تاريخياً مُحبّاً وداعماً لحكم المؤسسات المدنية، ومتدربا على أساليبها..»، وهذا ما يفسّر، في نظر البعض، قيام إحتجاجات وعصيانات مدنية لاستعادة السلطة من أيدي العسكر، بعد كلّ انقلاب حصل في السودان. فقد تمكن السودانيون من إطاحة الجنرال إبراهيم عبود- 1964، وانهاء حكم الجنرال جعفر النميري- 1985، وكذلك حكم الجنرال عمر حسن البشير- 2019، ويُعدّ هذا دليلًا على رغبتهم في إرساء الديمقراطية، حتى وإن تعذر نجاحهم وتمكنّهم من ذلك.
■ ولكن، إلى ذلك، فقد ركّز هؤلاء الحكام جلّ اهتمامهم على المدن والمناطق الحضرية، وأهملوا بقية المناطق، وخصوصاً الأقاليم البعيدة، التي ظلت تعيش في مجتمعات بدائية تقليدية، خارج دائرة تأثير الاقتصاد النقدي الحديث ومخرجات الرأسمالية الناشئة، وبقيت ثقافتها تغلب عليها التعاليم الدينية السلفية، والعادات والتقاليد المتوارثة. ويعزو كثيرٌ من المؤرخين مشاكل وأزمات السودان اللاحقة إلى هذا الواقع، لأنه مع مرّ السنين، بدأ أبناء تلك المناطق والمجتمعات المهمشة يشعرون بالفارق الكبير بينهم وبين أبناء العاصمة والمدن الكبيرة القريبة منها. وللحصول على بعض النفوذ، أو الوصول إلى السلطة، فقد وجدوا ضالتهم في الانضمام إلى الجيش، أو التمرد وتشكيل حركات مسلحة تطالب بالمساواة بين جهات وأقاليم السودان المختلفة. [محمد أبو حسبو/ «السودانيون أسقطوا بثورات شعبية كل حكوماتهم العسكرية»/ «الشرق الأوسط»: 4/5/2019].
■ وقد استمر الحال على هذا المنوال بعد استقلال السودان. إذ أن النخب، (وكانت في معظمها من الجيش)، التي سيطرت على مقاليد الحكم في هذا البلد، وبالتالي على السلطة والثروة فيه، كانت على العموم من المركز (الوسط والشمال)، ومن المنتمين للثقافة العربية الإسلامية. وقد سخّرت هذه النخب ثروات وموارد البلد وإمكاناته الاقتصادية والمادية لخدمة مصالحها، متجاهلةً، مثلها مثل المستعمر البريطاني، متطلبات التنمية الاقتصادية والبشرية والسياسية الشاملة بين ولايات وجهات السودان المتعددة، فاستمرّ تهميش الأطراف، بل وزادت عليه تبنّيها لخطاب تفوق عنصري زائف ضد المكونات السودانية من ذوي الأصول الإفريقية والانتماء الديني غير الإسلامي، وأغلبها يتواجد في «المناطق والأقاليم المهمشة»؛ الجنوب ودارفور وكردفان والنيل الأزرق والبحر الأحمر.
وجرّاء ذلك، حصل تمرد هذه الأطراف والمناطق المهمّشة مُطالبةً بالاقتسام العادل للسلطة والثروة، وهو ما واجهته حكومات الخرطوم عسكريا، وترتب عليه دخولها في حروب أهلية طويلة ومدمرة أسفرت عن تفتيت وحدة السودان الجغرافية؛ واستنزاف الدولة والمجتمع وتعميم الفقر وتدني معدلات التنمية وغياب الاستقرار، هذا فضلاً عن الانتهاكات والفظائع وجرائم الإبادة والتصفية العرقية التي ارتكبت، وخصوصاً في دارفور، التي تبقى الأوضاع فيها مرشحة، في أي لحظة، للاشتعال والانفجار مجددا، كما في كردفان والنيل الأزرق والنوبة. [عمرو حمزاوي/ «عن السودان وأوجاعه»/ «القدس العربي»: 18/4/2023].
■ ومع حفظ الفارق تبعاً لكل مرحلة تاريخية وملابساتها، فإنّ الحرب الحالية تمثل، في أحد وجوهها، صراعاً بين قوى المركز ممثلة في الجيش السوداني وقائده البرهان، وبين قوى الأطراف المهمّشة ممثلة في قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، على رغم انتمائه العرقي إلى قبائل عربية، ولكن من خارج المركز (دارفور). لكنه يحاول الآن تقديم قواته كـ«مدافع عن مصالح السودانيين المهمّشين»، على رغم تورطها السابق (كجنجويد) في الانتهاكات والفظائع التي ارتكبت في حرب دارفور، لصالح المركز (نظام البشير). ولعلّ هذا ما يفسر تحالف بعض فاعليات المركز؛ القبلية والمجتمعية والسياسية في الخرطوم مع قيادة الجيش، في مقابل تحالف بعض فاعليات الأطراف؛ ومن بينها قوى مدرجة في تحالف «الحرية والتغيير»، المُطالب منذ 2019 بالانتقال الديمقراطي، مع حميدتي وقواته.
وقبل ذلك، فإنّ هذه الحرب تمثل نتيجة شبه حتمية، وكارثية، لإخفاق النخب والسلطات المتعاقبة في الخرطوم بالتعامل مع الدولة وتنوعها الإثني والثقافي، وذلك حين كرّست كياناً تتنازعه هويات منقسمة على ذاتها، وأزمات مركبة رافقت نشوءه وتطوره، فبدل أن تكون مهمة الدولة حماية مواطنيها ورعاية حقوقهم كافة، تحولت ههنا إلى «قوة سياسية واجتماعية» تتبنّى خطاباً عنصريا وعرقيا، بشكل صريح أو ضمني، على نحو ينشر مناخاً مشحوناً ومتوتراً يصبح أشبه بقنبلة قابلة للانفجار في أيّ وقت.
■ وهكذا كانت تنفجر الحروب في السودان بين فترة وأخرى، وكانت أطولها وأكثرها تأثيراً حرب الجنوب التي امتدت على مرحلتين؛ من 1955 إلى 1972، ومن 1983 إلى 2005 (39 عاماً)، وانتهت بالتوقيع على اتفاق سلام عام 2005، قاد فيما بعد إلى تقسيم السودان وتكوين الجنوب لدولته المستقلة- 2011، وكان هذا من أكبر الأثمان التي دفعها السودان جراء هذه الحروب.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن الرئيس نميري سنّ عام 1983، قوانين أيلول(سبتمبر) «المستمدة من الشريعة الإسلامية». وتسببت هذه القوانين، بعصيان الأوامر العسكرية من قبل قوة تابعة للجيش في الجنوب، فأرسل نميري الضابط جون قرنق لتأديبها، لكنّ الأخير إنضم إليها وقادها مؤسسا «الحركة الشعبية لتحرير السودان». ولم يكتف قرنق بالعمل المسلح فقط، إنما عمل كذلك، إلى جانب سِلڤاكير ميارديت، الضابط السابق في الجيش السوداني أيضاً قبل تمرده، على بناء منظومة سياسية لكسب الرأي العام في داخل السودان وخارجه، وخاصة بعد إعلان نظام البشير «الجهاد في جنوب السودان»، عبر قوات الدفاع الشعبي التي انتظم فيها آلاف الإسلاميين المتشددين.
■ وقد تفرّعت عن هذه الحرب حرب أخرى خاضتها «الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال»، (بقيادة عبد العزيز الحلو ومالك عقار)، في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودامت قرابة 9 سنوات، وانتهت بتوقيع إتفاقية جزئية مع عقار في شهر 10/2020، فيما بقي الحلو مناوئاً للخرطوم، ومتمترساً في مناطقه التي يصفها بـ«المحرّرة» حتى الآن. [عيدروس عبد العزيز/ «السودان.. سيناريوهات الحرب الخامسة... ماذا تخبيء وراءها؟»/ «الشرق الأوسط»: 17/4/2023].
وقبل أن تنتهي حرب الجنوب، إندلعت حرب شرسة أخرى في دارفور - 2003 إلى 2010، بين الجيش السوداني وحركات مسلحة في الإقليم، تسببت هي الأخرى في قتل وتشريد ملايين إضافية من السكان. وخلال هذه الحرب ظهرت ميليشيا «الجنجويد» سيئة السمعة والصيت، التي أصبحت فيما بعد «قوات الدعم السريع»، وباتت قوة موازية للجيش السوداني، وأضيفت إلى مهامها مهام أخرى شملت الحد من الهجرة غير الشرعية، والانتشار على حدود السودان مع ليبيا وإفريقيا الوسطى وتشاد.
وعلى رغم توقيع معظم الجماعات المسلحة في دارفور على اتفاقيات سلام مع نظام البشير والحكومة الانتقالية، إلا أنّ الوضع الأمني في الإقليم سرعان ما انفجر وعاد للاضطراب مجدّداً في الحرب الأخيرة. وإذا كانت الحروب السابقة انطلقت من الأطراف السودانية المهمّشة، فإن الحرب الجديدة اشتعلت في مركز الدولة وعاصمتها، (الخرطوم)، إضافة إلى مدن شمالية أخرى كانت بعيدة عموماً عن نيران الحروب السابقة، ولذلك، يُرجّح المهتمون أن تكون الأخطر على السودان وعلى سلامة أراضيه ومجتمعه، وخصوصاً أنّ كرتها ما زالت تتدحرج غرباً وشرقاً ويميناً وشمالاً، وستكون لها، بالتالي، تداعيات جسيمة على المدنيين والبنية التحتية وعلى مستقبل السودان ودولته عموماً. [عيدروس عبد العزيز/ المصدر السابق]■
(2)
الفشل في بناء الدولة الوطنية الحديثة
■ يشكل الوضع في السودان، كمجتمع متخلف ومتعدد إثنياً وثقافياً وديموغرافياً، (وما أفرزه ذلك من منازعات حول هوية الدولة، وتالياً من حروب متناسلة)، نموذجاً للفشل في بناء الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي. فإذا كانت الدولة التي انبثقت بعد معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر، قد قامت أصلاً للحد من الحروب الدموية المدمرة التي شهدتها أوروبا على خلفية دينية (مذهبية) وبطموحات جيوسياسية خلال حرب الثلاثين عاماً - 1618 إلى 1648، فإنها عندنا، (في ظل تشوهاتها البنيوية المتصلة بسياق نشأتها وتكوينها وطبيعة القوى التي اضطلعت بإدارتها)، كانت في كثير من الحالات مصدراً ومنطلقاً لحروب أهلية لا تنتهي.
أحد أهم المقومات التي تبرّر به الدولة نفسها وتحوز من خلاله على شرعيتها الدستورية والسيادية، هو حكم القانون الذي تنفذه عبر أجهزتها وسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، في سياقٍ من الفصل بينها، ولكن في السودان، شأنه شأن العديد من دول العالم العربي والإفريقي، كثيراً ما تعاملت الجماعات المهيمنة على كيان الدولة كغنيمة تمّ الظفر بها بالقوة والغلبة. وعندما تكون الدولة، بما توفره من امتيازات ومكاسب وفرص للنهب، غنيمة (أو إحتكارا)، تصبح دولة متنازعاً عليها بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وساحة لحروب؛ كامنة أو مستعرة، تحول بينها وبين إمكان تحققها كدولة مواطنة ومساواة بين الجميع. [ناصر السيد النور/ «السودان: الحرب والدولة» / «القدس العربي»: 23/6/2023].
■ ويتم تداول فكرة تحطيم «دولة ما بعد الاستقلال السياسي»، (التي تعرف بدولة 1956)، بشكل واسع في السودان، لأن الدولة الموروثة عن الاستعمار بقيت هي هي، لم يطرأ عليها أيّ تغيير جوهري، وظلت النخب السياسية المتعاقبة تتوارث هذه الدولة بعجرها وبجرها، مكتفية بما تحصل عليه من امتيازات ومكاسب على مختلف الصعد والمستويات. وهكذا استمرّت قضية الهامش الفقير والمعزول والمركز الميسور المسيطر، وبقيت معها فكرة «التخلص من دولة 56» مهيمنة على تفكير وبرامج الحركات الثورية والجهوية والإقليمية، التي ولدت وبرزت على خلفية الشعور بـ«المظلومية» التاريخية والجهوية في هذه المناطق.
وبهدف تبرير حربه مع الجيش باعتباره من «فلول» النظام المعزول، وأداة من أدوات الدولة الموروثة من الاستعمار - التي يجب تحطيمها - فقد التقط قائد قوات الدعم السريع، (حميدتي)، هذه الفكرة من الأدبيات السياسية السودانية، وحمّلها على مسألة الانتقال المدني الديمقراطي وإعادة تأسيس دولة ما بعد 1956 والصراع الدائر حولها الآن. [أحمد يونس/ «هل تحطم حرب الجنرالين السودانيين دولة ما بعد الاستقلال»؟/ «الشرق الأوسط»: 9/7/2023].
■ وتبعاً لذلك، فإنّ اندلاع الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، مثّل صدمة في العقل الجمعي العام، ووضع الخطاب السياسي السوداني (الرسمي) أمام معضلة تاريخية محرجة، بعد أن أخلّت الحرب الدائرة بمعادلات السياسة والاجتماع المعهودة. فالصراعات التاريخية بين الهامش والمركز كانت حاضناتها الاجتماعية تعود الى مكونات مختلفة ومغايرة لمكونات الدولة المركزية. بينما ترفع الآن مجموعات الدعم السريع الشعارات ذاتها التي رفعتها قوى قاتلتها في السابق!. ولأول مرة يكون (الجنجويد العرب) هم في خانة من تصفهم الدولة (الجيش) بالتمرد أو الدخلاء، وهم قادة من يوصفون عادة بـ«محاولة التمرد العنصرية»، وهو الوصف الذي ترسخ في التعبير السياسي العام، مع ما يستبطنه من أحقاد وضغائن تاريخية.
■ ربما غاب عن التفكير المركزي الرسمي وخطاب السلطة الأيديولوجي هو أنّ المكونات العربية نفسها عانت من تهميش مزدوج، كما يسميه باحثون، بين تهميش الهامش والمركز في آن معاً. [ناصر السيد النور/ «حرب الجِنجْويِّد والصدمة العِرقيَّة»/ «القدس العربي»: 7/7/2023].
والحال، فالنتيجة المرجّحة لوجود وتفاعل جميع هذه العناصر مع بعضها بعضاً، هو إطالة أمد الحرب الدائرة ووضع السودان على حافة مخاطر جسيمة مدمرة، أهمها خطر انهيار الدولة نهائياً، وما سيترتب على ذلك من فوضى وتفكك داخل السودان، وفي جواره الإقليمي كذلك، (بسبب التداخل القبلي وتشابك المصالح الاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية بين مختلف الأطراف الفاعلة)، هذا فضلاً عن القضاء حتما على كل فرص التغيير السياسي السلمي والديمقراطي في السودان■
(3)
الوضع القبائلي في السودان
■ السودان بلد كبير في مساحته (مليون و 882 ألف كم2)، وغنيّ في ثرواته وموارده، كما في تعدّده الإثني والثقافي. يبلغ عدد سكانه أكثر من 45 مليون نسمة، وعدد قبائله قرابة الـ 570 قبيلة، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية وأثنية تتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة.
في ظلّ عدم رغبته الدخول في احتكاكات مع المجتمع السوداني، وتقليل تكاليف إستعماره الإدارية والمالية، لجأ المستعمر البريطاني إلى استخدام القبائل في تثبيت أركان حكمه، وذلك عبر إتباع نظام لا مركزي في إدارة السودان، (أطلق عليه الإدارات الأهلية)، لعب فيه زعماء ووجهاء القبائل دورا كبيرا في فرض الأمن. وكانت هذه الإدارات بمثابة صمام أمان بين الحكام الإنجليز والأهالي، وذلك من خلال تكليفها بالإشراف على القضاء الأهلي (مثل فضّ منازعات الأفراد والأُسر عبر العُرف، جمع الضرائب والجبايات، وتمويل جهاز الحكم). وفي مقابل ذلك، إعترف المستعمر بزعماء القبائل كسلطة محلية، ومنحهم ألقاباً، ووفّر لهم إمتيازات خاصة وإمكانات لبسط سلطتهم ونفوذهم.
■ شكل إلغاء الإدارة الأهلية في عهد جعفر النميري، سببا من أسباب الصراع في الأطراف والأقاليم، لأنه حرم زعماء وشيوخ القبائل من كثير من الامتيازات السابقة، ومنها مساحات مهمة من الأراضي كان نظام الملكية وحيازة الأرض وفق التقاليد القبلية، يفسح في المجال أمام رجالات السلطة ومشايخ القبائل السيطرة عليها. كما أدّى ظهور الجفاف والمجاعة إلى بروز أسباب إضافية للنزاعات حول الموارد المحدودة. وزاد امتعاض بعض قبائل دارفور- 1994، عندما أعيد تنظيم إقليم دارفور إداريا، وتم خلاله تخصيص مناصب عديدة لأفراد من المجموعات العربية في السلطة الجديدة، وهو ما عدّته قبائل المساليت والفور بمثابة تجاهل أو تغييب لدورها التاريخي في الإقليم.
يضاف إلى ذلك، لجوء السلطات في الخرطوم إلى تسليح القبائل في مناطق دارفور وكردفان، المتاخمة لجنوب السودان، وذلك بهدف ظاهري معلن هو «حماية مواشيهم»، في حين أنّ الهدف الحقيقي لذلك كان تعبئة تلك القبائل، للاصطفاف إلى جانب الجيش في محاربة «الحركة الشعبية لتحرير السودان».
■ وصل الاستخدام السياسي للقبائل ذروته في حقبة الرئيس عمر البشير، حيث ضغط عليها لمبايعة نظامه ودعمه ومساندته. وقد ساهم تقليص مساحات العمل المدني والسياسي في عهده، في توسّع انتشار الفكر القَبَلي الذي كان لا يزال يسيطر، أصلاً، على عقلية السودانيين بصورة كبيرة. يجدر بالذكر أنّ بعض القوى السياسية التقليدية تعتمد بصورة كبيرة على النفوذ القَبَلي، (مثل حزب الأمة القومي)، الذي يعتبر أنّ مناطق كثيرة في دارفور وكردفان والنيل الأبيض بمثابة دوائر إنتخابية مغلقة لصالحه. [يوسف بشير/ «قبائل السودان.. الظل الذي يتحرك مع كل سلطة»/ «نون بوست»: 2/6/2023].
وقد طوّر البشير هذه السياسة في دارفور، حيث وزّع السلاح على القبائل العربية (الرزيقات والمسيرية)، ليقاتلوا بالوكالة عنه الحركات المسلحة التي ينحدر معظم مقاتليها من القبائل الأفريقية. وفي المقابل، لجأ بعض قادة الحركات المسلحة إلى النهج ذاته عبر تسليح قبائل غير عربية، وتشكيل ميليشيات لاستهداف القبائل العربية أو سواها.
ومع مرور الوقت، أصبحت العناصر المسلحة في القبائل ترى الحرب نشاطًا معتاداً ونمط حياة طبيعيا، بسبب الإيرادات الكبيرة التي توفّرها لهم من جهة، إلى جانب المكانة الاجتماعية التي باتوا يحظون بها في المجتمع المحلي، من جهة ثانية. وبعد سقوط البشير، سعى قادة الجيش، إضافة إلى قادة الميليشيات الموازية، مثل حميدتي، إلى حشد القبائل لصالحهم، وقدّموا لزعمائها الأموال والسيارات، على الضد من الاصطفاف السياسي الذي يُنادي بمدنية الدولة.
■ وفي إطار توظيف القبائل لخدمة أهداف سياسية، يورد يوسف بشير كيف عمد قادة العسكر - أيلول(سبتمبر) 2021، إلى تحريض زعيم قبيلة الهدندوة، محمد الأمين ترك، على فرض حظر على شرق السودان وإغلاق الطرق البرّية التي تربطه بالعاصمة الخرطوم، وإغلاق موانيء البلاد على ساحل البحر الأحمر، إضافة إلى تنظيم اعتصام في محيط القصر الرئاسي شاركت فيه مجموعات باسم قبائلها، وذلك لإظهار حالة من الفلتان الأمني، وتحميل حكومة عبدالله حمدوك مسؤولية ذلك، تمهيداً لانقلابهم العسكري الذي نُفّذ بعد شهر واحد فقط - 25 /10/2021. [يوسف بشير/ المصدر السابق].
وفي الحرب الدائرة الآن، دعا زعماء قبائل عربية في جنوب دارفور، وعاصمته نيالا، أتباعهم للانضمام لقوات الدعم السريع وترك الجيش، علماً أن القبائل العربية تشكل غالبية السكان في جنوب وشرق دارفور، كما ينتمي الكثير من ضباط الجيش إلى قبيلة الرزيقات، وهي قبيلة دقلو. وقد يلجأ الجيش رداً على ذلك، إلى تسليح القبائل الأخرى (المناوئة) لتخوض حرباً بالوكالة عنه. [«القبائل العربية في دار فور قد تغيّر الموازين في حرب السودان»/ «القدس العربي»: 6/7/2023]■
(4)
دارفور.. نموذج السودان المصغر
■ يعدّ إقليم دارفور نموذجاً مصغّراً عن دولة السودان؛ مساحته كبيرة تبلغ أكثر من 510 آلاف كم2، يتمتع بتركيبة متنوعة عرقياً واجتماعياً وقبلياً، وهذا ما أدّى إلى سلسلة من الصراعات القبلية القديمة والمتجددة فيه منذ أيام سلطنة الفور الإسلامية، التي سبق وخضع الإقليم لحكمها- 1650 إلى 1874. ووقع بعدها تحت حكم السلطنة العثمانية لسنوات ليست طويلة، ثم أصبح بعدها ميدانا لنزاعات قبلية وصراعات إقليمية شبه دائمة.
وكان الصراع ينشب فيه عادة على مناطق الكلأ والماء بين القبائل الرعوية، ومعظمها من العرب، والقبائل المستقرة التي تعمل في الزراعة، ومعظمها من القبائل الإفريقية. وتزيد من حدّة هذا الصراع الظروف المناخية المتقلبة وموجات الجفاف والتصحّر التي تجتاح البلاد بين آونة وأخرى، وتجبر الرُعاة على الهجرة إلى المناطق الأكثر خصوبة، التي يتوفر فيها العشب والماء.
ولأنها منطقة بعيدة عن الخرطوم، فقد تعرّضت دارفور للإهمال والتهميش تاريخياً، وما زاد الأمر سوءاً عدم وجود طرق حديثة ووسائل مواصلات سهلة وسريعة بين الإقليم ووسط السودان. فعند خضوع السودان للحكم الثنائي أقامت لندن خطوط سكك حديدية فيه، ولكن الخط المتّجه غرباً تم وقفه عند مدينة الأُبيّض حاضرة شمال كردفان، لكي يأتي بالصمغ العربي اللازم للصناعة البريطانية، ولم يصل إلى الفاشر عاصمة شمال دارفور. [اسماعيل مصطفى عثمان/ «دارفور ماضي حاضر مستقبل»/، دار الأصالة للنشر والتوزيع الإعلامي، القاهرة ، 2006، ص 67].
■ بعد الاستقلال، استمرّت معاناة الإقليم واستمرّ افتقاده لغياب المشروعات الاستثمارية؛ سواءً الزراعية أو الصناعية أو الحيوانية. كما افتقد لوجود خدمات تعليمية وصحيّة واجتماعية. وكانت دارفور أقل مديريات السودان نصيبا في عدد الطلاب أو في عدد المدارس. وحتى تسعينيات ق 20 لم يكن في دارفور مدرسة أهلية واحدة.
وبالنظر إلى الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بينه وبين الشمال، واتباع سياسة التهميش وغياب التنمية والتوزيع غير العادل للثروة، إضافة إلى سياسات القمع ومصادرة الحريات ورفض إشراك الأطراف المهمشة في السلطة، تحول الإقليم وسكانه إلى مركز للعمالة من جهة، والتجنيد في الجيش السوداني من جهة ثانية، ووقود للصراعات والحروب الأهلية عموماً. وعندما تفجّر الصراع فيه وجد العديد من شبابه؛ غير المتعلمين والعاطلين عن العمل، أن الانخراط في التمرّد ضدّ الدولة، أو في الميليشيا التي تقاتل إلى جانب الجيش، يشكّل حلاّ لمعاناتهم.
■ في حرب عام 2003، تحولت السلطة في الخرطوم إلى طرف في النزاع الدائر، وذلك بعد أن قامت الميليشيات المسلحة لقبائل المساليت والفور والزغاوة المنخرطة في «جيش تحرير السودان» و«حركة العدل والمساواة» بالاستيلاء على مناطق كبيرة من المدن الثلاث الكبرى في الإقليم (الفاشر وجنينة ونيالا)، واحتلت مطار الفاشر. وإتهمت جماعات المتمردين الحكومة بمعاداتها والوقوف بقوة لصالح القبائل العربية، وفي المقابل، إتهمت الحكومة المتمردين بالاستعانة بالقوى الخارجية والأجنبية.
وأسفرت الهجمات والانتهاكات المنهجية للقوات السودانية عن تشريد حوالي مليوني شخص حتى بداية 2005، وقدّر عدد القرى التي تم تدميرها كليا وجزئيا بحدود 700 قرية، أما عدد سكان دارفور المتضررين من هذا الاقتتال فقدر بحدود 3,5 مليون شخص، أي نحو نصف عدد سكان الإقليم. وقد اتهمت سلطة البشير بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية ما أدى إلى نزوح السكان وتهجيرهم.
■ خلال النزاع لجأت حكومة البشير إلى تشكيل قوات «الجنجويد»، (وهو الوصف الذي أطلق على المقاتلين الذين ينتمون إلى قبائل عربية). ولقي تشكيل هذه الميليشيا، للقتال إلى جانب الجيش أو بالنيابة عنه، قبولاً مجتمعيا واسعا على أسس عنصرية محضة، قوامها الشكل واللغة في ظلّ النموذج المعياري المتخيل للشخصية السودانية العربية، وذلك في بلد تتفشّى فيه الانتماءات القبلية، وتهيمن على أجهزة الدولة فيه مجموعات عرقية محددة، حوَّلت الدولة المشوّهة إلى أداة للتمييز والاحتكار والنبذ والاستعلاء العرقي.
وتعد دارفور الحاضنة الاجتماعية الرئيسية لقوات الدعم السريع، كما يتحدر كثير من عناصر الجيش العاديين (قوات المشاة) منها. ومنذ اندلاع الصراع الجاري عادت الحرب إلى الإقليم بنسخة أشد فتكاً، حيث تشهد مدنه الكبرى مواجهات دامية فاق ضحاياها مجموع ما سقط في العاصمة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الدعم السريع باتت ترتدي الآن حلة جديدة وتضع على عاتقها مهمة جديدة أيضاً، فهي تقدم الآن خطاباً سياسياً يتقاطع مع خطاب حركات المناطق المهمشة منذ خمسينيات ق 20، وبالتالي مع عذابات ومظلومية الإقليم. [ناصر السيد النور/ «دارفور: من الحرب وإلى الحرب»/ «القدس العربي»: 12/8/2023].
■ إتخذت الحركات المسلحة في الإقليم موقفاً محايداً من الصراع الدائر. وثمة من يتحدث عن إخفاق الجيش في الحصول على دعمها، علماً أنّ قسماً منها تعدّ حليفاً له، واكتسبت شرعية تواجدها في الإقليم وفي الخرطوم من اتفاقية جوبا للسلام التي وقعتها معه ومع حميدتي. وقد صبّ موقف تلك الحركات لصالح حميدتي، وخصوصاً أنّ بعض القبائل العربية أخذت تعلن ولاءها لقواته، من بينها الرزيقات والمسيرية والفلاتة، بما يمكنها من توسيع نطاق حاضنتها السياسية والعسكرية والاجتماعية.
ومثل هذا الأمر سيمنح قوات الدعم السريع ورقة مهمة تمكنها من التفاوض من موقع قوة؛ إما لتشكيل حكومة مدنية تراعي التمثيل الحقيقي لدارفور، أو انتزاعها للإقليم وعزله عن المركز، وإقامة دولة بديلة إذا عجزت عن تحقيق أهدافها من هذه الحرب.
وقد انتقدت تلك الحركات تصريحات أحد ضباط الجيش، التي استنكر فيها موقف الحياد الذي اتخذته تجاه الحرب الدائرة، مشددةً على «التزامها الحياد ولو كرهها دعاة الحرب وميليشياتهم». وقالت في بيان -27/7/2023، إن «الحرب الدائرة الآن هي بين شركاء السلطة، مشيرة الى أن المجموعتين اللتين تتقاتلان الآن عرقلتا تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية منذ توقيع وثيقة السلام.
وزادت أن «الحركات المسلحة لها قضية وطنية تهدف إلى بناء دولة تسع وتحترم الجميع، وترفع شأن وكرامة الإنسان السوداني». ولفتت إلى أن «خطاب التشكيك بالوطنية وانتقاص سودانية الآخر المختلف ليس جديداً، وإنما هو ضمن الخطابات التي تفكك لحمة ووحدة السودانيين، وتمزّق نسيجهم الاجتماعي، وتخلق هوة بين أقاليمها والوصول بالبلاد والعباد الى حالة الفوضى وحرب الكل ضد الكل فيما يظل ورثة السلطة يستمتعون بالمشاهدة». [محمد الأقرع/ «حميدتي: السلام لن يحدث ما لم يسلّم البرهان ومن معه أنفسهم»/ «القدس العربي»: 28/7/2023].
■ يذكر في هذا الصدد أنه بعد اتفاق جوبا، وفي محاولة لكسب ودّ الحركات المسلحة في دافور، كان قادة الجيش قد عينوا قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، مني أركو مناوي، حاكماً لدارفور. وجاء هذا التعيّين كمحاولة منهم، كذلك، لاحتواء الموقف في الإقليم الذي لا زال يُعانى من الظلال الثقيلة للحرب السابقة وما شهدته من أهوال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
وتزداد الحاجة الآن لتوفير درجة عالية من الهدوء في دارفور، عقب الانقلاب العسكري في النيجر -26/7/2023، وما يمكن أن يخلفه من تداعيات أمنية على منطقة تحفل بصراعات محلية تتشابك فيها قوى إقليمية ودولية عديدة. [«قوات الدعم السريع تُحكم سيطرتها على دارفور تدريجيّا»/ «العرب»: 5/8/2023]■
• هامش: أبرز الحركات المسلحة التي عرفها إقليم دارفور
1- حركة تحرير السودان
■ زعيم الحركة هو المحامي عبد الواحد محمد نور. ويتولى منصب الأمين العام للحركة منى أركي مناوي، وهو من قبيلة الزغاوة واشتهر كقائد ميداني له علاقة وثيقة بالنظام الإريتري، ومعظم القادة العسكريين في صفوف الحركة كانوا من الضباط السابقين في الجيش السوداني أو التشادي. وللحركة جناح عسكري هو «جيش تحرير السودان». وكانت عضوية الحركة في البداية تقتصر على أبناء قبيلة الفور، ثم انضم إليها أبناء القبائل الدارفورية الأخرى، مثل الزغاوة و المساليت والفور، وهي من أبرز القبائل الإفريقية بالإقليم.
وهناك حركات جنوبية عدّة لها تأثير في نزاع دارفور؛ أهمها «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، التي كانت تقدم الدعم اللوجيستي والسياسي لحركة تحرير السودان.
2- حركة العدل والمساواة
■أسس هذه الحركة الدكتور طيّب خليل إبراهيم- 3/2003، وكان مقيما في لندن، ومعظم مقاتلي الحركة من قبيلة الزغاوة، وكذلك الدكتور خليل نفسه، الذي كان إسلامياً أصولياً قبل أن ينتقل إلى الاتجاه العلماني، وتخفت نبرة خطابه الديني لصالح الخطاب الاثني والقبلي.
وتدعو حركة العدل والمساواة لفصل الدين عن الدولة، وخلق سودان ديمقراطي جديد. وتنادي بقيام تحالف من المناطق المهمشة ضد سيطرة الحكومة المركزية، ولم يدعُ زعيم الحركة خليل ابراهيم لأي مواقف انفصالية عن الحكومة السودانية المركزية. [جلال رأفت/ «أبعاد أزمة دارفور السياسية والثقافية»، مجلة
«المستقبل العربي»: العدد 312 – شباط(فبراير) 2005]■
(5)
الاقتصاد السوداني والأوليغارشية الجديدة
■ ظل اقتصاد السودان منذ استقلال البلاد مُستنزفاً في الحروب الداخلية المتلاحقة، ما أن يتعافى قليلا ويبدأ في النمو خلال فترات الاستقرار الهشة، حتى تندلع حرب أخرى تستنزفه من جديد.
وتصبح الصورة قاتمة أكثر إذا رصدنا تأثير إنتشار الفساد المالي والإداري وعمليات التهريب، حيث أصبح الاقتصاد يُعاني من اختلالات هيكلية، ويعتمد بدرجة كبيرة على سلعة واحدة لاستجلاب العملات الصعبة، والصرف على القطاعات الخدمية. ففي السنوات التي أعقبت الاستقلال إعتمد على القطن كمورد رئيسي، ولاحقا على البترول، والآن يعتمد على الذهب.
خلال سبعينيات ق 20 – الذي يسمونه «عقد التنمية» في السودان – ضخ البنك الدولي وصناديق الاستثمار العربية الأموال في البلاد، وعندما تعذر تسديد الديون المستحقة، إكتشف وزير المالية أنه لا يوجد حساب مركزي لما تم اقتراضه، ومِمّن، ولأي سبب، أو ما حدث للمال!.
■ في تسعينيات ق 20، شقّت حكومة البشير طريقاً «إسلامياً» إلى التنمية والحداثة، مُعتمدة أولاً على المحاصيل الزراعية، ثم على تصدير النفط. ولكن، من دون أن يتم احتساب عائدات النفط وإدخالها في الموازنة. كان يمكن الاستدلال إلى حجم هذه العائدات فقط من أبراج المكاتب اللامعة للشركات المملوكة للإسلاميين، والمرتبطة بالأمن، وما يسميه السودانيون بـ«الدولة العميقة». واستمرّ الأمر كذلك إلى أن تلقّى الاقتصاد السوداني صدمة حين حدث إنفصال الجنوب عام 2011، وفقدَ السودان ثلاثة أرباع إنتاجه النفطي ونصف إيراداته الحكومية، وبدأ بعد ذلك مسلسل انهيار الاقتصاد.
■ ويقول الخبراء إن نظام البشير أضاع فرصة كبيرة لإحداث نهضة إقتصادية وتنموية شاملة في البلاد، عندما توافرت له موارد هائلة بلغت حوالي 70 مليار$ في الفترة ما بين 2000-2010 من عائدات البترول، وذلك لو أبدى اهتمامه بتطوير القطاعَين الزراعي والحيواني، لكن هذا لم يحدث، واهتم فقط بالصرف على الأجهزة الأمنية وعلى المنظمات الفئوية التابعة له، بغرض الحفاظ على سلطته، فضلاً عن استغلال عناصر النظام لموارد الدولة لتقوية نفوذًهم في السوق، وبناء اقتصاد ظلٍّ موازي.
يضاف إلى ذلك، ما ألحقته العقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية من خسائر فادحة فاقت الـ 50 مليار$. وأدت إلى خروج النظام المصرفي السوداني من المنظومة المالية العالمية، وتضرّر قطاع الطيران بحرمانه من قطع الغيار والصيانة الدورية، وفقدان قطاع السكك الحديدية لـ 83% من بنيته التحتية، كما تأثّر أكثر من 1000 مصنع بشكل مباشر بالعقوبات، بسبب عدم حصولها على قطع الغيار أو البرمجيات الأميركية■
(5-1)
الفساد المالي والسياسي
■ عرف السودان في العقود الأخيرة انتشار الفساد بأشكاله المختلفة، وخاصة في ظل تزاوج الفساد السياسي والاقتصادي، ما جعل هذا البلد العربي يتصدّر قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم. وتحدث تقرير، أعدّه فريق من الاتحاد الأفريقي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية الخاصة بإفريقيا، عن أن فجوة المعاملات التجارية العالمية للسودان خلال فترة 2012-2018 بلغت 30,9 مليار$، وهو مبلغ يمثّل 50% من إجمالي تجارة السودان خلال هذه السنوات. مشيراً إلى أن سبب ذلك هو الفساد والتدفقات المالية غير المشروعة التي تُكلّف السودان 5,4 مليار$ سنويا. وتتمثل هذه التدفقات في عمليات غسيل الأموال والتهرب من الجمارك والضرائب، والتلاعب بالأسعار والفواتير التجارية، وهروب رأس المال المحلي، والممارسات المرتبطة بتعدد سعر الصرف، وجرائم الفساد الكبيرة بواسطة موظفي الدولة وتحويل كل العائدات المترتبة على ذلك إلى حسابات في الخارج.
وكمثال على ذلك، يقول السودان إنه حصل خلال هذه الفترة على 4,8 مليار$ من صادرات النفط، فيما يؤكد شركاؤه التجاريون أنهم استوردوا بترول بقيمة 8,9 مليار$. [يوسف بشير/ «إقتصاد ثري يعطله الفساد والانقلابات»/ «نون بوست»: 1/6/2023]■
(5-2)
«أوليغارشية جديدة»
■ وقد أدى تحالف رجال السلطة ورجال المال والأعمال الجدد إلى خلق طبقة حاكمة جديدة، أو ما يطلق عليه البعض، «طبقة أوليغارشية حديثة»، أثرت وراكمت الثروات مستفيدة من الاستبداد القائم، ثم احتكرت السلطة والمال، وأخرجت البورجوازية التقليدية من السوق، بينما يعاني الشعب من الفقر والتهميش.
وكانت بداية تشكل الأوليغارشية مع بدء حكم الرئيس جعفر نميري- 1969 إلى 1985، الذي حاول إحكام سيطرته على مفاصل الدولة وإدارتها كأنها ملكية خاصة له، وذلك عبر تقريب بعض الشخصيات السياسية والعسكرية إليه، إضافة إلى بعض رجال الأعمال، بهدف خلق بطانة إقتصادية تدعمه وتقوي حكمه، في مواجهة محاولات الانقلاب المتكررة ضده.
وفي سبيل ذلك، أصدر مرسوماً بتشكيل «التعاونية الاقتصادية العسكرية»، حدّد بموجبه أهداف المؤسسة العسكرية في أربع نقاط وهي: استعمال الموارد العسكرية الفائضة لدعم اقتصاد البلاد، وتجويد عيش أفراد القوات المسلحة وأعضاء أسرهم، وتجهيز الجيش بالمعدات والأجهزة اللازمة، وتحسين مستوى الأداء الإداري والتقني لأعضاء الجيش.
وقد حول هذا المرسوم الجيش إلى طبقة ذات هوية إقتصادية - إجتماعية ترتبط مصالحها بشكل بنيوي بمصالح النظام القائم، وسمح بظهور فئة من رجال الأعمال هم في الأصل ضباط، أو أفراد من عائلاتهم، يستغلون بشكل إستباقي المعلومة الاقتصادية الحساسة وغير المتوافرة للعموم.
■ تواصل هذا النهج وتكرّس أكثر في عهد عمر البشير، الذي قرب إليه مجموعة من رجال الأعمال - هم في الأصل ضباط في الجيش والمخابرات - للسيطرة على قطاعات الدولة الربحية، وفي مقدّمها قطاع الاتصالات، ما ساهم في إطالة أمد حكمه لأكثر من 3 عقود.
وزادت هيمنة هذه الفئة مع إقرار منظومة «الصناعات الدفاعية»- 2017، التي مكّنت المؤسسة العسكرية، ومن خلفها رجال الأعمال المقربين من السلطة، من التوسع في نشاطاتهم الاقتصادية المدنية. فانتشرت الشركات التي تعود ملكيتها لضباط في الجيش تحولوا إلى رجال أعمال، وشملت مجالات حيوية مثل شركات الأمن الغذائي والكيماويات والخدمات التقنية الطبية المحدودة، والتأمين. وكذلك المجال البنكي، ومنها؛ «توباز» للصناعات المعدنية، و«زادنا» للاستثمار الزراعي، و«الخرطوم» للتجارة والملاحة، و«شيكان» للتأمين.
وهكذا ترسّخ تحالف قوي بين المال والسلطة، وامتلكت الأوليغارشية الجديدة المحيطة بعمر البشير، استثمارات كبيرة جدا تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وسيطرت سيطرة شبه كاملة على السوق؛ من تجارة دقيق الخبز وصولاً إلى الصناعات الثقيلة، في وقت كان السودان يغرق في الأزمات، وتتناسل فيه الحروب.
■ بعد الإطاحة بنظام عمر البشير، كُشفت ملفات فساد عديدة محيطة بهذه الأوليغارشية، ومنها الدور الذي لعبته القروض الحكومية من بنك التنمية الآسيوي، أو من دول الخليج مثل الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أو البنوك الإفريقية في تمويل هذه الطبقة وازدهار أنشطتها الاقتصادية. وفي هذا السياق، برزت أسماء عدد من رموز وأقطاب هذه الفئة؛ مثل نجل عمر البشير بالتبني، أيمن المأمون. ووزير الخارجية علي كرتي، الذي يطلق عليه «إمبراطور الأسمنت والحديد والأخشاب».
ويتهم عمر البشير نفسه باختلاس مليارات الدولارات من خزينة الدولة، وإدارة شركات تابعة له ولأسرته تعمل في استيراد السلع الاستهلاكية والأسمدة والمنتجات النفطية، عن طريق صفقات ممولة من قروض وتسهيلات ائتمانية بلغت مئات ملايين الدولارات حصل عليها السودان من بنك التجارة والتنمية لدول شرق وجنوب إفريقيا. وقد تم مصادرة العديد من الشركات والعقارات والأراضي والفنادق والمراكز التجارية والمزارع التابعة له ولرجاله عقب سقوط نظامه. [عائد عميرة/ «السودان.. كيف تشكلت طبقة الأوليغارشية؟ ومن هم أهم رموزها؟»/ «نون بوست»: 6/9/2022]■
(5-3)
التهريب آفة الاقتصاد
■ إضافة إلى ذلك، جرى تهريب 267 طنًّا من الذهب خلال الفترة 2013-2018. ويقول تحقيق استقصائي بثّته شبكة «سي إن إن» في تموز(يوليو) 2022، إن حوالي 90% من إنتاج الذهب في السودان يهرَّب خارج البلاد، ما يعني احتمال خسارة الإيرادات الحكومية نحو 13,4 مليار$. وتحدّث التقرير عن 16 رحلة جوية روسية معروفة على الأقل هرّبت الذهب من السودان على مدار العام ونصف العام، السابقين لإعداد التقرير، وذلك في مقابل تقديم الدعم السياسي والعسكري للحكّام العسكريين.
وإضافة إلى الذهب، يهرَّب الصمغ العربي، الذي استثنته الولايات المتحدة من حصارها ضد السودان لمدة عشرين عاماً، نظرا لأهميته الطبية والغذائية، حيث ينتج السودان قرابة 75% من الإنتاج العالمي.
إضافة إلى ذلك، يعتبر السودان صاحب ثالث احتياطي من مادة اليورانيوم الخام الداخلة في صناعة الأسلحة النووية، ويصل إلى 1,5 مليون طن حسب أرقام غير رسمية. ويوجد هذا المعدن في دارفور وجبال النوبة وكردفان والنيل الأزرق والبطانة وولاية البحر الأحمر .
■ وفي ظل هذه الأوضاع كانت تتفاقم ديون البلاد، وبلغت مع فوائدها أكثر من 50 مليار$، أي ما يعادل 200% من إجمالي الناتج المحلي. وتشير تقديرات الخبراء إلى أن مستوى الفقر قفز من 50% عام 1994 إلى نحو 80% في الأعوام الأخيرة، وبأن دخل الفرد لا يتجاوز 1,25$ يومياً.
ويُرجّح أن يشهد اقتصاد السودان إنكماشا كبيرا بسبب الحرب الحالية، التي دمّرت وستدمِّر البنية التحتية للاقتصاد. وتُفيد التقديرات الأجنبية بأن كلفة الاشتباكات الدائرة تتجاوز نصف مليار$ يومياً. وفي هذه الحالة يتم اللجوء إلى طباعة النقود بكثافة من أجل تمويل الحرب، خاصة في ظل الحصار المالي على الخزينة العامة وضعف القاعدة الضريبية، ما يزيد من تفاقم أزمة التضخم الجامح الموروث أصلًا من عهد البشير. [يوسف بشير/ مصدر سابق]■
(6)
الجيش السوداني..
تاريخ حافل بالانقلابات والولع بالسلطة ومنافعها
■ عند استقلال البلاد، جرت سودنة قادة «قوة دفاع السودان» التي شكلها الحكام البريطانيون - 1925، لمساعدتهم في فرض سيطرتهم على البلاد، وتستند إلى قاعدة إجتماعية ضيقة في شمال ووسط البلاد. وكان ذلك إيذانا بميلاد «الجيش الوطني» الذي أظهر فيما بعد ولعاً إستثنائياً بالسلطة ومحاولات الوصول إليها، كما ظل لسنوات طويلة يحارب التمردات الناشبة في أقاليم السودان المهمّشة، إضافة إلى انشغاله الدائم بمغانم السلطة وإدارة الأعمال التجارية.
■ نفذ ضباط الجيش عددا كبيرا من الانقلابات العسكرية، نجح ثلاثة منها وتسلم أصحابها السلطة لفترات زمنية طويلة، وانتهت جميعها بثورات شعبية أطاحت بهم:
1- الانقلاب الناجح الأول قاده قائد الجيش إبراهيم عبود في 17/11/1958، واستمر في الحكم 6 سنوات إلى أن أطاحت به ثورة شعبية في 21/10/1964.
2- الانقلاب الثاني نفذه تنظيم «الضباط الأحرار» بقيادة جعفر نميري في 25/5/1969، ووجد تأييدا فوريا من الحزب الشيوعي، ولكن سريعا ما دبت الخلافات بينهما ووصلت إلى مرحلة تنظيم ضباط محسوبين على الحزب بقيادة هاشم العطا إنقلابا أطلقوا عليه الحركة التصحيحية في 19/7/1971، حكم ثلاثة أيام قبل أن يعيد نميري فرض سيطرته على البلاد بدعم خارجي.
إستمر نميري في الحكم 17 عاما، متقلبًا من يساري صارخ إلى يميني متشدد، إلى أن سقط بثورة شعبية في 6/4/1985، عندما أجبر ضباط الرتب الوسيطة وزير الدفاع عبد الرحمن سوار الذهب على عزل نميري، ليُشكل مجلسا عسكريا أدار البلاد لمدة عام واحد في فترة إنتقالية إنتهت بتنظيم إنتخابات.
3- وفي 30/6/1989، نفذ عمر البشير إنقلاباً ناجحاً بالاعتماد على الحركة الإسلامية التي كان يتزعمها آنذاك حسن الترابي، وذلك قبل أن يحدث الافتراق بينهما عام 1999. مكث البشير في السلطة 30 عاماً، إلى أن أطاح به قادة الجيش في 11/4/2019، على خلفية إحتجاجات سلمية إستمرّت لأشهر عدة.
■ يلاحظ في هذا التاريخ الحافل بالانقلابات، أن نجاح أي انقلاب كان يتطلب دعماً سياسياً: فعبود إستلم السلطة بمباركة من الزعيمين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، أما نميري فوجد تأييداً من الحزب الشيوعي أولاً ثم من القوميين، فيما خططت الحركة الإسلامية لانقلاب البشير. [يوسف بشير/ «جيش مولع بالسلطة والاقتصاد وسلاح في أيدي المليشيات والقبائل»/ «نون بوست»: 31/5/2023].
أما البرهان (63 عاماً) فهو ينتمي إلى عائلة دينية من ولاية نهر النيل، شمال البلاد، تتبع طريقة الختمية، وهي من الطرق الصوفية المعروفة في السودان. تخرج من الكلية الحربية، وشارك في حرب الجنوب ودارفور، ضمن قوات المشاة، وانخرط في «حرس الحدود» التي أصبح قائدها لاحقاً. عمل ملحقاً عسكرياً في الصين، وتدرج ليصبح مفتشا عاما للقوات المسلحة السودانية في بداية 2018، قبل نحو عشرة أشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير.
وبعد إعلان استقالة عوض إبن عوف الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، بسبب رفض الشارع توليه رئاسة المجلس العسكري، وتنازل القائد الثاني بعده في التراتبية، كمال عبد المعروف، عن المنصب، أصبح البرهان الذي لم يكن يعرفه السودانيون وقتها، رئيساً للمجلس العسكري وقائداً عاماً للجيش، علماً أنه «ليس شخصية سياسية، ولا يمتلك كاريزما»، بل ويتلعثم في الكلام، (على عكس حميدتي أو البشير من قبله)، كما يقول كثيرون.
■ وتقول أوساط من داخل القوات المسلحة: «إن حميدتي هو صاحب الفضل في تولي البرهان رئاسة المجلس العسكري ومن ثم رئاسة مجلس السيادة، لأنه مارس ضغوطاً كبيرة داخل المجلس العسكري لإبعاد إبن عوف وعبد المعروف عن المنصب الذى آل إلى البرهان». والسبب في ذلك أنهما يعرفان بعضهما منذ الحرب في دارفور، التي قاتلا فيها جنبا إلى جنب. [وردت لدى ميعاد مبارك: «حرب المدن تضع البلاد على حافة الهاوية»/ «القدس العربي»: 23/4/2023].
وعليه، فبعد تولي البرهان رئاسة مجلس السيادة في الحكومة الانتقالية – 8/2019، تم تعيين حميدتي نائباً له، ومنذ ذلك الوقت شرع الرجل الثاني في الدولة بتوسيع أنشطته الاقتصادية والعسكرية المستقلة، وكذلك ارتباطاته الدولية والإقليمية.
■ ولكن عقب إنقلاب 25/10/2021 الذي أطاح بالشراكة مع المدنيين والحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك، تعقد المشهد السياسي في البلاد وأصبحت الخلافات بين الأطراف تتصاعد يوماً بعد يوم، وسط استمرار التظاهرات الشعبية المطالبة بإنهاء حكم البرهان وحميدتي.
وفي أعقاب التوقيع على «الاتفاق الإطاري»- 5/12/2022، الذي كان من المنتظر أن يقود إلى تسوية تعيد الانتقال الديمقراطي إلى البلاد، تصاعدت بشأنه الخلافات بين الجانبين، وخصوصاً ما تعلق منها بورقة الإصلاح الأمني والعسكري، حيث رفض الجيش مطالب حميدتي بدمج قواته في الجيش خلال عشرة أعوام، وتبعية قواته لرئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية المقبلة، وتمسك الجيش بالدمج خلال سنتين وتبعية قوات الدعم السريع لقيادة الجيش، وكان هذا الخلاف هو السبب المعلن لانفجار الحرب بينهما■
(6-1)
إمبراطورية إقتصادية
■ بعد تشكل حكومة عبدالله حمدوك الانتقالية، أبدى قادة الجيش ممانعة قوية لإدارة هذه الحكومة لشركات الجيش التي يُفرض عليها جدار عالٍ من السرية، على الرغم من أن كثيرا منها تعمل في مجالات مدنية حيوية مثل طحن القمح والأدوات الكهربائية والنقل وتشييد الطرق وتصدير المحاصيل الزراعية والحيوانات الحية واللحوم وتجميع السيارات، إضافة إلى شركات منظومة الصناعات الدفاعية.
وأعلنت الحكومة الانتقالية في 19/6/2020، عن نتائج مسح الشركات الحكومية، فقالت إنها تبلغ 650 شركة منها 200 شركة تابعة للقطاع العسكري، ومن مجمل هذه الشركات هنالك 12 شركة فقط تساهم في الإيرادات العامة للدولة، وبأنّ وزارة المالية تُدير 18% فقط من أموال الدولة.
وقدر وزير التجارة في الحكومة الانتقالية، إبراهيم الشيخ، رأس مال شركات الجيش بـ10 مليارات$، ما يعني أن قادة الجيش كانوا مشغولين عموما بتنفيذ الانقلابات العسكرية وإدارة الإمبراطورية الاقتصادية التي شملت حتى البيع بالتجزئة. ومن الواضح أن ثمة رابطاً قوياً بين مصالح الجيش الاقتصادية وعدم تخليه عن السلطة لصالح المدنيين.
■ يذكر في هذا الصدد، أنه عندما حصل إنقلاب 25/10/2021، كانت «لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد»، وهي ذراع مكافحة الفساد في الحكومة المدنية، على وشك نشر تحقيقها في فساد شركات الجيش. وكان أول ما فعله الجنرالات بعد انقلابهم، هو اقتحام مكاتب اللجنة والاستيلاء على وثائقها.
وقال الطيب عثمان يوسف، الذي ترأس اللجنة التي قامت بفحص كيفية تفكيك دور القوات العسكرية والأمنية في الاقتصاد، إن الجيش يملك شركات تمثل ربع الناتج المحلي للبلد، أما قوات الدعم السريع فتمثل نصف الناتج المحلي. وقال يوسف إن التحقيق الذي قامت به اللجنة ومخاوف تلك القوات من خسارتها امتيازاتها كان وراء الانقلاب الذي قام به البرهان وحميدتي- 2021. [نقلاً عن صحيفة «واشنطن بوست»/ ابراهيم درويش/ «القدس العربي»: 20/4/2023].
■ وهكذا، فعلى رغم أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، ليس لديه مصدر مالي شخصي خاص به لتيسير الصفقات السياسية، وقد أُجبر على المساومة مع رجالات المال العسكريين والمقربين منهم بشأن القرارات المهمة. إلا أنّ نفوذه يستمدّه من شبكة المصالح الهائلة التي يتمتع بها ما يطلق عليه البعض «المجمع العسكري التجاري»، أو ما يسميه الديمقراطيون السودانيون بـ«الدولة العميقة». وهي عبارة عن شبكة من الشركات التي تقوم على المحسوبية، وتضم بنوك وشركات إتصالات يملكها إسلاميون وضباط في الجيش أو الاستخبارات، إضافة إلى شركات يملكها الجيش نفسه في مجالات تصنيع الأسلحة، والبناء، والزراعة، والنقل. [أليكس دي وال/ «إنزلاق السودان نحو الفوضى»/ مقال مترجم من «فورين أفيرز»، ونشر في «أندبندنت عربية»: 5/5/2023].
كما يستند البرهان كذلك إلى العلاقات التي تربطه ببعض أركان نظام البشير السابق. وليس سراً أن الموالين القدامى للبشير يرون فيه أفضل أداة تعيدهم إلى السلطة. ويرى بعض السودانيين، أن لهؤلاء الموالين من الإسلاميين دوراً في نشوب النزاع بين البرهان وحميدتي، وخصوصاً بعد إعادة بعض رموزهم إلى مؤسسات الدولة، الأمر الذي أثار مخاوف حميدتي الذي يعتبره الإسلاميون عدوهم اللدود، ويحملونه مسؤولية سقوط البشير، فأخذت بعدها تتباعد مواقفه الداخلية والخارجية عن مواقف البرهان، وصار كلٌّ منهما يتربص بالآخر■
(7)
«قوات الدعم السريع»..
يافطة جديدة وانتهاكات مستمرة
■ يقول الباحث البريطاني أليكس دي وال، المهتم بالشأن السوداني، والذي شارك في تأليف كتاب «الديمقراطية غير المكتملة في السودان: الوعد وخيانة ثورة شعبية»، إنه نادراً ما انتصرت القوات المسلحة السودانية في النزاعات العسكرية الطويلة التي خاضتها. ويُرجع ذلك إلى أن «سلك الضباط ينحدر في الغالب من النخبة الحاكمة في الدولة، فيما ينتمي الجنود المشاة إلى الطبقات الفقيرة والأطراف المهمشة، وغالبا ما يفتقر هؤلاء إلى حافز للقتال».
لهذا السبب لجأ البشير إلى أداة قتالية قليلة الكلفة ومُجرّبة من قبل، وهي ميليشيا قبلية تحارب نيابة عنه، علماً أن توزيع السلاح على القبائل العربية في مناطق كردفان ودارفور المتاخمة لجنوب السودان، يعود إلى حكومة الصادق المهدي- 1986 إلى 1989.
■ وهكذا، تشكلت ميليشيا الجنجويد وشقّت طريقها وسط قرى دارفور بالحرق والنهب والذبح، في حملة وصفت بـ«إبادة جماعية»، واتهمت «الجنجويد» - حسب منظمات حقوقية كثيرة - بعدد لا يحصى من انتهاكات حقوق الإنسان، ووجّهت المحكمة الجنائية الدولية إتهامات لبعض قادتها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. كما صدرت من مجلس الأمن قرارات في هذا الشأن، بما فيها مذكرات اعتقال طالت رأس النظام السابق عمر البشير، وقيادات أخرى متورطة في هذه الجرائم.
وكان نجاحه في سحق التمرد في دارفور، سبباً رئيسياً في قرب حميدتي من البشير، الذي أضفى - 2013 الطابع الرسمي على «الجنجويد»، تحت مسمّى «قوات الدعم السريع». ومنحه رتبة فريق مع أنه لم يخضع لأي تدريب عسكري رسمي. ومع تصاعد الاحتجاجات في الشارع - 12/2018، إستدعى البشير وحدات حميدتي إلى العاصمة كقوة حماية شخصية له، وبات يُطلَق عليها «حمايتي»! بيد أن حميدتي خذل سيده وتخلى عنه، وحوّل سقوطه إلى فرصة له، حين شارك مع البرهان في الانقلاب الذي أطاح به، تحت يافطة «الانحياز لموقف الشارع والثورة».
■ بعد الإطاحة بالبشير، إتُهمت قوات الدعم السريع بارتكاب المزيد من الجرائم، إذ لعبت دوراً مركزياً في مجزرة فض الاعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة في الخرطوم- 6/2019، قُتل خلالها عشرات المعتصمين، كما ارتكبت عشرات حالات الاغتصاب كذلك. وكانت ميليشيا الجنجويد مارست الاعتداءات الجنسية على نطاق واسع في حرب دارفور. [جلبير الأشقر/ «فظائع السودان والدرس التاريخي»/ «القدس العربي»: 17/5/2023].
وعلى رغم تلقي قوات الدعم السريع، في السنوات الأخيرة، تدريبات عسكرية إحترافية، وتوسّعها قليلاً لكي لا تبقى مقتصرة على لون إثني محدد، إلا أنها ظلت محافظة، في جوهرها، على طابعها القبلي الذي يتمحور حول قبيلة حميدتي، الرزيقات، هذا فضلاً عن قيادتها العائلية، وسلوك مقاتليها الشرس والعنيف وما يرافقه من انتهاكات، وهو الأمر الذي لم يحظَ بقبول الأوساط السياسية السودانية.
■ ومع ذلك، يحاول حميدتي الآن تقديم نفسه كبطل للمحرومين والمضطهدين في السودان. ويسعى إلى استمالة المجتمعات المهمشة تاريخياً، في دارفور وغيرها من المناطق، عبر تصوير نفسه كمقاتل من أجل العدالة والديمقراطية، وكان أخذ يميز نفسه أولاً عن البرهان، ويحتفظ بمسافة عن مواقفه «المتعنتة في عملية تسليم السلطة للمدنيين»، منذ أن تراجع عن تأييده لانقلاب 2021، ثم ومع اقتراب المواجهة مع البرهان، شرع يدافع علناً عن الحاجة إلى «ديمقراطية حقيقية»، ويسعى إلى كسب ودّ المدنيين بدعوى أنه الوحيد القادر على منع عودة فلول نظام البشير، في إشارة إلى «الإسلاميين»، وهذا يتقاطع أيضاً مع رغبات وتوجهات حلفائه في الخليج.
■ لكن، وعلى رغم هوية حميدتي «العربية»، هو وكبار قادة قواته، إلا أنّ هناك فجوة واسعة بينهم وبين النخب السودانية الحضرية، أو «الطبقة السياسية الحاكمة»، التي تنتمي إلى «المركز»، وتستند إلى قاعدة إجتماعية؛ عروبية من جهة (هواها مصري عامة)، ومحافظة دينياً من جهة أخرى، خلافاً لما يصفونه بـ«المجتمعات البدوية الصحراوية»، الجلفة التي تثير خوفهم ومخاوفهم، وفي الوقت نفسه يزدرونها ويسخرون منها، ويصفونها بأنها «أميّة ولا تجيد الكلام المنمق».
يضاف إلى ذلك، أن أغلب مقاتلي الدعم السريع هم من «الرعايا الغاضبين» الذين ينتمون إلى المناطق المهمّشة المحرومة من غنائم الدولة، والذين يصفون سلوك السلطات في الخرطوم تجاههم بـ«السلوك الإمبريالي»، ويحلمون بمن يأتي لتحريرهم من الاضطهاد والغبن التاريخي الذي لحق بهم، مثلهم في ذلك، إلى حد كبير، مثل السودانيين الجنوبيين الذين صوتوا للانفصال.
وعلى ذلك، صار يعرب البعض عن اعتقاده إن قوات الدعم السريع لا تمثل فقط منظمة عسكرية، بل هي كتلة إجتماعية واقتصادية وثقافية، تشكلت خارج الحواضن التقليدية للدولة، مثلها في ذلك مثل مجموعات كثيرة مشابهة في مناطق السودان المختلفة، تمثل إحدى نتائج سياسات التهميش والاستبعاد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
■ ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى أنّ انتصار حميدتي وقواته، لن تنجم عنه سوى سيطرة لصوصية شعبوية لن تستطيع فعل شيء تجاه أزمات الفقر والجوع والبطالة التي يعاني منها أغلب السودانيين في مختلف مناطقهم. [أليكس دي وال/ مصدر سابق].
فميزة حميدتي الكبرى ليست في مهاراته القتالية حتى وإن توفرت؛ وليست في اتسامه بالكثير من الحيوية والبراغماتية حتى وإن تمتع بهما؛ كما أنها ليست في قدرته على الخطابة والتحدث باللهجة العامية التي تقربه من الناس العاديين حتى وإن اتصف بذلك؛ ميزته الكبرى التي تميزه عن سواه من قادة الحركات المسلحة الأخرى هي المال. نعم، المال الذي بمقدوره دفعه لمقاتليه ومرتزقته، والذي مكنّه من مضاعفة أعداد مقاتليه الذي بات يبلغ الآن 120 ألفاً، حسب بعض التقديرات، ويمكنّه من شراء ولاء بعض العشائر والقبائل أيضاً.
■ لقد كان حميدتي تاجر إبل قبل أن يبدأ صعوده من خلال مشاركته في قوات «الجنجويد». ثم سرعان ما برز نجمه كقطب من أقطاب الأوليغارشية الجديدة التي تشكلت في حقبة البشير. ففي 2017 أطلق البشير العنان له ولجماعته للسيطرة على جبل عامر الغني بالذهب في دارفور، وبفضل الذهب، الذي يعدّ السودان ثالث منتج له في إفريقيا، إكتسب دقلو حلفاء مهمين؛ من الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، المشتري الرئيسي لذهب دقلو، وسنده الرئيسي، وصولاً إلى الرئيس الروسي بوتين، عبر صلة الوصل، شركة ڤاغنر.
وفوق ذلك، فقد منحت الحكومة عقودا ميسرة كثيرة لشركة «الجنادي» التي تتاجر بالذهب وتنقل سبائكه بملايين الدولارات إلى دبي، ويملكها أحد أشقاء حميدتي وأسرته، (عبد الرحيم دقلو وإبنيه)، ويشغل عبد الرحيم منصب نائب قائد الدعم السريع. والشركة هي عبارة عن مجموعة ضخمة تغطي أنشطة الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، وتشرف على أعمال واستثمارات عديدة داخل السودان وخارجه، ولا يُعرف بالضبط حجم أصولها ومواردها.
■ كما وضع حميدتي يده على كثير من القطاعات الاقتصادية بما في ذلك الزراعة، خاصة مع وفرة الأراضي الصالحة للزراعة وغير المستغلة بعد، ووفرة مياه الأنهار والأمطار، حيث تمثل إيرادات القطاع الزراعي ما نسبته 48% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان، وفقًا لبيانات رسمية عام 2017.
وباتت قواته بمثابة ذراع تنفيذية و«يد ضاربة» لإمبراطوريته التجارية الواسعة. وقد جنى أموالاً طائلة نتيجة قيام تلك القوات بأعمال إجرامية خارجة عن القانون، من قبيل تصفية المعارضين وترويعهم، فضلاً عن ارتكاب مجازر حرب في دارفور. وثمة من يعتبر أن قواته كانت أشبه بـ«مؤسسة مرتزقة خاصة» عابرة للحدود، حيث قامت بتأجير خدماتها لملوك ومشايخ الخليج للقتال في اليمن، وكان لديها تعاملات مع مجموعة ڤاغنر، التي تقوم بحراسة مناجم ذهبه، وتقدم المعدات العسكرية لقواته. ومع الجيش الوطني الليبي وقائده، خليفة حفتر، الذي يزودها بالأسلحة والوقود، ويتبادلان المصالح والمنافع على غير صعيد. [إبراهيم درويش/ «إيكونوميست: ماذا ينتظر «حميدتي».. فرصه ضعيفة وسلاحه المال؟»/ «القدس العربي»: 1/6/2023].
■ وهكذا، فإنّ الثروات الضخمة التي راكمها، والإمبراطورية الاقتصادية الهائلة التي تمكن من تشييدها على مدى قرابة عقدين من الزمن، إضافة إلى السلطات الاستثنائية التي تمتع بها، كلّ ذلك سمح له بمدّ نفوذه داخلياً وخارجياً، وبناء شبكة علاقات خاصة مع الإمارات والسعودية وروسيا، ومكّن حميدتي ليس من أن يصبح دولة داخل الدولة فحسب، بل منحه القدرة وحافز التطلع والمنافسة للسيطرة على مركز السلطة والقرار في السودان. وهو ما أثار، طبعاً، مخاوف الجيش وقائده، لتعارضه مع رغبة البرهان وطموحه للاستئثار كذلك بمقاليد الحكم، وكان هذا من بين أهم أسباب اندلاع الحرب بين الطرفين. [عمر الفاروق/ «رصاصة أولى «مجهولة» تطلق المواجهة المؤجلة بين الجيش السوداني والدعم السريع»/ «القدس العربي»: 23/4/2023]■
(8)
تأثير الدور الخارجي
■ مع فشل الرهان الداخلي على الحسم العسكري السريع للحرب، والهروب نحو إشعال المزيد من الحرائق في هشيم التنوع الإثني والقبلي، وتنامي المخاوف من اتساع نطاق الحرب، وعودتها إلى سابق عهدها في دارفور وغيرها، على نحو تعمّ فيه الفوضى مختلف الأقاليم السودانية، في بلد شاسع المساحة وجوار متفجر بحروبه الأهلية الطاحنة، في موازاة ذلك كلّه، تصاعد الحديث في الأوساط المهتمة حول ضرورة التدخل الخارجي في السودان، علماً أنه في ضوء التجربة السابقة، فإن الحرب لم تتوقف في دارفور إلا بعد وصول قوات أممية إلى الإقليم، كان قوامها من القوات الإفريقية بشكل رئيسي.
بيد أن تعامل المجتمع الدولي مع الحدث السوداني الراهن يتسم بقدر كبير من الارتباك والتناقض والتلكؤ، ولم يبدِ أيّ طرف استعداده لتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والتدخل المباشر لوقف الحرب. ويرجّح محللون عدم التدخل الدولي في الصراع الدائر وذلك بسبب التباين الحاصل في المواقف الإقليمية والدولية، على رغم أنّ إطالة أمد الحرب، والخشية من انفلات الأوضاع الأمنية، يُقلق ويؤذي قوى عديدة داخل السودان وخارجه، بالنظر إلى ما يترتب عليها من نتائج كارثية.
■ وإذا كان ثمة أطراف دولية تبدي حرصها على إيقاف الحرب، فإن هنالك أطرافاً أخرى، تبدو الحروب الدائرة والانقلابات الحاصلة هنا أو هناك في القارة السمراء، بمثابة «فرص» أمامها لإعادة رسم خارطة مصالحها ومدّ نفوذها، من السودان شرقا إلى النيجر ومالي غربا. فثمة منافسة قائمة في الأصل بين الدول الغربية التي استعمرت القارة تاريخياً من جهة، والولايات المتحدة من جهة ثانية، إضافة إلى دول جديدة دخلت على الخط حديثاً، (الصين، روسيا، تركيا، إسرائيل..)، تسعى بكل جهدها لتوسيع مصالحها ونفوذها في القارة.
فمنذ صيف 2020 شهدت القارة الإفريقية 7 إنقلابات على أنظمة منتَخبة أو دستورية، (على نحو أو أخر)، من مالي إلى تشاد وغينيا وبوركينا فاسو والسودان والنيجر والغابون أخيراً. وعلى رغم موقف الاتحاد الإفريقي المبدئي الرافض للانقلابات، إلا أنه لم يستطع أن يفعل شيئا إزاءها. ويغالي البعض فيذهب إلى حدّ اعتبار أن «الصراع في دول القارة الإفريقية، في جوهره، يدور بين القوى الكبرى، (ولكن) بواسطة أدوات محلية». [رشيد خشانة/ «فرنسا تخسر آخر مستعمراتها في أفريقيا وروسيا تنمو وتتوسع»/ «القدس العربي»: 6/8/2023].
■ المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية خرجت منذ بداية الحرب، ولسان حال المجتمع الدولي يقول: «نعتذر، لا توجد لدينا حلول». تُرى، هل يعود هذا إلى أنّ السودان لا يندرج على ساحة الاهتمام والأولويات الدولية؟ أم أنّ العواصم الدولية الكبرى والإقليمية الفاعلة باتت تخشى، لأسباب كثيرة، من أيّ تدخل فعلي على الأرض في بلد مثل السودان؟ على رغم أنه بموقعه الاستراتيجي، وبتأثير ما يجري فيه على جواره غير المستقر أيضاً، يُفترض أن لا يُترك هكذا، وأن لا يُسمح له بالتحول إلى دولة أخرى فاشلة، وهذا يُفترض أنّ يكون مدركاً ومعروفاً لدى الجميع أيضا!.
قد يقال الكثير في هذا الصدد، ولكن في المحصلة، ها نحن أمام دولة عربية أخرى يتفشّى فيها القتل والموت، وينهش الدمار والخراب بنيانها وأركانها وأجهزتها ومؤسساتها، ويعيش سكانها هاجس التهجير، أو النزوح المستمر، بحثاً عن مكان آمن، ومع ذلك، تبقى غائبة عن أجندة الاهتمامات والأولويات الدولية. وتبدو الحرب الدائرة فيها، (بعد قرابة خمسة أشهر على اندلاعها)، بعيدة عن أي أمل بوقفٍ قريب، أو إيجاد حل قريب لها. الصمت الدولي يبدو مريباً في نظر البعض، والاستجابات العربية والإفريقية والدولية تجاه ما يجري، أقلّ ما يقال فيها أنها متواضعة ودون المستوى المطلوب.
■ في الواقع، منذ أن تولّى عبدالله حمدوك رئاسة الحكومة الانتقالية في السودان، فإنه لم يلقَ الدعم اللازم والكافي من واشنطن، لا اقتصاديا ولا سياسياً، مع إدراكها (المُفترض) أنه سيكون بمواجهة تنين «المجمع العسكري - التجاري» للجيش والمليشيات. وبدلاً من ذلك، فوّضت إدارة دونالد ترامب سياستها في القرن الأفريقي لحلفائها المفضلين في الشرق الأوسط؛ السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وإسرائيل، وكلّهنّ إما معاديات للديمقراطية، أو لا يرغبن ولا يعنيهنّ أمر قيام ثورة ديمقراطية في العالم العربي، ولهذا فضلت كلّ دولة منهنّ التحدث مع الجنرال المفضل لديها.
إضافة إلى ذلك، فقد دعمت إدارة ترامب «عقد الصفقات»، فاجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع البرهان، وانضم السودان إلى اتفاقات أبراهام، وألغت الولايات المتحدة تصنيف السودان كـ«دولة راعية للإرهاب»، ثم رفعت العقوبات، في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب.
■ وعلى العموم، فقد كشفت الأزمة السودانية عن عجز الإدارة الأمريكية على المساعدة - حتى الآن على الأقل - في حل الصراع الدموي بين الجنرالات. أو أنّ الموقف الأميركي بدا غير جاد بما يكفي لدفع الطرفين لوقف الحرب والجلوس إلى طاولة المفاوضات فوراً. أما العقوبات الاقتصادية المتخذة، فبدت إجراءات تقليدية غير فعالة، وستخفق على الأرجح، إذ سبق وتعايش معها السودان لسنوات طويلة.
وقد تكون هناك أسباب عديدة تقف خلف ذلك، من أهمها أن السودان ككل ليس مدرجاً على قائمة أولويات إدارة الرئيس جو بايدن، وخاصة في ظلّ انشغال هذه الإدارة بأكثر من ملف؛ أو لنقل أنّ دعم مشروع الانتقال الديمقراطي في السودان، لا يشغل بال واشنطن ولا بال العواصم الغربية عموماً، التي بيّنت التجربة أنها تميل للتعاطي مع الفاعلين العسكريين أكثر من ميلها للتعاطي مع الأحزاب السياسية والحركات الاحتجاجية وقوى المجتمع المدني، على رغم حديثها المتكرر عن الديمقراطية والقيم المتفرعة عنها. والسبب في ذلك، ربما يعود إلى عدم ثقة تلك العواصم بالمدنيين، الذين «لا يستطيعون التوافق على شيء»، ولا يجلبون سوى الفوضى، كما يقول دبلوماسي غربي متحدثاً بلسان حال تلك العواصم. وربما أنّ السبب هو اهتمامهم بمصالحهم أولاً، والحدّ مما يشكل أيّ تهديد لها، (موضوع الهجرة مثلاً).
لكن،إذا كانت الواقعية السياسية (الدولية) قد أوجبت الربط بين الاستقرار ودعم الديكتاتوريات العسكرية في السابق، فقد آن لهذا التفكير أن يتوقف، بعد أن أظهرت الحرب الدموية بين عسكر السودان أن «حملة السلاح هم المشكلة وليسوا الحل». [إبراهيم درويش/ «نيويورك تايمز: السودان بلد ضخم ويجب عدم السماح له بالفشل أو الانزلاق لحرب أهلية»/ «القدس العربي»: 3/5/2023].
■ وكان نشطاء مؤيدون للديمقراطية في السودان ومنظمات حقوقية دولية إنتقدوا الولايات المتحدة ودولا غربية أخرى لعدم اتخاذها عقوبات ضد القادة العسكريين المسؤولين عن اندلاع الصراع الحالي في السودان. كما وجهوا إنتقادات سابقة لعدم اتخاذ عقوبات أيضاً ضد هؤلاء القادة لمسؤوليتهم عن مذبحة عام 2019 ضد المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، وانقلاب 2021 الذي قلب مسار الانتقال إلى الديمقراطية. وجادلت منظمات المجتمع المدني بأن التزامات واشنطن المعلنة بالتحول الديمقراطي في السودان سيُنظر إليها على أنها «خطب جوفاء» إذا لم تقم بأفعال محددة ردّاً على الانقلاب. [رائد صالحة/ «إدارة بايدن تستعد لفرض عقوبات «متأخرة» على الفصائل العسكرية المتصارعة في السودان»/ «القدس العربي»: 23/4/2023].
وفي الواقع، يميل المرء إلى مشاطرة أليكس دي وال اعتقاده بأن المشكلة الرئيسة في السودان هي داخلية في الدرجة الأولى، قبل أن تكون خارجية، لأن النظام المستبد من جهة، والحركات المسلحة من جهة أخرى، حولوا البلد إلى «ساحة صراع بين طبقة لصوص مدججين بالأسلحة، وكلٌّ منهم مصمم على السطو على الحصة الأكبر من الغنائم، وعلى ضمان أمنه كذلك من هجمات المنافسين». [أليكس دي وال/ مصدر سابق].
■ ومع ذلك، فإنه لا يجانب الصواب أيضاً الاعتقاد الرائج على نطاق واسع، داخل السودان وخارجه، بأن الحرب الحالية في السودان غذّتها أطراف خارجية، وانخرطت فيها مجموعة من القوى الإقليمية، مثل السعودية والإمارات... فالنظام الانتقالي الذي هيمنَ عليه كل من البرهان وحميدتي، دُعم بمليارات الدولارات من قبل الإمارات والسعودية. وزادت مصر من دعمها للقوات السودانية المسلحة وقائدها البرهان، في حين حافظت قطر وتركيا على علاقاتهما بالإسلاميين من الحرس القديم الذين كانوا ركيزة لنظام البشير.. الخ. [إبراهيم درويش/ «واشنطن بوست: قوى دولية وإقليمية غذت خلاف البرهان وحميدتي»/ «القدس العربي»: 18/4/2023].
وتعدّ الآن دولة الإمارات من أهم اللاعبين في السودان. وعندما أطيح بنظام البشير، سارعت مع السعودية لتقديم دعم بـ3 مليارات$ لمساعدة السودان في الوقوف على قدميه. ولكن تدخلها ساهم، بطريقة أو بأخرى، في خنق فرص التحول نحو دولة ديمقراطية في السودان.
ومن ناحية رسمية، لم تقف أبو ظبي مع طرف في القتال الجاري، وهي جزء من المجموعة الرباعية التي تضم السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة، لدفع عملية الانتقال الديمقراطي في هذا البلد، إلا أنّ كثيراً من المصادر تشير إلى أنّها أسهمت في تقوية حميدتي وقواته العسكرية. وطلبت منه - 2018، إرسال الآلاف من مقاتليه إلى اليمن، مقابل أموال طائلة. ولعب الذهب الذي كان يتم تهريبه إلى دبي، قبل أن يكمل طريقه إلى موسكو، دوراً إضافياً في تعميق علاقة الإمارات مع حميدتي.
■ وفي المقابل، وقفت القاهرة بشكل واضح مع عبد الفتاح البرهان، من موقع إيثارها أن يُحكم السودان من خلال المؤسسة العسكرية، على رغم العلاقة الملتبسة بين البرهان والإسلاميين. وعلى رغم اتجاه البلدَين إلى التعاون المشترك عبر الاتفاقيات التي كرست قاعدة «الحريات الأربعة»: حرية التملُّك والتنقل والعمل والإقامة لمواطني السودان في مصر، ومواطني مصر في السودان، إلا أن العلاقات بينهما غالباً ما أخذت طابعاً متوتراً، وخاصة إثر محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس حسني مبارك في إثيوبيا- 1995، التي وجِّهت أصابع الاتهام فيها إلى إحدى الجماعات المدعومة من نظام البشير. [يوسف بشير/ «كيف تتدخل دول جوار السودان في شؤونه الداخلية؟»/ «نون بوست»: 7/6/2023].
■ إضافة إلى الإمارات ومصر، فقد دخلت إسرائيل على الخط أيضاً. وكانت قد وقّعت، بدعم أمريكي، على اتفاقية تطبيع – 2020، حصل بموجبها بنيامين نتنياهو على ما يريده من جنرالات السودان، وهو الاعتراف بإسرائيل. وفي عام 2022، زار وفد من الموساد السودان والتقى مع قادة أمنيين والجنرال حميدتي، الذي عرض التعاون في مكافحة الإرهاب والمعلومات الأمنية، بحسب مسؤولين غربيين.
أما بشأن الدول الإفريقية المجاورة، فقد خضعت علاقات السودان معها لاعتبارات عدة، أهمها الاضطرابات السياسية والحروب الممتدة التي شهدتها وتشهدها هذه الدول، وانعكاس هذه الاضطرابات وتأثيرها السلبي المحتمل على بعضها البعض.
■ ويتحكم التداخل القَبَلي ومحاولة كل دولة دعم المعارضة المسلحة لجارتها في علاقات السودان بكل من تشاد وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا. ولذلك ظلت علاقاته مع هذه الدول غير مستقرة، ويتسم بعضها بالعداوة في معظم الأحيان.
فبعد انفصال جنوب السودان، على سبيل المثال، دعمت الخرطوم الحركات المسلحة المعارضة لحكم الرئيس سلڤاكير ميارديت، وهو ما قوبل بالمثل أيضاً، فدعمت جنوب السودان حركات التمرد في إقليم دارفور. وهي تؤوي حاليا رئيس «حركة تحرير السودان»، عبد الواحد محمد نور، الذي يمتلك فيها قاعدة عسكرية لتدريب قواته، علاوة على دعمها غير المحدود والمستمر لـ«الحركة الشعبية - شمال» بزعامة عبد العزيز الحلو، نظرا إلى الروابط التاريخية بين الجانبَين.
والأمر نفسه ينسحب على علاقة السودان وتشاد، حيث يبقى التداخل القَبَلي بينهما أشبه بقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت، خاصة أن هذا التداخل يشكّل قاعدة إجتماعية صلبة للحركات المسلحة التي تستطيع بسهولة اختراق الحدود المشتركة. [يوسف بشير/ «كيف تتدخل دول جوار السودان في شؤونه الداخلية؟»/ «نون بوست»: 7/6/2023]■
(9)
رفض الحرب والبدائل الممكنة
■ يعجّ الفضاء السوداني العام بالعديد من المبادرات التي تسعى لتوحيد القوى المدنية السودانية في جبهة واسعة تعمل من أجل وقف الحرب، واستعادة المسار المدني الديمقراطي للعملية السياسية.
وتضطر الأصوات الداعية إلى وقف الحرب إلى تقديم الكثير من التوضيحات بشأن موقفها؛ بالنظر إلى أنّ مؤيدي كل طرف في هذه الحرب يُجرّمون كل من يطالب بوقفها، ويستخدمون اللغة نفسها التي استخدموها خلال الحرب الأهلية في الجنوب وفي دارفور، معتبرين أنها «حرب وطنية مقدسة»!. ولذلك، تقول تلك الأصوات إنّ موقفها لا يعني الوقوف مع طرف ضد طرف آخر، بل يعني رفض الحرب والقتل وتدمير البلاد بشكل مطلق، ورفض أن يكون الاقتتال بديلاً للحوار والتفاوض لحل الخلافات مهما بلغت من الحدة والتعقيد.
وتزيد على ذلك، بأن رفض الحرب لا يعني استدعاء التدخل الخارجي، الإقليمي أو الدولي، لأن حلول أزمات السودان لن تأتي من خارجه، إنما تكمن داخله وعبر مساهمات كافة أبنائه. وأحدها هو التقيد بمبدأ حلّ كافة الميليشيات وجيوش الحركات المسلحة، ودمج أفرادها وعناصرها المؤهلين داخل المؤسسة العسكرية، وإصلاح القطاع الأمني والعسكري، حتى يكون للسودان جيشه الوطني المهني الموحد الذي يحمي حدود البلاد ودستورها في إطار الحكم المدني الديمقراطي. [الشفيع خضر سعيد/ «السودان: هل ستنجح «الجبهة المدنية» بإيقاف الحرب؟»/ «القدس العربي»: 17/7/2023].
■ ويضيف محمد حسن التعايشي، عضو مجلس السيادة السوداني السابق، أنّ الحرب الدائرة الآن تمثل حرب الدولة السودانية المأزومة بأزماتها المركبة والمتداخلة، وخصوصاً قضايا هوية الدولة ونظام الحكم والإدارة العامة، وكيفية بناء الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك المؤسستين العسكرية والأمنية، وعلاقة كلّ ذلك بالدين، وسبل إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومفهوم الحقوق والواجبات.. الخ؟ وبالتالي، فإن تبني نهج «لا للحرب»، يتطلب الاعتراف بجذور هذه الحرب وأسبابها، ثم ضمان وقفها، والوصول إلى صيغة شاملة للمصالحة الوطنية. والسعي من ثم، لإيجاد معالجات نهائية للأسباب الجذرية للصراعات المسلحة في السودان، والتي تتمثل في الصراع على السلطة والنفوذ، والموارد والهوية وطبيعة الدولة. والمعالجة الجذرية والجريئة لهذه القضايا يُفترض أن تقود إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين السودانيين بمختلف أطيافهم ومكوناتهم، وبناء جمهورية ثانية بديلة عن الجمهورية الموروثة منذ العام 1956. [محمد حسن التعايشي/ «حروب الدولة السودانية وحرب الخامس عشر من أبريل»/ «العرب»: 2023/6/23].
■ وفي إطار الحديث حول ضرورة تشكيل أوسع جبهة مدنية موحّدة ضد الحرب، والتمهيد لاختيار شرعية جديدة بعيداً من القوى العسكرية المتحاربة، ينوّه البعض إلى الدور الذي تلعبه بعض المنظمات المدنية في الدعوة إلى وقف الحرب ودعم التحول المدني الديمقراطي، عبر طرح مشروع وطني جامع، والتمسك بأن الشعب السوداني بمختلف مكوناته وأطيافه هو صاحب القرار الأول والأخير في رسم مستقبل دولته، ووضع أسس ولبنات المشروع الوطني المُغيّب.
وفي إطار المحاولات المبذولة لوقف الحرب هناك من يطرح تشكيل حكومة طواريء، على أن تشارك فيها كافة المكونات السياسية في البلد، وأن يكون أعضاؤها من ذوي الكفاءة والخبرة في مجال الإدارة والعمل المؤسسي، وممن يميلون لتغليب الرؤية الوطنية على المصالح الفئوية، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار التمثيل المتساوي للأقاليم. [الشفيع خضر سعيد/ «هل ستوقف حكومة الطواريء الحرب في السودان؟»/ «القدس العربي»: 14/8/2023].
■ قبل انفجار الحرب الأخيرة، أخذ البعض على القوى المدنية أنها لم تدرك جيداً مدى خطورة انتشار السلاح في ولايات السودان، وتجاهل حقيقة أن الأحزاب والقوى السياسية التي تتمتع بوجود ظهير عسكري، ومنها حركات التمرد السابقة في كردفان ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، أصبحت تلعب دورا محوريا في عملية اتخاذ القرار السياسي، وخصوصا بعد انضمام عدد من قياداتها إلى التشكيل الجديد لمجلس السيادة الانتقالي، بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة حمدوك.
وشدّد هؤلاء على أنّ حصر السلاح بيد الدولة كان يجب أن يكون الهدف الأولى للمرحلة الانتقالية، وحرمان أي قوة أخرى من حمل السلاح واستخدامه حتى انتهاء العملية السياسية، مشيرين إلى أنّ العمل الوطني في السودان يواجه أربعة تحديات رئيسية وهي: غلبة نزعة العسكرة على السياسة، وغلبة الروح القبلية على المواطنة، وغلبة المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وضعف الإرادة الدولية والإقليمية. [إبراهيم نوار/ «أحراش السياسة في السودان: مرحلة إنتقالية ممتدة تحت سلاح العسكر والميليشيات»/ «القدس العربي»: 8/4/2023].
ولكن يبدو أننا سننتظر بعد حتى تنضج الظروف وتصبح مواتية لنجاح المبادرات الداعية إلى وقف الحرب، فقد فشلت وساطات دولية وإقليمية وإفريقية كثيرة، ومنها وساطة منظمة «إيغاد»، التي تضم السودان نفسه مع جنوب السودان وإثيوبيا وكينيا وجيبوتي، إثر تولي الرئيس الكيني الجديد ويليام روتو رئاستها، على خلفية المواقف المتباينة لأعضائها إزاء طرفي الصراع الدائر في السودان.
■ وإلى ذلك، فقد دخلت أطراف داخلية وخارجية عدة على خط المعارك الدائرة، فالإسلاميون تطوعوا لدعم الجيش، فيما اعتمدت قوات الدعم السريع على «تعبئة القبائل العربية في دارفور». وتشير التقارير إلى وجود ميداني كبير لكتائب الظل؛ الأمن الشعبي والدفاع الشعبي وهيئة عمليات جهاز الأمن، التي تتبع الحركة الإسلامية (عناصر النظام السابق)، وتعمل على الأرض بشكل واضح كـ«ذراع مساندة للجيش».
ويقول محللون: إن القوى الإسلامية ترمي بثقلها في هذه المعركة، لأنها معركة حياة أو موت بالنسبة إليها، منطلقةً من أن عودة العملية السياسية (المدنية) تعني نهاية حتمية لها. وكانت الحركة الإسلامية قاعدة الاستناد الرئيسة للرئيس البشير في بناء الجيش السوداني طوال 30 عاماً من حكمه. وبسبب ذلك، والضغوط التي يمارسها عليه كبار الضباط المواليين لهذه «الحركة»، فإنّ البرهان لا يستطيع، كما يرى المحللون، المضي كثيراً في اتجاه القوى المدنية.
■ وفي المقابل، فإن عددا من قوى «الحرية والتغيير»، إضافة إلى القوى الإقليمية المناهضة للإسلاميين، (مثل الإمارات)، ترى بحميدتي وقواته «حاجز صدّ» ضد عودة الحركة الإسلامية وحلفائها في الجيش، وكان حميدتي تمسك بأنه لن يدمج قواته قبل عزل الإسلاميين من قيادة الجيش.
ومع التقديرات التي تشير إلى أن غالبية الشارع السوداني لن تسامح حميدتي على دوره في مذبحة الخرطوم - 6/2019. ولا تنسى كذلك دعمه للبرهان في انقلاب 2021، إلا أنه قام في شهر 10/2022، بتعيين يوسف عزت مستشاراً له، وبادر إلى فتح حوار مع قوى «الحرية والتغيير»، وأصبح حميدتي لاحقا داعما رئيسيا للاتفاق الإطاري، واعترف بأن انقلاب شهر 10/2021، كان خطأ. [إبراهيم درويش / «السودان يقف على حرب شاملة لها تداعيات غير مسبوقة على الاستقرار»/ «القدس العربي»: 17/4/2023].
■ وفي هذا الصدد، يعتقد الباحث أليكس دي وال أن «ما كسبه الدعم السريع عسكرياً، خسر مقابله سياسياً»، إذ إن قواته «فقدت بشكل نهائي تعاطف الشارع بسبب الفظاعات التي ارتكبتها من إعدامات بدون محاكمة واغتصاب ونهب». وبأن البرهان «كسب سياسياً»، ولكن ليس لكفاءته، إنما فقط بسبب الرفض الشعبي لخصومه. [«فتش عن الذهب.. حرب السودان قد تستمر لسنوات»/ «القدس العربي»: 11/8/2023].
وبالنسبة للرأي العام، فإن انتصار البرهان أو حميدتي يعني استمرار السياسات التي حاولت ثورة 2018- 2019 القضاء عليها. فانتصار الأول سيعيد، على الأرجح، إنتاج النظام الإسلاموي السابق، في حين أنّ انتصار الثاني قد يفضي إلى الاعتماد على القوى السياسية الديمقراطية، التي يرفع حميدتي شعاراتها ويافطتها الآن، ولكن سيكون له، في المقابل، تداعياته السلبية البالغة على «اللحمة الوطنية»، حيث يُرجّح أن تظهر في إثره تناقضات إثنية وجهوية بين مجموعات ما يسمى بـ«أولاد البحر» و«أولاد الغرب»، أي أبناء الشمال والغرب.
■ بيد أنّ السيناريو الأسوأ، بالنسبة للجميع، هو حرب طويلة ممتدة، بدون منتصر، وتقود إلى تقسيم البلد إلى كانتونات وجيوب تسيطر عليها ميليشيات متحاربة، وسط مستويات غير مسبوقة من الفوضى وعدم الاستقرار، كما حصل في ليبيا واليمن وسوريا.
وفي كل الأحوال والسيناريوهات، فإذا كان ثمة ما يمكن أن نستفيد منه ونتعلمه من هذه الحرب، ومن تجربة الحروب شه المتواصلة في السودان، هو أنه لا يمكن أن تبقى القضايا الإشكالية معلّقة ومؤجلة حلولها إلى الأبد، وأن «صورة الدولة لا يمكن أن تعوّض عن الوجود الفعلي والحقيقي لهذه الدولة»!.
فلعلّ هذه الحرب، والتجربة السودانية عامة، تكون حافزا للتعلم من تجارب الماضي وإخفاقاته، والبدء في تقديم معالجات حقيقية وجذرية للقضايا الإشكالية المطروحة، بما ينهي دوامة الانقلابات وعسكرة السياسة، ويضمن تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء لكيان الدولة السودانية بمختلف أقاليمها وجهاتها، وبما يرسخ كذلك النظام الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة.
تحقيق ذلك وحده، سيتكفل بانعتاق السودان من قيود التخلف الذي أصابه، وسيضمن له توظيف موارده الضخمة لتحقيق تنمية شاملة ومتوازنة تنهض بكل أطرافه ومناطقه ومكوناته. . [عثمان ميرغني/ «الأسئلة الصعبة في حرب السودان»/ «الشرق الأوسط»: 11/5/2023]■
بقلم: فيصل علوش
■ تمهيد
1- ماضي السودان وجذور الأزمة
2- الفشل في بناء الدولة الحديثة
3- الوضع القبائلي في السودان
4- دارفور.. نموذج السودان المصغَر
5- الاقتصاد السوداني والأوليغارشية الجديدة
6- الجيش السوداني: تاريخ حافل بالانقلابات والولع بالسلطة ومنافعها
7- «قوات الدعم السريع» .. يافطة جديدة وانتهاكات مستمرة
8- تأثير الدور الخارجي
9- رفض الحرب والبدائل الممكنة
أيلول(سبتمبر) 2023
تمهيد
■ حين انتفض الشعب السوداني، ما بين 2018 و2019، ضد حكم الرئيس السابق عمر حسن البشير، كان يتوخى تحقيق الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحكم القانون. لم يكن بحسبانه أبداً الوصول بالبلاد إلى هذه الحرب المدمرة التي نشهدها الآن، والتي ستكون نتائجها كارثية على مختلف الصعد والمستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والانسانية.. الخ.
الجيش السوداني، وهو القوة المهيمنة على الحكم بشكل شبه متواصل منذ استقلال البلاد- 1956، بالتعاضد مع «قوات الدعم السريع»، (وهي ميليشيا تأسست في ظل النظام السابق، لتقوم بمهام خارج نطاق القانون، تشمل القتل والحرق والاغتصاب والسرقة والتهريب بكل أشكاله)، بادرا، كما هو معروف، إلى قطع الطريق على تحقيق هدف الاحتجاجات العارمة، وذلك عبر الانقلاب على نظام البشير - 11/4/2019، بعد أن أيقنوا أنه لم يعد ممكنا الدفاع عنه أمام غضب الشارع، معتبرين أنّ الإطاحة به «تحقيق لطموح المحتجين»!.
■ غير أنه لم يطل الوقت ليتبيّن للجميع أن القادة العسكريين، (بجناحيهما؛ الرسمي والميليشيوي)، أرادوا التخلص من رأس السلطة، (أو التضحية به)، كتمهيد لإعادة إنتاج النظام القديم ذاته بحلّة جديدة. على غرار ما جرى في غير بلد عربي، علماً أنّ لجيوش هذه البلدان دورا تاريخياً مشهودا، منذ استقلالها، في «صناعة الرؤساء».
إتفق هؤلاء القادة بداية مع المكون المدني على «وثيقة دستورية»، وتشكيل حكومة مدنية (ترأسها عبدالله حمدوك)، وكذلك «مجلس سيادة» مشترك، كانت رئاسته أولاً لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، لكنّ الأخير سرعان ما افتعل أزمة سياسية مع ائتلاف «الحرية والتغيير»، وبادر مع نائبه محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، إلى الانقلاب في 25/10/2021، على اتفاقهما الموقع مع القوى السياسية، وذلك عندما اقترب موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني.
وما بين الاتفاق والانقلاب لم يوفر العسكر فرصة لوضع العصي في عجلات حكومة حمدوك المدنية، واتهامها بالعجز والفشل والتقصير، بل واتهام كافة الأحزاب المدنية بـ«التكالب على السلطة، وعدم الاهتمام بأوضاع الناس المعيشية والحياتية». إضافة إلى اللعب على مختلف التناقضات والهويات والخلافات؛ فجرى تحريض بعض القبائل وفلول النظام القديم وحركته الإسلامية للتحرك ضد الحكومة. كما تمّ الاعتماد على رموز وفصائل لم تلتحق بالثورة أصلاً، للانضمام إلى الميليشيات المناصرة للعسكر. كلّ ذلك بهدف إغراق المكون المدني وحكومته بفوضى الأزمات المتلاحقة، تمهيدا لتقديم الانقلاب بوصفه «المنقذ الوحيد للبلاد».
■ لكن وبعد أكثر من عام على انقلابهما (البرهان وحميدتي)، وتحت ضغط الشارع السوداني والعواصم الغربية والاتحاد الأفريقي، تم التوقيع على ما سميّ بـ«الاتفاق الإطاري» بين القيادة العسكرية ومجموعة من القوى السياسية- 5/12/2022، على أمل أن يجري استكماله والتوقيع النهائي عليه في بداية شهر
4/2023، بهدف التأسيس لواقع سياسي جديد يقود إلى إكمال مسار الانتقال الديمقراطي.
وقد أثار هذا الاتفاق كثيراً من الجدل داخل الساحة السياسية السودانية، لكن المهمّ فيه أنه تسبّب في اشتداد التوتر بين قادة الجيش وقائد قوات الدعم السريع، ثم أدّت الخلافات الحادة حول الجوانب الفنية الخاصة بورقة «الإصلاح الأمني والعسكري» ودمج قوات الدعم السريع في الجيش، إلى تفجّر الحرب الدموية الشرسة بين الطرفين.
■ ما نقل في هذا الصدد، أفاد بأن الاختلاف تمحور حول مسألة مواقيت دمج قوات الدعم السريع وكيفية تشكيل هيئة القيادة، حيث تمسك الجيش بثلاث سنوات كحد أقصى للدمج، في حين طالب الدعم السريع بـ 10 سنوات، كذلك اقترح الجيش هيئة قيادة مشكلة من 6 مقاعد يحوز فيها على أربعة وتكون الرئاسة له، بينما تنال قوات الدعم السريع مقعدين، أما الأخيرة فاقترحت إضافة مقعد سابع مخصص لرئيس مجلس السيادة المدني القادم، ويكون رئيساً للهيئة.
وكانت ورقة قوات الدعم السريع طالبت، في وقت سابق، بضرورة إيراد نص في الدستور ينأى بالمؤسسة العسكرية عن التدخل في السياسة، ووجود رقابة مدنية على المؤسسة العسكرية، وإخضاع ميزانية الدفاع للمراجعة والمساءلة من البرلمان، كما اعتبرت أن ثمة ضرورة لتصفية القوات المسلحة لعناصر النظام السابق وأصحاب الأيديولوجيات. في حين تحدث الجيش عن «إخضاع استثمارات الدعم السريع لإشراف وزارة المالية، ووقف أي تعاقدات خارجية لتزويدها بالسلاح، وأن يتم ذلك عبر الجيش».
■ ولكن كلّ هذا لا يكفي وحده لفهم وتفسير أسباب اشتعال فتيل الأزمة ونشوب الحرب على هذا النحو الدموي بين الطرفين. كما لا يكفي كذلك الحديث فقط عن «ازدواجية سلطة»، ووجود قوتين مسلّحتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى، من منطلق أنّ ذلك لا يمكن أن يكون أكثر من حالة إنتقالية يتحتّم حسمها لصالح أحد الطرفين في نهاية المطاف.
كما لا يكفي أيضاً ما تناقله البعض من أنّ معسكر «الصقور» داخل الجيش، الذي يمثله عضو مجلس السيادة الجنرال شمس الدين الكباشي، هو الذي أشعل الحرب بمهاجمة معسكر قوات الدعم السريع من دون علم الجنرال البرهان، (حتى يضعوه أمام الأمر الواقع)، يدعمهم في ذلك أنصار النظام السابق بقيادة علي كرتي وغيره.
فكل الأسباب السابقة هي عناصر إجرائية وإدارية، أشبه بما يطلق عليه بـ«الشرط اللازم وغير الكافي» في الفلسفة. وعلى سبيل المثال، فعندما كان يطالب المحتجون السودانيون بحل قوات الدعم السريع وعودة الجيش إلى ثكناته، لإفساح المجال أمام نشوء حكم مدني، بل ويحذرون من خطورة تنامي دور الدعم السريع على حساب الجيش، كان قادة الأخير، وخصوصاً البرهان، يبثون التطمينات بأن «الدعم السريع» هي جزء من الجيش وتعمل تحت إمرته، وكثيراً ما أكد قائد الجيش، أنّ من ينتظرون صداماً بين الجيش والدعم السريع سينتظرون طويلاً!
■ والحال، فإنّ الحرب الدائرة الآن في السودان بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، التي بدأت في منتصف نيسان(إبريل) 2002، تمثل نموذجاً «متقدّماً» (بمعنى أكثر خطورة) عن الحروب المتكررة التي شهدها هذا البلد واستغرقت الزمن الأطول من عمر دولته الهشة منذ استقلاله - 1956، وحوّلت بمجملها السودان الذي كان يُعدّ «سلة غذاء العرب»، إلى بلد يعتمد على الإعانات والمساعدات الدولية كأحد أفقر بلدان العالم وأكثرها تخلفاَ. فحروب السودان الداخلية لم تعُدْ استمراراً للسياسة بأشكال أخرى فحسب، كما يقول المفكر العسكري البروسي الشهير كلاوزوڤيتز، بل باتت، هي بحد ذاتها، تجسيداً وترجمة فعلية للممارسة السياسية المتصلة بكيفية التعامل مع الآخر في الداخل، وإدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم عموما.
■ وإذا ما قُيّض لهذه الحرب أن تطول أكثر فأكثر، فهي قد تقوّض، وعلى نحو نهائي، أسس ومرتكزات الوجود المادي والمعنوي للدولة السودانية، ككيان سياسي وجغرافيا موحدة، لأنها ستتحول، كما يرجّح المراقبون، إلى حرب أهلية مفتوحة، تنفجر فيها مختلف أشكال العنف القبلي والمناطقي، إستناداً إلى التركيبة الاجتماعية والديموغرافية المعقدة في السودان، وما تنطوي عليه من تنوع إثني وعرقي وديني وثقافي، وتعدد في المعتقدات واللغات والتقاليد، ما أهّل ويؤهل السودان ليكون بيئة خصبة للعنصرية والصراعات القبلية والمجتمعية، في وقت مثلت فيه سياسات التهميش والإقصاء وإشكالية السلطة و توزيع الثروة والموارد، المتراكبة مع ما يوصف بقضية التمييز بين القبائل والإثنيات، وخصوصاً العربية وغير العربية منها، محورا دائماً للتمردات والحروب الأهلية التي شهدها غير إقليم وجهة فيه.
■ إنها حرب خاسرة للجميع، باعتراف قادة الطرفين، وقد وصفها الفريق البرهان بأنها «حرب عبثية»، وقال الفريق حميدتي إن الجميع خاسرون فيها، ومع ذلك فإنها تستمر. والمدهش أكثر أن الأنصار الجدد للحرب، ومعظمهم من أنصار النظام القديم، لم يُعرف لهم موقف واحد ضد قوات الدعم السريع طوال السنوات الأربع الماضية؛ أما المجموعات التي تقف ضد الحرب من حيث المبدأ، فهي في معظمها من أنصار الحركة السياسية المدنية التي ظلت ترفع شعار ضرورة حل قوات الدعم السريع وتكوين جيش وطني موحد. والفرق أنهم يرون أن موضوع حل الميليشيات ودمجها يجب أن يتم عبر عملية سياسية واتفاق ملزم، بدلاً من الحرب التي لن يكسبها أي طرف، والجميع فيها خاسرون. [فيصل محمد صالح/ «حرب السودان: من يخسر أكثر؟»/«الشرق الأوسط»: 24/5/2023]■
(1)
ماضي السودان وجذور الأزمة
■ عندما غزا البريطانيون السودان - 1899، كانت البلاد تضطرب على وقع «الثورة المهدية» التي قامت لإنهاء استعمار السلطنة العثمانية. وقد ابتدع البريطانيون إتفاقية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، إذ جعلوا «السيادة» على السودان مشتركة بينهم وبين الدولة العثمانية، (ممثلة في مصر)، وأطلقوا على هذه الاتفاقية الفريدة إسم «اتفاقية الحكم الثنائي».
وعلى رغم أن هذه الاتفاقية كانت مجرد إجراء دبلوماسي شكلي، لأن بريطانيا كانت تستعمر كلاً من مصر والسودان في آن، إلا أنّ تأثيرها على السودان كان عميقاً ومزدوجاً. فبموجبها أُتبع ملف السودان إلى وزارة الخارجية البريطانية التي أرسلت حكاماً وإداريين إليه من موظفيها ودبلوماسييها، وجلّهم من خريجي جامعاتها الشهيرة، ويتمتعون بخبرات وعلوم واسعة في الإدارة المدنية ومؤسساتها، على عكس المستعمرات البريطانية الأخرى التي كانت تتبع ملفاتها لوزارة «المستعمرات»، التي ترسل حكاماً وإداريين إليها من موظفيها، ويكون أغلبهم من العسكريين المتقاعدين، أو من الذين لا زالوا في الخدمة، أي أن كفاءتهم تكون أقلّ من نظرائهم الذين ترسلهم الخارجية البريطانية.
■ وبغرض مساعدتهم على إدارة الدولة ومؤسساتها، ساهم حكام وإداريو السودان بقيام طبقة وسطى ذات تأهيل وواسعة نسبياً، وذلك بفضل انشائهم لمؤسسات تعليمية، ومشاريع اقتصادية ناجحة، وخدمات مدنية ومهنية متميزة، إضافة إلى جمعيات أدبية وثقافية عديدة، وحتى تنظيمات نقابية وسياسية متطورة. هذا كلّه شكل «إرثاً تاريخياً مُحبّاً وداعماً لحكم المؤسسات المدنية، ومتدربا على أساليبها..»، وهذا ما يفسّر، في نظر البعض، قيام إحتجاجات وعصيانات مدنية لاستعادة السلطة من أيدي العسكر، بعد كلّ انقلاب حصل في السودان. فقد تمكن السودانيون من إطاحة الجنرال إبراهيم عبود- 1964، وانهاء حكم الجنرال جعفر النميري- 1985، وكذلك حكم الجنرال عمر حسن البشير- 2019، ويُعدّ هذا دليلًا على رغبتهم في إرساء الديمقراطية، حتى وإن تعذر نجاحهم وتمكنّهم من ذلك.
■ ولكن، إلى ذلك، فقد ركّز هؤلاء الحكام جلّ اهتمامهم على المدن والمناطق الحضرية، وأهملوا بقية المناطق، وخصوصاً الأقاليم البعيدة، التي ظلت تعيش في مجتمعات بدائية تقليدية، خارج دائرة تأثير الاقتصاد النقدي الحديث ومخرجات الرأسمالية الناشئة، وبقيت ثقافتها تغلب عليها التعاليم الدينية السلفية، والعادات والتقاليد المتوارثة. ويعزو كثيرٌ من المؤرخين مشاكل وأزمات السودان اللاحقة إلى هذا الواقع، لأنه مع مرّ السنين، بدأ أبناء تلك المناطق والمجتمعات المهمشة يشعرون بالفارق الكبير بينهم وبين أبناء العاصمة والمدن الكبيرة القريبة منها. وللحصول على بعض النفوذ، أو الوصول إلى السلطة، فقد وجدوا ضالتهم في الانضمام إلى الجيش، أو التمرد وتشكيل حركات مسلحة تطالب بالمساواة بين جهات وأقاليم السودان المختلفة. [محمد أبو حسبو/ «السودانيون أسقطوا بثورات شعبية كل حكوماتهم العسكرية»/ «الشرق الأوسط»: 4/5/2019].
■ وقد استمر الحال على هذا المنوال بعد استقلال السودان. إذ أن النخب، (وكانت في معظمها من الجيش)، التي سيطرت على مقاليد الحكم في هذا البلد، وبالتالي على السلطة والثروة فيه، كانت على العموم من المركز (الوسط والشمال)، ومن المنتمين للثقافة العربية الإسلامية. وقد سخّرت هذه النخب ثروات وموارد البلد وإمكاناته الاقتصادية والمادية لخدمة مصالحها، متجاهلةً، مثلها مثل المستعمر البريطاني، متطلبات التنمية الاقتصادية والبشرية والسياسية الشاملة بين ولايات وجهات السودان المتعددة، فاستمرّ تهميش الأطراف، بل وزادت عليه تبنّيها لخطاب تفوق عنصري زائف ضد المكونات السودانية من ذوي الأصول الإفريقية والانتماء الديني غير الإسلامي، وأغلبها يتواجد في «المناطق والأقاليم المهمشة»؛ الجنوب ودارفور وكردفان والنيل الأزرق والبحر الأحمر.
وجرّاء ذلك، حصل تمرد هذه الأطراف والمناطق المهمّشة مُطالبةً بالاقتسام العادل للسلطة والثروة، وهو ما واجهته حكومات الخرطوم عسكريا، وترتب عليه دخولها في حروب أهلية طويلة ومدمرة أسفرت عن تفتيت وحدة السودان الجغرافية؛ واستنزاف الدولة والمجتمع وتعميم الفقر وتدني معدلات التنمية وغياب الاستقرار، هذا فضلاً عن الانتهاكات والفظائع وجرائم الإبادة والتصفية العرقية التي ارتكبت، وخصوصاً في دارفور، التي تبقى الأوضاع فيها مرشحة، في أي لحظة، للاشتعال والانفجار مجددا، كما في كردفان والنيل الأزرق والنوبة. [عمرو حمزاوي/ «عن السودان وأوجاعه»/ «القدس العربي»: 18/4/2023].
■ ومع حفظ الفارق تبعاً لكل مرحلة تاريخية وملابساتها، فإنّ الحرب الحالية تمثل، في أحد وجوهها، صراعاً بين قوى المركز ممثلة في الجيش السوداني وقائده البرهان، وبين قوى الأطراف المهمّشة ممثلة في قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، على رغم انتمائه العرقي إلى قبائل عربية، ولكن من خارج المركز (دارفور). لكنه يحاول الآن تقديم قواته كـ«مدافع عن مصالح السودانيين المهمّشين»، على رغم تورطها السابق (كجنجويد) في الانتهاكات والفظائع التي ارتكبت في حرب دارفور، لصالح المركز (نظام البشير). ولعلّ هذا ما يفسر تحالف بعض فاعليات المركز؛ القبلية والمجتمعية والسياسية في الخرطوم مع قيادة الجيش، في مقابل تحالف بعض فاعليات الأطراف؛ ومن بينها قوى مدرجة في تحالف «الحرية والتغيير»، المُطالب منذ 2019 بالانتقال الديمقراطي، مع حميدتي وقواته.
وقبل ذلك، فإنّ هذه الحرب تمثل نتيجة شبه حتمية، وكارثية، لإخفاق النخب والسلطات المتعاقبة في الخرطوم بالتعامل مع الدولة وتنوعها الإثني والثقافي، وذلك حين كرّست كياناً تتنازعه هويات منقسمة على ذاتها، وأزمات مركبة رافقت نشوءه وتطوره، فبدل أن تكون مهمة الدولة حماية مواطنيها ورعاية حقوقهم كافة، تحولت ههنا إلى «قوة سياسية واجتماعية» تتبنّى خطاباً عنصريا وعرقيا، بشكل صريح أو ضمني، على نحو ينشر مناخاً مشحوناً ومتوتراً يصبح أشبه بقنبلة قابلة للانفجار في أيّ وقت.
■ وهكذا كانت تنفجر الحروب في السودان بين فترة وأخرى، وكانت أطولها وأكثرها تأثيراً حرب الجنوب التي امتدت على مرحلتين؛ من 1955 إلى 1972، ومن 1983 إلى 2005 (39 عاماً)، وانتهت بالتوقيع على اتفاق سلام عام 2005، قاد فيما بعد إلى تقسيم السودان وتكوين الجنوب لدولته المستقلة- 2011، وكان هذا من أكبر الأثمان التي دفعها السودان جراء هذه الحروب.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن الرئيس نميري سنّ عام 1983، قوانين أيلول(سبتمبر) «المستمدة من الشريعة الإسلامية». وتسببت هذه القوانين، بعصيان الأوامر العسكرية من قبل قوة تابعة للجيش في الجنوب، فأرسل نميري الضابط جون قرنق لتأديبها، لكنّ الأخير إنضم إليها وقادها مؤسسا «الحركة الشعبية لتحرير السودان». ولم يكتف قرنق بالعمل المسلح فقط، إنما عمل كذلك، إلى جانب سِلڤاكير ميارديت، الضابط السابق في الجيش السوداني أيضاً قبل تمرده، على بناء منظومة سياسية لكسب الرأي العام في داخل السودان وخارجه، وخاصة بعد إعلان نظام البشير «الجهاد في جنوب السودان»، عبر قوات الدفاع الشعبي التي انتظم فيها آلاف الإسلاميين المتشددين.
■ وقد تفرّعت عن هذه الحرب حرب أخرى خاضتها «الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال»، (بقيادة عبد العزيز الحلو ومالك عقار)، في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودامت قرابة 9 سنوات، وانتهت بتوقيع إتفاقية جزئية مع عقار في شهر 10/2020، فيما بقي الحلو مناوئاً للخرطوم، ومتمترساً في مناطقه التي يصفها بـ«المحرّرة» حتى الآن. [عيدروس عبد العزيز/ «السودان.. سيناريوهات الحرب الخامسة... ماذا تخبيء وراءها؟»/ «الشرق الأوسط»: 17/4/2023].
وقبل أن تنتهي حرب الجنوب، إندلعت حرب شرسة أخرى في دارفور - 2003 إلى 2010، بين الجيش السوداني وحركات مسلحة في الإقليم، تسببت هي الأخرى في قتل وتشريد ملايين إضافية من السكان. وخلال هذه الحرب ظهرت ميليشيا «الجنجويد» سيئة السمعة والصيت، التي أصبحت فيما بعد «قوات الدعم السريع»، وباتت قوة موازية للجيش السوداني، وأضيفت إلى مهامها مهام أخرى شملت الحد من الهجرة غير الشرعية، والانتشار على حدود السودان مع ليبيا وإفريقيا الوسطى وتشاد.
وعلى رغم توقيع معظم الجماعات المسلحة في دارفور على اتفاقيات سلام مع نظام البشير والحكومة الانتقالية، إلا أنّ الوضع الأمني في الإقليم سرعان ما انفجر وعاد للاضطراب مجدّداً في الحرب الأخيرة. وإذا كانت الحروب السابقة انطلقت من الأطراف السودانية المهمّشة، فإن الحرب الجديدة اشتعلت في مركز الدولة وعاصمتها، (الخرطوم)، إضافة إلى مدن شمالية أخرى كانت بعيدة عموماً عن نيران الحروب السابقة، ولذلك، يُرجّح المهتمون أن تكون الأخطر على السودان وعلى سلامة أراضيه ومجتمعه، وخصوصاً أنّ كرتها ما زالت تتدحرج غرباً وشرقاً ويميناً وشمالاً، وستكون لها، بالتالي، تداعيات جسيمة على المدنيين والبنية التحتية وعلى مستقبل السودان ودولته عموماً. [عيدروس عبد العزيز/ المصدر السابق]■
(2)
الفشل في بناء الدولة الوطنية الحديثة
■ يشكل الوضع في السودان، كمجتمع متخلف ومتعدد إثنياً وثقافياً وديموغرافياً، (وما أفرزه ذلك من منازعات حول هوية الدولة، وتالياً من حروب متناسلة)، نموذجاً للفشل في بناء الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي. فإذا كانت الدولة التي انبثقت بعد معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر، قد قامت أصلاً للحد من الحروب الدموية المدمرة التي شهدتها أوروبا على خلفية دينية (مذهبية) وبطموحات جيوسياسية خلال حرب الثلاثين عاماً - 1618 إلى 1648، فإنها عندنا، (في ظل تشوهاتها البنيوية المتصلة بسياق نشأتها وتكوينها وطبيعة القوى التي اضطلعت بإدارتها)، كانت في كثير من الحالات مصدراً ومنطلقاً لحروب أهلية لا تنتهي.
أحد أهم المقومات التي تبرّر به الدولة نفسها وتحوز من خلاله على شرعيتها الدستورية والسيادية، هو حكم القانون الذي تنفذه عبر أجهزتها وسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، في سياقٍ من الفصل بينها، ولكن في السودان، شأنه شأن العديد من دول العالم العربي والإفريقي، كثيراً ما تعاملت الجماعات المهيمنة على كيان الدولة كغنيمة تمّ الظفر بها بالقوة والغلبة. وعندما تكون الدولة، بما توفره من امتيازات ومكاسب وفرص للنهب، غنيمة (أو إحتكارا)، تصبح دولة متنازعاً عليها بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وساحة لحروب؛ كامنة أو مستعرة، تحول بينها وبين إمكان تحققها كدولة مواطنة ومساواة بين الجميع. [ناصر السيد النور/ «السودان: الحرب والدولة» / «القدس العربي»: 23/6/2023].
■ ويتم تداول فكرة تحطيم «دولة ما بعد الاستقلال السياسي»، (التي تعرف بدولة 1956)، بشكل واسع في السودان، لأن الدولة الموروثة عن الاستعمار بقيت هي هي، لم يطرأ عليها أيّ تغيير جوهري، وظلت النخب السياسية المتعاقبة تتوارث هذه الدولة بعجرها وبجرها، مكتفية بما تحصل عليه من امتيازات ومكاسب على مختلف الصعد والمستويات. وهكذا استمرّت قضية الهامش الفقير والمعزول والمركز الميسور المسيطر، وبقيت معها فكرة «التخلص من دولة 56» مهيمنة على تفكير وبرامج الحركات الثورية والجهوية والإقليمية، التي ولدت وبرزت على خلفية الشعور بـ«المظلومية» التاريخية والجهوية في هذه المناطق.
وبهدف تبرير حربه مع الجيش باعتباره من «فلول» النظام المعزول، وأداة من أدوات الدولة الموروثة من الاستعمار - التي يجب تحطيمها - فقد التقط قائد قوات الدعم السريع، (حميدتي)، هذه الفكرة من الأدبيات السياسية السودانية، وحمّلها على مسألة الانتقال المدني الديمقراطي وإعادة تأسيس دولة ما بعد 1956 والصراع الدائر حولها الآن. [أحمد يونس/ «هل تحطم حرب الجنرالين السودانيين دولة ما بعد الاستقلال»؟/ «الشرق الأوسط»: 9/7/2023].
■ وتبعاً لذلك، فإنّ اندلاع الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، مثّل صدمة في العقل الجمعي العام، ووضع الخطاب السياسي السوداني (الرسمي) أمام معضلة تاريخية محرجة، بعد أن أخلّت الحرب الدائرة بمعادلات السياسة والاجتماع المعهودة. فالصراعات التاريخية بين الهامش والمركز كانت حاضناتها الاجتماعية تعود الى مكونات مختلفة ومغايرة لمكونات الدولة المركزية. بينما ترفع الآن مجموعات الدعم السريع الشعارات ذاتها التي رفعتها قوى قاتلتها في السابق!. ولأول مرة يكون (الجنجويد العرب) هم في خانة من تصفهم الدولة (الجيش) بالتمرد أو الدخلاء، وهم قادة من يوصفون عادة بـ«محاولة التمرد العنصرية»، وهو الوصف الذي ترسخ في التعبير السياسي العام، مع ما يستبطنه من أحقاد وضغائن تاريخية.
■ ربما غاب عن التفكير المركزي الرسمي وخطاب السلطة الأيديولوجي هو أنّ المكونات العربية نفسها عانت من تهميش مزدوج، كما يسميه باحثون، بين تهميش الهامش والمركز في آن معاً. [ناصر السيد النور/ «حرب الجِنجْويِّد والصدمة العِرقيَّة»/ «القدس العربي»: 7/7/2023].
والحال، فالنتيجة المرجّحة لوجود وتفاعل جميع هذه العناصر مع بعضها بعضاً، هو إطالة أمد الحرب الدائرة ووضع السودان على حافة مخاطر جسيمة مدمرة، أهمها خطر انهيار الدولة نهائياً، وما سيترتب على ذلك من فوضى وتفكك داخل السودان، وفي جواره الإقليمي كذلك، (بسبب التداخل القبلي وتشابك المصالح الاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية بين مختلف الأطراف الفاعلة)، هذا فضلاً عن القضاء حتما على كل فرص التغيير السياسي السلمي والديمقراطي في السودان■
(3)
الوضع القبائلي في السودان
■ السودان بلد كبير في مساحته (مليون و 882 ألف كم2)، وغنيّ في ثرواته وموارده، كما في تعدّده الإثني والثقافي. يبلغ عدد سكانه أكثر من 45 مليون نسمة، وعدد قبائله قرابة الـ 570 قبيلة، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية وأثنية تتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة.
في ظلّ عدم رغبته الدخول في احتكاكات مع المجتمع السوداني، وتقليل تكاليف إستعماره الإدارية والمالية، لجأ المستعمر البريطاني إلى استخدام القبائل في تثبيت أركان حكمه، وذلك عبر إتباع نظام لا مركزي في إدارة السودان، (أطلق عليه الإدارات الأهلية)، لعب فيه زعماء ووجهاء القبائل دورا كبيرا في فرض الأمن. وكانت هذه الإدارات بمثابة صمام أمان بين الحكام الإنجليز والأهالي، وذلك من خلال تكليفها بالإشراف على القضاء الأهلي (مثل فضّ منازعات الأفراد والأُسر عبر العُرف، جمع الضرائب والجبايات، وتمويل جهاز الحكم). وفي مقابل ذلك، إعترف المستعمر بزعماء القبائل كسلطة محلية، ومنحهم ألقاباً، ووفّر لهم إمتيازات خاصة وإمكانات لبسط سلطتهم ونفوذهم.
■ شكل إلغاء الإدارة الأهلية في عهد جعفر النميري، سببا من أسباب الصراع في الأطراف والأقاليم، لأنه حرم زعماء وشيوخ القبائل من كثير من الامتيازات السابقة، ومنها مساحات مهمة من الأراضي كان نظام الملكية وحيازة الأرض وفق التقاليد القبلية، يفسح في المجال أمام رجالات السلطة ومشايخ القبائل السيطرة عليها. كما أدّى ظهور الجفاف والمجاعة إلى بروز أسباب إضافية للنزاعات حول الموارد المحدودة. وزاد امتعاض بعض قبائل دارفور- 1994، عندما أعيد تنظيم إقليم دارفور إداريا، وتم خلاله تخصيص مناصب عديدة لأفراد من المجموعات العربية في السلطة الجديدة، وهو ما عدّته قبائل المساليت والفور بمثابة تجاهل أو تغييب لدورها التاريخي في الإقليم.
يضاف إلى ذلك، لجوء السلطات في الخرطوم إلى تسليح القبائل في مناطق دارفور وكردفان، المتاخمة لجنوب السودان، وذلك بهدف ظاهري معلن هو «حماية مواشيهم»، في حين أنّ الهدف الحقيقي لذلك كان تعبئة تلك القبائل، للاصطفاف إلى جانب الجيش في محاربة «الحركة الشعبية لتحرير السودان».
■ وصل الاستخدام السياسي للقبائل ذروته في حقبة الرئيس عمر البشير، حيث ضغط عليها لمبايعة نظامه ودعمه ومساندته. وقد ساهم تقليص مساحات العمل المدني والسياسي في عهده، في توسّع انتشار الفكر القَبَلي الذي كان لا يزال يسيطر، أصلاً، على عقلية السودانيين بصورة كبيرة. يجدر بالذكر أنّ بعض القوى السياسية التقليدية تعتمد بصورة كبيرة على النفوذ القَبَلي، (مثل حزب الأمة القومي)، الذي يعتبر أنّ مناطق كثيرة في دارفور وكردفان والنيل الأبيض بمثابة دوائر إنتخابية مغلقة لصالحه. [يوسف بشير/ «قبائل السودان.. الظل الذي يتحرك مع كل سلطة»/ «نون بوست»: 2/6/2023].
وقد طوّر البشير هذه السياسة في دارفور، حيث وزّع السلاح على القبائل العربية (الرزيقات والمسيرية)، ليقاتلوا بالوكالة عنه الحركات المسلحة التي ينحدر معظم مقاتليها من القبائل الأفريقية. وفي المقابل، لجأ بعض قادة الحركات المسلحة إلى النهج ذاته عبر تسليح قبائل غير عربية، وتشكيل ميليشيات لاستهداف القبائل العربية أو سواها.
ومع مرور الوقت، أصبحت العناصر المسلحة في القبائل ترى الحرب نشاطًا معتاداً ونمط حياة طبيعيا، بسبب الإيرادات الكبيرة التي توفّرها لهم من جهة، إلى جانب المكانة الاجتماعية التي باتوا يحظون بها في المجتمع المحلي، من جهة ثانية. وبعد سقوط البشير، سعى قادة الجيش، إضافة إلى قادة الميليشيات الموازية، مثل حميدتي، إلى حشد القبائل لصالحهم، وقدّموا لزعمائها الأموال والسيارات، على الضد من الاصطفاف السياسي الذي يُنادي بمدنية الدولة.
■ وفي إطار توظيف القبائل لخدمة أهداف سياسية، يورد يوسف بشير كيف عمد قادة العسكر - أيلول(سبتمبر) 2021، إلى تحريض زعيم قبيلة الهدندوة، محمد الأمين ترك، على فرض حظر على شرق السودان وإغلاق الطرق البرّية التي تربطه بالعاصمة الخرطوم، وإغلاق موانيء البلاد على ساحل البحر الأحمر، إضافة إلى تنظيم اعتصام في محيط القصر الرئاسي شاركت فيه مجموعات باسم قبائلها، وذلك لإظهار حالة من الفلتان الأمني، وتحميل حكومة عبدالله حمدوك مسؤولية ذلك، تمهيداً لانقلابهم العسكري الذي نُفّذ بعد شهر واحد فقط - 25 /10/2021. [يوسف بشير/ المصدر السابق].
وفي الحرب الدائرة الآن، دعا زعماء قبائل عربية في جنوب دارفور، وعاصمته نيالا، أتباعهم للانضمام لقوات الدعم السريع وترك الجيش، علماً أن القبائل العربية تشكل غالبية السكان في جنوب وشرق دارفور، كما ينتمي الكثير من ضباط الجيش إلى قبيلة الرزيقات، وهي قبيلة دقلو. وقد يلجأ الجيش رداً على ذلك، إلى تسليح القبائل الأخرى (المناوئة) لتخوض حرباً بالوكالة عنه. [«القبائل العربية في دار فور قد تغيّر الموازين في حرب السودان»/ «القدس العربي»: 6/7/2023]■
(4)
دارفور.. نموذج السودان المصغر
■ يعدّ إقليم دارفور نموذجاً مصغّراً عن دولة السودان؛ مساحته كبيرة تبلغ أكثر من 510 آلاف كم2، يتمتع بتركيبة متنوعة عرقياً واجتماعياً وقبلياً، وهذا ما أدّى إلى سلسلة من الصراعات القبلية القديمة والمتجددة فيه منذ أيام سلطنة الفور الإسلامية، التي سبق وخضع الإقليم لحكمها- 1650 إلى 1874. ووقع بعدها تحت حكم السلطنة العثمانية لسنوات ليست طويلة، ثم أصبح بعدها ميدانا لنزاعات قبلية وصراعات إقليمية شبه دائمة.
وكان الصراع ينشب فيه عادة على مناطق الكلأ والماء بين القبائل الرعوية، ومعظمها من العرب، والقبائل المستقرة التي تعمل في الزراعة، ومعظمها من القبائل الإفريقية. وتزيد من حدّة هذا الصراع الظروف المناخية المتقلبة وموجات الجفاف والتصحّر التي تجتاح البلاد بين آونة وأخرى، وتجبر الرُعاة على الهجرة إلى المناطق الأكثر خصوبة، التي يتوفر فيها العشب والماء.
ولأنها منطقة بعيدة عن الخرطوم، فقد تعرّضت دارفور للإهمال والتهميش تاريخياً، وما زاد الأمر سوءاً عدم وجود طرق حديثة ووسائل مواصلات سهلة وسريعة بين الإقليم ووسط السودان. فعند خضوع السودان للحكم الثنائي أقامت لندن خطوط سكك حديدية فيه، ولكن الخط المتّجه غرباً تم وقفه عند مدينة الأُبيّض حاضرة شمال كردفان، لكي يأتي بالصمغ العربي اللازم للصناعة البريطانية، ولم يصل إلى الفاشر عاصمة شمال دارفور. [اسماعيل مصطفى عثمان/ «دارفور ماضي حاضر مستقبل»/، دار الأصالة للنشر والتوزيع الإعلامي، القاهرة ، 2006، ص 67].
■ بعد الاستقلال، استمرّت معاناة الإقليم واستمرّ افتقاده لغياب المشروعات الاستثمارية؛ سواءً الزراعية أو الصناعية أو الحيوانية. كما افتقد لوجود خدمات تعليمية وصحيّة واجتماعية. وكانت دارفور أقل مديريات السودان نصيبا في عدد الطلاب أو في عدد المدارس. وحتى تسعينيات ق 20 لم يكن في دارفور مدرسة أهلية واحدة.
وبالنظر إلى الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بينه وبين الشمال، واتباع سياسة التهميش وغياب التنمية والتوزيع غير العادل للثروة، إضافة إلى سياسات القمع ومصادرة الحريات ورفض إشراك الأطراف المهمشة في السلطة، تحول الإقليم وسكانه إلى مركز للعمالة من جهة، والتجنيد في الجيش السوداني من جهة ثانية، ووقود للصراعات والحروب الأهلية عموماً. وعندما تفجّر الصراع فيه وجد العديد من شبابه؛ غير المتعلمين والعاطلين عن العمل، أن الانخراط في التمرّد ضدّ الدولة، أو في الميليشيا التي تقاتل إلى جانب الجيش، يشكّل حلاّ لمعاناتهم.
■ في حرب عام 2003، تحولت السلطة في الخرطوم إلى طرف في النزاع الدائر، وذلك بعد أن قامت الميليشيات المسلحة لقبائل المساليت والفور والزغاوة المنخرطة في «جيش تحرير السودان» و«حركة العدل والمساواة» بالاستيلاء على مناطق كبيرة من المدن الثلاث الكبرى في الإقليم (الفاشر وجنينة ونيالا)، واحتلت مطار الفاشر. وإتهمت جماعات المتمردين الحكومة بمعاداتها والوقوف بقوة لصالح القبائل العربية، وفي المقابل، إتهمت الحكومة المتمردين بالاستعانة بالقوى الخارجية والأجنبية.
وأسفرت الهجمات والانتهاكات المنهجية للقوات السودانية عن تشريد حوالي مليوني شخص حتى بداية 2005، وقدّر عدد القرى التي تم تدميرها كليا وجزئيا بحدود 700 قرية، أما عدد سكان دارفور المتضررين من هذا الاقتتال فقدر بحدود 3,5 مليون شخص، أي نحو نصف عدد سكان الإقليم. وقد اتهمت سلطة البشير بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية ما أدى إلى نزوح السكان وتهجيرهم.
■ خلال النزاع لجأت حكومة البشير إلى تشكيل قوات «الجنجويد»، (وهو الوصف الذي أطلق على المقاتلين الذين ينتمون إلى قبائل عربية). ولقي تشكيل هذه الميليشيا، للقتال إلى جانب الجيش أو بالنيابة عنه، قبولاً مجتمعيا واسعا على أسس عنصرية محضة، قوامها الشكل واللغة في ظلّ النموذج المعياري المتخيل للشخصية السودانية العربية، وذلك في بلد تتفشّى فيه الانتماءات القبلية، وتهيمن على أجهزة الدولة فيه مجموعات عرقية محددة، حوَّلت الدولة المشوّهة إلى أداة للتمييز والاحتكار والنبذ والاستعلاء العرقي.
وتعد دارفور الحاضنة الاجتماعية الرئيسية لقوات الدعم السريع، كما يتحدر كثير من عناصر الجيش العاديين (قوات المشاة) منها. ومنذ اندلاع الصراع الجاري عادت الحرب إلى الإقليم بنسخة أشد فتكاً، حيث تشهد مدنه الكبرى مواجهات دامية فاق ضحاياها مجموع ما سقط في العاصمة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الدعم السريع باتت ترتدي الآن حلة جديدة وتضع على عاتقها مهمة جديدة أيضاً، فهي تقدم الآن خطاباً سياسياً يتقاطع مع خطاب حركات المناطق المهمشة منذ خمسينيات ق 20، وبالتالي مع عذابات ومظلومية الإقليم. [ناصر السيد النور/ «دارفور: من الحرب وإلى الحرب»/ «القدس العربي»: 12/8/2023].
■ إتخذت الحركات المسلحة في الإقليم موقفاً محايداً من الصراع الدائر. وثمة من يتحدث عن إخفاق الجيش في الحصول على دعمها، علماً أنّ قسماً منها تعدّ حليفاً له، واكتسبت شرعية تواجدها في الإقليم وفي الخرطوم من اتفاقية جوبا للسلام التي وقعتها معه ومع حميدتي. وقد صبّ موقف تلك الحركات لصالح حميدتي، وخصوصاً أنّ بعض القبائل العربية أخذت تعلن ولاءها لقواته، من بينها الرزيقات والمسيرية والفلاتة، بما يمكنها من توسيع نطاق حاضنتها السياسية والعسكرية والاجتماعية.
ومثل هذا الأمر سيمنح قوات الدعم السريع ورقة مهمة تمكنها من التفاوض من موقع قوة؛ إما لتشكيل حكومة مدنية تراعي التمثيل الحقيقي لدارفور، أو انتزاعها للإقليم وعزله عن المركز، وإقامة دولة بديلة إذا عجزت عن تحقيق أهدافها من هذه الحرب.
وقد انتقدت تلك الحركات تصريحات أحد ضباط الجيش، التي استنكر فيها موقف الحياد الذي اتخذته تجاه الحرب الدائرة، مشددةً على «التزامها الحياد ولو كرهها دعاة الحرب وميليشياتهم». وقالت في بيان -27/7/2023، إن «الحرب الدائرة الآن هي بين شركاء السلطة، مشيرة الى أن المجموعتين اللتين تتقاتلان الآن عرقلتا تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية منذ توقيع وثيقة السلام.
وزادت أن «الحركات المسلحة لها قضية وطنية تهدف إلى بناء دولة تسع وتحترم الجميع، وترفع شأن وكرامة الإنسان السوداني». ولفتت إلى أن «خطاب التشكيك بالوطنية وانتقاص سودانية الآخر المختلف ليس جديداً، وإنما هو ضمن الخطابات التي تفكك لحمة ووحدة السودانيين، وتمزّق نسيجهم الاجتماعي، وتخلق هوة بين أقاليمها والوصول بالبلاد والعباد الى حالة الفوضى وحرب الكل ضد الكل فيما يظل ورثة السلطة يستمتعون بالمشاهدة». [محمد الأقرع/ «حميدتي: السلام لن يحدث ما لم يسلّم البرهان ومن معه أنفسهم»/ «القدس العربي»: 28/7/2023].
■ يذكر في هذا الصدد أنه بعد اتفاق جوبا، وفي محاولة لكسب ودّ الحركات المسلحة في دافور، كان قادة الجيش قد عينوا قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، مني أركو مناوي، حاكماً لدارفور. وجاء هذا التعيّين كمحاولة منهم، كذلك، لاحتواء الموقف في الإقليم الذي لا زال يُعانى من الظلال الثقيلة للحرب السابقة وما شهدته من أهوال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
وتزداد الحاجة الآن لتوفير درجة عالية من الهدوء في دارفور، عقب الانقلاب العسكري في النيجر -26/7/2023، وما يمكن أن يخلفه من تداعيات أمنية على منطقة تحفل بصراعات محلية تتشابك فيها قوى إقليمية ودولية عديدة. [«قوات الدعم السريع تُحكم سيطرتها على دارفور تدريجيّا»/ «العرب»: 5/8/2023]■
• هامش: أبرز الحركات المسلحة التي عرفها إقليم دارفور
1- حركة تحرير السودان
■ زعيم الحركة هو المحامي عبد الواحد محمد نور. ويتولى منصب الأمين العام للحركة منى أركي مناوي، وهو من قبيلة الزغاوة واشتهر كقائد ميداني له علاقة وثيقة بالنظام الإريتري، ومعظم القادة العسكريين في صفوف الحركة كانوا من الضباط السابقين في الجيش السوداني أو التشادي. وللحركة جناح عسكري هو «جيش تحرير السودان». وكانت عضوية الحركة في البداية تقتصر على أبناء قبيلة الفور، ثم انضم إليها أبناء القبائل الدارفورية الأخرى، مثل الزغاوة و المساليت والفور، وهي من أبرز القبائل الإفريقية بالإقليم.
وهناك حركات جنوبية عدّة لها تأثير في نزاع دارفور؛ أهمها «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، التي كانت تقدم الدعم اللوجيستي والسياسي لحركة تحرير السودان.
2- حركة العدل والمساواة
■أسس هذه الحركة الدكتور طيّب خليل إبراهيم- 3/2003، وكان مقيما في لندن، ومعظم مقاتلي الحركة من قبيلة الزغاوة، وكذلك الدكتور خليل نفسه، الذي كان إسلامياً أصولياً قبل أن ينتقل إلى الاتجاه العلماني، وتخفت نبرة خطابه الديني لصالح الخطاب الاثني والقبلي.
وتدعو حركة العدل والمساواة لفصل الدين عن الدولة، وخلق سودان ديمقراطي جديد. وتنادي بقيام تحالف من المناطق المهمشة ضد سيطرة الحكومة المركزية، ولم يدعُ زعيم الحركة خليل ابراهيم لأي مواقف انفصالية عن الحكومة السودانية المركزية. [جلال رأفت/ «أبعاد أزمة دارفور السياسية والثقافية»، مجلة
«المستقبل العربي»: العدد 312 – شباط(فبراير) 2005]■
(5)
الاقتصاد السوداني والأوليغارشية الجديدة
■ ظل اقتصاد السودان منذ استقلال البلاد مُستنزفاً في الحروب الداخلية المتلاحقة، ما أن يتعافى قليلا ويبدأ في النمو خلال فترات الاستقرار الهشة، حتى تندلع حرب أخرى تستنزفه من جديد.
وتصبح الصورة قاتمة أكثر إذا رصدنا تأثير إنتشار الفساد المالي والإداري وعمليات التهريب، حيث أصبح الاقتصاد يُعاني من اختلالات هيكلية، ويعتمد بدرجة كبيرة على سلعة واحدة لاستجلاب العملات الصعبة، والصرف على القطاعات الخدمية. ففي السنوات التي أعقبت الاستقلال إعتمد على القطن كمورد رئيسي، ولاحقا على البترول، والآن يعتمد على الذهب.
خلال سبعينيات ق 20 – الذي يسمونه «عقد التنمية» في السودان – ضخ البنك الدولي وصناديق الاستثمار العربية الأموال في البلاد، وعندما تعذر تسديد الديون المستحقة، إكتشف وزير المالية أنه لا يوجد حساب مركزي لما تم اقتراضه، ومِمّن، ولأي سبب، أو ما حدث للمال!.
■ في تسعينيات ق 20، شقّت حكومة البشير طريقاً «إسلامياً» إلى التنمية والحداثة، مُعتمدة أولاً على المحاصيل الزراعية، ثم على تصدير النفط. ولكن، من دون أن يتم احتساب عائدات النفط وإدخالها في الموازنة. كان يمكن الاستدلال إلى حجم هذه العائدات فقط من أبراج المكاتب اللامعة للشركات المملوكة للإسلاميين، والمرتبطة بالأمن، وما يسميه السودانيون بـ«الدولة العميقة». واستمرّ الأمر كذلك إلى أن تلقّى الاقتصاد السوداني صدمة حين حدث إنفصال الجنوب عام 2011، وفقدَ السودان ثلاثة أرباع إنتاجه النفطي ونصف إيراداته الحكومية، وبدأ بعد ذلك مسلسل انهيار الاقتصاد.
■ ويقول الخبراء إن نظام البشير أضاع فرصة كبيرة لإحداث نهضة إقتصادية وتنموية شاملة في البلاد، عندما توافرت له موارد هائلة بلغت حوالي 70 مليار$ في الفترة ما بين 2000-2010 من عائدات البترول، وذلك لو أبدى اهتمامه بتطوير القطاعَين الزراعي والحيواني، لكن هذا لم يحدث، واهتم فقط بالصرف على الأجهزة الأمنية وعلى المنظمات الفئوية التابعة له، بغرض الحفاظ على سلطته، فضلاً عن استغلال عناصر النظام لموارد الدولة لتقوية نفوذًهم في السوق، وبناء اقتصاد ظلٍّ موازي.
يضاف إلى ذلك، ما ألحقته العقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية من خسائر فادحة فاقت الـ 50 مليار$. وأدت إلى خروج النظام المصرفي السوداني من المنظومة المالية العالمية، وتضرّر قطاع الطيران بحرمانه من قطع الغيار والصيانة الدورية، وفقدان قطاع السكك الحديدية لـ 83% من بنيته التحتية، كما تأثّر أكثر من 1000 مصنع بشكل مباشر بالعقوبات، بسبب عدم حصولها على قطع الغيار أو البرمجيات الأميركية■
(5-1)
الفساد المالي والسياسي
■ عرف السودان في العقود الأخيرة انتشار الفساد بأشكاله المختلفة، وخاصة في ظل تزاوج الفساد السياسي والاقتصادي، ما جعل هذا البلد العربي يتصدّر قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم. وتحدث تقرير، أعدّه فريق من الاتحاد الأفريقي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية الخاصة بإفريقيا، عن أن فجوة المعاملات التجارية العالمية للسودان خلال فترة 2012-2018 بلغت 30,9 مليار$، وهو مبلغ يمثّل 50% من إجمالي تجارة السودان خلال هذه السنوات. مشيراً إلى أن سبب ذلك هو الفساد والتدفقات المالية غير المشروعة التي تُكلّف السودان 5,4 مليار$ سنويا. وتتمثل هذه التدفقات في عمليات غسيل الأموال والتهرب من الجمارك والضرائب، والتلاعب بالأسعار والفواتير التجارية، وهروب رأس المال المحلي، والممارسات المرتبطة بتعدد سعر الصرف، وجرائم الفساد الكبيرة بواسطة موظفي الدولة وتحويل كل العائدات المترتبة على ذلك إلى حسابات في الخارج.
وكمثال على ذلك، يقول السودان إنه حصل خلال هذه الفترة على 4,8 مليار$ من صادرات النفط، فيما يؤكد شركاؤه التجاريون أنهم استوردوا بترول بقيمة 8,9 مليار$. [يوسف بشير/ «إقتصاد ثري يعطله الفساد والانقلابات»/ «نون بوست»: 1/6/2023]■
(5-2)
«أوليغارشية جديدة»
■ وقد أدى تحالف رجال السلطة ورجال المال والأعمال الجدد إلى خلق طبقة حاكمة جديدة، أو ما يطلق عليه البعض، «طبقة أوليغارشية حديثة»، أثرت وراكمت الثروات مستفيدة من الاستبداد القائم، ثم احتكرت السلطة والمال، وأخرجت البورجوازية التقليدية من السوق، بينما يعاني الشعب من الفقر والتهميش.
وكانت بداية تشكل الأوليغارشية مع بدء حكم الرئيس جعفر نميري- 1969 إلى 1985، الذي حاول إحكام سيطرته على مفاصل الدولة وإدارتها كأنها ملكية خاصة له، وذلك عبر تقريب بعض الشخصيات السياسية والعسكرية إليه، إضافة إلى بعض رجال الأعمال، بهدف خلق بطانة إقتصادية تدعمه وتقوي حكمه، في مواجهة محاولات الانقلاب المتكررة ضده.
وفي سبيل ذلك، أصدر مرسوماً بتشكيل «التعاونية الاقتصادية العسكرية»، حدّد بموجبه أهداف المؤسسة العسكرية في أربع نقاط وهي: استعمال الموارد العسكرية الفائضة لدعم اقتصاد البلاد، وتجويد عيش أفراد القوات المسلحة وأعضاء أسرهم، وتجهيز الجيش بالمعدات والأجهزة اللازمة، وتحسين مستوى الأداء الإداري والتقني لأعضاء الجيش.
وقد حول هذا المرسوم الجيش إلى طبقة ذات هوية إقتصادية - إجتماعية ترتبط مصالحها بشكل بنيوي بمصالح النظام القائم، وسمح بظهور فئة من رجال الأعمال هم في الأصل ضباط، أو أفراد من عائلاتهم، يستغلون بشكل إستباقي المعلومة الاقتصادية الحساسة وغير المتوافرة للعموم.
■ تواصل هذا النهج وتكرّس أكثر في عهد عمر البشير، الذي قرب إليه مجموعة من رجال الأعمال - هم في الأصل ضباط في الجيش والمخابرات - للسيطرة على قطاعات الدولة الربحية، وفي مقدّمها قطاع الاتصالات، ما ساهم في إطالة أمد حكمه لأكثر من 3 عقود.
وزادت هيمنة هذه الفئة مع إقرار منظومة «الصناعات الدفاعية»- 2017، التي مكّنت المؤسسة العسكرية، ومن خلفها رجال الأعمال المقربين من السلطة، من التوسع في نشاطاتهم الاقتصادية المدنية. فانتشرت الشركات التي تعود ملكيتها لضباط في الجيش تحولوا إلى رجال أعمال، وشملت مجالات حيوية مثل شركات الأمن الغذائي والكيماويات والخدمات التقنية الطبية المحدودة، والتأمين. وكذلك المجال البنكي، ومنها؛ «توباز» للصناعات المعدنية، و«زادنا» للاستثمار الزراعي، و«الخرطوم» للتجارة والملاحة، و«شيكان» للتأمين.
وهكذا ترسّخ تحالف قوي بين المال والسلطة، وامتلكت الأوليغارشية الجديدة المحيطة بعمر البشير، استثمارات كبيرة جدا تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وسيطرت سيطرة شبه كاملة على السوق؛ من تجارة دقيق الخبز وصولاً إلى الصناعات الثقيلة، في وقت كان السودان يغرق في الأزمات، وتتناسل فيه الحروب.
■ بعد الإطاحة بنظام عمر البشير، كُشفت ملفات فساد عديدة محيطة بهذه الأوليغارشية، ومنها الدور الذي لعبته القروض الحكومية من بنك التنمية الآسيوي، أو من دول الخليج مثل الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أو البنوك الإفريقية في تمويل هذه الطبقة وازدهار أنشطتها الاقتصادية. وفي هذا السياق، برزت أسماء عدد من رموز وأقطاب هذه الفئة؛ مثل نجل عمر البشير بالتبني، أيمن المأمون. ووزير الخارجية علي كرتي، الذي يطلق عليه «إمبراطور الأسمنت والحديد والأخشاب».
ويتهم عمر البشير نفسه باختلاس مليارات الدولارات من خزينة الدولة، وإدارة شركات تابعة له ولأسرته تعمل في استيراد السلع الاستهلاكية والأسمدة والمنتجات النفطية، عن طريق صفقات ممولة من قروض وتسهيلات ائتمانية بلغت مئات ملايين الدولارات حصل عليها السودان من بنك التجارة والتنمية لدول شرق وجنوب إفريقيا. وقد تم مصادرة العديد من الشركات والعقارات والأراضي والفنادق والمراكز التجارية والمزارع التابعة له ولرجاله عقب سقوط نظامه. [عائد عميرة/ «السودان.. كيف تشكلت طبقة الأوليغارشية؟ ومن هم أهم رموزها؟»/ «نون بوست»: 6/9/2022]■
(5-3)
التهريب آفة الاقتصاد
■ إضافة إلى ذلك، جرى تهريب 267 طنًّا من الذهب خلال الفترة 2013-2018. ويقول تحقيق استقصائي بثّته شبكة «سي إن إن» في تموز(يوليو) 2022، إن حوالي 90% من إنتاج الذهب في السودان يهرَّب خارج البلاد، ما يعني احتمال خسارة الإيرادات الحكومية نحو 13,4 مليار$. وتحدّث التقرير عن 16 رحلة جوية روسية معروفة على الأقل هرّبت الذهب من السودان على مدار العام ونصف العام، السابقين لإعداد التقرير، وذلك في مقابل تقديم الدعم السياسي والعسكري للحكّام العسكريين.
وإضافة إلى الذهب، يهرَّب الصمغ العربي، الذي استثنته الولايات المتحدة من حصارها ضد السودان لمدة عشرين عاماً، نظرا لأهميته الطبية والغذائية، حيث ينتج السودان قرابة 75% من الإنتاج العالمي.
إضافة إلى ذلك، يعتبر السودان صاحب ثالث احتياطي من مادة اليورانيوم الخام الداخلة في صناعة الأسلحة النووية، ويصل إلى 1,5 مليون طن حسب أرقام غير رسمية. ويوجد هذا المعدن في دارفور وجبال النوبة وكردفان والنيل الأزرق والبطانة وولاية البحر الأحمر .
■ وفي ظل هذه الأوضاع كانت تتفاقم ديون البلاد، وبلغت مع فوائدها أكثر من 50 مليار$، أي ما يعادل 200% من إجمالي الناتج المحلي. وتشير تقديرات الخبراء إلى أن مستوى الفقر قفز من 50% عام 1994 إلى نحو 80% في الأعوام الأخيرة، وبأن دخل الفرد لا يتجاوز 1,25$ يومياً.
ويُرجّح أن يشهد اقتصاد السودان إنكماشا كبيرا بسبب الحرب الحالية، التي دمّرت وستدمِّر البنية التحتية للاقتصاد. وتُفيد التقديرات الأجنبية بأن كلفة الاشتباكات الدائرة تتجاوز نصف مليار$ يومياً. وفي هذه الحالة يتم اللجوء إلى طباعة النقود بكثافة من أجل تمويل الحرب، خاصة في ظل الحصار المالي على الخزينة العامة وضعف القاعدة الضريبية، ما يزيد من تفاقم أزمة التضخم الجامح الموروث أصلًا من عهد البشير. [يوسف بشير/ مصدر سابق]■
(6)
الجيش السوداني..
تاريخ حافل بالانقلابات والولع بالسلطة ومنافعها
■ عند استقلال البلاد، جرت سودنة قادة «قوة دفاع السودان» التي شكلها الحكام البريطانيون - 1925، لمساعدتهم في فرض سيطرتهم على البلاد، وتستند إلى قاعدة إجتماعية ضيقة في شمال ووسط البلاد. وكان ذلك إيذانا بميلاد «الجيش الوطني» الذي أظهر فيما بعد ولعاً إستثنائياً بالسلطة ومحاولات الوصول إليها، كما ظل لسنوات طويلة يحارب التمردات الناشبة في أقاليم السودان المهمّشة، إضافة إلى انشغاله الدائم بمغانم السلطة وإدارة الأعمال التجارية.
■ نفذ ضباط الجيش عددا كبيرا من الانقلابات العسكرية، نجح ثلاثة منها وتسلم أصحابها السلطة لفترات زمنية طويلة، وانتهت جميعها بثورات شعبية أطاحت بهم:
1- الانقلاب الناجح الأول قاده قائد الجيش إبراهيم عبود في 17/11/1958، واستمر في الحكم 6 سنوات إلى أن أطاحت به ثورة شعبية في 21/10/1964.
2- الانقلاب الثاني نفذه تنظيم «الضباط الأحرار» بقيادة جعفر نميري في 25/5/1969، ووجد تأييدا فوريا من الحزب الشيوعي، ولكن سريعا ما دبت الخلافات بينهما ووصلت إلى مرحلة تنظيم ضباط محسوبين على الحزب بقيادة هاشم العطا إنقلابا أطلقوا عليه الحركة التصحيحية في 19/7/1971، حكم ثلاثة أيام قبل أن يعيد نميري فرض سيطرته على البلاد بدعم خارجي.
إستمر نميري في الحكم 17 عاما، متقلبًا من يساري صارخ إلى يميني متشدد، إلى أن سقط بثورة شعبية في 6/4/1985، عندما أجبر ضباط الرتب الوسيطة وزير الدفاع عبد الرحمن سوار الذهب على عزل نميري، ليُشكل مجلسا عسكريا أدار البلاد لمدة عام واحد في فترة إنتقالية إنتهت بتنظيم إنتخابات.
3- وفي 30/6/1989، نفذ عمر البشير إنقلاباً ناجحاً بالاعتماد على الحركة الإسلامية التي كان يتزعمها آنذاك حسن الترابي، وذلك قبل أن يحدث الافتراق بينهما عام 1999. مكث البشير في السلطة 30 عاماً، إلى أن أطاح به قادة الجيش في 11/4/2019، على خلفية إحتجاجات سلمية إستمرّت لأشهر عدة.
■ يلاحظ في هذا التاريخ الحافل بالانقلابات، أن نجاح أي انقلاب كان يتطلب دعماً سياسياً: فعبود إستلم السلطة بمباركة من الزعيمين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، أما نميري فوجد تأييداً من الحزب الشيوعي أولاً ثم من القوميين، فيما خططت الحركة الإسلامية لانقلاب البشير. [يوسف بشير/ «جيش مولع بالسلطة والاقتصاد وسلاح في أيدي المليشيات والقبائل»/ «نون بوست»: 31/5/2023].
أما البرهان (63 عاماً) فهو ينتمي إلى عائلة دينية من ولاية نهر النيل، شمال البلاد، تتبع طريقة الختمية، وهي من الطرق الصوفية المعروفة في السودان. تخرج من الكلية الحربية، وشارك في حرب الجنوب ودارفور، ضمن قوات المشاة، وانخرط في «حرس الحدود» التي أصبح قائدها لاحقاً. عمل ملحقاً عسكرياً في الصين، وتدرج ليصبح مفتشا عاما للقوات المسلحة السودانية في بداية 2018، قبل نحو عشرة أشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير.
وبعد إعلان استقالة عوض إبن عوف الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، بسبب رفض الشارع توليه رئاسة المجلس العسكري، وتنازل القائد الثاني بعده في التراتبية، كمال عبد المعروف، عن المنصب، أصبح البرهان الذي لم يكن يعرفه السودانيون وقتها، رئيساً للمجلس العسكري وقائداً عاماً للجيش، علماً أنه «ليس شخصية سياسية، ولا يمتلك كاريزما»، بل ويتلعثم في الكلام، (على عكس حميدتي أو البشير من قبله)، كما يقول كثيرون.
■ وتقول أوساط من داخل القوات المسلحة: «إن حميدتي هو صاحب الفضل في تولي البرهان رئاسة المجلس العسكري ومن ثم رئاسة مجلس السيادة، لأنه مارس ضغوطاً كبيرة داخل المجلس العسكري لإبعاد إبن عوف وعبد المعروف عن المنصب الذى آل إلى البرهان». والسبب في ذلك أنهما يعرفان بعضهما منذ الحرب في دارفور، التي قاتلا فيها جنبا إلى جنب. [وردت لدى ميعاد مبارك: «حرب المدن تضع البلاد على حافة الهاوية»/ «القدس العربي»: 23/4/2023].
وعليه، فبعد تولي البرهان رئاسة مجلس السيادة في الحكومة الانتقالية – 8/2019، تم تعيين حميدتي نائباً له، ومنذ ذلك الوقت شرع الرجل الثاني في الدولة بتوسيع أنشطته الاقتصادية والعسكرية المستقلة، وكذلك ارتباطاته الدولية والإقليمية.
■ ولكن عقب إنقلاب 25/10/2021 الذي أطاح بالشراكة مع المدنيين والحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك، تعقد المشهد السياسي في البلاد وأصبحت الخلافات بين الأطراف تتصاعد يوماً بعد يوم، وسط استمرار التظاهرات الشعبية المطالبة بإنهاء حكم البرهان وحميدتي.
وفي أعقاب التوقيع على «الاتفاق الإطاري»- 5/12/2022، الذي كان من المنتظر أن يقود إلى تسوية تعيد الانتقال الديمقراطي إلى البلاد، تصاعدت بشأنه الخلافات بين الجانبين، وخصوصاً ما تعلق منها بورقة الإصلاح الأمني والعسكري، حيث رفض الجيش مطالب حميدتي بدمج قواته في الجيش خلال عشرة أعوام، وتبعية قواته لرئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية المقبلة، وتمسك الجيش بالدمج خلال سنتين وتبعية قوات الدعم السريع لقيادة الجيش، وكان هذا الخلاف هو السبب المعلن لانفجار الحرب بينهما■
(6-1)
إمبراطورية إقتصادية
■ بعد تشكل حكومة عبدالله حمدوك الانتقالية، أبدى قادة الجيش ممانعة قوية لإدارة هذه الحكومة لشركات الجيش التي يُفرض عليها جدار عالٍ من السرية، على الرغم من أن كثيرا منها تعمل في مجالات مدنية حيوية مثل طحن القمح والأدوات الكهربائية والنقل وتشييد الطرق وتصدير المحاصيل الزراعية والحيوانات الحية واللحوم وتجميع السيارات، إضافة إلى شركات منظومة الصناعات الدفاعية.
وأعلنت الحكومة الانتقالية في 19/6/2020، عن نتائج مسح الشركات الحكومية، فقالت إنها تبلغ 650 شركة منها 200 شركة تابعة للقطاع العسكري، ومن مجمل هذه الشركات هنالك 12 شركة فقط تساهم في الإيرادات العامة للدولة، وبأنّ وزارة المالية تُدير 18% فقط من أموال الدولة.
وقدر وزير التجارة في الحكومة الانتقالية، إبراهيم الشيخ، رأس مال شركات الجيش بـ10 مليارات$، ما يعني أن قادة الجيش كانوا مشغولين عموما بتنفيذ الانقلابات العسكرية وإدارة الإمبراطورية الاقتصادية التي شملت حتى البيع بالتجزئة. ومن الواضح أن ثمة رابطاً قوياً بين مصالح الجيش الاقتصادية وعدم تخليه عن السلطة لصالح المدنيين.
■ يذكر في هذا الصدد، أنه عندما حصل إنقلاب 25/10/2021، كانت «لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد»، وهي ذراع مكافحة الفساد في الحكومة المدنية، على وشك نشر تحقيقها في فساد شركات الجيش. وكان أول ما فعله الجنرالات بعد انقلابهم، هو اقتحام مكاتب اللجنة والاستيلاء على وثائقها.
وقال الطيب عثمان يوسف، الذي ترأس اللجنة التي قامت بفحص كيفية تفكيك دور القوات العسكرية والأمنية في الاقتصاد، إن الجيش يملك شركات تمثل ربع الناتج المحلي للبلد، أما قوات الدعم السريع فتمثل نصف الناتج المحلي. وقال يوسف إن التحقيق الذي قامت به اللجنة ومخاوف تلك القوات من خسارتها امتيازاتها كان وراء الانقلاب الذي قام به البرهان وحميدتي- 2021. [نقلاً عن صحيفة «واشنطن بوست»/ ابراهيم درويش/ «القدس العربي»: 20/4/2023].
■ وهكذا، فعلى رغم أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، ليس لديه مصدر مالي شخصي خاص به لتيسير الصفقات السياسية، وقد أُجبر على المساومة مع رجالات المال العسكريين والمقربين منهم بشأن القرارات المهمة. إلا أنّ نفوذه يستمدّه من شبكة المصالح الهائلة التي يتمتع بها ما يطلق عليه البعض «المجمع العسكري التجاري»، أو ما يسميه الديمقراطيون السودانيون بـ«الدولة العميقة». وهي عبارة عن شبكة من الشركات التي تقوم على المحسوبية، وتضم بنوك وشركات إتصالات يملكها إسلاميون وضباط في الجيش أو الاستخبارات، إضافة إلى شركات يملكها الجيش نفسه في مجالات تصنيع الأسلحة، والبناء، والزراعة، والنقل. [أليكس دي وال/ «إنزلاق السودان نحو الفوضى»/ مقال مترجم من «فورين أفيرز»، ونشر في «أندبندنت عربية»: 5/5/2023].
كما يستند البرهان كذلك إلى العلاقات التي تربطه ببعض أركان نظام البشير السابق. وليس سراً أن الموالين القدامى للبشير يرون فيه أفضل أداة تعيدهم إلى السلطة. ويرى بعض السودانيين، أن لهؤلاء الموالين من الإسلاميين دوراً في نشوب النزاع بين البرهان وحميدتي، وخصوصاً بعد إعادة بعض رموزهم إلى مؤسسات الدولة، الأمر الذي أثار مخاوف حميدتي الذي يعتبره الإسلاميون عدوهم اللدود، ويحملونه مسؤولية سقوط البشير، فأخذت بعدها تتباعد مواقفه الداخلية والخارجية عن مواقف البرهان، وصار كلٌّ منهما يتربص بالآخر■
(7)
«قوات الدعم السريع»..
يافطة جديدة وانتهاكات مستمرة
■ يقول الباحث البريطاني أليكس دي وال، المهتم بالشأن السوداني، والذي شارك في تأليف كتاب «الديمقراطية غير المكتملة في السودان: الوعد وخيانة ثورة شعبية»، إنه نادراً ما انتصرت القوات المسلحة السودانية في النزاعات العسكرية الطويلة التي خاضتها. ويُرجع ذلك إلى أن «سلك الضباط ينحدر في الغالب من النخبة الحاكمة في الدولة، فيما ينتمي الجنود المشاة إلى الطبقات الفقيرة والأطراف المهمشة، وغالبا ما يفتقر هؤلاء إلى حافز للقتال».
لهذا السبب لجأ البشير إلى أداة قتالية قليلة الكلفة ومُجرّبة من قبل، وهي ميليشيا قبلية تحارب نيابة عنه، علماً أن توزيع السلاح على القبائل العربية في مناطق كردفان ودارفور المتاخمة لجنوب السودان، يعود إلى حكومة الصادق المهدي- 1986 إلى 1989.
■ وهكذا، تشكلت ميليشيا الجنجويد وشقّت طريقها وسط قرى دارفور بالحرق والنهب والذبح، في حملة وصفت بـ«إبادة جماعية»، واتهمت «الجنجويد» - حسب منظمات حقوقية كثيرة - بعدد لا يحصى من انتهاكات حقوق الإنسان، ووجّهت المحكمة الجنائية الدولية إتهامات لبعض قادتها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. كما صدرت من مجلس الأمن قرارات في هذا الشأن، بما فيها مذكرات اعتقال طالت رأس النظام السابق عمر البشير، وقيادات أخرى متورطة في هذه الجرائم.
وكان نجاحه في سحق التمرد في دارفور، سبباً رئيسياً في قرب حميدتي من البشير، الذي أضفى - 2013 الطابع الرسمي على «الجنجويد»، تحت مسمّى «قوات الدعم السريع». ومنحه رتبة فريق مع أنه لم يخضع لأي تدريب عسكري رسمي. ومع تصاعد الاحتجاجات في الشارع - 12/2018، إستدعى البشير وحدات حميدتي إلى العاصمة كقوة حماية شخصية له، وبات يُطلَق عليها «حمايتي»! بيد أن حميدتي خذل سيده وتخلى عنه، وحوّل سقوطه إلى فرصة له، حين شارك مع البرهان في الانقلاب الذي أطاح به، تحت يافطة «الانحياز لموقف الشارع والثورة».
■ بعد الإطاحة بالبشير، إتُهمت قوات الدعم السريع بارتكاب المزيد من الجرائم، إذ لعبت دوراً مركزياً في مجزرة فض الاعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة في الخرطوم- 6/2019، قُتل خلالها عشرات المعتصمين، كما ارتكبت عشرات حالات الاغتصاب كذلك. وكانت ميليشيا الجنجويد مارست الاعتداءات الجنسية على نطاق واسع في حرب دارفور. [جلبير الأشقر/ «فظائع السودان والدرس التاريخي»/ «القدس العربي»: 17/5/2023].
وعلى رغم تلقي قوات الدعم السريع، في السنوات الأخيرة، تدريبات عسكرية إحترافية، وتوسّعها قليلاً لكي لا تبقى مقتصرة على لون إثني محدد، إلا أنها ظلت محافظة، في جوهرها، على طابعها القبلي الذي يتمحور حول قبيلة حميدتي، الرزيقات، هذا فضلاً عن قيادتها العائلية، وسلوك مقاتليها الشرس والعنيف وما يرافقه من انتهاكات، وهو الأمر الذي لم يحظَ بقبول الأوساط السياسية السودانية.
■ ومع ذلك، يحاول حميدتي الآن تقديم نفسه كبطل للمحرومين والمضطهدين في السودان. ويسعى إلى استمالة المجتمعات المهمشة تاريخياً، في دارفور وغيرها من المناطق، عبر تصوير نفسه كمقاتل من أجل العدالة والديمقراطية، وكان أخذ يميز نفسه أولاً عن البرهان، ويحتفظ بمسافة عن مواقفه «المتعنتة في عملية تسليم السلطة للمدنيين»، منذ أن تراجع عن تأييده لانقلاب 2021، ثم ومع اقتراب المواجهة مع البرهان، شرع يدافع علناً عن الحاجة إلى «ديمقراطية حقيقية»، ويسعى إلى كسب ودّ المدنيين بدعوى أنه الوحيد القادر على منع عودة فلول نظام البشير، في إشارة إلى «الإسلاميين»، وهذا يتقاطع أيضاً مع رغبات وتوجهات حلفائه في الخليج.
■ لكن، وعلى رغم هوية حميدتي «العربية»، هو وكبار قادة قواته، إلا أنّ هناك فجوة واسعة بينهم وبين النخب السودانية الحضرية، أو «الطبقة السياسية الحاكمة»، التي تنتمي إلى «المركز»، وتستند إلى قاعدة إجتماعية؛ عروبية من جهة (هواها مصري عامة)، ومحافظة دينياً من جهة أخرى، خلافاً لما يصفونه بـ«المجتمعات البدوية الصحراوية»، الجلفة التي تثير خوفهم ومخاوفهم، وفي الوقت نفسه يزدرونها ويسخرون منها، ويصفونها بأنها «أميّة ولا تجيد الكلام المنمق».
يضاف إلى ذلك، أن أغلب مقاتلي الدعم السريع هم من «الرعايا الغاضبين» الذين ينتمون إلى المناطق المهمّشة المحرومة من غنائم الدولة، والذين يصفون سلوك السلطات في الخرطوم تجاههم بـ«السلوك الإمبريالي»، ويحلمون بمن يأتي لتحريرهم من الاضطهاد والغبن التاريخي الذي لحق بهم، مثلهم في ذلك، إلى حد كبير، مثل السودانيين الجنوبيين الذين صوتوا للانفصال.
وعلى ذلك، صار يعرب البعض عن اعتقاده إن قوات الدعم السريع لا تمثل فقط منظمة عسكرية، بل هي كتلة إجتماعية واقتصادية وثقافية، تشكلت خارج الحواضن التقليدية للدولة، مثلها في ذلك مثل مجموعات كثيرة مشابهة في مناطق السودان المختلفة، تمثل إحدى نتائج سياسات التهميش والاستبعاد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
■ ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى أنّ انتصار حميدتي وقواته، لن تنجم عنه سوى سيطرة لصوصية شعبوية لن تستطيع فعل شيء تجاه أزمات الفقر والجوع والبطالة التي يعاني منها أغلب السودانيين في مختلف مناطقهم. [أليكس دي وال/ مصدر سابق].
فميزة حميدتي الكبرى ليست في مهاراته القتالية حتى وإن توفرت؛ وليست في اتسامه بالكثير من الحيوية والبراغماتية حتى وإن تمتع بهما؛ كما أنها ليست في قدرته على الخطابة والتحدث باللهجة العامية التي تقربه من الناس العاديين حتى وإن اتصف بذلك؛ ميزته الكبرى التي تميزه عن سواه من قادة الحركات المسلحة الأخرى هي المال. نعم، المال الذي بمقدوره دفعه لمقاتليه ومرتزقته، والذي مكنّه من مضاعفة أعداد مقاتليه الذي بات يبلغ الآن 120 ألفاً، حسب بعض التقديرات، ويمكنّه من شراء ولاء بعض العشائر والقبائل أيضاً.
■ لقد كان حميدتي تاجر إبل قبل أن يبدأ صعوده من خلال مشاركته في قوات «الجنجويد». ثم سرعان ما برز نجمه كقطب من أقطاب الأوليغارشية الجديدة التي تشكلت في حقبة البشير. ففي 2017 أطلق البشير العنان له ولجماعته للسيطرة على جبل عامر الغني بالذهب في دارفور، وبفضل الذهب، الذي يعدّ السودان ثالث منتج له في إفريقيا، إكتسب دقلو حلفاء مهمين؛ من الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، المشتري الرئيسي لذهب دقلو، وسنده الرئيسي، وصولاً إلى الرئيس الروسي بوتين، عبر صلة الوصل، شركة ڤاغنر.
وفوق ذلك، فقد منحت الحكومة عقودا ميسرة كثيرة لشركة «الجنادي» التي تتاجر بالذهب وتنقل سبائكه بملايين الدولارات إلى دبي، ويملكها أحد أشقاء حميدتي وأسرته، (عبد الرحيم دقلو وإبنيه)، ويشغل عبد الرحيم منصب نائب قائد الدعم السريع. والشركة هي عبارة عن مجموعة ضخمة تغطي أنشطة الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، وتشرف على أعمال واستثمارات عديدة داخل السودان وخارجه، ولا يُعرف بالضبط حجم أصولها ومواردها.
■ كما وضع حميدتي يده على كثير من القطاعات الاقتصادية بما في ذلك الزراعة، خاصة مع وفرة الأراضي الصالحة للزراعة وغير المستغلة بعد، ووفرة مياه الأنهار والأمطار، حيث تمثل إيرادات القطاع الزراعي ما نسبته 48% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان، وفقًا لبيانات رسمية عام 2017.
وباتت قواته بمثابة ذراع تنفيذية و«يد ضاربة» لإمبراطوريته التجارية الواسعة. وقد جنى أموالاً طائلة نتيجة قيام تلك القوات بأعمال إجرامية خارجة عن القانون، من قبيل تصفية المعارضين وترويعهم، فضلاً عن ارتكاب مجازر حرب في دارفور. وثمة من يعتبر أن قواته كانت أشبه بـ«مؤسسة مرتزقة خاصة» عابرة للحدود، حيث قامت بتأجير خدماتها لملوك ومشايخ الخليج للقتال في اليمن، وكان لديها تعاملات مع مجموعة ڤاغنر، التي تقوم بحراسة مناجم ذهبه، وتقدم المعدات العسكرية لقواته. ومع الجيش الوطني الليبي وقائده، خليفة حفتر، الذي يزودها بالأسلحة والوقود، ويتبادلان المصالح والمنافع على غير صعيد. [إبراهيم درويش/ «إيكونوميست: ماذا ينتظر «حميدتي».. فرصه ضعيفة وسلاحه المال؟»/ «القدس العربي»: 1/6/2023].
■ وهكذا، فإنّ الثروات الضخمة التي راكمها، والإمبراطورية الاقتصادية الهائلة التي تمكن من تشييدها على مدى قرابة عقدين من الزمن، إضافة إلى السلطات الاستثنائية التي تمتع بها، كلّ ذلك سمح له بمدّ نفوذه داخلياً وخارجياً، وبناء شبكة علاقات خاصة مع الإمارات والسعودية وروسيا، ومكّن حميدتي ليس من أن يصبح دولة داخل الدولة فحسب، بل منحه القدرة وحافز التطلع والمنافسة للسيطرة على مركز السلطة والقرار في السودان. وهو ما أثار، طبعاً، مخاوف الجيش وقائده، لتعارضه مع رغبة البرهان وطموحه للاستئثار كذلك بمقاليد الحكم، وكان هذا من بين أهم أسباب اندلاع الحرب بين الطرفين. [عمر الفاروق/ «رصاصة أولى «مجهولة» تطلق المواجهة المؤجلة بين الجيش السوداني والدعم السريع»/ «القدس العربي»: 23/4/2023]■
(8)
تأثير الدور الخارجي
■ مع فشل الرهان الداخلي على الحسم العسكري السريع للحرب، والهروب نحو إشعال المزيد من الحرائق في هشيم التنوع الإثني والقبلي، وتنامي المخاوف من اتساع نطاق الحرب، وعودتها إلى سابق عهدها في دارفور وغيرها، على نحو تعمّ فيه الفوضى مختلف الأقاليم السودانية، في بلد شاسع المساحة وجوار متفجر بحروبه الأهلية الطاحنة، في موازاة ذلك كلّه، تصاعد الحديث في الأوساط المهتمة حول ضرورة التدخل الخارجي في السودان، علماً أنه في ضوء التجربة السابقة، فإن الحرب لم تتوقف في دارفور إلا بعد وصول قوات أممية إلى الإقليم، كان قوامها من القوات الإفريقية بشكل رئيسي.
بيد أن تعامل المجتمع الدولي مع الحدث السوداني الراهن يتسم بقدر كبير من الارتباك والتناقض والتلكؤ، ولم يبدِ أيّ طرف استعداده لتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والتدخل المباشر لوقف الحرب. ويرجّح محللون عدم التدخل الدولي في الصراع الدائر وذلك بسبب التباين الحاصل في المواقف الإقليمية والدولية، على رغم أنّ إطالة أمد الحرب، والخشية من انفلات الأوضاع الأمنية، يُقلق ويؤذي قوى عديدة داخل السودان وخارجه، بالنظر إلى ما يترتب عليها من نتائج كارثية.
■ وإذا كان ثمة أطراف دولية تبدي حرصها على إيقاف الحرب، فإن هنالك أطرافاً أخرى، تبدو الحروب الدائرة والانقلابات الحاصلة هنا أو هناك في القارة السمراء، بمثابة «فرص» أمامها لإعادة رسم خارطة مصالحها ومدّ نفوذها، من السودان شرقا إلى النيجر ومالي غربا. فثمة منافسة قائمة في الأصل بين الدول الغربية التي استعمرت القارة تاريخياً من جهة، والولايات المتحدة من جهة ثانية، إضافة إلى دول جديدة دخلت على الخط حديثاً، (الصين، روسيا، تركيا، إسرائيل..)، تسعى بكل جهدها لتوسيع مصالحها ونفوذها في القارة.
فمنذ صيف 2020 شهدت القارة الإفريقية 7 إنقلابات على أنظمة منتَخبة أو دستورية، (على نحو أو أخر)، من مالي إلى تشاد وغينيا وبوركينا فاسو والسودان والنيجر والغابون أخيراً. وعلى رغم موقف الاتحاد الإفريقي المبدئي الرافض للانقلابات، إلا أنه لم يستطع أن يفعل شيئا إزاءها. ويغالي البعض فيذهب إلى حدّ اعتبار أن «الصراع في دول القارة الإفريقية، في جوهره، يدور بين القوى الكبرى، (ولكن) بواسطة أدوات محلية». [رشيد خشانة/ «فرنسا تخسر آخر مستعمراتها في أفريقيا وروسيا تنمو وتتوسع»/ «القدس العربي»: 6/8/2023].
■ المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية خرجت منذ بداية الحرب، ولسان حال المجتمع الدولي يقول: «نعتذر، لا توجد لدينا حلول». تُرى، هل يعود هذا إلى أنّ السودان لا يندرج على ساحة الاهتمام والأولويات الدولية؟ أم أنّ العواصم الدولية الكبرى والإقليمية الفاعلة باتت تخشى، لأسباب كثيرة، من أيّ تدخل فعلي على الأرض في بلد مثل السودان؟ على رغم أنه بموقعه الاستراتيجي، وبتأثير ما يجري فيه على جواره غير المستقر أيضاً، يُفترض أن لا يُترك هكذا، وأن لا يُسمح له بالتحول إلى دولة أخرى فاشلة، وهذا يُفترض أنّ يكون مدركاً ومعروفاً لدى الجميع أيضا!.
قد يقال الكثير في هذا الصدد، ولكن في المحصلة، ها نحن أمام دولة عربية أخرى يتفشّى فيها القتل والموت، وينهش الدمار والخراب بنيانها وأركانها وأجهزتها ومؤسساتها، ويعيش سكانها هاجس التهجير، أو النزوح المستمر، بحثاً عن مكان آمن، ومع ذلك، تبقى غائبة عن أجندة الاهتمامات والأولويات الدولية. وتبدو الحرب الدائرة فيها، (بعد قرابة خمسة أشهر على اندلاعها)، بعيدة عن أي أمل بوقفٍ قريب، أو إيجاد حل قريب لها. الصمت الدولي يبدو مريباً في نظر البعض، والاستجابات العربية والإفريقية والدولية تجاه ما يجري، أقلّ ما يقال فيها أنها متواضعة ودون المستوى المطلوب.
■ في الواقع، منذ أن تولّى عبدالله حمدوك رئاسة الحكومة الانتقالية في السودان، فإنه لم يلقَ الدعم اللازم والكافي من واشنطن، لا اقتصاديا ولا سياسياً، مع إدراكها (المُفترض) أنه سيكون بمواجهة تنين «المجمع العسكري - التجاري» للجيش والمليشيات. وبدلاً من ذلك، فوّضت إدارة دونالد ترامب سياستها في القرن الأفريقي لحلفائها المفضلين في الشرق الأوسط؛ السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وإسرائيل، وكلّهنّ إما معاديات للديمقراطية، أو لا يرغبن ولا يعنيهنّ أمر قيام ثورة ديمقراطية في العالم العربي، ولهذا فضلت كلّ دولة منهنّ التحدث مع الجنرال المفضل لديها.
إضافة إلى ذلك، فقد دعمت إدارة ترامب «عقد الصفقات»، فاجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع البرهان، وانضم السودان إلى اتفاقات أبراهام، وألغت الولايات المتحدة تصنيف السودان كـ«دولة راعية للإرهاب»، ثم رفعت العقوبات، في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب.
■ وعلى العموم، فقد كشفت الأزمة السودانية عن عجز الإدارة الأمريكية على المساعدة - حتى الآن على الأقل - في حل الصراع الدموي بين الجنرالات. أو أنّ الموقف الأميركي بدا غير جاد بما يكفي لدفع الطرفين لوقف الحرب والجلوس إلى طاولة المفاوضات فوراً. أما العقوبات الاقتصادية المتخذة، فبدت إجراءات تقليدية غير فعالة، وستخفق على الأرجح، إذ سبق وتعايش معها السودان لسنوات طويلة.
وقد تكون هناك أسباب عديدة تقف خلف ذلك، من أهمها أن السودان ككل ليس مدرجاً على قائمة أولويات إدارة الرئيس جو بايدن، وخاصة في ظلّ انشغال هذه الإدارة بأكثر من ملف؛ أو لنقل أنّ دعم مشروع الانتقال الديمقراطي في السودان، لا يشغل بال واشنطن ولا بال العواصم الغربية عموماً، التي بيّنت التجربة أنها تميل للتعاطي مع الفاعلين العسكريين أكثر من ميلها للتعاطي مع الأحزاب السياسية والحركات الاحتجاجية وقوى المجتمع المدني، على رغم حديثها المتكرر عن الديمقراطية والقيم المتفرعة عنها. والسبب في ذلك، ربما يعود إلى عدم ثقة تلك العواصم بالمدنيين، الذين «لا يستطيعون التوافق على شيء»، ولا يجلبون سوى الفوضى، كما يقول دبلوماسي غربي متحدثاً بلسان حال تلك العواصم. وربما أنّ السبب هو اهتمامهم بمصالحهم أولاً، والحدّ مما يشكل أيّ تهديد لها، (موضوع الهجرة مثلاً).
لكن،إذا كانت الواقعية السياسية (الدولية) قد أوجبت الربط بين الاستقرار ودعم الديكتاتوريات العسكرية في السابق، فقد آن لهذا التفكير أن يتوقف، بعد أن أظهرت الحرب الدموية بين عسكر السودان أن «حملة السلاح هم المشكلة وليسوا الحل». [إبراهيم درويش/ «نيويورك تايمز: السودان بلد ضخم ويجب عدم السماح له بالفشل أو الانزلاق لحرب أهلية»/ «القدس العربي»: 3/5/2023].
■ وكان نشطاء مؤيدون للديمقراطية في السودان ومنظمات حقوقية دولية إنتقدوا الولايات المتحدة ودولا غربية أخرى لعدم اتخاذها عقوبات ضد القادة العسكريين المسؤولين عن اندلاع الصراع الحالي في السودان. كما وجهوا إنتقادات سابقة لعدم اتخاذ عقوبات أيضاً ضد هؤلاء القادة لمسؤوليتهم عن مذبحة عام 2019 ضد المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، وانقلاب 2021 الذي قلب مسار الانتقال إلى الديمقراطية. وجادلت منظمات المجتمع المدني بأن التزامات واشنطن المعلنة بالتحول الديمقراطي في السودان سيُنظر إليها على أنها «خطب جوفاء» إذا لم تقم بأفعال محددة ردّاً على الانقلاب. [رائد صالحة/ «إدارة بايدن تستعد لفرض عقوبات «متأخرة» على الفصائل العسكرية المتصارعة في السودان»/ «القدس العربي»: 23/4/2023].
وفي الواقع، يميل المرء إلى مشاطرة أليكس دي وال اعتقاده بأن المشكلة الرئيسة في السودان هي داخلية في الدرجة الأولى، قبل أن تكون خارجية، لأن النظام المستبد من جهة، والحركات المسلحة من جهة أخرى، حولوا البلد إلى «ساحة صراع بين طبقة لصوص مدججين بالأسلحة، وكلٌّ منهم مصمم على السطو على الحصة الأكبر من الغنائم، وعلى ضمان أمنه كذلك من هجمات المنافسين». [أليكس دي وال/ مصدر سابق].
■ ومع ذلك، فإنه لا يجانب الصواب أيضاً الاعتقاد الرائج على نطاق واسع، داخل السودان وخارجه، بأن الحرب الحالية في السودان غذّتها أطراف خارجية، وانخرطت فيها مجموعة من القوى الإقليمية، مثل السعودية والإمارات... فالنظام الانتقالي الذي هيمنَ عليه كل من البرهان وحميدتي، دُعم بمليارات الدولارات من قبل الإمارات والسعودية. وزادت مصر من دعمها للقوات السودانية المسلحة وقائدها البرهان، في حين حافظت قطر وتركيا على علاقاتهما بالإسلاميين من الحرس القديم الذين كانوا ركيزة لنظام البشير.. الخ. [إبراهيم درويش/ «واشنطن بوست: قوى دولية وإقليمية غذت خلاف البرهان وحميدتي»/ «القدس العربي»: 18/4/2023].
وتعدّ الآن دولة الإمارات من أهم اللاعبين في السودان. وعندما أطيح بنظام البشير، سارعت مع السعودية لتقديم دعم بـ3 مليارات$ لمساعدة السودان في الوقوف على قدميه. ولكن تدخلها ساهم، بطريقة أو بأخرى، في خنق فرص التحول نحو دولة ديمقراطية في السودان.
ومن ناحية رسمية، لم تقف أبو ظبي مع طرف في القتال الجاري، وهي جزء من المجموعة الرباعية التي تضم السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة، لدفع عملية الانتقال الديمقراطي في هذا البلد، إلا أنّ كثيراً من المصادر تشير إلى أنّها أسهمت في تقوية حميدتي وقواته العسكرية. وطلبت منه - 2018، إرسال الآلاف من مقاتليه إلى اليمن، مقابل أموال طائلة. ولعب الذهب الذي كان يتم تهريبه إلى دبي، قبل أن يكمل طريقه إلى موسكو، دوراً إضافياً في تعميق علاقة الإمارات مع حميدتي.
■ وفي المقابل، وقفت القاهرة بشكل واضح مع عبد الفتاح البرهان، من موقع إيثارها أن يُحكم السودان من خلال المؤسسة العسكرية، على رغم العلاقة الملتبسة بين البرهان والإسلاميين. وعلى رغم اتجاه البلدَين إلى التعاون المشترك عبر الاتفاقيات التي كرست قاعدة «الحريات الأربعة»: حرية التملُّك والتنقل والعمل والإقامة لمواطني السودان في مصر، ومواطني مصر في السودان، إلا أن العلاقات بينهما غالباً ما أخذت طابعاً متوتراً، وخاصة إثر محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس حسني مبارك في إثيوبيا- 1995، التي وجِّهت أصابع الاتهام فيها إلى إحدى الجماعات المدعومة من نظام البشير. [يوسف بشير/ «كيف تتدخل دول جوار السودان في شؤونه الداخلية؟»/ «نون بوست»: 7/6/2023].
■ إضافة إلى الإمارات ومصر، فقد دخلت إسرائيل على الخط أيضاً. وكانت قد وقّعت، بدعم أمريكي، على اتفاقية تطبيع – 2020، حصل بموجبها بنيامين نتنياهو على ما يريده من جنرالات السودان، وهو الاعتراف بإسرائيل. وفي عام 2022، زار وفد من الموساد السودان والتقى مع قادة أمنيين والجنرال حميدتي، الذي عرض التعاون في مكافحة الإرهاب والمعلومات الأمنية، بحسب مسؤولين غربيين.
أما بشأن الدول الإفريقية المجاورة، فقد خضعت علاقات السودان معها لاعتبارات عدة، أهمها الاضطرابات السياسية والحروب الممتدة التي شهدتها وتشهدها هذه الدول، وانعكاس هذه الاضطرابات وتأثيرها السلبي المحتمل على بعضها البعض.
■ ويتحكم التداخل القَبَلي ومحاولة كل دولة دعم المعارضة المسلحة لجارتها في علاقات السودان بكل من تشاد وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا. ولذلك ظلت علاقاته مع هذه الدول غير مستقرة، ويتسم بعضها بالعداوة في معظم الأحيان.
فبعد انفصال جنوب السودان، على سبيل المثال، دعمت الخرطوم الحركات المسلحة المعارضة لحكم الرئيس سلڤاكير ميارديت، وهو ما قوبل بالمثل أيضاً، فدعمت جنوب السودان حركات التمرد في إقليم دارفور. وهي تؤوي حاليا رئيس «حركة تحرير السودان»، عبد الواحد محمد نور، الذي يمتلك فيها قاعدة عسكرية لتدريب قواته، علاوة على دعمها غير المحدود والمستمر لـ«الحركة الشعبية - شمال» بزعامة عبد العزيز الحلو، نظرا إلى الروابط التاريخية بين الجانبَين.
والأمر نفسه ينسحب على علاقة السودان وتشاد، حيث يبقى التداخل القَبَلي بينهما أشبه بقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت، خاصة أن هذا التداخل يشكّل قاعدة إجتماعية صلبة للحركات المسلحة التي تستطيع بسهولة اختراق الحدود المشتركة. [يوسف بشير/ «كيف تتدخل دول جوار السودان في شؤونه الداخلية؟»/ «نون بوست»: 7/6/2023]■
(9)
رفض الحرب والبدائل الممكنة
■ يعجّ الفضاء السوداني العام بالعديد من المبادرات التي تسعى لتوحيد القوى المدنية السودانية في جبهة واسعة تعمل من أجل وقف الحرب، واستعادة المسار المدني الديمقراطي للعملية السياسية.
وتضطر الأصوات الداعية إلى وقف الحرب إلى تقديم الكثير من التوضيحات بشأن موقفها؛ بالنظر إلى أنّ مؤيدي كل طرف في هذه الحرب يُجرّمون كل من يطالب بوقفها، ويستخدمون اللغة نفسها التي استخدموها خلال الحرب الأهلية في الجنوب وفي دارفور، معتبرين أنها «حرب وطنية مقدسة»!. ولذلك، تقول تلك الأصوات إنّ موقفها لا يعني الوقوف مع طرف ضد طرف آخر، بل يعني رفض الحرب والقتل وتدمير البلاد بشكل مطلق، ورفض أن يكون الاقتتال بديلاً للحوار والتفاوض لحل الخلافات مهما بلغت من الحدة والتعقيد.
وتزيد على ذلك، بأن رفض الحرب لا يعني استدعاء التدخل الخارجي، الإقليمي أو الدولي، لأن حلول أزمات السودان لن تأتي من خارجه، إنما تكمن داخله وعبر مساهمات كافة أبنائه. وأحدها هو التقيد بمبدأ حلّ كافة الميليشيات وجيوش الحركات المسلحة، ودمج أفرادها وعناصرها المؤهلين داخل المؤسسة العسكرية، وإصلاح القطاع الأمني والعسكري، حتى يكون للسودان جيشه الوطني المهني الموحد الذي يحمي حدود البلاد ودستورها في إطار الحكم المدني الديمقراطي. [الشفيع خضر سعيد/ «السودان: هل ستنجح «الجبهة المدنية» بإيقاف الحرب؟»/ «القدس العربي»: 17/7/2023].
■ ويضيف محمد حسن التعايشي، عضو مجلس السيادة السوداني السابق، أنّ الحرب الدائرة الآن تمثل حرب الدولة السودانية المأزومة بأزماتها المركبة والمتداخلة، وخصوصاً قضايا هوية الدولة ونظام الحكم والإدارة العامة، وكيفية بناء الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك المؤسستين العسكرية والأمنية، وعلاقة كلّ ذلك بالدين، وسبل إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومفهوم الحقوق والواجبات.. الخ؟ وبالتالي، فإن تبني نهج «لا للحرب»، يتطلب الاعتراف بجذور هذه الحرب وأسبابها، ثم ضمان وقفها، والوصول إلى صيغة شاملة للمصالحة الوطنية. والسعي من ثم، لإيجاد معالجات نهائية للأسباب الجذرية للصراعات المسلحة في السودان، والتي تتمثل في الصراع على السلطة والنفوذ، والموارد والهوية وطبيعة الدولة. والمعالجة الجذرية والجريئة لهذه القضايا يُفترض أن تقود إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين السودانيين بمختلف أطيافهم ومكوناتهم، وبناء جمهورية ثانية بديلة عن الجمهورية الموروثة منذ العام 1956. [محمد حسن التعايشي/ «حروب الدولة السودانية وحرب الخامس عشر من أبريل»/ «العرب»: 2023/6/23].
■ وفي إطار الحديث حول ضرورة تشكيل أوسع جبهة مدنية موحّدة ضد الحرب، والتمهيد لاختيار شرعية جديدة بعيداً من القوى العسكرية المتحاربة، ينوّه البعض إلى الدور الذي تلعبه بعض المنظمات المدنية في الدعوة إلى وقف الحرب ودعم التحول المدني الديمقراطي، عبر طرح مشروع وطني جامع، والتمسك بأن الشعب السوداني بمختلف مكوناته وأطيافه هو صاحب القرار الأول والأخير في رسم مستقبل دولته، ووضع أسس ولبنات المشروع الوطني المُغيّب.
وفي إطار المحاولات المبذولة لوقف الحرب هناك من يطرح تشكيل حكومة طواريء، على أن تشارك فيها كافة المكونات السياسية في البلد، وأن يكون أعضاؤها من ذوي الكفاءة والخبرة في مجال الإدارة والعمل المؤسسي، وممن يميلون لتغليب الرؤية الوطنية على المصالح الفئوية، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار التمثيل المتساوي للأقاليم. [الشفيع خضر سعيد/ «هل ستوقف حكومة الطواريء الحرب في السودان؟»/ «القدس العربي»: 14/8/2023].
■ قبل انفجار الحرب الأخيرة، أخذ البعض على القوى المدنية أنها لم تدرك جيداً مدى خطورة انتشار السلاح في ولايات السودان، وتجاهل حقيقة أن الأحزاب والقوى السياسية التي تتمتع بوجود ظهير عسكري، ومنها حركات التمرد السابقة في كردفان ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، أصبحت تلعب دورا محوريا في عملية اتخاذ القرار السياسي، وخصوصا بعد انضمام عدد من قياداتها إلى التشكيل الجديد لمجلس السيادة الانتقالي، بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة حمدوك.
وشدّد هؤلاء على أنّ حصر السلاح بيد الدولة كان يجب أن يكون الهدف الأولى للمرحلة الانتقالية، وحرمان أي قوة أخرى من حمل السلاح واستخدامه حتى انتهاء العملية السياسية، مشيرين إلى أنّ العمل الوطني في السودان يواجه أربعة تحديات رئيسية وهي: غلبة نزعة العسكرة على السياسة، وغلبة الروح القبلية على المواطنة، وغلبة المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وضعف الإرادة الدولية والإقليمية. [إبراهيم نوار/ «أحراش السياسة في السودان: مرحلة إنتقالية ممتدة تحت سلاح العسكر والميليشيات»/ «القدس العربي»: 8/4/2023].
ولكن يبدو أننا سننتظر بعد حتى تنضج الظروف وتصبح مواتية لنجاح المبادرات الداعية إلى وقف الحرب، فقد فشلت وساطات دولية وإقليمية وإفريقية كثيرة، ومنها وساطة منظمة «إيغاد»، التي تضم السودان نفسه مع جنوب السودان وإثيوبيا وكينيا وجيبوتي، إثر تولي الرئيس الكيني الجديد ويليام روتو رئاستها، على خلفية المواقف المتباينة لأعضائها إزاء طرفي الصراع الدائر في السودان.
■ وإلى ذلك، فقد دخلت أطراف داخلية وخارجية عدة على خط المعارك الدائرة، فالإسلاميون تطوعوا لدعم الجيش، فيما اعتمدت قوات الدعم السريع على «تعبئة القبائل العربية في دارفور». وتشير التقارير إلى وجود ميداني كبير لكتائب الظل؛ الأمن الشعبي والدفاع الشعبي وهيئة عمليات جهاز الأمن، التي تتبع الحركة الإسلامية (عناصر النظام السابق)، وتعمل على الأرض بشكل واضح كـ«ذراع مساندة للجيش».
ويقول محللون: إن القوى الإسلامية ترمي بثقلها في هذه المعركة، لأنها معركة حياة أو موت بالنسبة إليها، منطلقةً من أن عودة العملية السياسية (المدنية) تعني نهاية حتمية لها. وكانت الحركة الإسلامية قاعدة الاستناد الرئيسة للرئيس البشير في بناء الجيش السوداني طوال 30 عاماً من حكمه. وبسبب ذلك، والضغوط التي يمارسها عليه كبار الضباط المواليين لهذه «الحركة»، فإنّ البرهان لا يستطيع، كما يرى المحللون، المضي كثيراً في اتجاه القوى المدنية.
■ وفي المقابل، فإن عددا من قوى «الحرية والتغيير»، إضافة إلى القوى الإقليمية المناهضة للإسلاميين، (مثل الإمارات)، ترى بحميدتي وقواته «حاجز صدّ» ضد عودة الحركة الإسلامية وحلفائها في الجيش، وكان حميدتي تمسك بأنه لن يدمج قواته قبل عزل الإسلاميين من قيادة الجيش.
ومع التقديرات التي تشير إلى أن غالبية الشارع السوداني لن تسامح حميدتي على دوره في مذبحة الخرطوم - 6/2019. ولا تنسى كذلك دعمه للبرهان في انقلاب 2021، إلا أنه قام في شهر 10/2022، بتعيين يوسف عزت مستشاراً له، وبادر إلى فتح حوار مع قوى «الحرية والتغيير»، وأصبح حميدتي لاحقا داعما رئيسيا للاتفاق الإطاري، واعترف بأن انقلاب شهر 10/2021، كان خطأ. [إبراهيم درويش / «السودان يقف على حرب شاملة لها تداعيات غير مسبوقة على الاستقرار»/ «القدس العربي»: 17/4/2023].
■ وفي هذا الصدد، يعتقد الباحث أليكس دي وال أن «ما كسبه الدعم السريع عسكرياً، خسر مقابله سياسياً»، إذ إن قواته «فقدت بشكل نهائي تعاطف الشارع بسبب الفظاعات التي ارتكبتها من إعدامات بدون محاكمة واغتصاب ونهب». وبأن البرهان «كسب سياسياً»، ولكن ليس لكفاءته، إنما فقط بسبب الرفض الشعبي لخصومه. [«فتش عن الذهب.. حرب السودان قد تستمر لسنوات»/ «القدس العربي»: 11/8/2023].
وبالنسبة للرأي العام، فإن انتصار البرهان أو حميدتي يعني استمرار السياسات التي حاولت ثورة 2018- 2019 القضاء عليها. فانتصار الأول سيعيد، على الأرجح، إنتاج النظام الإسلاموي السابق، في حين أنّ انتصار الثاني قد يفضي إلى الاعتماد على القوى السياسية الديمقراطية، التي يرفع حميدتي شعاراتها ويافطتها الآن، ولكن سيكون له، في المقابل، تداعياته السلبية البالغة على «اللحمة الوطنية»، حيث يُرجّح أن تظهر في إثره تناقضات إثنية وجهوية بين مجموعات ما يسمى بـ«أولاد البحر» و«أولاد الغرب»، أي أبناء الشمال والغرب.
■ بيد أنّ السيناريو الأسوأ، بالنسبة للجميع، هو حرب طويلة ممتدة، بدون منتصر، وتقود إلى تقسيم البلد إلى كانتونات وجيوب تسيطر عليها ميليشيات متحاربة، وسط مستويات غير مسبوقة من الفوضى وعدم الاستقرار، كما حصل في ليبيا واليمن وسوريا.
وفي كل الأحوال والسيناريوهات، فإذا كان ثمة ما يمكن أن نستفيد منه ونتعلمه من هذه الحرب، ومن تجربة الحروب شه المتواصلة في السودان، هو أنه لا يمكن أن تبقى القضايا الإشكالية معلّقة ومؤجلة حلولها إلى الأبد، وأن «صورة الدولة لا يمكن أن تعوّض عن الوجود الفعلي والحقيقي لهذه الدولة»!.
فلعلّ هذه الحرب، والتجربة السودانية عامة، تكون حافزا للتعلم من تجارب الماضي وإخفاقاته، والبدء في تقديم معالجات حقيقية وجذرية للقضايا الإشكالية المطروحة، بما ينهي دوامة الانقلابات وعسكرة السياسة، ويضمن تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء لكيان الدولة السودانية بمختلف أقاليمها وجهاتها، وبما يرسخ كذلك النظام الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة.
تحقيق ذلك وحده، سيتكفل بانعتاق السودان من قيود التخلف الذي أصابه، وسيضمن له توظيف موارده الضخمة لتحقيق تنمية شاملة ومتوازنة تنهض بكل أطرافه ومناطقه ومكوناته. . [عثمان ميرغني/ «الأسئلة الصعبة في حرب السودان»/ «الشرق الأوسط»: 11/5/2023]■