الأخبار
مجلس الأمن يبحث اليوم الوضع الإنساني بغزةالاتحاد الأوروبي: وصم "أونروا" بالإرهاب اعتداء على الاستقرار الإقليمي والكرامة الإنسانيةدير القديس هلاريون بالنصيرات على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكوأستراليا ونيوزيلندا وكندا: المعاناة الإنسانية في غزة غير مقبولة ولا يمكن أن تستمرعشية انطلاق الأولمبياد.. هجوم كبير على منظومة السكك الحديدية الفرنسيةقبيل لقاء نتياهو اليوم.. ترمب: على إسرائيل إنهاء الحرب بسرعةريال مدريد يفاوض مدافع الانترالاحتلال يعتقل سبعة مواطنين شرق نابلسنائبة بايدن لنتنياهو: حان الوقت لتنتهي حرب غزةالجزائر: لجنة الانتخابات تقبل ملفات 3 مترشحين للانتخابات الرئاسية"رويترز": إسرائيل تسعى لإدخال تعديلات جديدة على الصفقة وحماس ومصر ترفضانأسعار صرف العملات مقابل الشيكل الجمعةطقس فلسطين: أجواء حارة إلى شديدة الحرارةبايدن يستقبل نتنياهو في البيت الأبيض ويبحثان صفقة التبادل وملفات عدةمكتب نتنياهو لوزراء كابنيت: مفاوضات الصفقة تشهد تقدماً وفي مراحلها النهائية
2024/7/27
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

نقوش على الجدار الحزين

تاريخ النشر : 2023-08-01
نقوش على الجدار الحزين
نقوش على الجدار الحزين

(رواية)


تأليف: مأمون أحمد زيدان


قارئي العزيز:

ليس من أسلوب القصة أو الرواية أنْ يخاطبَ القاصُّ أو الراوي قارئه مخاطبة مباشرة، لكنني بنوعٍ من التمرُّد على السياق وعلى النهْج المتواتِر سأخاطبك اليوم بشكلٍ مباشر، وكلُّ هذا الخطاب سيكون مكوِّنًا من مكونات القصة، وليس مقدمة قبل البداية، ولن أخاطبَك باسم الراوي الذي يجول بين السطور، بل سأخاطبك أنا الكاتب الذي يكتب بشكلٍ مباشر، نازعًا أيَّ ظلٍّ للراوي من كلِّ مكونات القصة، لأبقَى أنا وأنت في مواجهة؛ نتحمَّل الوصفَ، ونندمج في الصور، وننصهر في الشوارع والممرَّات والأزقَّة والبيوت والبقالات والدكاكين، بكلِّ اختلافاتها وتفرُّعاتها؛ حتى نصلَ إلى قصة ترسم المكان بذاكرة مستبيحة كل التفاصيل؛ من أجْل إرساء نوعٍ من الأدب يتواصل مع المكان بما فيه من أسرار وخَبايا، مِن تشكيلات ماديَّة تُخْفي في داخلها حياة الجَماد التي ننفي وجودَها وتأثيرها على شخصيتنا ونفسيَّتنا وتركيبتنا الموزَّعة بين الناس والأشياء، بين الأحياء والجَماد، بين الإحساس بما نعرف، والشعور الغامض بما لا نعرف؛ حتى نستطيعَ الوفاء للمكان بنفس القدْرِ الذي كنَّا أوفياء للإنسان.

اعْلم مُسبقًا أنه أدبٌ من نوع جديد، أو على أقلِّ تقدير هذا ما أدَّعيه أنا، ولي الحقُّ المطلق في هذا الادِّعاء؛ لأنه أدبٌ يرتبط بالجغرافيا المتحرِّكة التي تمشي معنا، تسامرنا، تختلط بأحلامنا وأمانينا، تمتزج بفرحنا وحُزننا، ببُؤْسنا وفقْرنا، هي الجغرافيا التي تبعثُ من مرقد الأرض لتشكِّل ذاكرة المكان، المكان الملاحق لأنفاسنا، حين كنَّا رُضَّعًا، وحين حبونا، وحين أصبحنا نسابق المسافات ونطوي المساحات، المكان الذي تغلغلَ بأعماق رُوحنا، فأوْقفنا على محطَّات من الزمن، كانت تنتظرُ وعينا لنمزجها فيه، فيتكوَّن زمان المكان، ومكان الزمان.

وأنني بجُرْأة أستطيع أن أصِفَ الماضي الزماني والمكاني بأنه الحاضر الممتد بخاصرة الوجود إلى اللحظة التي نحياها؛ أي إنه هو الوجود المتحرِّك بين أيدينا، وأستطيع أن أقولَ وبنفْس الجُرْأة: إن الحاضر المكاني والزماني هو المستقبل الذي ينمو بين أعطافنا ووجودنا؛ ليشكِّلَ صورةَ الوجود المتصل بالماضي والحاضر؛ أي إنه الوجود المتفاعل بأيدينا والمتحرِّك ليكوِّنَ المستقبل، وحتى المستقبل الذي نرى بعضَ تشكُّله بين أيدينا، ويخفي بعضَ تشكُّله عنَّا، فإنه أيضًا يخضع لذاكرة المكان التي تستدعي الزمن للاتصال بها؛ ليتكوَّن الوجود بصورته الثلاثيَّة: الماضي، الحاضر، المستقبل.

وهذه القصة، وُجِدتْ - عزيزي القارئ - بنوعٍ جديد من الأدب؛ لترصُدَ "مُخَيَّم طول كرم" المكان بذاكرته التي استدعتِ الزمن؛ لتشكِّل جغرافيا متحرِّكة لها عليّ حقُّ الوفاء لذاكرة مكانها بنفْس القدْرِ الذي حَوَتْني وأهلي وناسي وشعبي بين دَفَّتَيْها؛ دفَّة المكان، ودَفَّة الزمان، فلا أقلَّ من حقِّي عليك ككاتب أن تقفَ لتعرفَ المكان بصورته الجغرافيَّة القادمة مِن برق فِكْرة؛ لتصبحَ وجودًا أدبيًّا يخفقُ بالتدفُّق والحياة والنَّمَاء.

هو "مُخَيَّم طول كرم" لم يكنْ موجودًا بذاكرة المكان، وكذلك لم يسْتَدع الزمن من مَكْمَنه ليرتبطَ بهذا المسمَّى، فالأرض كلُّها تابعة "لطول كرم"، المدينة الممتدة من الساحل إلى أعماق المدن الأخرى، حيث تغزوها البيارات الممتدة في السهول، والزيتون المتجذِّر في الجبال والسفوح، والرُّبَا والقِمم، اللوز والدراق، والخوخ والمشمش يحتضن الأرض وتحتضنه ، مساحات من الذهب المتوهج تمتدُّ في السهول، وأحيانًا تتسلَّق أقدام الجبال سهولٌ من القمح المتألِّق المتوهِّج، الحيوانات بجميع أنواعها تذرع المسافات والمساحات، الضِّباع والكلاب وابن آوى، و بعضُ الذئاب، الدجاجُ والحمير والبغال، والخيول والجِمَال، ولم يكن من الغريب رؤية الطيور وهي تمتدُّ أمام أشِعَّة الشمس كرفوفٍ متلاصقة، فتخفي عين الشمس، وكذلك الأفاعي والعقارب والقطط التي تتنازع البقاءَ والوجود، كانت الأرض - المكان قد تواصلتْ مع الزمن لتغذيه بمتطلَّبات كينونته وبقائه، فولدت التسمية: "طول كرم"، التسمية المتفجِّرة من الْتحام المكان مع الزمان مع كروم العنب التي تتواصلُ وتتواصل، حتى يبدو للعين أنها مُتصلة باللانهاية، كروم من عنب يقطرُ حلاوة، يتلألأ كألماسٍ منثور بين أهداب الزمان، ورموش المكان، حتى يبدو وكأنه يمنحُ الشمسَ توهُّجَها وبريقها وألقها، من هذه الكروم الممعنة في النضوج المكاني والزماني لنواتها، كان الاسم الذي يصفُ طول تلك الكروم الممتدة إلى اللانهاية، فكانتْ "طول كرم".

لم تكنْ تلك البقاع الممتدة الرحبة تعرفُ من خبايا القادم ما سيجعلها تستدعي الزمان من امتداداته، ليلتحمَ مع جغرافيا جديدة ستشكِّل مَعلمًا صغيرًا لا يتجاوز بمساحته كيلو متر واحد، سيضمُّ خليطًا من البشر، من الحيوانات، من الطيور، من الأشجار والأزهار والورود، من الأشياء التي ستفرز مساحات الكيلو متر؛ لتكوِّنَ الإفرازات نقاط معرفة تُعْرفُ الزوايا الجغرافيَّة فيها بأسماء تتصل بها، فتكوِّن هناك طرقًا وحاراتٍ ومواقعَ، كلَّها جاءت من رَحِم غيبٍ كان يستعدُّ لتشكيل جغرافيا تحمل اسْمًا سيمتدُّ بالذاكرة الشخصيَّة والجمعيَّة، والعربيَّة والإسلاميَّة والعالميَّة، ليتوحَّدَ مع مسمَّيَات مشابهة، كانت تربض كلُّها على نفْس بُؤْرة التوتُّر الزماني بانتظار لحظة الانفجار الكوني الكبير، لحظة ولادة منطقة جديدة في الكون تُدْعَى: "مُخَيَّم طول كرم".

المساحة كيلو متر واحد، يضمُّ مساحة تحتضنها سبعة مداخل متفرِّقة، المدخل الملتقي مع الطريق الواصل إلى قرية "ذنابة"، حيث مضخة مياه بيارة "حنون" المتفرِّع منه طريق يؤدِّي إلى مجموعة مداخل تلتقي وتتفرَّع، فهي تلتقي مع مدخل "عزبة الجراد"، وتمتدُّ لتلتقي مع مدخل "عزبة ناصر"، ومع مدخل مدينة "طول كرم" مِن ذيل الحارة الشرقيَّة، ويمتدُّ الطريق ليتوجَّه إلى قرية "فرعون"، ومنه تفرُّعٌ يقود إلى قرية "أرتاح"، ومع مدخل للمدينة مرة أخرى إلى الطريق الموصِّلة إلى التربية والتعليم.

يمتدُّ المدخل ليلتقي مع مدخل آخرَ إلى قرية "ذنابة" يتقاطع مع مدخل للمخَيَّم من طرف حارة "البلاونة"، ويمتدُّ الشارع ليصلَ إلى الشارع الرئيسي الواصل بين المدينة ومدينة "نابلس"، فإذا ما انحرفتَ يسارًا، فإنَّ الشارع سيقودُك إلى مدخل ثالثٍ حيث مضخة مياه بيارة "أبو حمد الله" التي تتصالبُ تمامًا مع مدْخل المخَيَّم من جِهة مدارس وكالة "غوث اللاجئين"، وإذا انطلقْنا للأمام دون أن ندخلَ المخَيَّم فسنجد مدخلاً آخرَ من جهة سوق الدواب المتصل بمدارس البنات، والذي حلَّ محلَّه اليومَ مدرسةٌ صناعيَّة باسم مدرسة "طول كرم"، وهذا الاسم تمَّ تغييرُه أكثرَ من مَرَّة بطريقة دراميَّة تثيرُ التساؤل والعجبَ، وتطرح مجموعة من الأسئلة المتعلِّقة بالمكان المتحوِّل بين اسم واسم، لكننا لن نطاردَ هذا الاسم الآن؛ فإن له مكانًا يمكن مطاردته مِن خلاله.

وإذا واصلْنا المسيرَ على نفْس الشارع، فإنَّ المدخلَ إلى المخَيَّم يكون من جِهة منزل الدكتور "عواد محمود عواد"، وبعدها بأمتار قليلة مدْخل من جِهة  "دبة المشفى"، وهي دبة تستحقُّ أن يكتبَ عنها بعض الصفحات؛ لأنها شكَّلتْ علامة فارقة في توجُّهات الناس التي جعلتْ هذه الدبة تحمل بعض الصفات التي لم تخترْها أو توافق عليها، لكنَّها رغْم ذلك رسمتْ كميَّة كبيرة من المشاعر والأحاسيس والتوجُّهات لسُكَّان المدينة والمخَيَّم، فأصبحتْ كائنًا حيًّا يتنسَّمُ الوجودَ والحياة، حتى أنا الْتَصَقْتُ بذاكرتها من حيث أعلم في بعض القضايا، ومِن حيث لا أعلم في قضايا أخرى، وهذا سرٌّ من أسرار المكان الذي يستطيع أن يمشي ويتجوَّلَ، يقتحم ويتراجع، يهاجم ويتخلَّف، حتى نحسَّه مؤثِّرًا أكثرَ من تأثير الناس والحيوان.

بعدها نأتي لنتصلَ بالمدخل المتسرِّب من ثنايا المدينة، مدخل المشفَى الرئيسي الذي يضمُّ عند أمتاره الأولى غرفة "عزرائيل"، تلك الغرفة التي منحتِ المدخل هيْبة وسطْوة لم يتمكنْ من الحصول عليها أيُّ مدخل آخرَ، ولهذه الغرفة تأثيرٌ في المكان، في الزمان، في الناس، في الأحداث، في التركيبة الواعية وغير الواعية للعقْل الفردي والجمعي، تأثيرًا لم تتمكَّن المدينة أو المخَيَّم من ردِّه أو التخلُّص منه أو مِن وساوسه وهواجسه، رغم كلِّ محاولاتها المستميتة في الركض للتخلُّص من تلك التأثيرات، لكن الغرفة - المكان، كانت متمسِّكة ببقائها، بحيويَّتها ونشاطها ووجودها بين الناس ككائن يُحْكِمُ سيطرته ويدفقُ هَيْبته برحمِ المؤثِّرات والتوتُّرات النابضة بالتشكُّل اليومي واللحْظي لكلِّ الأشياء المتفرِّقة، وهي غرفة تستحق أيضًا الكتابة عنها، ورُبَّما يكون هناك ضرورة يدفعها السياق لنكتبَ عنها وعن جغرافية المكان الزماني الخاص بها.

بعدها علينا الدوران من قلب المدينة، أو السير عكسًا من مدخل المشفى، لنصلَ إلى مدخل المخيَّم الرئيسي، وهو المدخل المتلاحِم مع مبنى جيش الاستعمار البريطاني الذي تحوَّل إلى مقر للاستعمار الصِهْيَوني، ثم ليتحوَّل إلى مَقرٍّ للسلطة الفلسطينيَّة قبل أن تهوي الطائرات الصِّهْيَونيَّة عليه في الانتفاضة الثانية، ليتحوَّل إلى طَللٍ، وليعاد استنساخُه من جديد بشكلٍ جديد ليبقَى مَقَرًّا للسلطة الفلسطينيَّة.

هذا المدخل - بتلك البناية التي أسَّسها الاستعمار البريطاني - يُمكن العودة إلى جغرافيته وجغرافية المبْنَى؛ لنخْرِجَ ذاكرتهما المكانيَّة - الزمنيَّة فنكتب، وماذا نكتب؟ أشياءَ وأشياءَ، لو عُرِضَتْ على الرُّضَّع لشابوا، وعلى الراسيات لسُمِعَ صوتُ تداعيها وانهيارها، وعلى المحيطات لغاصتْ غرقًا، وعلى المجهول والغامض، لاخْتارَا كشفَ مجهولهما وغامضهما، لكنَّنا قد لا نضطر في هذه القصة الكتابة عن كلِّ ذلك، إلاَّ إذا دفعتْنا الذاكرة رغمًا عنَّا للكتابة؛ لصقًا لذاكرة المكان - الزمن.

لكننا من هذا المدخل سنبدأ، حيث التقاء الزمان بالمكان يتوحَّد بالمبنى الاستعماري، الذي كان السببُ الرئيس في تكوين البقعة الجغرافيَّة المسمَّاة: "مُخَيَّم طول كرم"، وهو توافُق شديد الغَرابة، يثير الدهشة ويستفز الخيالَ، فالالتقاء الثلاثي بين المبنى والمكان والزمان؛ أي: الاستعمار والتشرُّد واللجوء، يضع العقل أمامَ خصوصيَّة تكوِّن الأشياء وتلاصقها وتوحِّدها في مضمار مُعَيَّن، لتشكِّلَ فيما بعد مَعْلمًا جغرافيًّا يمتدُّ أصلُه من استبداد بريطانيا ورعايتها للَّقيط الجديد، على حساب الشعب المنتزع من جغرافيا، ليهاجر إلى جغرافيا أخرى تلتصقُ بمبنى الاستعمار ذاته، ليكونَ وليدًا مختلطًا من جغرافيا متنوعة فوق بقعة واحدة عليها أن تهضمَ كلَّ هذا الخليط وذاك التنوع بشكلٍ مباشر، كلُّ هذا يؤهِّل المدخل هذا ليكونَ بوَّابةَ دخولِنا إلى تفاصيل المخَيَّم.

على رأْس المدخل تبرز القوى الفاعلة والخفيَّة في ترتيب الأشياء والمسمَّيَات والأمْكِنَة، فعلى اليمين من رأْس المدخل ينتصبُ بيتٌ جميل بحاكورة كبيرة ممتدَّة تضمُّ العديدَ من الأشجار والأزهار، يتنافر مع المبنى الاستعماري تنافرًا تامًّا، فهو منزلُ الشهيد "عبدالرحيم الحاج محمد" الذي كان يقاتل إلى جانب الثُّوَّار في الأرض الممتدة حتى أعماق فلسطين، وهو صديق الشاعر الشهيد عبدالرحيم محمود، الذي رثَاه بقصيدة رائعة، ومن ثَمَّ رثَى نفسَه بقصيدة كانت تشكِّل ملامحَ شهادته.

هذا البيت يواجه - وبشكلٍ موازٍ - المبنى الاستعماري، وكأنَّ المكان كان حاضرًا ليضعَ الدلالات المتوازية التي لا تلتقي بين الاستعمار وبين النضال، ولتضع المخَيَّم بين فكرتين مركزيَّتين على الأرض: الاستسلام والمقاومة، أو هي التساؤل الرابض بين الْمَعْلَمين، لمن ستكون النهاية؟

على اليسار مباشرة "دار النصار" الملاصقة لحدِّ المبنى الاستعماري ملاصقة تامَّة، وهي أول دار في المخَيَّم، والتي ستلتحمُ مع منزل الشهيد حين تقدِّمُ أبناءَها وبناتها للنضال، فالسجن، فالشهادة، ونحن سنواصل رحلتنا من "دار النصار" نزولاً من الجهة اليُسرى للداخل إلى المخَيَّم، وستكون عودتنا من الجِهة المقابِلة، وفي الحالتين سنتفرَّع إلى الحارات الممتدة في أحشاء المخَيَّم.

بعد دار النصار مباشرة يقع منزلٌ غريب، غالبًا ما كان مهجورًا، اشتراه فيما بعد الهوجي، وسكنَه إنسان بسيط اسمه: "عاطف الشلبي"، الذي شكَّلت حياتُه مجموعة من التناقُضات، حتى كان اليوم الذي وُجِدَ فيه مَيِّتًا في ظروف غامضة، فهناك مَن ادَّعى أنه قُتِلَ، وهناك من زَعَم أنه وَقَعَ على صخرة شجَّت رأسَه، أمَّا الحقيقة فلم يهتمّ بها المخَيَّم، أو أهل الميِّت، أو حتى الشرطة وأجهزة الأمن؛ مما دفَعَ إلى الاعتقاد أن هناك أمرًا خفيًّا في مَوْتِه، يتجاوز حدود الناس والأهل.

بعدَه مباشرة يقع منزل "دار البصبوص"، منزل فقير، يكسوه الصفيح والبؤسُ، ويُغَطِّيه الحِرْمان والبلاستيك، يجمع في داخله عائلة كبيرة مكوَّنة من مجموعة من العائلات الصغيرة، التي تَوحَّد شكلُها مع الصفيح والبلاستيك والبؤس والحِرْمان، حتى لتظن أنهم جزءٌ من الجدران أو الأسْقُف، ولكن بحركة، بعده منزل "أبو رصاص"، وهو منزل غريب التكوين والتهجين، فهو نازل إلى أعمق أعماق الفقر والفاقة، تلطِّخه الطحالب وتتكالب عليه الطفيليَّات، أبو رصاص لا يفارق الساحة الأماميَّة الترابيَّة التي تتوسطها عَرَبَةُ الحمير، والحشائش، وبعض الأغنام، تنبعثُ من البيت روائحُ مختلطة لا يمكن تمييزُها أو فرْزُها، لكنَّها مقشعرة للبدن، مستفزة للشمِّ، دافعة للتقيُّؤ.

بعده بأمتار يقع مسجد المخَيَّم، وهو العلامة الفارقة بكل تكوين المخَيَّم؛ إذ لم يكنْ هناك مسجد غيره بعد، تنبعث منه روائحُ العطر والطيب، وتتخلله برودةٌ رائعة في فصل الصيف، على بوَّابته مَصْطبة صغيرة يجلس عليها الرجال لقضاء وقْتهم، المسجد ارتبطَ بشخصيَّتين؛ الإمام والمؤذِّن، الإمام الشيخ "حمدان"، رجلٌ طويل القامة، شديد بياض البشرة، جميل الطَّلْعَة، فيه هدوء متواصلٌ، لباسُه ينافس النظافة، رائع الترتيب، يكاد حدُّه يكون جارحًا من دِقَّة الكَي؛ بحُكْم عمل أولاده في كَيِّ الملابس للعائلات الثريَّة في ذلك الوقت، صوته يلامس شغاف القلوب أثناء التلاوة، لكنَّه معزول عن الناس، فهو لا يعرف غير الطريق ذاتها، من منزله إلى المسجد، وهي نفس طريق العودة، وهي الطريق التي عَرَفتْه حتى يوم مماته.

"أبو حرب" رجل طويل القامة، حنطي البشرة، عريض الجسد، واسع الصدر، حتى يبدو أنه من عالَمٍ يتصل بعالم العمَالِقة، فقير إلى حدِّ الشفقة، يمارس أكثر من عملٍ، يصل الليل بالنهار، والنهار بالليل؛ لتأمين قُوتِ أولاده، له رِجْلٌ صناعيَّة، تضامنت لِحْيَة متناثرة الشعر بفوضويَّة رسَمَتْ في روعنا أنه من عالمٍ غريب، صوته بالتحانين الرمضانيَّة يفجِّر الدمع من العيون، فهو المسحِّر الثاني مع أبي إسماعيل، ولو قُدِّرَ لأحدٍ أن يراهما معًا، لانفجرَ ضاحكًا دون إرادة منه؛ فأبو إسماعيل قصيرٌ إلى حدٍّ يبدو مع أبي حربٍ وكأنهما اجتمعا ليرسما عالَمَيْن: عالَم العمالِقة، وعالم الأقْزَام.

إلى الأمام منزل البلوطيَّة "عبد ربه"، وفُرنه الذي يعمل على الحطب، منزل يبدو قياسًا ببيوت المخَيَّم لا بأسَ به، لكنَّه يتميَّزُ بسلوك صاحبه الذي لم يعرف المسجد رغم قُرْبه منه، بانحناءةٍ صغيرة نحو اليسار تقع مجموعة من البيوت التي وإنْ كانت داخل بقعة المخَيَّم، إلا أنَّها تنظيميًّا تتبعُ المدينة، وهذا ما دَفَعَ أهلُها للاستعلاء على أهل المخَيَّم الذين كان يَنْظُر لهم أهلُ المدينة نظرةً فيها شَمَاتَة، كما بها ريبة وشك، لكنَّهم كانوا يتحاشون الوقوع في خطأ مع أهْل المخَيَّم؛ خوفًا من أن يُطحنوا بِرَحَى النظرة القادمة من المدينة، ورَحَى البؤسِ والفقر المتمكِّن من كلِّ شيءٍ في المخَيَّم وأهله.

إلى الأمام "دكان الصابر"، ولو كان هناك مُتَّسع من الوقت، لرويتُ عن شخصيَّته الأعاجيب، فهو غريب كالغرابة، ومُدْهِش كالدهشة، جُلُّ ما كان يعرفه في الحياة الطريق المؤدِّيَة لتجار المدينة والعودة، أما باقي حياته فقضاها بين ألواح الصفيح المتراصة لتشكِّلَ ما يُسمَّى بالبقالة، ملابسه رثَّة باليَة وقذرة إلى حدٍّ لا يُصَدَّق، وكانتْ زوجتُه تقضي كلَّ وقتها معه بنفس الظروف، حتى يبدو أنهما اتَّفقا على عدم الاقتراب من الماء لغَسْل ملابسهما، لهما حكايا، لو كان هناك مُتسع لها، لأمْسَكَ القارئُ معدته بيديه؛ حتى لا تطير من مكانها مِن شِدَّة الضحك.

إلى الأمام قليلاً مدخل حارة "المطار"، وهي الحارة التي نُسِبَتْ إلى مَهبط الطائرات العموديَّة التي تنقلُ شخصيَّات المستعمرين حين يزورون مركز الجيش الرابض هناك، على اليمين من المدخل بيت "أبو سعد عميرة"، رغم كآبة منظره، إلا أنَّه حوى روائعَ مِن الأزهار والورود، وخليطًا من الأشجار المثمرة، وككل بيت فإنَّه لم يخلُ من دالية تتعربش على عريشة صُنِعَتْ خصِّيصًا من أجْلها، بيت جميل، يكشف عن تعلُّق الإنسان المهاجر بتراب موصول بالجذور، بالنماء، رغم هول المأْساة.

بعده مباشرة بيت "حمد"، وهو رجلٌ أسود البشرة، كثير الكلام، كثير الحركة، يتدخل فيما لا يعنيه، تزوَّج من امرأة بيضاء، أنجبتْ له مجموعة من البنات وولدًا واحدًا، حياتُه المثيرة للريبة والتساؤل أدَّتْ إلى مهاجمته من مجموعة النمور السود التي كانت تُصَفِّي عُملاء الاحتلال في المخَيَّم والمدينة والقرى المجاورة، منظر الهجوم خارقٌ للعادة، فقد ضُرِب بالشرخات والسواطير والبلطات في وسط شارع سوق الحراميَّة، وحين تيقَّنتِ المجموعة من استحالة عودته للحياة تركوه، نُقِلَ إلى مشفى المدينة، وكُتِبَتْ له حياة جديدة، ليستْ سويَّة، لكنَّها حياة بكلِّ حالٍ من الأحوال، نقلَه إخْوته فيما بعد إلى ألمانيا، وما زال هناك دون أن يُعْرَفَ عنه خبرٌ جديد، يليه بيت "أم عزات"، وهو بيت متميِّز بتوزيع خُضرته وأشجاره، خاصة شجرة الخروب الضَّخمة التي تفترشُ "أُم عزات" وضيوفها أفياءها للغيبة والنميمة، والبكاء على الوطن المسلوب، والنواح على مربض الطفولة والشباب.

يليه منزل "أبو محمود الضميري"، وهو رجلٌ شديد الغرابة، شديد العُزْلة، لا يملك أطفالاً، يقيمُ مع زوجته وابنته العانس، تمتدُّ حاكورته بتناسق رائع، تتوزَّع أشجارُها بين الليمون والبرتقال والتين، وكثير من الورود المتنوعة اللون والزهر، لكن تبقَى الوحشةُ هي المكوِّن الرئيسي للعائلة، فهي متعاهدة مع الانطواء بطريقة تدفعُك للشكِّ في وجودهم داخل دائرة الحياة للمخَيَّم، تواصِل للأمام تجد منزل "أبو صالح القهوجي"، وهو من عائلة "أبو عصبة"، وهي عائلة يمنيَّة هجرتِ اليَمَن بعد ارتكاب جريمة قتْلٍ، ووصلتْ إلى فلسطين، وأقامتْ بقرية "صيدا" قضاء "طول كرم"، ثم انتقلتْ إلى قرية "جت"، التي أصبحتْ بعد أوَّل احتلال منطقة من مناطق عام ثمانية وأربعين، وهو رجلٌ قصير، كريم العين، أنشأ حاكورة كغيره من الناس، لكنَّه بقي بعيدًا عن الحياة الاجتماعيَّة المتصلة بالمخَيَّم والمدينة.

انحراف إلى اليمين يقودُك إلى سلسلة من المنازل المتلاصقة، منزل "أبو عمر الدرهية"، مقابِله منزل "رجا الحامد"، الذي ذبحَ أُخْتَه "بهجة" على صخرة قريبة من منزله، التفرُّع الواقع بين منزل "رجا الحامد"، و"أبو صالح القهوجي" يقود إلى مجموعة من المنازل المتصلة ببعضها؛ منزل "أبو ياسر"، مقابِله منزل لامرأة مع ابنتها الوحيدة "فَدْوَى"، منزل صامت يديره الأُفُق نحو نزوات الناس وهَمْهَمَاتهم، في نهاية التفرُّع منزل لرجلٍ وزوجته، اسمه "مزين"، رجل رائع المحيا، تناوله الموت بغْتَةً، ومنزل "الجالولي" الذي يُعتبرُ نهاية المخَيَّم من هذه الزاوية، وهو منزلٌ كبير، يضمُّ مجموعة من الأبقار والأغْنام التي تُطلقُ في ساحة الأرض التابعة للمطار للرَّعْي، صاحبه قصير القامة، وكذلك زوجته وأولاده لهم سحنة غريبة، مركَّبة بين النفور وبين البشاعة، اختلفتْ حياتهم وتداخلتْ، فكانتْ أقْرب للغَرابة في النتائج الأخيرة.

إلى الأمام وبعد منزل "الدرهية"، منزل "أبو درويش الفرحانة"، وهو منزل يستحقُّ الالتصاق بالمكان والزمان؛ لما فيه من أُناسٍ طيِّبين، وصلت الطيبة إلى الْتصاق الخُرافة ببعض صفاتهم، وهذا المنزل يستحقُّ أن نقفَ عنده لنتحدَّثَ عن ساكنيه.

هو منزل بسيط، يلاصق الفقر ويساهره، جدرانه واطئة، ممرَّغة باللون البني الغامق من شدة تكالُب البؤْس عليه، صاحبه مُزَارِع في سهول المدينة، يخرج صباحًا قبل أذان الفجر، برفقة البغل المكدن والجار عَرَبَة طويلة، ليعود في المساء والعتمة تنشبُ مخالبَها بالنهار والضوء، يتقاسمُ البغل السكن مع العائلة في أيام الشتاء، حتى بدا لنا ونحن أطفال أنَّه جزءٌ من العائلة، يحاط البيت بصمتٍ غريب، رغم الحركة الدائبة المتواصِلة من الوافدين إليه من المخَيَّم والمدينة والقُرى والمدن الأخرى.

وفيما يُروى أنَّ أبا درويش رجلٌ مبارك معطى، وأنَّه يتمتَّعُ بسبب تقواه ووَرَعِه بقُدْرات خياليَّة في معالجة الأمراض، مَهْمَا كان نوعُها؛ لأن البركة وصلتْ إليه من والده الذي ماتَ قبل أن يعرفَه المخَيَّم، فكانَ الناسُ بدافعِ الأُسْطورة التي يشكِّلها كلُّ مريضٍ تماثَلَ للشفاء بطريقته ورؤيته الخاصة، يدعمون نظرية البركة التي يتميَّز بها هذا الرجل، فإذا أضفنا سببًا آخرَ، وهو أنَّ أبا درويش لم يتقاضَ طوال حياته أجرًا أو يقبل هَديَّة ممن عالجَهم، توطدتْ أسطورة البركة التي أرساها الناس بطريقة رفعتِ الرجل في نظر الجيران، ومَن حولَهم إلى مصاف الأولياء، والغريب الذي غذَّى الأسطورة كلَّها أمرٌ لَمَسْناه بالحقيقة، ولا يمكن إنكاره، وهو يدعو للدهشة والتأمُّل والبحث والاستقصاء، وهو أننا لم نكن نحفظُ شكلَ الرجل بوضوحٍ كامل، فإذا ما حاولنا وصفَه عجزنا رغْم إدراكنا السابق أننا لن نجدَ أيَّ عناءٍ في الوصف.


وحين انتقلَ الرجل إلى جوار ربِّه، أُسْنِدتْ مهمَّات الفِلاحَة إلى أبنائه، ومهمَّات البركة إلى زوجته، وحين ماتتْ زوجته انتقلتْ مهمَّات البركة إلى زوجة ابنه، ثم إلى ابنته، إلى أن برزَ جيلٌ لا يعرف البغل المكدن، ولا يعرفُ السهول، ولا يعرفُ البركة.


يقابله منزل رجل آية في الغَرابة، حمَّال يعيش وحيدًا، اسمه "مصطفى القرق"، لا يُسْمَع له صوت، يعيش وحيدًا، لا يعرفُه أحدٌ حقَّ المعرفة، خُطواته محسوبة معدودة، ظلَّ كذلك فترة طويلة من الزمن، حتى تزوَّج في سنٍّ متأخِّرة، وأنجبَ، فأصبح يظهر بالحارة بسبب أولاده، لكنَّه ككل إنسانٍ، يحيا بعيدًا عن المشكلات والأذى، ظلَّ في مخيلة الناس إنسانًا لا يصلح للحياة، مع أنه كان يتمتَّعُ بقلب يقطرُ طيبة ووفاءً للناس الذين عَرَفَهم، وقد لَمَسْنا ذلك بعد وفاة والدي، فوالدي حمَّال مثله، لَمَسْنَا ذلك من خلال مواظبته على زيارة أمي وسؤالها عن أيِّ حاجة، ووصيته الدائمة لنا بالحِفاظ عليها والوفاء لذكرى والدنا.

في تفرُّعٍ صغير منزل عائلة "أبو شطل"، و"أبو الدجاج"، و"الطلوزي"، و"أبو مصيصة"، الذي كان يعمل كقاتل، وقد قُتِلَ في ظروف غريبة رُبمَّا يأتي يوم للتحدُّث عنها، وإلى التفرُّع الآخر نصل إلى منزل "أبو الحتة"، وهو منزل امْتَاز بالصراعات والمناوشات بسبب الاضطهاد الذي واجهه الأطفال من العائلات الكبيرة في المخَيَّم، امْتاز المنزل برائحة الحيوانات والفحول التي تقطنُ المنزل مع الناس، حتى إنَّ رائحة الفحول كانتْ تفوح من جلد العائلة إذا اصطدمْتَ بهم في الطريق.

نزولاً من منزل "أبو الحتة"، منزل "أبو حسين العجل"، وهو رجل أقام علاقة وثيقة مع حماره، حتى لا يكاد يُرى دونه، منزله واسع، فيه حاكورة غنيَّة بأشجار الليمون والبرتقال والدراق، ومكْتظ بالمتسلقات، وخاصة الياسمين الشامي والعِرَاقي، مُفْرِط في الفقر والبساطة والانزواء والانطواء، رغم بسمته التي تكاد تكون مكوِّنًا من مكونات تقاسيمه، يقابله منزل "أبو علي القهوجي"، وهو منزل بسيط يتحد مع الفقر والفاقة، سُكَّانه أشد غَرابة مما يمكن أن يُتَصوَّرَ؛ فهم أمْيَلُ إلى الأقزام المملوءَة أجسادهم بالشَّحْم، كان مكروهًا ومنبوذًا بشكلٍ كاملٍ، ولولا إدارته إلى مقهى، لكان معزولاً عن الناس كجربٍ لا يُطَاق، سيرته الذاتيَّة مع أفراد عائلته يَنْدَى لها الجبين، وحين مات تحدَّث الناس عن رؤيته في المنام وهو يتلظَّى في عذاب جهنم.

 

انحرافة بسيطة إلى اليمين، منزل "البيارية"، وهي امرأة أرْملة لها ثلاثة أبناء، كانوا أشدَّ عصيانًا من العصيان، فهم يأكلون وهي جائعة، كانوا يضطهدونها وكأنها وباءٌ يجب مكافحته، وكانت تُضْرب يوميًّا ضربًا قاسيًا مُبرحًا، يترك علاماته على وجْهها، وحين كانت تأتي لزيارة أُمِّي، وتتحدث وتشكو، كانت تقطعُ نياط القلبِ، لدرجة أن التفكير يتمحْوَر عن الطريقة التي يجبُ أن يُقتلَ بها أولادُها، ومن علاماتها المميزة علبة السعوط التي ترافقها وكأنها كلُّ ما تملك في الحياة، فهي متمرِّسة باستنشاق السعوط والعطس؛ حتى بدا من المستهجن أن تكونَ لحظة واحدة دون عطسٍ.

 

في انحدار نحو الأسفل منزل "أبو عثمان"، وهو منزل يكاد الفقرُ يشكو من فقْره، وتكاد المأساة تشكو من مأساته، فيه خليطٌ من بَشَر ينامون على الأرض المرسومة بالقذارة، ليس لأنهم لا يملكون حِسَّ النظافة، بل لأنَّ تركيبة البيت تأبَى أن تكونَ نظيفة مَهْمَا بُذِلَ مِن جُهْد، وراء البيت حاكورة كبيرة تتميَّز بأشجار الرُّمَّان والدوالي، وليمون البنزهير، كما تمتلئ بأزهار فوَّاحة الرائحة، وحين مات أبو عثمان، لم يشعرْ أحدٌ بفُقْدان الشخص، وهذا أمرٌ مستغرب ومستهْجَن، خاصة في ذلك الوقت الذي كانت الناس فيه رغم اختلافها في المنابع والأصول والعادات والتقاليد، ورغم الاقتتال الحاصل، بقوا أوفياءَ لبعضهم، وكأنَّ فكرة الالتحام والتكافل كانت ضرورة من ضرورات البقاء والوجود.

 

مقابل بيت "أبو عثمان" مباشرة كانتْ هناك صخرة ناتئة، يرهبها الناس ويخشاها كلُّ سُكَّان المخَيَّم؛ فهي الصخرة التي ذُبِحَت عليها "بهجة" بيد أخيها، وظلَّت الناس تروي حكايات متواصلة عن خروج شبحها الذي يصرخ بقوة، حتى إنَّ الروايات وصلتْ إلى أنَّ الشبح أمسكَ بعض الناس فأصابهم بنوع من المسِّ والجنون، دون ذِكْر اسم الممسوس أو المجنون.

 

ملاصقًا لبيت "أبو عثمان" كان منزلنا الذي انتقلْنا إليه من منزلٍ كان قائمًا في حارة "الحمام"، سنأتي على ذِكْره فيما بعد، وقد كان يعتبرُ أفضلَ بيت في المخَيَّم، لا لأنه غير ملامس للفقر والحاجة، بل لأنه البيت الوحيد في ذلك الوقت الذي كانت غُرفه مسقوفة بالأسمنت، عدا المطبخ الذي كان سقفُه من الإسبست؛ وهذا لأن صاحبه الأصلي ويُدْعَى: "أبو جهاد" كان يُرْسل بناته للخدمة في الكويت؛ مما جعلَه يتمتَّع بشيءٍ من الراحة الماديَّة قياسًا بأهل المخَيَّم، لكن هذه المتعة طوردتْ بقوَّة من الناس الذين حقَّروه بسبب إرساله بناته؛ كي يعْملْنَ خادمات في الكويت؛ مما دفعَه إلى ترْك المنزل والإقامة بالأردن.


إذا انعطفنا يمينًا نرى منزل "أبو إسماعيل المسحر" الذي تحدَّثْنا عنه حين تحدَّثْنا عن أبي حرب، لكنَّ هذا المنزل تمتَّع بشجرة "توت" عِمْلاقة، وبعض الليمون، وقن للدجاج، وخم للحمام، ولو أردنا التحدُّث عن هذا الرجل الذي كان يعيش أكثرَ من حياة وأكثر من عُمْر في ذات اللحظة، لبكينا وضحكْنا، لندبنا وقهقهْنا، لكن رُبَّما يأتي ذلك يومًا وفاءً للمكان والناس.

بعده مباشرة منزل "أبو العيلة"، والملقَّب "بالنمر"، فهو رجل طويل القامة، ممتلئ الجسم، له شاربان كثيفان مفتولان، يحمل بيده عصا كفرعون، يعلن عداءَه لكلِّ مَن يحاول أن يقتربَ منه دون الأخْذ بعين الاعتبار هيبته، متزوِّج من امرأتين؛ "هيلانة" القديمة، و"حمدة" الجديدة، وكانت "هيلانة" تُعاني ويلات الزوج و"حمدة" في نفس الآن، رغم أنها امرأة تعرفُها السكينة، ويصاحبُها الهدوءُ.

منزله كبير وواسع، وبسبب سطوته فقد استطاع أن يضَعَ يده على مجموعة من البيوت، لكنَّ منزلَه الرئيسي تشكَّلَ من تسوية تعلوها غُرفة معروفة بالعلية، التسوية لمجموعة من الأبقار والأغنام، والفحول والخِراف، وعلى الباب الخارجي منطقة للحمار، كان وضعُه المادي جيدًا، فبجانب المتاجرة بالحلال يبيع الحليب، والصوف، والجلد، وكان يتقاضَى أجرًا عن تشبية كلِّ سخلة أو غنمة أو بقرة، لكنَّه إلى جانب كلِّ هذا سيِّئ السمعة؛ من الجانب الأخلاقي، ومن ممارسته الظلمَ بسبب عدد أولاده، وظلَّ كذلك إلى أن انطفأ بصرُه، عندها كانت المفارقة بين النمر، وبين من يتسوَّل الحديث مع الناس، حتى إنَّ بعض الناس شمتتْ به ورأتْ أنَّ العمى انتقام من الله للناس الذين ظُلِموا.


قبل هذا المنزل منزل يزخر غرابة ووحشة، وقفرًا وهجْرًا، وكأنَّه بقعة خياليَّة موجودة في ذاكرة المخيلة للناس، وليس حقيقة واقعة، رغم اتِّساع مساحة أرْضه وضخامة أشجار السرو والصنوبر التي تحيط به بشكلٍ كثيفٍ، عدا بعض أشجار الحمضيات المشكلة التي تتوسطه، لكنَّ ساكنَه رجلٌ غريب؛ فهو أسود البشرة، شديد السواد، طويل القامة مع تناسُق في الجسد كالرمح، عيناه حمراوان، وكأنهما غطستا بدمٍ قانٍ، يعاقر الخمرَ بشكلٍ متواصل؛ مما دَفَعَ الناس للفْظِه، ومما دفعَه للالتصاق بالوحدة والانطواء، يُدْعَى "أبا حلمي"، ملابسه نظيفة ومُرَتَّبة إلى حدٍّ لا يُصَدَّق، مَكْويَّة بطريقة تثيرُ الدهشة إذا ما أُضِيف تناسقُ الألوان، لم يكنْ مؤْذيًا بأيِّ حالٍ؛ فهو يغادرُ المنزل صباحًا، ويعود مساءً، وجُلُّ ما كان يمزقُ الوحشة، العتابا والميجنا الباكية والحزينة التي كان ينشدُها وينقلُها سكونُ الليل إلى الناس، ظلَّ كذلك إلى أن اختفى واختفى صوتُه، وبعد أيام قليلة انتشرتْ في الحارة رائحة نَتِنَة، غير معهودة، تَتَبَّع الناسُ مصدرَها، فكانتْ جُثَّته المنفوخة التي بدأتْ بالتشقُّق، تعاونَ الناس وحملوه إلى المقبرة دون الصلاة عليه بالمسجد، ودُفِنَ ودُفِنَتْ ذِكْرياتُه في نفْس اللحظة.

ومما يدفعُ العقلَ للتأمُّل بالمصاير المقترنة بالمكان أنَّه بعد أشهر وَصَلَ أخوه ويُدْعَى: "عبدالخالق" مع أُمِّه وأقاما بالمنزل، لم يتواصلا مع الناس، لا نعرف سببًا لذلك، وظلَّتِ الوحشة تسيطر على المنزل، فكانتْ كائنًا يقيم معَهم، وفي يوم غزتْ رائحة نَتِنَة الحارة مرَّة أخرى، كانتْ جُثَّة عبدالخالق الذي ماتَ في نفْس الغرفة، وعلى نفس الزاوية التي مات فيها "أبو حلمي"، كانت أُمُّه في تلك الأثناء في زيارة في الأردن لم تَعُدْ منها، نُقِلَ الجثمان إلى المقبرة، وهناك صلُّوا عليه صلاة الجنازة؛ حتى لا تتكوم رائحة التعفُّن التي أصابتِ الجثَّة بالمسجد.


نزولاً من جهة منزلنا لم يبقَ سوى بيتين لا بدَّ من الحديث عنهما؛ بيت "أبو إبراهيم دلعونا"، وبيت "زياد بدير"، وفي الحديث عنهما تناقُضٌ وافتراق؛ فهنا مأساة متدفِّقة كنهرٍ لا تُوقِفه سدودٌ، وهناك مأْساة تحتضنُها دعابة تُخْفي غليان الأَلَم تحتَها.

منزل "دلعونا" - كما كنَّا نردِّدُ - دون أن نعرفَ سببَ التسمية ومصدرَها، غائص في الفقر والغرابة والدهشة والذهول؛ فهو مزيجٌ من الانطواء والوضوح، بل هو اندماجٌ بين ما تحسُّ أنَّك تعرفُ فتتفاجَأ - حين تودُّ كَشْفَ معرفتك - بأنَّك عاجزٌ عن الكشْف، بل وغارقٌ في الحيرة والجهْل، فأبو إبراهيم رجلٌ طويل القامة، نحيل الجسد، يرتدي قمبازًا مقلَّمًا وحطَّة تميل نحو اللون الأصفر الباهت، كان يعمل في البيارات، صلتُه بالمخَيَّم صلة الطريق أو حاجة بقالة، زوجتُه طويلة مثله، نحيلة، ترتدي أثوابًا منقشة بالورود، لكنَّها تميلُ للذكورة بشكلِها أكثر من ميلها للأنوثة، تناولَ المخَيَّم حكايات غريبة عنها وعن زوجها، كانتْ كلها تتكدَّس بطريقة تثير التقزُّز من صفاتهم النفسيَّة وعلاقاتهم الاجتماعيَّة، ونحن لم نكنْ نملك دليلاً على الطعْن القاسي الذي كان المخَيَّم يُجْمِع عليه، لكن الانزواء وكثرة الزُّوَّار المجهولين الذين كانوا يتردَّدون على البيت كانتْ تشكِّل تساؤلاتٍ تَدْعَمُ المقولات التي يردِّدها المخَيَّم، وظلَّ المخَيَّم مُتعلِّقًا برواياته إلى يوم وفاة أبي إبراهيم، ومن ثَمَّ زوجته، فصمت المخَيَّم، ونسي كلَّ شيءٍ، إلا أنَّ المستقبل جاء ليفجِّر كلَّ شيءٍ بطريقة راعبة للعقْل، مكتسحة للوعي، فكان ما يُقال جزءًا صغيرًا مما أظهرَ المستقبل، بل جزء أدق من رأس الإبرة؛ لأن الرواية حول هذا الموضوع ستمتدُّ من البيت الرابض فوق البؤْس؛ ليطال أحداث في أرض الحجاز واليمن والسودان، وهي أحداث لم يكن أحدٌ على الإطلاق يتوقَّع خروجَها من هذا البيت، لكنني سأتوقف هنا؛ لأنها جزءٌ من رواية الشيء التي أعمل عليها، وستُسَجّل أدقّ التفاصيل لهذا الموضوع الذي اضطررتُ للعودة إليه أكثرَ من مرَّة، ومن خلال مَن عاصروه بشدَّة.

المنزل الأخير في هذه الحارة منزل "زياد بدير"، وهو ابن "النمر" الذي مَرَّ ذِكْرُه، منزل يعتبر زريبة للحيوانات التي تتقاسَمه مع البشر، صاحب المنزل غريب الأطوار، مسالم وعدائي، فيه قسوة لا يمكن وصفُها على زوجته الرائعة الصبر والاحتمال، فهي امرأة تصفو كل الصفات فيها، لا صوت لها ولا حضور، وديعة، لكنَّها تتحاشى التعامل مع الناس؛ خوفًا من اضطرارها للبكاء أمامهم، أما هو فإنه موزَّعٌ بين غباءٍ يخجل الغباء منه، وبين تشتُّتٍ في مصادر الرزق التي تمنحه الكثير، لكنَّه يبدِّدُها بالبناء والهدْم، فهو يبني اليوم عمودًا من أجْل تصميم في رأْسه، ثم يهدمه ليبني عمودًا آخرَ، حتى إنه يمكنُنا القول: إنَّ البناء والهدْم أصبحا مكوِّنًا من مكونات شخصيته إلى حدٍّ لا يُصَدَّق، وكأنَّه إدمانٌ لا يمكن التخلُّص منه أبدًا، يتمتَّع بوحشيَّة مُفْرِطَة في معاقبة أولاده، حتى ليظن الشخصُ أنهم من ألَدِّ ألَد أعدائه.

من الطريف أن نروي حادثة عابرة عنه، فهو يمارسُ الرزق على حمار يجرُّ عَرَبة، وكان من طبْع الحمار أنه يعرف الطريق دون الحاجة لتوجيهه، وذات يوم وبينما كنا نقفُ على الشارع الرئيسي للمخَيَّم، انحرف الحمار نحو مدخلٍ غير مدخله المعتاد، ضحكْنا وسألْنا "زيادًا": مَن الذي أخطأ؛ أنت أم الحمار؟ فأجاب: لا ليس الحمار، بل أنا.

 

" 2 "


العودة إلى المفرق الذي غادرناه؛ كي ندخلَ حارة المطار، وهو الذي يلي "دُكان الصابر"، ومنه "مقهى الحارون"، وهو مقهى مرتفع عن سطح الأرض؛ لوقوعه فوق تَلَّة صغيرة، يتمسَّك بشكلِ البؤْس المنسحب على كلِّ مَن في المخَيَّم، لكنَّه أيضًا شكَّل علامة فارِقة أبرزَها المستقبل بطريقة تدفعُ للذهول، تمامًا مثل بيت "دلعونا" الذي مزَّق المستقبل بذريَّة أرهقتْها توابعُ التحلُّل من الأخلاق والفضيلة إلى حدٍّ لو قُدِّرَ لعلماء النفس والاجتماع أن يعرِّفوها، لعدُّوها ظاهرة غير طبيعيَّة يمكن من خلالها الوصول إلى مكوِّنات الانحدار والسقوط.

 

إلى الأمام بقالة "عبدالرؤوف زيدان"، وهو وجْهٌ من أوْجه المخَيَّم، رغم تشابُه وضْعِه مع أوضاعهم؛ فهو طويل القامة، نحيل إلى حدِّ الاختلاط بين النحالة والعاديَّة، يلبس "ديماية" مقلَّمة أحيانًا، وبلون واحدٍ في أحيان أخرى، وحطة بيضاء فوقَها عقال، شكَّل وجودًا اجتماعيًّا ملحوظًا بشخصه، فهو يشارك بالصُّلْح وفضِّ النزاعات، لكنَّه لم يكنْ بعيدًا عن وسمات العذاب والحِرْمان التي يكتبُ المخَيَّم سطورَها ومفرداتها على ملامح الناس جميعهم؛ سواء كانوا من الوجهاء في المخَيَّم أم العاديين.

 

إلى الأمام منه منزل "موسى جعيم"، وهو رجلٌ بسيط، وادع، رائع في صَمْته ومسالمته، يشكو من فقْر متمكِّنٍ، تسانده زوجتُه القوية الشخصيَّة، إلى حدِّ أنَّ المخَيَّم رأى بها امرأة مستبدَّة، لكنَّها استطاعتْ - بفضل حنكتِها وحِكْمتها - السيطرةَ على كلِّ مسارب العائلة بقبضة من فولاذ، ونجحتْ في نقْل نفسها وزوجها وأولادها من بؤْرة الفقر إلى المنطقة الوسْطَى، ليس بين أهل المخَيَّم فقط، بل وبين طبقات المدينة.

 

يليه مقهى محاطة ساحتُه بجدار واطئ، تناوبَ عليه مجموعة من الناس، وهو مقهى كغيره من المقاهي البائسة والفقيرة، لكنَّه مَوْئِلُ الكثير من الناس الذين جمعَهم الشَّتَاتُ على نقطة، رغم عدم معرفتِهم بها، وعدم معرفة بعضهم قبلها، إلا أنَّهم بفعْل المأساة والنكْبَة الموحدة اندمجوا معًا بحديث الذكريات والألم والوجَع، لكنَّهم ظلُّوا مُعلَّقين بين التمازُج والتنافُر، وكان هذا وحدَه قادرًا على استنهاض علامات الضياع وتكوُّنها على غُرَّتهم وناصِيتهم.

 

يليه محلٌّ صغير، مُلطَّخ ببقايا لحمٍ ودماء، ثنبعث منه روائحُ مقززة، تصيب النفس بالغثيان، صاحبه رجلٌ قصيرُ القامة، سمين، ملامحه توافقتْ مع ملامح السكين والساطور، فهو جزَّار لا يعرف عن الذبح شيئًا، لكنَّه متخصِّص في بيع رؤوس الأبقار والعجول، فهو يسلخُها ويستخرجُ اللَّحم والدماغ والعظْمَ واللسان، ويرتِّبها فوق قطعة من خشب ارتوتْ بالدماء وبقايا اللحم؛ حتى أصبحتْ وكأنها جزءٌ من تركيبة المكان والشخص، شكْلُه يثير الدهشة؛ فملامحه وَعِرة، ورأْسُه كبير، لا يتناسبان مع قِصَرِه، وإذا ما أضفْنا إلى كلِّ هذا كرشَه المنتفخ بقوَّة، تشكَّلتْ أمامنا شخصية غريبةٌ، كشخصيات الحكايات التي كانت ترويها الجدَّات، ليس له منزل في المخَيَّم أو عائلة، فهو كما كان يُقال: مقطوع من شجرة، ينام في محلِّه مع بقايا اللَّحْم والدِّماء، لا أظنُّ أنَّه امتلكَ أكثرَ من سروالين وقميصين متشابهين تمامًا؛ لأننا لم نرَه مرة في الحياة قد ارتدَى غيرَ ذات اللون أو التفصيل، شديدُ الصمْت، عظيمُ الانزواء، مُمْعِنٌ في الانطواء، حتى يوم اختفائه من المخَيَّم مرَّة واحدة، دون أثرٍ أو علامة أو خبر.

 

نتقدَّم نحو بقالة "ذيب الحافي"، وإلى الأمام مقهى "أبو حيدر"، وهو رجلٌ متناسق الجسد، يعشق القهوة بشكلٍ غريب، فلدَيْه محماس خاص، ومهباش رائع الشكْل والتطريز، أصبحَ صوتُ المهباش علامة من علامات الشارع، فصوتُه الموسيقِي الرائع، وحركة اليدين والجسد المتوائِمة مع الصدى الموسيقي كانت تدفعُنا للاستماع والتأمُّل.

 

يلتصق بالمقهى منزلٌ واسع تتوسَّطه شجرة "توت" عملاقة، تحيطُ بها مجموعة من أشجار الليمون، منزل امرأة اسمها "عذبة"، كانت مع أولادها وبنتها تستقبل الناس في ساحة المنزل، وتحت ظلال الشجر، تقضي أيامها بتناوب بين زائرٍ وزائرة، امرأة بسيطة لم يحمل وجودُها أيَّ أذًى لإنسان، تطاردُ دجاجاتها وصيصانها وأرانبها، تتعهَّدُها بالرعاية كمصدرٍ مُهِمٍّ تجني من خلاله رزْقها.

 

بعده بقالة "أبو نزيه" الذي رحَلَ من المخَيَّم فجأة، فظلَّت البقالة خالية، إلى أنْ وَضَعَ يدَه عليها "النمرُ".

بعدها مباشره محل "سنكري"؛ لأبي عطا القوزح، وهو رجلٌ يُصلح بوابير الكاز، ولكسات الإضاءة، لكنَّه رحلَ أيضًا بظروف مفاجئة.

 

يليه بقالة "أبو فخري العياط"، فمنزل "التفال"، فمنزل "آل مروح"، فمنزل لرجل طاعنٍ في السنِّ هو وزوجتُه، لم يمتدّ العمرُ بهما طويلاً.

 

يلي هذا كله مَعْلم رائع مِن مَعَالم المخَيَّم، شجرة "كينا" ضخمة متطاولة في الأُفق، سميكة الجذع أمام مقهى "الدردش"، وهو مقهى بمساحة واسعة، مفتوحة على الشارع، فيه سِحْر مُسْتَمَدٌّ من عَظَمَة الشجرة وهَيْبتها، خلفه مباشرة حارة "الباير"، يقطنُها عددٌ قليلٌ من الناس والعائلات، تتشابه أوضاعُها مع ما سبق ذِكْره، لكنَّها تتميزُ بانحصارها بين الشارع الرئيسي للمخَيَّم، وبين حدود المدينة وبيوتها، فهي تشكِّل شريطًا صغيرًا سيمتدُّ إلى حارة "الربايعة" ليلتقي مع منزل "الزغل" الضخْم المبني بالحجر والأسمنت، والذي كان يشكِّل وقتها صرحًا غريبًا وفخْمًا على أهْل المخَيَّم، ودَعَمَ هذا الظنَّ افتراقُ العلاقة بشكلٍ كاملٍ بين ساكِنيه وبين أهل المخَيَّم، وهو افتراقٌ مَبنيٌّ على نظرَتَيْن مُخْتلفتين؛ نظرة عائلة "الزغل" التي كانتْ ترى بالمخَيَّم ورمًا نابتًا لا يُمْكن التعامُل معه، ونظرة المخَيَّم المغلَّفَة بالقهْر والهزيمة والشعور بنظرة الغير الدونيَّة لهم، وظلَّ هذا مُعلَّقًا إلى فترة كان لا بدَّ فيها للطرفين من التصالُح مع الوضْع، والتعامُل مع بعضهم ولو مِن بعيد.

إلى الأمام بقالة "الأطرش"، وهو رجلٌ ضعيفُ السمع، لكنَّه متماسِك وقادرٌ على إدارة البقالة، تأتي بعدَها بقالة "أبو هاشم"، فبقالة "أبو أيوب"، وهذه البقالة كانتْ تجمع عجائز المخَيَّم، هناك يلتقون، يتسامرون، يلعبون "السيجة"، ويتحدثون، إلى أن توفِّي "أبو أيوب"، فانزاحتْ عن المكان علامة فارقة كانتْ تغذي نظرات طفولتِنا لتلك المجموعة الممرغة بالحزن والأَسَى، والفقْر والرِّضَا.

خلف البقالة حارة "الربايعة"، ولا أحد يعلم لماذا سُمِّيت بهذا الاسم، يسكنُها عددٌ من العائلات السوداء، كعائلة "أبو ريحان"، وعائلة "رجا"، وعائلة "بخيت"، وهي صغيرة جدًّا، لكنَّها كغيرها من الحارات لا تخلو من طيبة في أهْلها وقاطنيها، ولا تخلو من أسراب الدجاج والصيصان، والأرانب والحمام التي لا يخلو بيت في المخَيَّم منها؛ طلبًا للرزْق والمعيشة والأكْل.

 

يمتدُّ الشارع بعد ذلك ليصلَ إلى مدارس وكالة "غوث اللاجئين"، التي تتصلُ بشارع نابلس الذي يشكِّل نهاية رحلتنا من هذه الجِهة، حيث سنستدير لملاحقة الجِهة الأخرى بما فيها من حارات وعلامات وتفاصيل مُهمة، ولكن قبل الاستدارة، لا بدَّ من ذِكْر مَعلم مُهمٍّ من معالم المخَيَّم مقابل للبوَّابة التي تؤدِّي إلى مدرسة الذكور، وهو صالون الأنوار، صاحبه "صبحي أبو سرية"، الذي كان حلقة وصْلٍ كبيرة بين الأهل والطلاب والمدرسة، هو رجلٌ بسيط، حلاَّق، وككُلِّ حلاقٍ في زَمَنِه، فإنَّه يتمتَّع ببعض الخِصال الطبيَّة، فهو يعالج الأمراض الجلديَّة، كالحزازة التي كانتْ مُنْتشرة في ذلك الوقت، إضافة للجَرَب والدَّمَامل، وبرحمة من الله كانتْ أكثر معالجته تنجحُ بشكْلٍ يثيرُ الدهشة، لكنَّه رغم ما ظلَّ عليه من ادِّعاءٍ بقُدْرته على معالجة الصَّلَع، سجَّل فشلاً كاملاً في النجاح في هذا المضمار، لكنَّه كان ينجحُ بإعادة الشعر إلى الرأس الذي تعرَّض لمرضٍ جِلْدي أدَّى إلى سقوط الشعر بكامله، ورُبَّما هذا ما دفَعَه للاعتقاد بأنَّه يملكُ القُدرة على إعادة الشعر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

" 3 "

في طريق عودتنا نصطدمُ بأوَّل منزلٍ، وهو لا يعتبرُ من منازل المخَيَّم، بل من قرية "ذنابة"، وهو منزلٌ بسيطٌ، لكنَّه يعتبر من المنازل الفخْمة في تلك الفترة؛ لأن المخَيَّم بمنازله الرثَّة البالية المكوَّنة من الصفيح، والمدينة الغائصة بزي القرية النائية، المشدودة إلى توزيع البيوت على شكلِ ندبات مُتَباعدة متنافِرة، تستطيع أن تضفي عليه سِمَة الفخامة، بالإضافة لوقوعه بين مساحات من البيارات التي تخفي مَعالم الحركة عن العين، وإذا ما أخذْنا رُتْبة صاحبه كعقيد في الجيش الأردني، ولقبه المرافق للاسم "رشيد بك"، نستطيع أن نتخَيَّلَ معنى الرهْبة التي تكتسحُ النفْس وتغلِّفُها بمجهول الرُّتْبة والاسم.

 

يليه منزل "أبو فيصل سيف"، مع بقالة صغيرة تحتلُّ الزاوية التي ستتصلُ بالمخَيَّم من خلال الشارع الذي يفصله عن بيوت المخَيَّم وأهله، و"أبو فيصل" رجلٌ مُتديِّن، شديد التديُّن، فيه انطواء وبُعْد عن الناس والمخَيَّم، لكنَّه لم يتسبَّبْ في مشكلة واحدة طوال حياته، أنجبَ الكثير من الأولاد والبنات، كُلُّهم كانوا على خُلقه، عُرِفوا بتديُّنهم وأخلاقهم الرفيعة، لكن المفاجأة التي كانت تخفيها السنين، ولد له سيكتب التاريخ حضوره بشكل مغاير، وهو الدكتور "وليد سيف"، كاتب المسلسلات التاريخيَّة والوطنيَّة، والذي وضَعَ بصمتَه على زمنٍ حاضر.

 

بعد الشارع مباشرة يقعُ منزل "أبو حسن الكليبي" وبقالته الحزينة، وهو منزل كغيره من منازل المخَيَّم يكسوه الفقر ويستبدُّ به البؤْسُ، وكذلك البقالة، إلى الأمام منزل "أبو جاموس" وبقالته، وهو رجلٌ لا يعرف الشارع، ولا تعرفه الطرقاتُ، مساحة خُطواته بين باب البيت وباب البقالة، وبين المساحتين مساحة النوم، له امرأة تشاركُه الجلوس على مصطبة البقالة، تكاد البقالة تكون خالية إلا من قليل القليل، وكأنها وُجِدَتْ فقط من أجْل أن تجمعَهما مع الشارع والناس، مغرقين في الفاقة والفقْر، حتى إن أشكالَهم كانت تُوحِي بحجْم الضربة والمأْساة.

 

قبل منزل "أبو حسن كليبي" شارع يقود إلى مجموعة من البيوت التي تشكِّل الجدار السفلي للمخَيَّم، وهي بيوت متميِّزة بفقْرها الواضح الصافع للعين، بها خليطٌ من عائلة "البدو والنواس، وأبو عتيق ومبارك"، التي عُرِفَ منها الشاعر الفلسطيني "علي مبارك"، وهي عائلات من مدن وقرى فلسطينيَّة متنوِّعة، لا تمتُّ إلى بعضها بصلة في التركيبة الاجتماعيَّة واللفظيَّة وحتى في اللون، فعائلة "النواس والكليبي" هم قمحيُّون، وكذلك عائلة "البدو"، أمَّا عائلة "أبو عتيق" فهم خلاسيون، و"مبارك" عائلة سوداء البشرة، لكنَّهم توافقوا وتآلفوا، اندمجوا معًا بحُكْم البيوت المتراصَّة التي تنقلُ الصوت من منزل إلى منزل، فلا تُبْقِي للأسرار أيَّ قيمة أو مدلول، حتى إنَّ الهمسَ كان يصلُ أحيانًا إلى الجيران.

 

يُقال أن أصْلَ عائلة "مبارك" - وهناك عائلات كثيرة مثلها في اللون موزَّعة على حارات المخَيَّم - يُقال: أنَّ أصْل هذه العائلات من بُلدان إفريقيا، وهذا الكلام تمَّ تأكيدُه من كثيرٍ من كبار السنِّ، وكذلك يزعم أنَّ عائلة "أبو عتيق" ومَن مِن فخذها أصْلُهم من الحجاز، وهذا أصبح أكيدًا حين هاجرتْ بعض العائلات إلى الحجاز، وحملتْ جنسيَّتها بعد أن قَدَّمُوا أوراقًا تدلُّ على أصولِهم المنحدرة من قبائل عربيَّة كانتْ قد هاجرتْ من الحجاز؛ لتستقرَّ بفلسطين منذ زمنٍ بعيد، وقد تناقَلَ المخَيَّم أسماء مجموعة من العائلات التي هاجرتْ واستطاعتْ أن تثبتَ أصولَها من خلال أوراق ورثُوها عن أجدادهم، أو عن طريق قبائل وعائلات كانتْ تعرفُ تسلْسُل الأنساب وهجرتها.

 

تمتدُّ هذه الحارة من أوَّل الْتقائها مع مدرسة الوكالة، فحملَ القسمُ الأوَّل اسمَ: "حارة المدرسة"، إلى نهاية الشارع الذي يفصل المخَيَّم عن قرية "ذنابة"، حيث يصبح الاسم: "حارة البلاونة"، نسبة إلى البدو الذين انحدروا من أصول تمتُّ إلى الاسم بصلة لم أعرفْها حتى يومنا هذا.

 

والحقيقة أنَّه لا يُمْكِن لأحدٍ مَهْمَا كان بارعًا في تقسيم الحارات أن يحدِّدَ بداية حارة المدارس ونهايتها حين تلتقي مع حارة "البلاونة"، والصحيح أنَّ أحدًا لم يحاولْ ذلك من قبل، أو بالأصح لم تخطرْ هذه الفكرة لأحدٍ، وحتى إنَّها لم تخطرْ لي قبل مباشرة الكتابة، والاصطدام بفكرة التحديد.

 

تتميز الحارة بوقوعها أسفل التَّلَّة التي يحتلُّها المخَيَّم، وتمتدُّ صعودًا لتلتقي بالحارات الأخرى، لكنَّها بحُكْم الروح البدويَّة التي تتشبَّثُ بالحلال، فإنها تكتظُّ بالعجول والخِراف والماعز، وكذلك الدَّجاج والأرانب والبط والأوز، فهي تكاد تخلو من غُرف النوم طلبًا للمساحة التي تحتاجها الحيوانات، وهذا ما شكَّل نوعًا من الحياة والسلوكيَّات الخاصة بها، من ارتياد للسهول والجبال للرعي وجَلْب الحشائش، ومن تجارة في الحليب ومشتقَّاته، ولم يكن غريبًا أن تشاهدَ كثيرًا من أهل المخَيَّم وهم ينتظرون دورَهم لشراء الحليب أو الجُبن أو اللَّبن، وكذلك لم يكن مستغربًا رؤية أكثر أهل هذه الحارة في سوق الدواب.

 

بعد بقالة "أبو جاموس"، مدْخل لزُقاق يفضي إلى مجموعة من البيوت التي تتصلُ الجِهة السفليَّة منها بحارة المدارس، والجِهة العلويَّة بحارة "البلاونة" من الطرف الأعلى، وهي حارة شديدة الضِّيق، لا يوجد بها طريق واحدٌ يتَّسع لسيارة، ولكنَّها بالتأكيد تتسعُ لعَرَبة الحمير والخيل، يقطنُها مجموعة من عائلات مختلفة، كعائلة "الطوير، و"الصباريني"، التي كان أبو عبدالله الصباريني عَلَمًا من أعلامها، بحُكْم وظيفته كمختار للمخَيَّم في فترة حياته، وعائلة الأسمر، التي عُرِفَ منها الكاتب الصحفي "حلمي الأسمر"، وإذا ما استرسلْنا للسير، فهناك منازل عائلة "أبو باجة"، و"أبو قمرة"، وبيوت كثيرة، كلُّ بيتٍ ينحدرُ من عائلة مختلفة عن الأخرى، وهذا ما جعَلَ الأمرَ صعبًا في تحديدها من ناحية الأصول.

 

نعود للشارع لنجد منزل "أبو مجدي المواسرجي"، وكان يعملُ موظَّفًا لصالح وكالة الغوث بعد أن رحَلَ مَن سَبَقَه إلى الحجاز، يليه فتحة تقود إلى تفرُّعات شديدة الضِّيق، مكتظَّة بالبيوت التي تكاد تكون مفتوحة على بعضها من شدة التداخُل، لا يوجد بها علامة مميزة، لكنَّها بكلِّ أحوالها متشابهة مع بقية الحارات؛ من حيث الفقر والبؤس والمأساة، وكغيرها تعتمد تربية الدواجن والطيور والأرانب؛ لتستطيعَ الحصول على طعامٍ يساعدها على البقاء.

 

يليه منزل "أبو طاحون"، وهو خيَّاط ملابس، رجل وديعٌ، لا يكاد يُعرف في المخَيَّم؛ فهو يخرج صباحًا إلى مخيطته بالمدينة ويعود مساءً، أولاده يتمتعون بهدوءٍ لا يتناسب مع بيئة المخَيَّم التي تقودُ إلى العنفِ والعصبيَّة الشديدة، خلف بيته مجموعة من الأزِقَّة والطُّرقات التي - بكل ضيقٍ - أحيانًا تتسعُ لشخص سمين، قبل بيته منزل غريب ببُعْده عن الشارع الرئيسي "للمختار عمر عمارة"، وبالقُرب منه منزل لامرأة وحيدة، سمينة إلى حدٍّ لا يُصَدَّق، لا تكاد تستطيع الوقوف من شدة سِمْنَتها، اسمها "بديعة"، ظلَّت لفترة طويلة تمثِّل نوعًا من غموض يستحق الجلاء، مع شفقة ممزوجة بشعور غير مفهوم، لكنَّها ولسببٍ ما كانتْ مُضطهدة من قِبَل الأطفال بسببِ سِمْنتها، وظلَّت لغُزًا إلى يوم وفاتها، حيث سادَ حزنٌ لم يتناسبْ مع كَمِّ المشاعر المختلطة التي كانتْ تنتابُ الناس بسببها، وراء بيتها كَمٌّ من الأزِقَّة الحزينة البائسة بسُكَّان يتقاسمُهم حزنُ المكان وحزنُ الزمان.

 

بالْتفافٍ إلى الزقاق الذي يَلي منزل "بديعة" منزل امرأة من عائلة "الزبيدي"، لها ولدان؛ "جبر وعمر"، عمر أُصيب بالجنون المفاجئ، وكان جنونه من نوعٍ خاصٍّ؛ فهو لا يؤذي مُطْلقًا، لا يتحدث كثيرًا، فيه عادات غريبة مُثيرة للاستهجان والدَّهْشة، فهو يضعُ فمَه على صنبور المياه، ولا يرفعه إلا بعد فترة طويلة، كنَّا نظنُّ خلال ذلك أن بطنَه سينفجر من الضغط الهائل الناتج عن المياه، طريقتُه في التدخين نَهمة، فهو يُشعلُ الدخينة لتنتهي وهكذا، يعمل حمَّالاً في المدينة من وقت لآخر، علاقته بأُمِّه علاقة المؤمن المتبتِّل؛ فهو يحبُّها إلى درجة لم تُعْهَدْ بمَن أُصيب بمسٍّ أو جنون، فكل ما يحصلُ عليه من مالٍ خاصٍّ بها، باستثناء ثمن الدخائن، يحفظ أشعار جرير والأخطل والمتنبي وعنترة بطريقة مُحْكَمة وواعية، ومن خلال إلقائها على الناس يحصل على علب الدَّخَائن في وقت تبطله عن العمل، روايات سبب جنونه تُثير الاستغرابَ والتساؤل والدهشة، استَخدمتُ شخصيته في قصة قصيرة بمجموعتي "على رصيف" بعنوان "وانع يو"، وهو الاسم المحبَّب الذي كان يحبُّ أن يُنادَى به.

 

علاقتي به مميزة؛ لأنَّه كان على علاقة أثناء الدراسة مع أخي مصطفى، وكان يروي أشياءَ وذكريات كثيرة عن أحداث ترافَقتْ مع فترة اتِّصاله بأخي، لم يكنْ من الضروري سؤال أخي عن صحته؛ لأن تفاصيلها تُشير إلى الوعي الكامل لاسترجاع أحداث حقيقيَّة، وهذا ما كان يدفعني للتساؤل: إنْ كان مجنونًا أو لا؟

 

ظلَّ علامة من علامات المخَيَّم إلى أنْ وافتْه المنيَّة بشكلٍ مفاجئ، فاختفى واختفى ذِكْرُه، لم يؤثِّرْ موتُه في الناس كـ "يوسف شريم"، رُبَّما لأنه كان أكثر انطوائيَّة وأكثر شراسة في الدفاع عن نفسه إنْ شاء أو اضطرتْه الظروف إلى ذلك.

 

إلى الأمام منزل "سلام والزامل"، مقابل حارة "الربايعة" التي سبقَ ذِكْرُها، وبعد خُطوات قليلة "حارة الغانم"، وبقالة "الأطرش" الثانية، ومنزل "العطا"، وقبل التقدُّم يقطع شارعٌ واسع المنطقة ليفصل حارة الغانم عن مَبْنى البطاقة، وهو مَبنى خاص بتوزيع المساعدات الشهريَّة على أهْل المخَيَّم، سيأتي ذِكْرُه بشيءٍ من التفصيل، وهي حارة معقَّدة؛ بسبب التداخُل في الأصول والمنابت، وبسبب العادات والتقاليد، والأهمُّ بسبب السحنة المشكلة لعائلة الغانم، واستسلامها للفقْر والبؤْس استسلامًا لا يكاد يُوصَف، تصعَدُ لتلتقي بعائلة "الحطاب"، و"الزغدد"، و"اللافي"، وعائلة "اللافي" تتميَّز بطولها الشديد، فأنت مُضطر لرفْع رأسك نحوهم؛ حتى تستطيعَ مشاهدتهم ومحادثتهم، يتميَّزون بنوعٍ من البَله والغباء، وكأن الحياة تسيرُ بهم دون إرادة منهم، ومع ذلك فإنهم يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنهم أصحاب شأنٍ وذكاء يدفعُ الناسَ لاحترامهم.

 

مع الانعطاف يسارًا في مقابلة النادي - سيأتي ذِكْرُه وذِكْر دورِه في المخَيَّم - ندخلُ إلى منازل عائلة "الغراب"، و"العرفة"، و"أبو رصاص"، و"الشافعي"، وبعض منازل "أبو تمام"، ومنازل "مبارك"، و"الحطاب"، و"الضميري"، و"إشتيوي"، إلى أن نصلَ إلى منزل أبي حسيب الذي يلتقي مع حارة البلاونة.

 

"أبو حسيب" رجلٌ أسود البشرة، كما أسلفنا يُقال: إن أجدادَه هاجروا من إفريقيا إلى فلسطين قبل الفتْح الإسلامي لفلسطين بسنوات طويلة، لا تعرف نوع عمله، فهو مُزارعٌ، وتاجر، وعاطل عن العمل، لكن ما يُعرف عنه أنَّه كان يملكُ حمارًا وعَرَبَة، فهو إمَّا فوق الحمار، وإمَّا على العَرَبَة يجرُّها الحمارُ، فيه من بقايا العصور القديمة الكثير، فهو لا يمتُّ إلى العصر الذي يحيا فيه إلا بوجوده فيه، طيب القلب، صعب المِراس، شديد الغضب لأتْفَه الأسباب، لكنَّه رغم ذلك بَقِي علامة فارقة من علامات المخَيَّم بوجوده الدائم بين حاراته، "فأبو حسيب" هنا وهناك، وفي ذاك المنزل وهذا، يجلس على المصطبة هذه وتلك، صوتُه غريب يتشابه مع حالة تشنُّجٍ أو صَرَعٍ، لكنَّ أكثرَ ما كان يميِّزه ابنته "رتيبة" التي تُخْفِي تحت قباحتها قباحة، وتحت جَهْلها غباءً مُفْرطًا، وتحت تصرُّفاتها غير المتوقعة شخصيَّة لا تَعْرِف متى تنفجرُ ومتى تهْدأ، رتيبة ساعدتْ بصورة ما في توطيد شخصيَّة والدها، ورُبَّما لو لم تكنْ موجودة، لما كانت شخصيَّة "أبو حسيب" قد شكَّلتْ مَعْلمًا من معالم المخَيَّم.

 

ليس بعيدًا عن منزل أبي حسيب منزل مِن عائلة "السرحان"، صاحبه يدعو إلى الشفقة من المعدَمين؛ بسبب الفقْر القاتل الممْعِن في البيت إلى حدٍّ لا يُصَدَّق، له مجموعة من البنات والأولاد، أحدهم مُصَاب بالجنون، لا أذْكر اليوم اسمَه الحقيقي، لكنَّه كان يلقَّب "شبيبًا"، ولا أصل لمعرفة سبب هذا اللقب، امتلك حيويَّة ونشاطًا يمتازُ بهما المجانين، أحيانًا كانت تبدو ملابسه نظيفة، لكن في أغلب الأحيان لم يخلُ من عَفنٍ وقذارة كانت تدفعُ الناسَ للتعامُل معه عن بُعْد، شكَّل مادة مُسَلية للشباب في المخَيَّم والمدينة، لم تكنِ الكلمات تخرجُ منه بشكْلها الصحيح، وإنَّما بالمقلوب أو التداخُل، بحيث لا تمتُّ إلى صِلة بالكلمة الحقيقيَّة، عَمِلَ كحمَّال في أوقات توزيع المؤَن على الناس من وكالة الغوث، تشتَّتَ بين أعمال كثيرة، لكنَّ أيًّا من الأعمال لم يكنْ يدر عليه ربحًا، فهو مُسْتَغلٌّ من قِبَل الناس وخاصة النساء، يكتفي بعلبة دَخَائن، طريقتُه في التدخين راعبة "كعمر الزبيدي"، وأشهر ألفاظه التي كان الشباب يدفعوه إلى ترديدها اسم قرية تقع داخل الخَطِّ الأخضر بالمناطق المحتلَّة عام ثمانية وأربعين، اسمها "قلنسوة"، لكنَّه يلفظُها "إسكلوي"، ظلَّ مُوزَّعًا بين الاضطهاد والشفقة إلى أنْ وافته المنيَّة فجْأَة، تحرَّك المستقبل قليلاً ليكشفَ عن العائلة أشياءَ كان لا بدَّ للفقْر أن ينتجَها بهذه العائلة أو تلك، ورحمة الله فقط هي التي أنقذتِ الكثير من الناس من الوقوع بمآزقَ لا يُمكن الخلاصُ منها.

 

من منزل "أبو حسيب" للأمام مع انعطافة صغيرة لليمين ومن ثَمَّ لليسار، امتداد لحارة "البلاونة"، لكن باسم جديد حارة "العوفي" نسبة إلى أبي حاتم العوفي، الذي تزوَّج بأربع نساء كُنَّ جميعهنَّ يقمْنَ بنفس البيت، ويُنْجِبْنَ بالتتالي، فكان منزلُه رغم اتساعه نسبة إلى بيوت المخَيَّم يبدو كحارة مستقلِّة بسبب الضجيج والصخب القادم من عدد الأطفال والبنات، وللفقْر في هذا البيت علامتُه الواضحة المميَّزة؛ بسبب الكثرة وعدم القدرة على تلبية الحاجة لهم، ليس بعيدًا منزل "القيسي"، وهو مهاجر من "غزَّة" إلى الضِّفَّة الغربيَّة، يعمل بتربية الحيوانات والمتاجرة بحليبِها وألبانها، ليس بعيدًا عنه منزل "أبو لبدة"، وهذا المنزل بمن فيه كانوا رُفَقاء رحلة هروبنا إلى الجبال في حرب سبعة وستين، كانت المفارقة فيهم أنَّ اسمَ ابنتهم "جهاد"، وهو اسم لم تكنْ طفولتنا تستوعب نسبته إلى فتاة، إلى الأمام منزل "الطيار" مع بقالة، وهو رجل كبير السنِّ مع زوجته، يجلس دائمًا تحت شجرة "توت" ضخمة من الصباح وحتى موعد النوم، ويمكن الزعم بقوة أنَّه لم يعرف المدينة أبدًا، بل ويمكن التمادي للزعم بأنه لم يعرفْ طُرق المخَيَّم نفسه، إلى الأمام منزل "محمد الحاجبي"، وهو رجلٌ من أصْل بدوي، يؤمن بالمفهوم العشائري، ويعتقد بضرورة وجوده بين الناس، وكان هو وقريبه "عيس الحاجبي" يشكِّلان ملاذًا للناس؛ من أجْل فضِّ الخلافات والنزاعات، فكانتْ دلة القهوة المركبة على الفحْم بشكلٍ دائمٍ مع العباءة البدويَّة الفخْمة اللامعة، مع الفراش العربي الذي يتخلَّله أكثرُ مِن قطعة من قطع صوف الخِراف، وهو ما يُطْلق عليه "الجاعد"، كلُّ هذه الأمور كانتْ توحِي للداخل بأنَّه أمام هيئة مَحْكَمة ملزمة في قراراتها، والغريب أنَّ أكثرَ الناس لم تكنْ تجرؤ على ردِّ حُكْمٍ أو الإخلال بالالتزام الذي تخرجُ به الجلسة، مما أمَّن ولفترة طويلة نوعًا من القانون بين الناس، أضفْ إلى ذلك شخصية الرجل "محمد الحاجبي"، التي كانت تَحْظى باحترامٍ شديد، ومما أذكر أنَّ محمدًا "الحاجبي" هو الذي أخْرج أختي "صبحية" من منزلنا يومَ زِفافها بعد لفِّها بعباءته، ورافقها إلى قرية "الفريديس" التابعة "لحيفا"؛ حيث سلَّمها لأهل العريس.

 

إلى الأمام منزل "تيلخ"، وهو لقب أُطْلق على الرجل دون أنْ نعرفَ سببًا لذلك، ولكن حين تودُّ كقارئ أن تعرفَ معنى الفقْر والاستكانة والاستسلام والقَبول بالاضطهاد، والغباء المغرق في الغباء، ما عليك إلا التطلُّع في وجوه العائلة، وإذا أردتَ أن تعرفَ معنى البراءة والنزاهة والفِطرة والطبيعة، فانظرْ إليهم أو حادِثْهم، كانوا مضطهدين من كل شيءٍ؛ من الظروف، من المخَيَّم، من الأطفال والنساء، وظلُّوا كذلك حتى غادرت المخَيَّم.

 

عودة للشارع الرئيس؛ حيث مقْهى "الحيحي"، وصاحبه "ياسين الحيحي"، تحوَّل المقهى بعدها إلى بقالة "المصيعي".

 

إلى الأمام مباشرة مبنى البطاقة، وهو مبنى توزيع المساعدات العينيَّة التي كانت وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأُمم المتحدة توزِّعها على الناس، وهو مبنى يحتلُّ مساحة لا بأسَ بها، مَبْنِي بالأسمنت، لونُه أصفر، يزخرُ بالطحين والعدس والأرز، والزيت والسمن، وبعض مَعَلَّبات السمك واللحْم، كان يضمُّ عددًا من الموظَّفين القادمين من مُخَيَّم آخرَ؛ حتى لا يكون هناك تسريبٌ أو واسطة، أشكالهم أخذتْ طبيعة عملهم، وكذلك رائحتهم، وعصبيتهم الشديدة التي كانت تستفز بسبب التزاحُم على الدَّوْر، صوتُهم أجشُّ مكسر مِن كثرة الصراخ والمناداة، لكنَّهم رغم كلِّ ذلك كانوا يعملون بجدٍّ واجتهاد وأمانة.

 

يوم التوزيع يومٌ حافل؛ فهناك مكان لاصطفاف النساء، وآخرُ لاصطفاف الرجال، والناس تبدو وهي تحمل سلال البلاستيك، أو خرائط الخيش، والشمس تلسعُهم، أو المطر يغسلُهم، كجماعات قادمة من بؤْرة العوز والفاقة، فهم مطمورون بالذل والإهانة، لكنَّهم ينتظرون مثل هذا اليوم بفارغ الصبر؛ لأنه يمنحُهم القدرة على مواصلة الحياة والبقاء، وكنَّا نحن كأطفال، ننتظر "البقجة"، وهي صُرَّة من الملابس المستخدمة كانت توزَّعُ على العائلات، فمنها ما يتناسبُ مع أفراد العائلة، ومنها ما لا يتناسب، ولكن النساء كُنَّ يتبادَلْنَ الملابس حسب حاجتهِنَّ ومقاس أولادِهنَّ وبناتِهنَّ، لكنَّ المشهدَ بصفته العامة كان يوحي بما وصلَ الناس إليه بعد النكْبة مِن عُمق الجرح الغائص بالكرامة والعِزَّة، وهو ما يدفعُ علماء النفس والاجتماع - لو كانوا يهتمون بما يشكِّل الاختلاف في النفسيَّة - أن يبحثوا عمَّا يدفعُ مَن كانوا قبل أعوام يقفون على باب الكرامة والتضحية والنضال، أن يقفوا اليوم على أعتاب الذل والمهَانة والخنوع لظروفٍ كان من المستحيل في حينها تطويرُها أو تحسينُها أو حتى رفضُها.

كل هذه المشاهد كانتْ تتكدَّس بأعماقي حتى كبرْتُ، ووقفتُ أمام الحياة أحمل عِزَّة وكرامة كانتْ تأتي من بين الكُتب وصفحات التعليم، فعرفتُ عن يقينٍ حجمَ الأَلَمِ والعذاب الذي كان يرافق يوم توزيع المؤَن، وهذا ما سأفرد له قصة يومًا، تتناول التفاصيل الصغيرة التي ترسمُ النفس والذِّهْن في الآن نفسه.

 

إلى الأمام منه مبنى الأمم المتحدة، التي تعترضك يافطة مكتوب عليها: "ممنوع الدخول لمن ليس له عمل رسمي بأمرٍ من الحاكم العسكري"، فيه مكتب مدير المخَيَّم، وعيادات فيها طبيب عام ومُمرِّض وممرِّضة، على الجانب الآخر منه تقعُ غُرفة صغيرة للقابلة "أم هاشم"، هناك ولدتُ أنا، وولد جيلٌ كاملٌ على يدي "أم هاشم" - رحمها الله رحمة تليق بما قدَّمتْ للمخَيَّم من جُهد ووفاء.

 

إذا ما انحرفنا يسارًا، فإننا سنصعدُ إلى حارة الحَمام، أول بيت سنواجهه، بيت صغير المساحة إلى حدٍّ كبير، تناوب سكنَه مجموعةٌ من الناس كلهم ماتوا بظروف غريبة، إلاَّ الساكن الأخير، يليه منازل لآل "أبو تمام"، و"أبو خالد الجاجة"، و"أبو سليم بائع البليلة"، وهو رجلٌ سمْحُ الوجه، يثيرُ الأمل في النفْس، تلفُّه براءة يافعة، ويتمكن منه فقْرٌ هائلٌ، يقضي يومَه بين حارات المدينة والمخَيَّم جارًّا عَرَبَة على ثلاثة أرْجُل، تحمل بابورًا من الكاز لتبقى البليلة ساخنة، على اليسار مَطعم وكالة الغوث، فيه مجموعة من الموظفين من نفْس المخَيَّم، وظيفتُهم تحضير الطعام لأهل المخَيَّم كي يأكلوا فيه، وأحيانًا ليحملوا بعض الطعام إلى منازلهم، وكنَّا كأطفال نشعرُ بالمتعة الشديدة حين نجلسُ على الطاولة؛ كي نأكل وكأننا سادة أو أصحاب شأنٍ، فالمخَيَّم كلُّه لم يملك طاولة لتناول الطعام عليها، وكان وقتُ العودة من المدرسة يدفعُنا للتسابق من أجْل الحصول على الوجبة قبل أن تنفدَ، ولم يفلحْ سباقُنا لسنوات متتالية أن يجعلَنا نصلُ إلى يوم نفدَ فيه الطعام، بل كان يوزَّع ما يزيد على العائلات حسب الدَّوْر.

 

إلى الأمام منزل آل " أبو مريم"، "فالعياط"، و"أبو سفاقة"، و"العنبر"، و"السوداني"، و"الفحماوي"، و"أبو سالم"، و"أبو إتقيوه"، يلي هذا منزل "الحارس"، ومقابله تمامًا منزل "المهلب"، وهو منزل يرزحُ تحت نيران فقْرٍ موصول بفقْر، منذ اللحظة حتى اللحظة التي تليها كانتْ تُقيم فيه "حمدة المهلب" مع ابنتها المجنونة "عريفة"، والتي أنجبتْ ولدًا أسْمَته "إبراهيم"، لكنَّه عُرِفَ بلقب "قريد العش"، وظلَّ كذلك إلى أن نَسي مجموع من الناس اسْمَه الحقيقي، أُمُّه كانتْ تُعاني من رؤية الأحذية، فهي مجنونة كما أسلفنا، لكنَّها أصيبتْ بداء الجنون بعد النكْبة، ككثير من الناس الذين فقدوا التوازن بين الجديد والقديم، فانكفؤوا على أنفسهم بين الجنون وبين الذهول، لكن "عريفة" بقيتْ تحدِّد الزيارة التي يقوم بها الناس لمنزل من المنازل، فتسطو على الأحذية وتنقلها إلى منزلها، وظلَّتْ كذلك إلى أن توفِّيتْ نتيجة نوبة من نوبات الجنون المستبدِّة.

 

على مدخل بيت "المهلب"، تقع بقالة من الصفيح لأبي سرحان، وهو رجل يلبس ديماية مقلمة، بقالته لا تحوي سوى بعض الأشياء التي يحتاجها المنزل بصورة ضروريَّة، يتراوحُ بين الطول والقِصَر، أبيض البشرة، سمين بعض الشيء، قضى حياته أمام البقالة على كرسي من الخشب الذي شكا تكالُبَ الزمن عليه وعلى صاحبه، ظلَّ كذلك إلى أنْ وافته المنيَّة، فقُلعت البقالة من جذورها، وأضيفتْ كغرفة إلى المنزل المتصل بها.

 

مقابلها بقالة "أبو سالم"، وهي بقالة صغيرة جدًّا، كانت تجلسُ فيها الحاجة "خميسة"، وهي امرأة كبيرة في السنِّ، فيها طِيبَة الفقراء وبؤْسُهم، في البيت المتصل بالبقالة عائلة ضخمة كبيرة العدد يغزو كلَّ ملامحها الفقرُ المتأصِّل بالوجوه والملامح؛ مما شكَّل نوعًا من القهْر الذي غلَّ العائلة بالتضامُن مع ضِيق البيت وكثرة الأطفال، عمل معظمُ أفراد العائلة في مزارع الاحتلال، وكان عملاً مُجْديًا دَفَعَ إلى انتقالهم من المخَيَّم إلى المدينة، حتى منزلهم بالمخَيَّم قد باعوه وقطعوا كلَّ صِلة لهم بالمخَيَّم وساكنيه.

إلى الأمام منزل "أم عمر"، و "أم خليل القروية"، وهما أرْمَلتان، "أم عمر" لم نعرفْ لها أولادًا قطُّ، ولا نعرف لماذا سُمِّيتْ بهذا الاسم، لكنَّها تملك ابنتين عانستين، رائعتين كأُمِّهما في التعامل مع الناس والجيران، بيتُهم يضجُّ بالخضرة، فتنكاتُ الحديد والصفيح تملأ البيتَ بأنواع من الورود، إضافة إلى شجرة الرُّمَّان والليمون والبرتقال، "أم عمر" لها ذكريات عزيزة مع الكلِّ، لا تُنْسى ولا تذهب، رُبَّما يأتي يوم لتسجيلها وفاءً لامرأة عذَّبَتْها الغُرْبة، وطحنَها فقرُ المخَيَّم.

 

"أم خليل" كانتْ تملك أولادًا وبناتًا، عملتْ وتعبتْ وشقيتْ، لكنَّها كامرأة تستحقُّ الذِّكْر والاحترام والتقدير، استطاعتْ أن تشقَّ الصخْرَ والصلد، لتربيهم وتوصِّلَهم إلى حدِّ القدرة على مزاولة الحياة، كبرتْ وزوَّجتْ بناتها اللواتي كُنَّ مثالاً للخُلق والشرف، وزوَّجتْ أولادَها وسَعِدَتْ بذُريَّتهم، لكنَّها ظلَّتْ صامتة كما بدأتْ حياتها بالمخَيَّم إلا من ضرورة لجوابٍ أو مساعدة.

 

يتبعه مباشرة بيت عجوزين رائعين؛ "أبو علي، وأُم علي قرطوم" كانا مِثالاً واضحًا للوفاء والحبِّ والعِشْق الفِطْري النابع من أصالة العادات والتقاليد والعفويَّة، حتى إنَّ وفاتهما تعاضدتْ لإثبات هذا العِشْق والحبِّ، وقد كتبتُ عنهما قصة قصيرة بمجموعتي "على رصيف"، بعنوان "من مقبرة الهجرة إلى مقبرة العودة"، وكانت القصة وفاءً لطفولة لم تدركْ عُمق أَلَمِهما إلا بعد وقت طويلٍ.

 

مقابله منزلنا الأول، وهو بيت جميل البؤْس، رائعُ الفقْر، تسكنُه شجرةُ "توت" عِملاقة وشجرة ليمون، تتوزَّع بعضُ الزهور هنا وبعضها هناك، في مساحته مغارات صغيرة متعرِّجة للأرانب، التي تشكِّل مساعدة في حياتنا اليوميَّة، وكذلك خم الحمام الذي كان مكوَّنًا من مجموعة من عُلب الصفيح الفارغة الصَّدِئة، وكانت المعارك بين أمي وبين القطط تتوالَى، فاليوم تَمَّ اختطاف أرنب صغير، أو زغلول، وهكذا حتى أدمْنا على هذا النزاع الأسطوري بين القطط وبين أُمِّي، بل وبين كلِّ نساء المخَيَّم، وراءنا منزل "عيس الحاجبي وبقالته" المليء بالأشجار، لكن بمحاذاة منزلنا يتصلُ منزلُ الحاجة "القطمة"، وسُمِّيتْ بهذا الاسم؛ لأنَّ يدَها اليُمْنى مقطوعة، وهو منزل تربِّي فيه الأغْنام والأبقار، يليه منزل "أبو كبير"، فمنزل "أُم صبري".

 

"أم صبري" امرأة عانت الويل والشؤْمَ، فابنها الأمين مُصَاب بمرض الرَّجْفة المتواصلة، بالإضافة إلى نوبات مِن صرعٍ قاتل، ابنها "صبري" يُعاني من أمراض نفسيَّة حادَّة، فهو كثيرُ الصمْت والانزواء والوحدة، لكنَّه كان يُعذِّب أُمَّه عذابًا حادًّا، فهو لم يتوانَ عن ضربها وركْلِها بكلِّ قوَّة وسط المخَيَّم إلى أن يصلَ مَن يستطيع أن يخلِّصَها من بين يديه، وكذلك كان يفعلُ مع أخيه الأمين، لكنَّه مات مِيتة غريبة، كتبتُ عنها في قصة "وانغ يو"، فقد أحْرَقَ نفسَه أمامَ منزله بطريقة غريبة تدعو للتساؤل.

 

بانحرافة بسيطة يمكنُنا التوجُّه إلى دار "الحشاش"، وهي غير تابعة إلى المخَيَّم تنظيميًّا، بل إلى قرية "ذنابة"، في حاكورتها الواسعة شجرة "خروب" ضخْمة، يمتدُّ عمرُها إلى مئات السنين، تميَّزتْ هذه الساحة مع البيت بشيءٍ من الخوف والشؤم، فهي كانتْ قبل سقوط الضِّفَّة الغربيَّة مركز الشرطة الأردنيَّة، وهناك قَصص كثيرة تُرْوَى عن هذا الموقع، لكنَّها متواترة ومتشابهة؛ مما يؤكِّد صِحَّتَها وصِدْقَها.

 

إلى الأمام منزل "اللويسي"، وهو لعائلة بسيطة عُرِفَتْ بطيبتها رغم عُزْلَتها عن الناس، يلتصقُ به منزل "أبو عقاب النافع"، وهو رجل أسود البشرة، شديد الطيبة، رائع المحيا، زوجتُه اسمُها "سروة"، وهي بطيبته وروعته، كان يُدْعَى المنزل بمنزل "العلوط"، لم نعرف السبب الحقيقي لهذه التسمية، لهما ولد اختفى منذ زمنٍ بعيد، لا أعرف حتى اسمه، ومات الوالدان دون أن يعرِفا عن مصيره شيئًا، كل ما عَرَفَه المخَيَّم أنَّه غادرَ فلسطين والْتَحَقَ بصفوف الثورة، واستُشْهد دون أن يعرفَ أحدٌ عنه شيئًا، وهذه حالة من حالات كثيرة كانت تختفي فيظهر أخيرًا أنها استشهدت فِعْلاً في صفوف المقاومة.

 

لهما ولد ثانٍ، وهو الذي كُني باسمه "عقاب"، شاب شديد الرَّوْعة، شديد الصفاء، فيه خِفَّة روح وعُذوبة، ذو ذوقٍ رفيع في اللبس، يهتمُّ بمظْهره بعناية فائقة، عمل أجيرًا في مصانع الاحتلال إلى أن سَمِعَ المخَيَّم بخبرِ وفاته أثناء العمل؛ فقد أُصيب بجلطة قلبيَّة أوْدَتْ بحياته في اللحظة.

 

أُمُّه كاد يطيرُ عقلُها لوعة وحزنًا عليه، حتى الناس والجيران صُدِموا صدمة حادَّة، وفي اليوم التالي لحظة وصول الجثَّة كان المخَيَّم كلُّه ينتظر؛ للمشاركة في الجنازة التي غَطَّتْ مساحة المخَيَّم.

لهما ولد ثالث اسمه "محمود"، ولقبُه "أبو طُبًاشْ"، كان في نفس صفِّي المدرسي، ورثَ الطيبة عن والديه، لعب كحارس مرمى لمركز الشباب الاجتماعي فترة من الزمن؛ مما نشَر اسمَه في الضِّفَّة الغربيَّة.

 

إلى الأمام منزل "أبو نبيل النصار" الذي أحْرَقَ نفسَه أيضًا في ظروف غامضة، رغم اتِّزانه وهدوء شخصيته، وكانت الحادثة مروعة؛ لأنه لحظة اشتعال النار به خرَجَ من المنزل وهو يصرخُ ويصيح مِن شدة الأَلَم، لكنَّ النارَ كانتْ أسرعَ من عمليَّة الإنقاذ، حزنتِ الحارة لموته، لكن الاستهجان كان أكبر من الحزن، ولم تُعْرَفْ أسباب الانتحار حتى اليوم.

إلى الأمام منازل عائلة "أبو ألفية" و"أبو تمام" و"العرفة"، حتى تتصلَ بمنزل أبي حسيب الذي تحدَّثْنا عنه سابقًا.

 

إذا ما عُدْنا إلى منزلنا وواصلْنا التقدُّم، فهناك منزل "أبو جهاد النافع" وفيه وقعتْ أحداث "لعطية" الذي أغْلَقَ بابَه على نفْسِه مرَّة واحدة، وظلَّ كذلك إلى أن مات في غُرْفته، يليه منزل "أبو الكامل" الذي كان طبَّاخًا في مَطْعم الوكالة، ثم منزل "الضمارة"، وهو منزل تعرَّض لهزَّات سيأتي ذِكْرُها في مواقع أخرى، يقابله منزل "علي الطويل" الذي عمل زبَّالاً مع وكالة الغوث، ومات هو وأولادُه في ظروف تدعو للعجب والدهشة حتى يومنا هذا، يليه منزل "أبو جمال كنعان"، فمنزل "أبو بسَّام الشلبي".

 

بين منزل "الكنعان والطويل" ينتصبُ مبنى من الأسمنت الأصفر تابع لوكالة الغوث، وهو عبارة عن حمام يستحمُّ الناس فيه، به مجموعة من القواطع الصغيرة التي تقسمه إلى مجموعة من الحمَّامات التي تتدلَى من سقْفها صنابيرُ مِن مياه بها دائرة مُخرَّمة توزع المياه على شكلِ خيوط، وهي طبعًا مياه باردة شديدة البرودة؛ لأنها قادمة من ينابيع المدينة المنتشرة بكثرة فيها، كنَّا كأطفال نشعرُ بالفرحة العارمة حين نصلُ إلى المنزل لنلقي بحقائبنا المدرسيَّة من فوق السور، لننطلق هناك لنستحمَّ دون أن نحسبَ أيَّ حسابٍ لكميَّة المياه المستهكلة، فالبيت لا يوجد به ماء، وعلينا وقت الحاجة أن ننطلقَ إلى صنابير المياه العامة؛ لنملأَ ما نحتاج من أجل الشرب أو الطبخ أو الاستحمام، وهذا ما سيأتي ذِكْره بالوصف الأخير للمخَيَّم قبل نهاية القصة.

وراء الحمام ساحة واسعة تقود إلى مجموعة من التفرُّعات والتعرُّجات المتداخِلة المتشابكة لتشكِّل حارتين: حارة "السوالمة"، وحارة "الشيخ علي"، أو ما يطلقُ عليها: حارة "الشخالعة".

 

تبدأُ حارة "السوالمة" من منزل "دار الداهم"، فمنزل "آل زيدان"، و"فهيمة العطا"، تتصلُ بمنزل "أبو خضر الأخرس"، هو رجل أسود البشرة، رائع الخلق، لا يتكلم بحُكْم خَرسه، لكنَّه لا يجلبُ أيَّ أذًى لأيِّ أحدٍ، أنجبَ الكثيرَ من الأولاد، كلهم كانوا على تناقُضٍ في كلِّ شيء، من بين أبنائه الشاعر الشعبي "خضر سالم"، وكان ابنُه الشهيد "كمال سالم" مثالاً للمثابرة والإصرار، فهو عمل كوالده زبَّالاً في وكالة الغوث، لكنَّه بنفْس الوقت مارسَ الرياضة، وواصلَ التعليم حتى حَصَل على شهادة حَكَمٍ دولي للمباريات، لكنَّ الموتَ اختطفَه باستشهاد نتمنَّى من الله أن يوصِّلَه إلى أعلى درجات المغفرة والجنة؛ لأنَّه قدَّم نفسَه فداءً للناس بظروف تحتاج إلى شجاعة من نوعٍ خاص، وهو الشاب الذي لا اختلاف عليه في المخَيَّم، بل مُتفَق عليه بالمحبَّة والاحترام، ومن أولاد "أبو خضر" عز الدين، كنتُ أنا وهو في صفٍّ واحدٍ في المدرسة، كان عذبًا ونَدِيًّا، هشًّا وبشًّا، تزاحمتْ عليه ظروفُ الحياة فرحَلَ إلى أرض الحجاز، وهناك توفِّي بالسرطان.

 

يليه منزل "حمدان السالم"، ومن المهم الإشارة إلى معنى "يليه" هنا وفي كل ما سبقَ، فيليه هنا لا تَعْني أن هناك فاصلاً بين البيت الأول والثاني، بل هو اتصال مباشر تفصله أحيانًا واجهة من الطوب أو من التراب أو من الصفيح، وأحيانًا يرى سكان المنازل بعضَهم؛ بسبب انخفاض السور الفاصل بين البيتين رغم اشتراكه من كلِّ جِهة من جهاته بالمنزلين.

 

"حمدان السالم" وكل عائلة السالم هم سود البشرة، بل شديدو السواد، تجمعهم طِيبة موحدة، وفقْر يكاد يلسعُ الفقر والبؤْس، هذا الرجل أنجبَ مجموعة من الأولاد، اثنان منهما كان لهما أثرٌ قوي في المخَيَّم، "السِنو" وهو لقبُ أحد أولاده الذي كان لاعب كرة قدمٍ مُحْترف مع مركز الشباب الاجتماعي في مُخَيَّم "طول كرم"، وبعد أعوام طويلة تَبِعَه أخوه الملقب "بالديسو" ليكون أيضًا لاعبًا مشهورًا من لاعبي مركز الشباب الاجتماعي.

 

يليه منزل "أبو ماهر عبيد"، أنجبَ مجموعة من الأولاد، لكنَّ الزمنَ بتقدُّمِه فاجَأ المخَيَّم بحادثة هزَّتْ أركانَه وهزَّت أركانَ المنزل ذاته، "فعمر عبيد" عمل أثناء الانتفاضة الأولى مع مجموعة عسكريَّة تُدْعَى النمور السود، وكانتْ وظيفتُها تصفية العملاء الذين يقطنون المخَيَّم والمدينة والقُرى، وقد نفَّذت المجموعة أحكامًا بالإعدام على الكثير من الناس، قُتِلَ بعضُ أفرادها، واعْتُقلَ بعض آخرُ، واختفى بعض بظروف غامضة حتى يومنا هذا، وبعد اتفاق "أوسلو" تَمَّ إطلاق سراح المجموعة، وعمل "عمر عبيد" مع السلطة الفلسطينيَّة في جهاز الأمن الوقائي.

 

وذات يوم دوَّى في الحارة وفي منزل "عمر عبيد" إطلاق نار كثيفٍ، ماج المخَيَّم، وتجمَّع الناس كلُّهم في الأزِقَّة وعلى الشوارع، وبعضُهم فوق السطوح، وصلتْ سيارات السلطة، وحين تَمَّ اقتحام البيت كانتْ جُثَّة زوجة "ماهر عبيد" وجُثَّة زوجة "عمر عبيد" وجثة "عمر" كلُّها على الأرض مُخزقة، والأرض تغطِّيها الدماء، كانت جريمة من الدرجة الأولى، أرهبتِ النفوس وآلَمَتِ العقول، وظلَّ سرُّ الجريمة مغلَّفًا بالصمت الذي غلَّفَ القتْلَى.

 

بالانحراف يمينًا ندخلُ حارة "الزوايطة" نسبة إلى عائلة "الزايط"، وهي حارة تتشابه في فقْرها مع الفقْر الذي لا يُمْكن تصوُّره أو ابتداعه من الخيال، أناسُها وكأنهم قادمون من عالم آخرَ، لغتهم صعبة، وعقولهم أكثر صعوبة، التفاهم بينهم وبين لغة الحوار معدومة، أحكامُهم صارمة وجامدة، لا يتخلَّلها مرونة أو استيعابٌ، لكنَّهم رغم كلِّ هذا يحملون تناقُض الإنسان، فَهُم مضيافون، رُحَباء الصدر لمن أحبُّوا، أوفياء لمن أخلصوا، إلاَّ أنَّ هذا لم يكنْ كافيًا لاندماج الناس معهم أو اندماجهم مع الناس، واستغرق الأمر جيلاً كاملاً حتى بدأ تآلُفُهم مع المخَيَّم وتآلُفُ المخَيَّم معهم، يهمني تسجيل أحداث شخصيَّة عَرَفْتها منذ الطفولة وهو "جمال الزايط"، فقد كنتُ أنا وهو في نفْس الصفوف في مدرسة وكالة الغوث، وكان ولدًا عاديًّا مِن حيث السلوكيَّات، فقد اختلفَ عن عائلته بأنَّه لم يكنْ صاحبَ عقلٍ مُغْلقٍ، بل كان يتفاعلُ مع الناس والأحداث بشكلٍ جيِّدٍ ومَرِنٍ، وكان من الطلاب الأذكياء في المدرسة، لم يكنْ حادَّ الذكاء، لكنَّه على أقل تقدير استطاع أنْ يجتازَ مراحل الدراسة كلَّها دون أن يرسبَ في أيِّ مادة على الإطلاق، وهذا ما نقلَه لدراسة الأدب الإنجليزي بعد الثانوية العامة، عمل كمدرس فيما بعد، كان الفقْرُ الشديد علامة من علامات شخصيَّته التي نَمَتْ بطريقة مؤثِّرة، ورغم كل هذا فإنَّ شكْلَه استطاع المحافظة على شبابه، وخاصة شعرَه الكثيف الشديد الغزارة؛ مما ساعدَ على توطيد شخصيَّة تتنازعها ملامحُ الفقر والبؤْس، وتُخْفيها إشارات الشباب القادمة من بنيته وشعرِه، وفي يوم غير معهود، فُوجِئ المخَيَّم "بجمال" وهو يروح ويجيء بالشوارع على غير هُدًى، كنتُ إذ ذاك أُقيمُ في الأردن، وحين عُدْتُ وسمعتُ ما سمعتُ انتابتني الدهشة، وغمرني الذهولُ، "فجمال" لم يكنْ من المتوقَّع لهم أن يدخلوا مرحلة الجنون بأيِّ شكلٍ من الأشكال، خاصة وأنَّه أنجزَ ما عجزَ الكثيرُ من أبناء جيله عن إنجازه، فقد واصَلَ التعليم وحصلَ على تخصُّصٍ جيدٍ، وأمَّن لنفسه مصدرَ رزقٍ مقرون بمكانة اجتماعيَّة جيِّدة، وتزوَّج من فتاة جميلة، كل الأمور سارتْ على نحو جيِّدٍ، فما الذي حدثَ مع جمال؟ ظلَّ هذا السؤال عسيرًا حتى يومنا هذا، رغم بعض الروايات التي حاولتْ أن تضعَ تفسيرًا للحالة التي وصَلَ إليها "جمال"، وحين شاهدْتُه، فُوجِئْتُ بأنه يحفظُ اسمي كاملاً، وكذلك أسماء الأوائل في المدرسة، وأنه يسترجع بعض الحادثات التي كنتُ قد نسيتها أنا عن أيام الطفولة، وهذا ما جعلني لفترة من الزمن أعتقدُ اعتقادًا جازمًا بأن "جمال" غير مصابٍ بداء الجنون، بل بحالة غريبة قد تنتهي يومًا من الأيام، لكنَّه ما أن حَصَلَ على الدَّخينة التي طلبها مني حتى استدارَ وهو ينتفُ شعرات من رأْسه ويهذي بألفاظ غريبة مُبْهَمة وغير مدركة، وباءتْ كلُّ محاولاتي بالفشل من أجْل التواصُل معه في نفس اللحظة، وقد أصبح "جمال" فيما بعد المجنون الذي يرتاد الشوارع بحثًا عن وجْبة غذاءٍ أو دخينة؛ مما غَمر ذاتي بالأسى والحزن.

 

في نفس الحارة مجموعة من البيوت التي تنتمي لعائلات متفرِّقة، كعائلة "السروجي، وفرحات، وأبو الغزلان، وأبو جويد، ومرعي، وهلال"، ومن العائلة الأخيرة كان "سليمان هلال" الملقب "بالجارينجا"، وهو حارس مَرْمى مركز الشباب الاجتماعي، فكان عَلَمًا من أعلام المخَيَّم وفلسطين، لكنَّه في أواخر عُمْره بَقِي على رصيف بجانب بقالة "الصابر"، يحدق بالزمن الذي مَضَى حتى يوم وفاته.

 

"محمد فرحات" يتمتَّع بذوقٍ فخْمٍ في انتقاء الملابس، نظيف إلى حدِّ الهوس، يحمل غرورًا مبالَغًا فيه إلى حدِّ التقزُّز والاشمئْزاز، له أُمٌّ بعين كريمة، وأخٌ بعين كريمة، كان يخجلُ بهما، إلى حدِّ الانتقام منهما ضربًا وتعذيبًا وحرمانًا، عمل "كمواسرجي"، وكان نشيطًا؛ مما كوَّن بين يديه مَبَالِغًا من المال كانتْ في حينها تُعَدُّ ذا قيمة وتأْثير، وهذا مما زادِ غَيَّه وتَعَنُّتَه، وظلَّ منحدرًا في رؤية ذاته المتميزة عن الناس، حتى دَخَلَ روعَه أنَّه قادرٌ على كلِّ شيء، وهذا ما دَفَعَه للفجور وتحدِّي الله أن يكون قادرًا على سَلْبه غرورَه أو سطوته.

 

والإنسان ضعيف إلى حدِّ أنه لا يخشى مواقع الهلاك التي لا تنقله إلى عالم الأموات، بل تبقيه على أطراف الحياة، ليكون عِبْرة لذاته ولِمَن حوله، لم يكنْ "محمد فرحات" في تلك اللحظة يملك الوازعَ الخفي الذي تثبته الفطرة في النفوس، هذا الوازع الذي يجعل القلبَ يرجفُ خشية مِن الله، حتى حين يعلن الإنسان معصيتَه بأيِّ شكلٍ من الأشكال، فكان قد حَقَّ عليه وصفُ مَن خَتَمَ الله على قلوبهم، حين أعلن تحدِّيَه لله، وطلبَ من الله أن يعاقبَه إن كان موجودًا.

 

الأمرُ كان مُذْهِلاً مثيرًا للعجب، فما هي سوى أيام حتى تناقَلَ المخَيَّم خبرَ سقوطه عن ارتفاع متر ونصف المتر وهو في العمل، نُقِلَ على أثرِها إلى المشفى، وبقي أيامًا بين الموت والحياة، وكان يوم خروجِه من المشفى مثيرًا للعجب أيضًا، فهو على كرسي متحرِّك، لا يستطيع المشي أبدًا، ولا يستطيع حتى قضاء حاجته، وأصبح أخوه ووالدته هما مَن يتعهَّدانه بالحبِّ والرعاية، وحين مشى على قدميه وبدأ التحرُّك، كانت قواه الجسديَّة مهدودة، مع توقُّد في الذاكرة وفي القدرة العقليَّة، وأصبح مَن كان يأنفُ محادثة الناس أو التعامُل معهم، يتذللُ إلى حدِّ الشفقة القاتلة وهو يستجدي الناس أن تلقي عليه تحيَّة أو تُحَادثه أو تُجَالسه.

 

لأخيه "علي" حالات خاصة، رغم ذكورته المعروفة بالمشاهدة، إلا أنَّه يميلُ إلى الأنوثة تطبيقًا، فصوته الرفيع، وحركاته الممطوطة المكتسبة من وجوده بين النساء طوال أيَّام حياته، كل هذه شكَّلتْ شخصيَّة متناقِضة مُوزَّعة بين الذكورة والأنوثة، زِدْ على ذلك توحُّدَه بالصحو الباكر لمرافقة النساء إلى الجبال للبحث عن الأعشاب البريَّة التي تصلحُ للبهارات والشاي والمعدة والطبخ، ثم فرد بسطته وسط بسطات النساء، كل هذه العوامل شكَّلتْ شخصيَّة غير معهودة بالمخَيَّم، وقد كان معروفًا بلقبه "العليلي"، الذي شكَّل مع صفاته الأنثويَّة دائرة متكاملة للاستهزاء به بين كلِّ طبقات المخَيَّم من الرجال والنساء على حدٍّ سواء، لكنَّه رغم كلِّ ذلك ظلَّ وفيًّا لأخيه "محمد" بعد حادثة سقوطه، وهذا ما زادَ غرابة شخصيته وتناقضَها.

 

لكنَّ صفة الأنوثة التي شكَّلت شخصيته حالتْ بينه وبين الزواج لفترة طويلة، فقد كان فِعْلاً يميلُ إلى الإناث بصورة مُثيرة، فلم يُعْهَدْ عنه يومًا أنه شاركَ الشباب أو الرجال بجلسة أو سهرة، بل حتى في أوقات فراغه، فإنَّه كان يشاهدُ وهو يجلس في الأزِقَّة بين تجمُّعات النساء اللواتي يَقْطِمْنَ الملوخيَّة أو الزعْتر أو يفرزنَ الأوساخ المرافقة للعدس أو الأرز، وحين تناهَى للمخَيَّم خبرُ عَزْمه على الزواج، تفرَّق المخَيَّم بين مُكَذِّبٍ وبين نافٍ إمكانية ذلك، وحين تقرَّرَ أمرُ الزواج وأصبح لا يقبل الشكَّ، كانت المفاجأة أكبر من التصديق، وحتى بعد الزواج لم يطرأْ تغييرٌ على شخصيته؛ مما دَفَعَ للاستغراب الأشد، والدهشة الأقوى.

 

إلى الأمام منزل "محمود أبو جويد"، وهو سائقُ سيارة عمومي، رجل مُعْتدل القامة، جميل الشكْل، ذُريَّته من البنات، وبعد سنوات طويلة جاءَه ولدان، فكانا فرحة عُمْره، ظلَّ مضطهدًا فترة من الزمن بسبب عدم وجود ظهرٍ من الذكور يحميه وبناته، لكن الزمن ساعدَه بدفْع بناته نحو التعليم ونحو زواج موفَّق؛ مما ساعدَ العائلة على النهوض قليلاً، ولكن في آخر أيام العُمْر.

 

مقابل منزله منزل "المسكاوي"، وهو رجلٌ بسيط إلى حدِّ الهبل، مسالم إلى حدِّ الإثارة، بينه وعائلته وبين النظافة مسافة كما بين الأرض والسماء، أرستْها ظروفُ الفقْر الذي تكاثَفَ وتأصَّلَ في الجميع؛ بسبب هبلِهم المسرف، وتسليمهم زمامَ أمورِهم للغباء، وهذا ليس افتراء بقدْر ما هو حقيقة، دفعتِ الناس إلى الشفقة المفرطة عليهم، ودفعتْ بعضَ الناس إلى استغلال ظروفهم لزيادة أَلَمِهم وهَمِّهم، وظلُّوا كذلك معلَّقين بين الحاجة وبين محاولة النهوض منها، لكنَّهم ظلُّوا حتى يومنا هذا بموقعهم المعلَّق الذي لا يهبط ولا يصعد، وظلَّ الناس في المدينة والمخَيَّم يستغلونهم استغلالَ السادة للعبيد.

 

متصلٌ بمنزلهم منزل امرأة تُدْعَى "ميسر العوفي"، تُناقِض شخصيَّة "العليلي" بأنَّها تملكُ صفات رجوليَّة؛ حركتها وصوتها، وشراستها وعدم خَجَلها، وانخراطها في معارك يدويَّة دامية، تربيتها لبناتها على القسوة والتدرُّب على ألعاب الكراتيه والجودو، كلُّ هذه جعلتْها في طريق مغايرة للمخَيَّم وما به من عادات وتقاليد، وحتى حروبها الدامية مع والدها وإخوتها ساعدتْ على النأْي بها من أن تكونَ عضوًا سليمًا ومقبولاً في مجتمع المخَيَّم.

 

لو عُدْنا أدراجنا من الزقاق بشكلٍ مستقيمٍ، سنصطدم بمجموعة من البيوت التابعة لحارة "السوالمة"، وفيها منزل جمعة السالم، وهو رجلٌ طويل القامة بشكلٍ لافت للنظر، له مجموعة من الأولاد أغْرقهم الفقرُ بحالات من التحول النفسي القاتل، وأسهم المخَيَّم في اضطهادهم دون سبب معروفٍ، فكانوا يعانون من الفقر والبؤْس وصَلَف الناس واستهزائهم، أحد الأولاد، ويُدْعَى: "غسَّان جمعة"، هاجَرَ إلى "عَمَّان"، والْتَحَقَ بفريق الوحدات لكرة القدم، وأصبحَ عَلَمًا مشهورًا في الأردن والضِّفَّة الغربيَّة، صوره كانتْ تُبَاع في المكتبات والأكشاك، وديعٌ ومسالم، ظلَّ وفيًّا للمخَيَّم رغم الفقْر الذي عاشَه والأذى الذي لَحِقَ به، وأذْكُر يومَ وصولي إلى الأردن في أول رحلة لي خارج فلسطين، لقائي به في مركز شباب الوحدات، وكنتُ وقتَها لم أزلْ أبحثُ عن صديق لأنزل ضيفًا عنده، فظلَّ "غسَّان" ملازمًا لي حتى وجدْنا الصديق، فأقلنا بسيارته بعد أن أكَّد علينا ضرورة لقائه مرة أخرى؛ لتناول الغَداء عندَه، ولكن الظروف لم تسمحْ بذلك، وكان لقاؤنا به هو اللقاء الأخير حتى يومنا هذا.

 

له أخٌ يُدْعَى: "عودة"، نسخة طِبْق الأصل من أبيه، فارع الطول، قوي البنْيَة، الْتَحَم بمعاقرة الخمر إلى حدِّ الإدْمان، لكنَّه كان يعملُ كحمَّال في المدينة، لم يُذْكَرْ عنه رغم الْتِحَامه بالخمر أنَّه توسَّل أو طلب حاجة من الناس، طَيِّب القلب إلى حدِّ البكاء، فيه تناقُض وضياع ملموس، بَقي موزَّعًا بين التوبة والإدمان، إلى أنْ وجدْناه مَيِّتًا صباح يوم قُرْب مَطْعم الوكالة.

 

الولد الثالث اسمه "الدرداح"، لَعِبَ كحارس مَرْمى مع مركز الشباب الاجتماعي في المخَيَّم، عُرِفَ باحترافه وقُدْرته، لكنَّه لسببٍ ما زال مجهولاً حتى يومنا هذا، لم يخرجْ من دائرة الاضطهاد التي أحاطت العائلة كلها منذ بداية وعْينا وإدراكِنا، وما يزيد الأمر غرابة أنَّ حارة "السوالمة" المعروفة أيضًا بحارة "السود"، كانت تتعاضدُ ضدَّ أيِّ حارة أو عائلة تحاول المسَّ بأيِّ فردٍ من الحارة أو العائلة، لكنَّها لم تقفْ بجانب عائلة "جمعة السالم"، الذي كانَ من أروع وأعْذب الناس في النأْي عن المشكلات أو إحداثِ السوء.

 

خلف منزل "أبو جويد" منزل لعائلة "أبو تمام"، يَليه من الجِهة الأخرى منزل "أبو فيصل البدو"، يقابله منزل "أبو وائل النواس" و"أبو جمال النواس"، وهما نقيضان تمامًا، "فأبو وائل" يعمل ويكدحُ، أمَّا "أبو جمال" فإنه أوْكلَ العملَ إلى زوجته وتفرَّغ هو للقيام بأعباء المنزل كلِّها، حتى إنَّه لم يُعْرَفْ عنه يومًا أنَّه كان قد أدْخَلَ للبيت دخْلاً من عَرَقِ جَبِينه.

 

يلي منزل "النواس" منزل "أبو تيسير الشريم"، لديه عددٌ من الأولاد ببشرة حنطيَّة، يؤوون قريبًا لهم يُدْعَى: "يوسف"، وهو شاب مجنون، لكنَّه وديع، لم يُعْهَدْ عنه أنْ قام بأمرٍ غير معهود أو عُدواني نحو الآخرين دون مُبَرِّرٍ، عُهِدَ بوقفته لساعات طوال مقابل "دُكان الصابر"، دون أن يحدثَ أمرًا أو يرتكبَ حَماقة، عَلَّمَه الشبابُ التدخينَ، فأصبحَ مُولَعًا به، وظلَّ المخَيَّم يستفزُّه حتى حوَّله مِن مُسالم إلى عُدواني، لكنَّ نوبات الجنون واستبدادها كانتْ تبدو على محياه وجَبْهته، حتى إننا كنَّا نشعرُ أحيانًا بمدَى الأَلَم الذي يقتحمه ويسيطر عليه، لكنَّ المخَيَّم ظلَّ بين الشفقة عليه واستفزازه، إلى أن اخْتَفَى عن الشارع، واختفاء شخص مثل "يوسف" يُمْكِنْ إحساسُه من أول يومٍ؛ لأنه علامة من علامات المخَيَّم ونَكْهة من نكهات اليوم، عَلِمْنا بعدها أنَّه يعاني من مرضَ الحُمَّى، لم يستغرقِ الأمر كثيرًا، حتى خرج المخَيَّم بجنازة مَهيبة له، وظلَّ مكانه مقابل "دكان الصابر" شاغرًا ماديًّا ونفسيًّا في صدور الناس وذاكرتهم، وبقيتْ ذِكْراه مسيطرة لفترة من الزمن على غير المعهود، رُبَّما للذنوب التي اقترفَها الشباب يوم كانوا يدفعونه إلى غضب يسبب له آلامًا عنيفة ومُمِضَّة.

 

بداية الطريق التي تؤدِّي إلى منازل عائلة "النواس" منزل متوسط الحجْم، كان العوز والبؤْس والفقر وكلُّ ما تشتهي مِن ألفاظ يسيطر عليه من جميع الجوانب، حتى إنه كان يرسم خُطوط المستقبل التي ستهزُّ كلَّ فردٍ من أفراد العائلة بطريقة مختلفة، تقطنُه امرأة أرْمَلة مع بنتين وولد، خالهم "الصابر" صاحب البقالة المقابلة لهم، والذي تحدَّثْنا عنه سابقًا، حتى هذه المعلومة ظلَّتْ فترة طويلة من الزمن طيَّ الكتمان والمجهول، لا أحد يعرفُ سببَ ذلك، ولكن المعاملة التي كان يلقاها الأولاد دلَّتْ بشكلٍ واضحٍ عن السبب؛ إذ لم يُعْرَفْ يومًا أن "الصابر" قد ساعَدَ أختَه أو أولادَها بأيِّ شيءٍ؛ كي يجتازوا فقْرَ يومٍ أو لحظة.

 

البيتُ يغصُّ بتنكات الصفيح المرتبة فوق بعضها؛ كي تشكِّلَ طاقات للحمام، والأرض محشوَّة بالسراديب والأنْفَاق المكتظَّة بالأرانب، وأكوام الحشيش وبقايا الخضروات المجموعة من نفايات سوق الخضار متكالبة على بعضها؛ لتأمين الغذاء للأرانب والسخلة، معارك دامية وهائلة كانتْ تجري بين أصحاب البيت وبين أسراب القطط الغازية، معارك تختلطُ فيها الزفرات مع الآهات، مع السبِّ واللَّعْن والشَّتْم، دماء مُرَاقة هنا وهناك، من القطط أو الزغاليل، وبقايا أرانب أو زغاليل تحتلُّ زاوية من زوايا البيت.

 

"محمد" هو اسم الولد، كان في صفِّي المدرسي ونحن في الإعدادية، لم يكنْ كما وصفَه المخَيَّم لاحقًا حادَّ الذكاء أو مُفْرِطَه، وهذه صفة ملازمة للمخَيَّم رافقتِ الكثير ممن أصيبوا بداء الجنون أو الكآبة التي سحقتهم، وكأنَّ المخَيَّم بأَسْره يتعمَّد نسيانَ قُدْرات الناس الحقيقيَّة ليضفوا عليهم قُدْرات مستنبطة من الخيال، أو هي حالة نسيان جمعي تستحقُّ الدراسة والبحث، محمد كان طالبًا ناجحًا يملك كلَّ المقومات الذهنيَّة التي من شأنها أنْ تنقلَه إلى الجامعة وليس أكثر، لكنَّه بجانب ذلك فاقدُ الثِّقَة بنفسه وبكلِّ شيءٍ حوله، ليس عن عِلْم ودِراية، بل عن حركة المجتمع التي تدخلُه كنوعٍ من الاضطهاد الممزوج بالرعب والخوف من الأشياء التي يتوقَّعها ولا يَعْرف ما هي، وهذه حالة لازمتِ الكثير من أهل المخَيَّم، وحين انتقلتُ لتلمُّسِ المخَيَّمات الأخرى، وسبْرِ أغوارها، عرفتُ بأنها حالة واحدة بكلِّ تفاصيلها وحيثيَّاتها في كلِّ المخَيَّمات، هذا الإحساس بالتوزُّع والخوف قَلَبَ شخصيَّة "محمد" إلى شخصيَّة جديدة مع اسم جديد سيلغي اسمَه الحقيقي، حتى إنَّ مجموعة من الأطفال لن تعرفَه مُطْلقًا بغير اسم "الفَلْوص".

 

أصبحَ "الفَلْوص" عَلَمًا من أعلام المخَيَّم بحركاته الجديدة، وتوتُّراته المتلاحِقة، حتى إنَّ شكْلَه وتقاسيمه بدأتْ بالتحول لترسمَ شخصيَّة تتوافَقُ وتلتحِمُ مع الاسم الجديد.

 

أُخْتاه بسبب الفقْر وازدراء الناس لوضْعهم، تزوَّجْنَ زيجات أدَّت بهنَّ إلى الاستمرار في حالات الفقْر والعوز، بل وسحبتْ منهنَّ روائحَ الأنثى البسيطة، وأحلَّتْ محلَّها روائحَ اللوعة والعذاب.

 

"الفلوص" أصبحتْ له حكايات، بعضها يمكن سردُه، ولكن ليس هذا موقعه، وبعضها خجلاً وحياءً من الله لا يمكن سردُها، ولو أخذنا ما يمكن سردُه فقط، لقفزَ الناس من أماكنهم وهم موزَّعون بين دهْشة الحُزْن، وذهول الضحك.

 

إلى الأمام بقالة "أبو شوقي"، وهو رجلٌ غريب الأطوار رغم وضوح صورته للوهْلة الأولى، منزلُه ملاصِق لبقالته، المنزل والبقالة كلاهما يتمتَّعان بفقْر يشابِه فقْرَ المخَيَّم، وهما كغيرهما من الأماكن يبدوان عَصِيَّيْنِ على النظافة، فإذا ما أضفْنا لذلك سوءَ النظافة والترتيب التي سيْطرتْ على كلِّ أفراد العائلة، تمكَّنَّا من رسْم صورة تنبعثُ منها روائح الرطوبة والعفن، وفضلات الدجاج والأرانب، تميَّزت العائلة باضطرابات داخليَّة لفتتْ نظرَ المخَيَّم كله، وظلَّت تلك الاضطرابات تنمو وتكبر إلى أنْ أخذت حيِّزًا من تاريخ العائلة أثقلَ كاهِلَها وأثقلَ كاهِلَ المخَيَّم كله، ليس هذا مكانها أو وقتها، فإن فسحَ الزمن فسحةً، رُبَّما تمكَّنتُ من تخصيص فترة من حياتي لرصْد التحولات الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة، والحياتيَّة والسياسيَّة التي تناوشتِ المخَيَّم بكلِّ فئاته بطريقة تدعو للحزن والرثاء، أو تدعو للوقوع في هوات لا يمكن الإفلاتُ منها للقارئ والحاكم والشعب الذي ظلَّ حتى يومنا يتركُ المخَيَّم، والناس يغوصون بتحولات أرْبَكها ورتَّبها الاستعمار دون التدخُّل للأخْذ بيد أُناس مضَتْ حياتُهم وهم لا يعلمون عن الراحة أو السعادة أو الهدوء سوى مَسَمَّيَات لا وجودَ لها في حياتهم.

 

ملاصقًا له منزل "أبو عرب"، وهما أخوان يقطنان نفْسَ المساحة، كانا لا يعرفان عن الدنيا شيئًا، لكنَّهما تحوَّلا إلى تاجِرَين في غُرَف النوم مع تقدُّم الحياة.

 

بعد ذلك مباشرة محل خياطة صغير جدًّا لرجل يُدْعَى: "أبو حلمي"، وكان متخصِّصًا في خياطة "القمباز والديماية"، رجلٌ قصير القامة، أعرجُ عَرَجًا شديدًا، نقَلَ مخيطته إلى المدينة في الشارع الرئيسي، وظلَّ فيها إلى أنْ توفَّاه الله، لم يُذْكَرْ عن هذا الرجل أمرٌ سيِّئ، كما لم يحصلْ أنْ كان هناك خلافٌ بينه وبين الناس يومًا من الأيام.

 

ملاصقًا لمحله منزل يُعتبر علامة مُهمة من علامات المخَيَّم، وهو منزل رجل كفيفٍ يُدْعَى: "أبو رزق القوزح"، له ابنان شكَّلا بعملهما ونضالهما سيرة تستحقُّ التسجيل والتاريخ بكلِّ تفاصيلها؛ لأنها تسوقُ إلى استنتاجات واضحة حول الأَلَم والعذاب والمثابرة والإصرار، فقد عَمِلَ "رزق" أعمالاً كثيرة؛ منها: بيع "البراد"، فقد كان يملك حلَّة من النحاس فوق عَرَبَة بثلاث عجلات، يجرُّها من طرف المدينة الغربي إلى الطرف الشرقي، ومن الشمال إلى الجنوب، عدا عن الدوران في أزِقَّة المخَيَّم الوعرة والتي لا تسعُ العَرَبة أحيانًا؛ كي يعودَ آخرَ اليوم وهو مُنْهَك مَهْدود، ليبدأ صباحًا آخرَ ودورة من عذاب جديدٍ، وفي رمضان كان يمارسُ صُنْعَ "القطايف" إلى جانب بيع "البراد"، وفي الشتاء كان يبيع "السحلب" وتاجَرَ بالحمام، فكان تاجرًا بارعًا، خاصة حين أُصيب المخَيَّم والمدينة بحُمَّى أنواع الحمام المستورد من بُلدان العالم، مثل: الحمام المالطي، والأمريكي، والمصري، والنيوزيلندي، وأنواع أخرى كثيرة.

 

كان رجلاً عذْبًا، هادئًا، رائعًا، تَلْمَسُ الأدبَ والسكينة حين تحدِّثه، أدركَ حُسْنَ الخُلق فالْتزم به، وكانتْ هذه علامة أولاده وبناته، لم يخبْ تعبُه وجُهدُه، فاشترى أرضًا في عزبة "ناصر"، وبَنَى منزلاً أضاف إليه مَشْغَلاً لصناعة "البراد"، لكنَّه لم يتخلَّ عن منزله بالمخَيَّم، وظلَّ رمضان يعيده إلى الناس من خلال "القطايف" المتْقَنَة الصُّنْع.

أخوه أحمد كان له خصوصيَّة صناعة نوعٍ من الحلويَّات تُسَمَّى "كرابيج حلب"، وهي رائعة المذَاق، مُتْقَنة الصُّنْع، وقد استبدَّ طعمُها بفمي وأنا أكتبُ هذه الكلمات، وكذلك عُرِفَ بصُنْع نوعٍ آخرَ من الحلويَّات يُسْمَّى "القشطة" يُضاف إليها القطر الذي يلوِّنه بألوان مختلفة، وظلَّ سرُّ صُنْع حلويَّاته مستغلقًا حتى اليوم على المخَيَّم والمدينة، إضافة إلى هذا فإنَّه كان يُصْلح بوابير الكاز ولكسات الإضاءة التي تعمل أيضًا على الكاز، وحين تقدَّم المخَيَّم وأصبحَ يستعمل الغاز، كان هو ممن يصلحون أيَّ عَطبٍ فيه، لم تكن دورته في المدينة والمخَيَّم أقل من دورة أخيه "رزق"، ولم يكنْ حظُّه من تَعَبِه أقلَّ من أخيه "رزق" فقد اشترى أرضًا، وبنى منزلاً في عزْبة "الجراد"، وكلاهما أورثَ سرَّ صنعتِه أولادَه.

 

ملاصقة لمنزلهما مخيطة بسيطة لأَخَوَيْن من عائلة الشيخ "علي"، "أبو وائل وأبو مروان"، وهما رجلان طيِّبان يقضيان وقتَهما في العمل والتحدُّث مع الزُّوَّار، يصلِّيَان أوقاتهما النهاريَّة في المسجد المقابل لمخيطتهما، كانا محطًّا لشباب المخَيَّم القديم، المتميِّز بقُدْرته على المحافظة على الأخْلاق والعادات والتقاليد، وكان جيلاً يدركُ أهميَّة التعليم للتخلُّص من عذاب الفقر وبؤْرته، لم تكن الحزبيَّة والشلليَّة قد وصلتْه، كان يؤْمن بقضيَّة اسمها فلسطين، وبوطنٍ مَسْلوب، وكان يعرفُ دورَه المستقبلي بالحسِّ والفطرة، ولكنَّ ظروفَ المستقبل ووضْع الأُمَّة العربيَّة والإسلاميَّة أحبطا حسَّ الفِطْرة فيهم وفيمن تلاهم.

 

هنا سنقفُ، وسنتحوَّل إلى الشارع الفاصل حارة "أبو سبيل" عن حارة "الغوارنة"، وهو الشارع الذي يصلُ المخَيَّم مع قرية "ذنابة"، وعلى الجِهتين - اليمنى واليسرى - تقعُ مجموعة من المنازل التي يُمْكِنُ التوقُّف عندها لتكتملَ صورة المخَيَّم بشكلٍ شبه تقريبي، لكنَّنا أيضًا نجد أنفسَنا مضطرين للوقوف أمام مجموعة من الدكاكين التي كانت تُسَمَّى بالبسطات، أو العُرْش، وجميعها من الصفيح المتآكِل والصَّدِئ، لكنَّها شكَّلتْ بوجودها ولفترة طويلة من الزمن نوعًا من الحيويَّة والحياة الدافقة في عرق المخَيَّم، وكانتْ تشكِّل مَعْلمًا واضحًا من مَعالمه، فإذا ما أردْتَ وصفَ مكان أو عنوان يتمُّ فيه اللقاء، فليس عليك سوى أن تختارَ منطقة العرش؛ لأنَّ الحياة الدائبة فيه من النساء والأطفال والرجال تقودُك للوصول إلى أيِّ عنوان مَهْما كان متوغلاً بأزِقَّة المخَيَّم ومُنْحَنياته.

 

العُرْش: عبارة عن مجموعة من ألواح الصفيح التي أشهر الزمن أنيابَه عليها، فرسمَ معالمَ البؤْس والفقْر والحاجة المأخوذة من صدور الناس ولوعتِهم وانهيار حُلْمهم ووجودهم، تُباع في محلاته الخضروات الطازجة الفوَّاحة الرائحة، المنقولة من المزارع والسهول مباشرة، أو من "حسبة" الخضار المركزيَّة في المدينة، بمجرَّد وصولك إلى منطقة قريبة من العرش وغير مرئيَّة، تهاجم أنفَك روائحُ الخضروات الطازجة "والبعل"، فتعرف أنَّك على قُرْب من سوق خضار أو قرب سهْلٍ يضجُّ بالمزروعات، وحين تصلُ ترى التدافُع والهَمْهَمات، والصُّراخ والاستنكار والمساومة، وعلى جوانب كلِّ محل بقايا أوراق الفجل، والزهرة "القرنبيط" والجزر، وتشكيلة واسعة من الخضروات والفواكه التي تعفَّنتْ، وهناك مَن يأتي لجمْع كلِّ هذه البقايا من أجْل استخدامها كطعام للأرانب والخِرفان، والبقر والحمير والبغال، المشهد بكلِّ زخمه يفقدك للحظات الإحساسَ بالفقْر والبؤْس، لكنَّك لا تلبثُ أن تستعيدَه فورَ توجيه نظرِك نحو البيوت.

 

إلى الأمام من الجهة اليسرى منزل "أبو حلمي"، وهو رجلٌ نَدِيٌّ، رائع، جميل الشكْل، فيه أصالة البلاد المسلوبة، وعلى تقاسيمه تبدو مُدن وقرى فلسطين، الممزوجة برائحة البحر، فهو صيَّاد متمرِّس، يخرج صباحًا إلى مناطق أقربائه في "جسر الزرقاء"، وهي منطقة غير بعيدة عن "حيفا" من المناطق المحتلة عام ثمانية وأربعين، وهناك قُرب حدودها تمَّتْ عمليَّة الشاطئ التي قادتها الشهيدة "دلال المغربي"، ليعود بعد الظهر محمَّلاً بأنواع من السمك؛ السلطان إبراهيم، المشط، القراص، السريدي، وأنواع أخرى طازجة شهيَّة، تنفذُ رائحتها إلى أعماق النفْس بقوة ضاربة، وهناك يجتمع الناس كما في العرش يبحثون عن طعام يومهم بالمساومة التي قد تدفعُ أبا حلمي للغضب وإغلاق باب البيع أمام الجميع.

 

البيوت الملتصقة ببيت "أبو حلمي" يقطنُها "آلُ معارك"، وهم أُناس عانقُوا الفقْر الشديد بالشكْل، ومَعالم البيوت، وطريقة الحديث، ورائحة السمك المتعفِّن الذي لا يغادر منازلهم مُطلقًا، حتى أصواتهم كانتْ تقود إلى فحيح الفقْر وسُمِّه، عاشوا باختلاط مفْزِع، فلا حُرمة لباب أو بيت بينهم، وكأنهم إخوة أو أخوات؛ مما دَفَعَ المخَيَّم إلى تحجيم علاقته معهم، لكنَّهم بحقيقة الأمر أُنَاس طيِّبون إلى حدِّ اختلاط طيبتهم بمجموعة من النوازع والصفات التي أخْفَتْ حقيقتهم الأصليَّة، الشارع طوال ساعات النهار منزلهم ومطبخهم، فهم يمارسون حياتهم اليوميَّة أمام أبواب البيوت، عملوا كصيَّادين في البحر، وكانوا كأبي حلمي يجمعون قوتهَم من تجارتهم بما اصطادوا، ولم تكن النظافة تهمُّهم كثيرًا؛ بسبب الفقر وخنوع نفسيَّتهم له، فلم يكنْ غريبًا حين تمرُّ من أمام بيوتهم أن تغلقَ أنفَك بيدك، أو أن تتحاشَى المرورَ من الجِهة التي تنتصب بيوتهم فيها، ما عدا ساعات عرْض السمك الطازج، فرائحتُه كانت تغطِّي الروائح الأخرى، اضطهدوا بالنظرة كثيرًا من أهل المخَيَّم، لكنَّ قسوتَهم وشراستَهم وجَهْلَهم المطبوع بالعُنْف الذي لا يحسب نتائج، نأَى بهم عن الاضطهاد الجسدي والمعنوي المرْفَق بكلمات الاستهزاء، فهم قادرون على خوض معركة بالفؤوس والسواطير والسكاكين والمُدى، حتى وإنْ كانت المعركة ستُسْقِط قتيلاً من أعدائهم أو منهم.

 

مثل هذا الأمر كان يتحكَّم في مجموعة من العائلات الأخرى في المخَيَّم، وهو أمرٌ غريب، لكنَّ أصولَه ودوافعَه كانتْ تنبتُ من التهجير القسري الذي مارسَه الاحتلال، ومن ضياع الهدف والمستقبل كعوامل ممكن أن تعطي النفسَ بعضَ الهدوء، فنحن أمام مجموعة من الناس حُشِدتْ في مكان واحدٍ، ضَيِّق، ولا مَعلم له أو حَد، لا رائحةَ ولا مكان، بل في بقعة حَوَتِ انْهدام الأمل، وخسارة الأهل والوطن، ومرابع الطفولة والشباب، كلُّ العوامل السلبيَّة والقهْريَّة كانتْ تتجمَّع في النفوس والأذْهان، لتبرز حالة من حالات الانهيار، أو حالة من حالات العنْف غير المبرر، وهذا ما كان يدفعني للتدقيق بالطِّيبة التي تظهر على الوجوه والتصرُّفات، ثم لا تلبثُ أن تختفي دون سبب ظاهرٍ، أو مُبَرر معقول.

 

مقابل منازل "آل معارك" منزل "راضي الغوراني"، وهو رجلٌ بسيط، كثيرُ الكلام، كثيرُ الادِّعاء، فيه عذوبة الشباب المسحوق، يتميز بصوته الممطوط أثناء الترحيب، شعره أجْعد، لكنَّه يتقن تسريحَه، يضعُ كرسيه بين بقالته المجزوءة من منزله وبين العرش؛ أي: في الطريق الذي يؤدِّي إلى بيوت الجيران، لسانه صعبُ المفردات، يجمعُ بين العذوبة وبين القسوة، بل والمخجِل من الألفاظ.

 

ملاصقًا له منزل "عبد الرحمن الزيدان" المقتطع منه بقالة مع شرفة صغيرة كانتْ تجمع مجموعة من رجال الحارة وعائلة "زيدان"، لم يُعْرَفْ عن الرجل أيُّ أذًى، ولم يُعْرَفْ عنه أمرٌ سيِّئ، حتى إن بعضًا من شباب المخَيَّم كانوا يجتمعون في الشُّرْفة؛ ليتداولوا أحداثَ المخَيَّم وأحداث السياسة، وتطلُّعاتهم نحو المستقبل الذي يأمُلون أن يحرِّرَهم من قبضة الفقر والضياع.

 

ملاصقًا له منزل "فخري حجازي"، وهو رجلٌ طيِّبٌ، متزوِّج من امرأة من بيت "الضميري"، وقفتْ بجانبه وساندته، يعمل "مواسرجي"، وفيما بعدُ اقتطعَ من منزله قسمًا وحوَّله إلى محل متخصِّص في بيع أدوات عمل البناء والمواسير والمجاري.

 

مقابله منزل "أبو رياض نصر الله"، اقتطعَ من بيته محلاًّ لبيع الدواجن، وهو رجلٌ مُسالم، فيه طِيبة وسَمَاحة، معروف بتردُّده على المسجد بشكلٍ متواصل ودقيق، إلا إذا أحْكَمت الظروف حُكْمها.

مقابله محل "حلمي الغوراني"، متخصِّص في بيع الخضروات، بدأ من الصفر أو من تحت الصفر، فجَرَت الأمورُ معه بشكلٍ جيد، عُرِفَ بنَزَقِه وضيق خُلقه؛ بسبب معاملته مع النساء أثناء البيع، كان يشكو من المساومة الشديدة التي تحاول النسوة الوصول بالسعر من خلالها إلى أقلِّ من رأس المال؛ مما يدفعه أحيانًا إلى نثْر الخضروات بالشارع وهو يصيح ويصرخ بأنه لا يودُّ البيع بأيِّ سعرٍ مِن الأسعار، زوجته كانتْ تجمع ما ينثرُ، وهو ينثرُ ما تجمعُ، ومرَّات كثيرة نثرَ درجَ النقود بالشارع وهو يزبد ويرغي حتى يخيَّل للإنسان أن عروقَه النافرة من شدة الغضب سوف تتقطعُ ليَسِيل دَمهُ بالشارع.

 

مقابله منزل "الشورى"، وهو لرجل كان متخصِّصًا في إصلاح المذياعات التي توجدُ في المخَيَّم والمدينة.

 

مقابله منزل "أبو زريف"، خلفه منزل "الدويك"، ومنازل كثيرة لأهل "قاقون، ومسكة".

 

إلى الأمام سوق الحراميَّة، وأنا لا أعرفُ سببًا لهذا الاسم، لكنَّ بعضَ الناس قالوا: إنَّه أخَذَ هذا الاسمَ من البضائع التي تُعْرَض فيه، والتي أغلبها مسروقة، تميَّزتِ النسوة بإدارته، ففيه تُبَاع الخضروات الطازجة، والدجاج الحي، والأرانب والزغاليل، ويتميَّز بحركة سريعة وحقيقيَّة، فيه شدٌّ وجذْبٌ، صُراخ يقابله صراخ، ومشادات غريبة اللفظ والمعنى والمنشأ، لكنَّه أضفَى على المخَيَّم نوعًا من الحياة والحركة، وسجَّل لفترة من الزمن أرزاق أُناس كادوا - لولا وجودُه - أن يتضوَّرا جوعًا.

 

بعده منزل "حلمي أبو تمام"، الذي كان عَلَمًا من أعلام المخَيَّم والمدينة، وقد حقَّق شُهْرة قَلَّ مَن حقَّقها مِثْله، وجاء ذلك من طبيعة مِهْنته التي تحتاجُ صوته الذي رَسَخَ بآذان وأذهان الناس، فهو بائعٌ لجريدة القدْس المقدسيَّة التي كانت توزَّع في كلِّ الضفة الغربيَّة، يحتاج إلى التجوال في كلِّ حارات المخَيَّم والمدينة، وهو ينادي بصوت شكَّل نغمة خاصَّة فيما بعدُ عُرِفَتْ كلازمة من لوازم شخصيَّته، كان خَلوقًا جدًّا، مثابرًا، صابرًا، فيه هدوء لم يُعْهَدْ بالكثير من أهْل المخَيَّم، الْتزمَ بعائلته التزامًا كاملاً، وشارَكَ في تعليم أَخِيه "حسين" في الجامعة، أخذَ مكانًا من رصيف مقابل لدوَّار "جمال عبدالناصر" وسط مدينة "طول كرم"، مع طاولة تحوَّل لونُها إلى البُنِّي من كثرة الاستعمال، وسع عمَلَه بإضافة بعضِ المجلات التي كانتْ تصدر في القدس، كالبيادر، والبيادر السياسي، ومجلة الحصاد التي عملتْ لفترة ثم أُغلقتْ، بالإضافة إلى بعض المجلات التي كانت تَصْدُرُ في الوطن العربي ويتمُّ استيرادُها، كمجلة فصول، ومجلة أدب ونقْد، وبعض الكتب التي كانت تصلُ إلى فلسطين من الوطن العربي، وخاصَّة من القاهرة ولبنان.

 

لم يغادرُ "حلمي" الجريدة حتى خروجي من فلسطين، عِلْمًا بأنَّه تمكَّن من شراء أرضٍ وبناء منزل في المدينة، كانتْ صلتُه بالمثقَّف "الكرمي" صِلة مميزة؛ لأنَّه يُؤمِّن الكتب والمجلات بأسعار معقولة، ولأنه كان يتسامح مع مَن لم يملك النقودَ في استعارة الكتب والمجلات وإعادتها له بعد القراءة.

 

صِلتي به كانت صِلة ابن المخَيَّم وابن الثقافة، فكانتْ معاملته مميزة، فيها تضحية وفيها وفاء، لم يحدثْ أن عُرِفَ عنه أمرٌ شائن، بل كلُّ مَن عَرَفَه امتدحَ صفاته ومثابرته وتصميمَه على جَنْي الرزقِ بطريقة مُفيدة له وللمجتمع في تلك الفترة.

 

إلى الأمام وعلى الجِهة المقابلة مع التعمُّق قليلاً بالزُّقاق، منزل "أبو وضَّاح السروجي"، وما يَعْنيني من هذا المنزل هو و"ضَّاح" الذي كان في إحدى سنوات الدراسة مشاركًا لي في نفْس الصف، وهو سمين جدًّا، مضغوط بسبب سِمْنته، حتى كنَّا نخشى على قَدَميه من الانهيار تحت ضغْط الجسد الهائل، وهذا ما ألْصق به لقب "الهِشْلي"، أضفْ إلى ذلك قُدرته العقليَّة المحدودة، ولا أقصد هنا نوعًا من أنواع القصور، بل الغباء الذي سيطر عليه سيطرة كاملة، ليكتملَ الرسمُ الخرافي لشخصيته، فهو لم ينجحْ سنة واحدة في المدرسة، ولو أرادتِ المدرسة التعامُل معه حسب الامتحانات، لظلَّ حتى يومنا هذا في الصف الأول الابتدائي، كان يُرْفَعُ تلقائيًّا حسب قانون التربية والتعليم الذي كان مُطَبَّقًا في تلك الفترة، والذي يقضي برفْع الطالب من الصف الذي هو فيه إلى الصف الذي يليه عندما يبقى سنتين متتاليتين في الصف نفسه، ولم يُعْرَفْ عن "وضَّاح" أنَّه أتْقَنَ كتابة شيءٍ غير اسْمه، وظلَّ يعاني مِن الجهْل والسِّمْنة إلى حدٍّ كبير، فهو يجرُّ نفسَه جرًّا من المدرسة إلى المنزل، ومن المنزل إلى المدرسة، أضفْ إلى ذلك رحيلَ الطلاب من صفِّه في كلِّ عام ليبدأ مع طلاب جُدد بسبب رسوبه.

لكنَّه كأيِّ سمينٍ في الغالب صاحب رُوح تُتْقِنُ النُّكْتَة وفنَّ إلقائها، وهذا ما عوَّضه كثيرًا عن النقص الذي كان يحسُّه.

 

وفجْأَة وبأيَّام معدودة، فوجِئ المخَيَّم بذوبان الشحْم كلِّه عن جسد "الهشلي"، حتى بدا كحُلم من أسطورة كلُّها خيال مُتَّصِل بالخيال، أصبح نحيفًا، بل شديد النحافة، ولم نَعْرِفْ سببًا مباشرًا لذلك أوَّل الأمر، وحين سألْناه عن السبب قال: "أبو خميس الخلف خَلعني عين من الحسد"، وكان هذا الرجل مشهورًا بقُدرته على الإطاحة بكلِّ مَن يحسدُه.

 

وما هي سوى أشهر فقط، حتى فُوجِئ المخَيَّم بخبر رحيل "وضَّاح" عن الحياة، وهذا ما فسَّر نحافته المفاجئة، فقد أُصيب بمرض السكري، ومجموعة من الأمراض تكالبتْ عليه فأنحفتْه ثم قادتْه إلى نهايته في سنٍّ مبكِّرة، دعونا له بالرحمة؛ لأننا كُلِمْنا بموتِ طفلٍ في بداية اندفاعة الشباب، كان يشكِّل بيننا محورًا من محاور طفولتنا المقبلة على العالم، دون أن تعرفَ ماذا يرصدُ الزمنُ لها ولنا.

 

على اليمين مجموعة من البيوت المتهالكة، التي تتفرَّع منها أزِقَّة شديدة الضِّيق، حتى إنَّ بعضَها أحيانًا لا يتسع لفرد عاديٍّ، تبدو المأساة كغربان حطَّتْ فوقها دون أن يكونَ بالإمكان مغادرتها، منازل "آل زيدان، ومنازل آل العوفي، وأبو دغش، والفحماوي، والفرحانة"، ومجموعة من عائلات أخرى، وإذا تعمَّقْنا بالأزِقَّة قليلاً وجدْنا عائلة "البلاص، والحويطي، والشايب، والكساب، وأبو سبيل" مرة أخرى، وكثيرًا من العائلات المتفرِّقة، لم يكنْ في هذه الحارة اختلافٌ كبيرٌ عن الحارات الأخرى، إلا في صورة البؤْس التي تشتدُّ أحيانًا لترخي قبضتها في أحايين أخرى.

 

في هذه الحارة كان المختارُ "أبو تيسير العوفي"، وهو رجلٌ خلاسيٌّ، لم يكنْ محبوبًا بالمخَيَّم؛ لأسباب أتعفَّفُ عن ذِكْرها؛ إكرامًا لأولاده الذين اختلفوا بسيرتهم الذاتيَّة عنه كثيرًا.

 

"أبو العبد البلاص"، رجلٌ يؤْكَلُ مع الشيح والحنظل، فيمنحُهما من شهدِه طعْمًا رائقًا سائغًا، لم يكنْ طويلَ القامة، وإنما يمكنُ القولُ: إنه كان مُعتدلَها، ورُبَّما كنَّا نحارُ بين الطول والاعتدال، عمل جمَّالاً، وكانتْ شُهْرتُه بسبب عمله قد وصلتْ كلَّ المنازل، فهو ينقلُ الصرار، والناعمة، والأسمنت، والرَّمْل على الجمل لضِيق الممرات والأزِقَّة والطُّرقات المتفرِّعة في المخَيَّم، وكان من المعتاد رؤيته مع رجلين يعملان نفْس العمل، لكنَّهما ليسا من المخَيَّم، بل من المدينة؛ أحدهما من عائلة "أبو زاكان"، والآخر من عائلة "الجلاد"، لكنَّ الأفضليَّة دائمًا لأبي العبد البلاص؛ فهو رجلٌ مُتَديِّنٌ إلى حدٍّ بعيد، عفيفُ الكفِّ واللسان والفرْج، صوتُه وهو يرتِّل القرآن ينقلك إلى عالم من الخشوع لا يمكن وصفُه، عِلْمًا بأنَّه رجلٌ أُمِّي، وبشهادة المدرسين لم يلحنْ يومًا بخطأ نحْوي في الرفع والنصب والجزم، بل كان مسيطرًا على صحة القراءة بسليقة الفِطرة وبساطة الإيمان والخشوع، يوم وفاته شكَّل صَدْمَة لمن كان يصلي خلفَه في المسجد، ومرَّ وقتٌ طويل قبل أن يغيبَ رنينُ الأجراس التي كانت مُعَلَّقة برقاب الإبل التي كان يقودُها.

في محيطه كان رجلٌ من عائلة "أبو جبارة"، وهو رجلٌ طويلُ القَامَة، أبيض البشَرة، يلبس القمباز مع الحطة على رأْسه، كان وجْهًا من وجوه المخَيَّم في حَلِّ النِّزَاعات والخِلافات، أُصيب بمرض البهاق والبَرَص، فتغيَّر شكْلُه كثيرًا، لكنَّه ظلَّ عَلَمًا من أعلام المخَيَّم حتى وفاته.

 

في نفس المحيط كان الأستاذ "أحمد زيدان"، وقد درَّسَ لي في المرحلة الإعدادية، فيه رُوح الشباب المتفجِّر، لكنَّه لم يتمتعْ بكَيَاسة في تعامُله مع الأطفال، فرأوا به مُبالِغًا كبيرًا، وهي حقيقة ثبتتْ فيما بعدُ، نَمَتْ بيني وبينه علاقة مميَّزة، فهو يكتبُ الشعر، وإنْ لم يكن بارعًا فيه، وكان يرى فيّ شيئًا له مستقبلٌ يومًا من الأيَّام، وقد كان لوجوده في حياتي بعضُ الأثَر الذي مكَّنني من تلمُّس قُدراتي الأدبيَّة، بيني وبينه قَصص كثيرة، أهمُّها رثاؤه لعبدالرؤوف زيدان وهو بوحدة العناية المركَّزة؛ لأنه كان واثقًا من أنَّه سيموت لا مَحَالة، وقد هيَّأ قصيدة الرثاء؛ ليلقِيها في حفْل تأْبِينه في جمعية "قاقون الخَيريَّة"، وحين كنتُ مارًّا نادَى وقرأ القصيدة، لم تمضِ أيَّام حتى سَمِعْنا خبر وفاة "أحمد زيدان" وخروج "عبدالرؤوف زيدان" من العناية المركَّزة ليعيش فترة طويلة، ولو أردتُ الكتابة عنه لاستطعتُ صناعة رواية فيها كلُّ عناصر التشويق والفرح، والحزن والبكاء والغرابة، لكن سيأتي يومٌ لأرسمَ له صورة وفاء لذِكْرى أستاذ عاشَ كلَّ حياته موزَّعًا بين إدراكِ الطفولة الذي بَقِي ملازمًا لشخصيته، وبين الحُلم المستحيل وواقع لا يمكن أن يكونَ أحمد مؤثِّرًا فيه مَهْمَا حاولَ أو بذلَ من جُهْد.

 

على اليسار بقالة "أبو يوسف الهوجي"، وهو رجلٌ وديع، فيه انطواء مدروس عن الناس، لم يكنْ مُتكبِّرًا أو مُتعجْرِفًا، لكنَّ المخَيَّم رأى به غيرَ ذلك، رُبَّما بسبب النقود التي جرتْ بين يديه من أولاده المغْتربين في "الدنمرك"، والذين مكَّنوه من تأسيس تجارة درتْ عليه أرباحًا ممتازة، ونقلتْه من الحياة في المخَيَّم إلى الحياة في المدينة، لكنَّه ظلَّ مُتمسِّكًا بوجوده داخل المخَيَّم، فأبْقَى بقالته ومنزله فيه، وفيما بعد افتتحَ لابنه صيدليَّة، كان من الوجوه المعروفة، ولكن بشكْلٍ غير ملحوظ، عُرِفَ بالمواظبة على الصلاة، وكان أحيانًا يؤمُّ الناس حين يتغيَّب الإمامُ، صوتُه لم يكنْ جميلاً قطُّ في الترتيل، "كالبلاص أو الشيخ حمدان"، ولكن لم يَحتج أحدٌ على ذلك، يُقال أنه كان يتصدَّق، لا نعرف حقيقة الأمر، لكنَّ سيرة الرجل نقيَّة وجيدة، ولم يُعْهَدْ عنه أنَّه سبَّبَ أذًى لأيِّ أحدٍ حتى يوم وفاته.

 

ملاصقًا لمنزله منزلُ "المتروك"، وهو من أشدِّ البيوت فقرًا وبؤْسًا، يلتصق به منزل "أبو نبيل الشرقاوي"، وهو رجلٌ بائسٌ، عانَى كغيره ويلات المخَيَّم والتشرُّد، أنجبَ مجموعة من الأولاد أهمهم "أبو غضب"، واسمه "خالد" وهو شاب طيِّبُ القلب، في مُنتهى الطِّيبة، لكنَّه حادُّ المزاج، سريعُ الغضب والتأثُّر، ليس بين الصفر والمائة أرقام عنده، فإن رَضِي عنك أخذتَ المائة، وإنْ غَضِبَ عليك أخذتَ الصفر، ويمكنُ أن تكونَ قد نِلْتَ الصفرَ ظُهْرَ يومٍ لتنالَ المائة في عصر اليوم نفسِه، له حكايات تشابه الخيالَ، تصلح لكاتب مسرحي فُكاهي، ولو وصلتْ إلى المسرح لبَكَى الناس من شدة الضحك إلى حدِّ الاختناق، موزَّع بين الإيمان والعِصيان، فإنْ آمنَ، فلا أحد في الدنيا يثنيه عن التبليغ بطريقة الغضب والقسر والإلزام، وإنْ عَصَى، فكأنَّه لم يعرفِ الإيمان يومًا، يتاجر بالنحاسيَّات والزجاجيَّات المستعملة، فإذا أعجبتْه قطعة من النحاس وقرَّر الاحتفاظ بها، فلن يصلَ إليها أحدٌ وإنْ دَفَعَ فيها مَبلغًا يعتبرُ من الخيال، وحتى لو مات أولادُه جوعًا، فإنَّه لن يبيعَها أو يفكِّرَ في بيعها، له ذوقٌ في القراءة يُشْهَدُ له به، وإنْ لم يكنْ قارِئًا بالمعنى المتعارَف عليه، هواياتُه مُتعدِّدة؛ فهو يجمع المسابح الغريبة والقِطَع النُّحَاسيَّة المتْقَنَة الصُّنْع، سيأتي يوم للكتابة عنه إنْ أَفْسَحَ الزمنُ مساحة لذلك.

 

له خالٌ يُدْعَى: "محمود عبدالرحيم"، اشْتُهِرَ بمزاولة النَّصْب على مستوى فلسطين، وكان بارعًا جدًّا في مِهْنته؛ حتى وصلَ الأمرُ إلى النَّصْب على "خالد" نفسِه خلال لحظات، كان يقفُ في السوق فيرى شاحنة مُحَمَّلة بالحبوب، يقف بجانبها ويبدأ بفحْص محتوياتها، فإن اقتربَ منه صاحبُها ادَّعى بأنه يريد أن يشتريَ، وإنْ جاء المشتري باعَه إيَّاها بثمنٍ لا يمكنُ رَفْضُه أو المساومة عليه، وحين يقبض الثمن يختفي، فتنشبُ معركة مع الشاري المخدوع وصاحب الشاحنة الحقيقي، وظلَّ كذلك إلى أن أُصيبَ بمرضٍ ومات فيه، وهناك حكايات عنه لو تمكَّنتُ من جَمْعِها لسجَّلْتُها؛ لتكونَ شاهدة على ذكاءٍ لم يُنحَ به منحًى صحيحًا.

 

مقابل بيت "الشرقاوي" بيت "القبرصيَّة"، وهي امرأة متزوِّجة من رجل بسيط، يُقال: إنَّها قبل التشريد الْتَقَتْ بالرجل وهو في رحلة بحريَّة إلى "قبرص"، وتَمَّ التعارف والزواج، ونزحتْ معه يوم النزوح العظيم لتستقر في مُخَيَّمنا، اختلفتْ عن نساء المخَيَّم ببشَرتها البيضاء اللامعة، والنمش الموزَّع على الوجه ليرسم اختلاف البياض وقُدْرته على التماسُك، لم يُعْرفْ عنها صفاتُ الصراخ أو الغضب، ظلَّتْ وَفِيَّة لزوجها حتى بعد وفاته، وكذلك للجيران والأهْل، أسلمتْ يومَ تزوَّجتْ، وحَسُنَ إسلامُها إلى حد أنَّها كانت أكثر تطبيقًا من غيرها للأوامر والنواهي، ظلَّتْ بين الناس إلى يوم زارَها الموت، حَزِنَ الناس عليها كثيرًا؛ لأنها لم تملك عشيرة أو عائلة، لكن المخَيَّم المتناقِض بكلِّ شيءٍ استطاع أن يتخلَّصَ من تناقضه؛ ليكونَ عشيرتها وأهلها في مراسم الدَّفْن وبيت العَزَاء.

 

ليس بعيدًا عن منزلها "منزل الياجوري"، فيه امرأة أرْمَلة، لها أولاد مشوَّهون خِلْقِيًّا، عانوا كثيرًا بسبب تشوُّههم من الناس والأطفال، أُمُّهم كما كلِّ الأُمَّهات ذادتْ عنهم بكل ما تملك من قوَّة، عملتْ أعمالاً مختلفة إلى أن أرستْ مراسيهم بقليل من الأمان، وغادرتِ العالم وهي تنظر نحو أُفق يحيطُ أولادَها بالمجهول.

 

ليس بعيدًا منزل "أبو لطفي إشتيوي"، وهو رجلٌ بسيط قصير القَامَة، أَقَامَ مع امرأته التي تشابهه في القِصَر فترة طويلة من العُمْر، ابنه الكبير تنكَّر لهما بعد الزواج، وظلَّ ابنه الصغير وأُخته، الأختُ عَمِلَتْ أعمالاً كثيرة؛ لتنقذَ أهلَها من غوائل الجوع وأنياب الحاجة، كانت بحُكْم اتصالها بأعمال كثيرة مترجِّلة بعض الشيء، تزوَّجتْ في المناطق التي احْتُلَّت عام ثمانية وأربعين، وبَقِي الولد الأخير "أحمد" مع والديه في المنزل، لم يكنْ ذَكِيًّا أو صاحب حِكْمة، بل اتِّكاليًّا كسولاً، لا يحبُّ العملَ أو الاتصال به، لكنَّه عملَ رغمًا عنه في مَخْبز "حوسو بطول كرم"، أُمُّه ماتتْ بطريقة مُريعة، فقد أمسكتْ بها النيران وهي تحاول إشعالَ "بابور الكاز"، لم يكنْ هناك مَن يستطيع مساعدتها، وحين وصَلَ الجيران كانَ الأمرُ قد انتهى، والده أُصيب بمرضٍ شديد أقعدَه تمامًا، وفي وقتٍ قصير فقَدَ بَصَرَه، وتسلَّخ جِلدُه، صوتُه كان يُسْمع مِن بعيد بسبب ضغط الألم وشِدَّته، استنجادُه بالموت والفناء أدْمَى قلوبَ الجيران، لم يَطُلْ به العهْد كثيرًا، فوافته المنيَّة.

 

"أحمد" تزوَّج فتاة من المدينة، أهلها كانوا أشدَّ فقْرًا من بعض أهْل المخَيَّم، أُصيبتْ بمرضٍ في العينين، وبعد فترة فقدتْ بصرَها، كانت المآسي تحيط بالبيت من كلِّ الجِهات، وكأنها حلقات ما أن يكتملَ الْتِصاق الحلقة، حتى تبدأ حلقة جديدة بالعمل على صُنْع أحداث غريبة، الشفقة لم تكنْ علامة من علامات الناس حول هذه العائلة، بل كان التوجُّه كلُّه نحو ابنه الأكبر الذي لم يلتفتْ إلى آلام أهله؛ مما دَفَعَ إلى نبذه مِن الناس وكأنَّه شيءٌ لا يُمكن التعامُل أو التواصُل معه بأيِّ أمرٍ من الأمور.

 

يلتصقُ به منزل "أبو حسين المسكاوي"، وهو رجلٌ يقطرُ عذوبة وأُنسًا ومودَّة، يلبس القمباز مع الحطة، وجْهه أبيض ناصع تتخلَّله حُمرة رائقة، لِحْيَتُه قصيرة مُهذَّبة، عليه إجماع من كلِّ أهل المخَيَّم وخاصة الأطفال، ملابسه شديدة النظافة، صُدِمَ المخَيَّم يومًا وارْتجَّ حين تعالتْ أصواتُ رصاصٍ في منزله، وحين تدافَعَ الناس إلى هناك، كان "أبو حسين" مُمدَّدًا على الأرض وقد تلطَّختْ ثيابُه ولحيتُه بالدماء، شوهِدَ القاتل وهو يفرُّ مِن زقاق حارة "الشيخ علي" مُرتديًا قناعًا أسودَ، لَحِقه الشباب بكلِّ ما يملكون من عزْمٍ وقوة، لكنَّ لحظات المفاجأة التي شلَّتْ الناس مع لحظة انطلاقه وهروبه أدَّتْ إلى فَقْدِه بعد أن وصلَ الشارع واختفى بين البيارات.

مقتل "أبو حسين" رجَّ المخَيَّم رجَّة غيْر معهودة، لم يكنْ بالإمكان التنازُل عن شخصيَّة مثله، وصلتْ قوَّات الأمن وحاولتْ أن تجدَ طريقة للوصول إلى القاتل، لكنَّ الدليل لم يسعفْهم، وظلَّ لغْزُ الرجل قائمًا حتى هذه الفترة من الزمن.

 

قيل: إنَّ "عبد الكريم أبو مصيصة" - وهو قاتل مأْجور سَبَقَ ذِكْرُه - قد نفَّذ الجريمة بعد أن قبضَ ثمنَ التصفية من زوجة الرجل وأولاده؛ لأنهم كانوا مُقْتَنعين بأنَّ والدَهم قد حمَلَ كنزًا غير معهود يومَ هَاجَرَ من بلده ليستقرَّ بالمخَيَّم، ونُسِجَتْ قَصص كثيرة حول هذا الموضوع، وما دَفَعَ لتأكيد هذه الرواية الحفر والنبش الذي تَمَّ بأرض وجدران المنزل بعد الجريمة بأشْهُر، الشرطة حقَّقتْ مع الزوجة والأولاد، لكنَّها لم تصلْ إلى نتيجة، وفي وقت لاحقٍ رحلوا من المخَيَّم بلا عودة.

 

"أبو مصيصة" وبعد أعوام من حادثة القتْل، استأجرَ محلاًّ في مدينة "طول كرم"، لم يفرحْ به كثيرًا، رُبَّما كانت أرواح الناس تطاردُه، حتى جاء يوم ودوَّى صوت الرصاص في المحل، وحين تَدافَعَ الناس نحو المكان وجدوه مقتولاً بطريقة تثيرُ الرُّعْب؛ فقدُ فجَّرتِ الرصاصات وجْهَه تقريبًا، لم تُنْقلْ جُثَّتُه إلى المقبرة، وظلَّ مكان وجودها سرًّا مستغلقًا، كما سر قاتله ومقتل "أبو حسين".

 

عودة للشارع، حيث منزل "أبو نبيل الشرقاوي"، إلى الأمام منزل "أبو الغياب"، ويعتبرُ المنزل الأخير من هذه الناحية؛ حيث يلتحم مع حارة "الشيخ علي"، و"أبو الغياب" سائق شاحِنة تنقل المنتجات الزراعيَّة من الضفة الغربيَّة إلى "الأردن"، وقد كان هو "وصبري السروجي، وعطية أبو تمام، والمسيمي" يشكِّلون طاقمَ الشاحنات التي تتنقل بين "الأردن وفلسطين" بشكلٍ سريع، فالقانون الذي سنَّه الاستعمار كان يمنعُ مَن هُمْ تحتَ سنِّ الخمسين من السفر والعودة قبل انقضاء سنة على وجود المسافر خارج فلسطين، وبعد زمنٍ طويل تَمَّ تعديل القانون لِمَن بلَغَ الثلاثين من العُمْر.

 

وهذا ما جعَلَ السائقين الأربعة يحملون على عاتقهم همومَ الاتصال بين مَن هم خارج الوطن ومَن هُم داخله، ولم يكنْ هناك طريقة أخرى للتواصُل؛ لأنَّ القانون الثوري، ومعاهدة المقاطعة العربيَّة كانتا تحظرانِ على الناس التواصُل عبْر البريد أو الهاتف أو البرقيَّات؛ مما شكَّل نوعًا من العُزْلة بين الوطن وبين "الأردن"، وهنا كان يبرزُ دورُ السائقين كحاجة لازمة وضروريَّة ومُلِحَّة، ومَن أراد أن يوصِّلَ رسالة إلى الأردن - رسالة شفويَّة - فعليه أن يتَّجِه إلى أحد الأربعة، وكان كلُّ مَن هُم في الخارج مِن طُلاب أو عُمَّال يتواجدون في الفندق الواقع في مُخيَّم الوحدات بالأردن؛ من أجْل الالتقاء بهم، واستلام أخبار الأهل ورسائلهم، أو الأمانات النقديَّة التي كانت تُرْسَلُ من الطرفين إلى الأهْل أو الطلاب، وهذا ما منَحَهم الاحترام والتقدير والتبجيل، فإذا أضفنا أنَّهم كانوا يتمتَّعون بسبب وضْعهم بالدخول إلى أسرار الناس وتفاصيل حياتهم ومعاناتهم، أضفْنا إلى كلِّ ما سَبَقَ هيبة الشخصيَّة التي حافظتْ على كلِّ الأسرار والخصوصيَّات، حتى قَضَى الله -  جلَّ شأنُه - أمرَه بحياتهم.

 

في مقابل منزل "أبو الغياب" منزل "صالح الضميري"، وهو رجلٌ شبه أعرج، عمل كنائب لمدير المخَيَّم، وقد منحَتْه هذه الصفة معرفة كلِّ بيتٍ في المخَيَّم وكل عائلة، حتى المشكلات التي كانتْ تنشبُ بين الجيران بسبب نافذة ستفتحُ أو باب سيغْلَق، كلها كانت بين يَدَيْه؛ لهذا فهو رجلٌ مُخْتلَفٌ عليه، فإنْ نفَّذ مصالح فئة، فهو عندها رجلٌ يستحق الاحترام، وإنْ منَعَه القانون أو العُرْف والتقاليد من تنفيذ المصلحة، فهو مُداهن ومُخَادع وغير مُنْصِف، لكن لم يُعْهَدْ عنه صفة سيِّئة من الناحية الخُلقيَّة، وظلَّ كذلك إلى أنْ أنَهى عملَه وأخذَ جائزته من الأُمم المتحدة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

" 4"

 

مركز الشباب الاجتماعي يحملُ اسمًا متعارَفًا عليه من أهْل المخَيَّم "النادي"، تركتُه حين مررْتُ بالحارة المنسوبة إليه، حارة "النادي"؛ لأهميَّة دوره في المخَيَّم من النواحي الثقافيَّة والاجتماعيَّة والرياضيَّة، فقد كانَ ذا تأثيرٍ قويٍّ في تشكيل العقل تلك الفترة، فضلاً عن أنَّه استطاعَ بفضْل جهود أعضائه أنْ يرسمَ معالِمَ خاصة بالمخَيَّم بين المدن في الضفة الغربيَّة، فأكسبه احترامًا واسعًا، وتعاضدًا جماهيريًّا من أهْل المدن والقرى الموزَّعة على مساحة الوطن كلِّه.

 

مركز الشباب الاجتماعي تأسَّس في فترة مُبَكِّرة من تاريخ المخَيَّم، مثل: مطعم الوكالة، والحمام، والمرفقات التمريضيَّة التي تأسَّستْ؛ لتساند أهالي المخَيَّم على البقاء وإكمال مشوارها اللجوئي بصورة مَقْبولة دوليًّا وعالميًّا، لم يكنْ الهدفُ من إنشاء كلِّ تلك المرفقات التي ما زالتْ تحاكي ببساطتها وتكوينها وخدماتها العصور القديمة، لم يكنْ الهدفُ تطويرَ الناس والمجتمع من قِبَل المجتمع الدولي بقَدْر ما كان الهدف مساندة الاستعمار على تثبيت الناس خارج المنطقة التي اسْتُعْمِرتْ عام ثمانية وأربعين، وغَسْل أيديهم من التفكير في العودة إلى مواطن أحلامهم ورغباتهم، أضفْ إلى ذلك محاولة تحسين صورة النظام الدولي الجديد الذي كان يتشكَّل في تلك الفترة، وغسْل بعض العار الذي لَحِق بالعالم من جرَّاء أحداث فلسطين، وهناك ملاحظة أكثر أهميَّة لم تكنْ مُكْتَشَفة في تلك الفترة، وهي النأْي بالفلسطينيين عن التفكير بالإثْم الهائل الذي مارستْه الأنظمة العربيَّة بتنازلها عن الحقِّ في تحرير فلسطين، بل والمشاركة في تعزيز الهزيمة التي مُنِيَ بها الشعبُ الفلسطيني وتثبيتها، وهذا ما كان يتحدَّث به بعضُ العَجَزة سرًّا بينهم وبين أنفسهم، لكنَّ المثقَّف والثائر الفلسطيني لم يكنْ في تلك الفترة يقبلُ مثل هذه الافتراضات، كانتْ حُمًى العروبة وأسْلَمَة القضيَّة هي المسيطرة على كلِّ جوانحه وآماله وتطلُّعاتِه.

 

ونحن لسنا هنا بصدد دراسة تطوُّر العقْل الفلسطيني ونقْده من الناحية التاريخيَّة والتنظيميَّة، وصلة كلِّ ذلك بملاصقة القضيَّة للعروبة والدول الإسلاميَّة، ولو شِئْنا الغوصَ في هذا الموضوع، لوجدْنا ألفَ ألف مِقْصلة تنتظرُ رأْسَنا هنا، ومليون مليون خازوق ينتظرُ أقْفِيتنا هناك، وهذا ما يدفعُ للحسرة والشعور بالهزيمة أكثر من حسرة الضياع وهزيمة الوطن؛ لأن هذا هو المنهج المتَّبَع الآن للحيلولة بين فَهْم ما نريد وما نودُّ تحقيقَه.

 

المهم، مركز الشباب الاجتماعي بناءٌ بسيط، تبدو على ملامحه خيوطُ الفقر والبؤْس، لكنَّها لا تتشابه مع تلك المتكالبة على البيوت والحارات والأزِقَّة، فهو مبني من الأسمنت والحجر، وأرضُه مصبوبة بالأسمنت أيضًا، وهذا ما لم يحلمْ به أيُّ بيتٍ في المخَيَّم، مساحته ليستْ كبيرة، لكنَّها قياسًا بنشاطات تلك الفترة كانتْ كافية، فيه مصطبة عالية في نهاية ساحته الداخليَّة تعتبر منصَّة الخُطباء ومسرحَ الأطفال أو الفِرَق المسرحيَّة التي تزور المخَيَّم، وعلى هذه المصطبة كانت تُقام مسابقات في الشعر والمعلومات بين مدارس المخَيَّم نفسِه، ومدارس قادمة من القرى والمدن المجاوِرة.

خلف المصطبة غُرفة لتدريب كمال الأجسام، وهي صغيرة جدًّا على هدف مثل هذا، وحتى أدوات التدريب فإنَّها كانتْ أقلَّ بساطة من أن تكونَ قادرة على التأثير في الأجسام التي تأمُل الكثيرَ من التدريب، عند المدخل بالضبط كانتْ غُرفة الإدارة التي أصبحتْ فيما بعد تُنْتَخب انتخابًا؛ من أجْل تقديم خدماتها لفريق كرة القدم الخاص بالنادي، وبعض النشاطات الأخرى.

 

في أيام الطفولة كان النادي محج الرغبات والعقول، والتطلُّعات والأُمْنِيَات، مثلاً: أي مسابقة بين المدارس كانتْ تَدْفع المخَيَّم إلى التواجد في النادي، وكان هناك طاقمٌ يقوم بتنظيم توزُّع الناس وجلوسهم حسب مكانتهم الاجتماعيَّة، وحسب دورهم في المسابقة، وكذلك تنظيم الفصل بين الذكور والإناث، حتى في الخارج كانتْ هناك طواقمُ مِن الشباب تتوزَّع في الطرقات بعد انتهاء الحفل؛ لضمان وصول الفتيات إلى البيوت دون أيِّ مضايقة أو أذًى نفسي.

 

تطور النادي بشكلٍ سريع، فشكَّل فريقًا من كرة القدم، وبدأ برعايته وتدريبه في وقت الفراغ؛ لأنه لم يكنْ هناك لاعبٌ متفرِّغ؛ فجميعُهم يعملون بالبناء أو الحفريَّات؛ أي: بأعمال يمكنُ أن يطلقَ عليها شاقَّة بكلِّ سهولة، ورغم ذلك بذلوا جهودًا جبَّارة تشابه الخيال؛ من أجْل توطيد الفريق وتثبيته، ولو كان هذا الجهْد بدولة مستقلَّة تخدمُ لاعبيها، لكان هذا الفريق هو الفريق الذي سيحصل على كأْس العالم في كلِّ دورة، وهذا ليس للمدح أو المبالغة، بل هو حقيقة صرفَة كنا نراها ونحن أطفال، والآن ندركُها بوعْي المعطيات المنطقيَّة المجرَّدة.

من الصعوبة بمكان لي تحديد الفترة الزمنيَّة التي تشكَّلَ منها أوَّلُ فريق كرة قَدم، وكذلك تحديد صاحب الفكرة والذين باشروا فيها، لكنْ يمكنُ التفكير في إفراد بحثٍ حول النادي، من خلال التواصُل مع إدارته الحاليَّة؛ من أجْل تاريخ الحركة الثقافيَّة والاجتماعيَّة والرياضيَّة له في المستقبل إنْ سمحتِ الظروف بذلك، فالأُمنيات كبيرة، ولكنَّ تحقيقَها يبدو قصيرًا مع قِصَر العُمر والغَرق في تناقضات المأْساة، والمستقبل الذي يبدو قاتمًا أكثرَ من الحاضر.

 

المهم أنه بوعْينا كان هناك فريقُ كرة قدمٍ، يتشكَّل من مجموعة من الشخصيَّات التي كانتْ تؤْمِنُ إيمانًا قطعيًّا بالكرة، فمنحتْ ذاتها له، ومن هذه الشخصيَّات "عارف عوفي"، وهو رجل هادئ، وقور، مُتَّزِن، يعرف ما يريد، ويستطيع توصيلَ ما يريد لِمَن حولَه بسهولة ومهارة، عُرِفَ كأفضل لاعب في الفريق، حتى أُطْلق عليه لقب "بيليه" اللاعب العالمي المعروف، ترأَّسَ إدارة النادي، فأَعْطى وأبدعَ، عُرِفَ طوال أيام حياته بحُسْن الخُلق والتهذيب والتواضُع، لم يُخْتَلَفْ عليه في المخَيَّم من الناس أو اللاعبين أنفسِهم.

 

وهناك "سليمان هلال" الملقَّب "بالجارينجا"، وأنا لا أعرفُ سببَ ذلك اللقب؛ فأنا لستُ من المهتمين بالرياضة منذ الطفولة، ولا أذْكر أنني شاهدتُ مباراة كرة قدمٍ في حياتي حتى يومنا هذا، لكنَّ اللقب كان متصلاً بحادثة أو شيء يخصُّ الرياضة، ولهذا فأنا لا أعرفُ أصلَه وهدفَه، رغم أنَّ اسمَ "سليمان" تلاشَى من العقول وحلَّ محلَّه اللقب، عُرِفَ كحارس مَرْمى، بل كأفضل حارس مَرْمَى في تلك الفترة، ليس في المخَيَّم فقط، بل على مستوى الضفة الغربيَّة، لم يكنْ مؤْذِيًا، لكن المخَيَّم تعامَلَ معه بعد أعوام طويلة بحذرٍ شديد، دون أن نعرفَ سببًا لهذا الحذر.

 

ومن الشخصيَّات الكثيرة التي لن تسعفَني ذاكرتي بذِكْرها كلِّها، وهذا ما أعتذرُ عنه وفاءً لذكراهم وجهودهم التي أثَّرتْ في مستقبل المخَيَّم فيما بعد، هناك "عدنان عيد، والنعمان، والسنو، وسميح رجا"، الذي عُرِفَ بعذوبته وقُدْرته على التواصُل مع كل المتناقضات، دون أن يسيءَ إلى نفسه أو لِمَن تعامَلَ معهم، فكانتْ شهادة المخَيَّم فيه صافية رائقة.

 

شكَّل الفريقُ علامة مميزة لوجْه المخَيَّم وتاريخه في الضفة الغربيَّة، وانتقلَ بعدَها ليشكِّل علامة في الوطن العربي، ومِن ثَمَّ في كثيرٍ من دول العالم، تناوبتْ شخصيَّات كثيرة على الفريق والإدارة، لكنَّ ما يهمُّني هو التأثير الذي أحدثه الفريقُ لاحقًا.

 

مع تقدُّم الزمن تشكَّل في مدينة "طول كرم" نادٍ رياضي باسم: "النادي الثقافي"، وأصبحَ منافِسًا ضعيفًا لمركز الشباب الاجتماعي في المخَيَّم، لكنَّه استطاعَ أن يرفعَ الرماد عن النظرة العُنْصريَّة التي كانتْ تختفي تحت ضغْط مركز الشباب، واستفحال قُدْرات المخَيَّم من الناحيتين: العِلميَّة والاجتماعيَّة، فبدأت موجة عارمة من الاختلاف المصاحب لنظرة عنصريَّة من الجهتين، وهذا ما أدَّى إلى رفْع رُوح التنافُس والعداوة إلى أقصى حدٍّ في تلك الفترة، فالمباراة التي يحددُ تاريخها بين الفريقين، يحددُ أيضًا نوعُ العداء والتمرُّد والعِصيان والمشاجرة، التي كثيرًا ما نَقَلتْ مجموعة من الجمهور إلى المشفَى.

 

المدينة ببلديتِها وشخصيَّاتها الاجتماعيَّة والثريَّة دعمتِ الفريق الرياضي الخاص بها، كانتْ أعظمُ أُمنياتها تحقيقَ نصرٍ على المركز، واستطاعتْ تحقيقَ ذلك مرَّات عديدة، إلا أنَّ المركز ظلَّ هو العلامة المميزة للمدينة والضفة كلِّها في فترة من فتراته.

 

صاحَبَ النموَّ الرياضي في مركز الشباب نموٌّ اجتماعيٌّ، فقد استطاعَ المركز أن يرسي مفهوم العمل والتعاون الجماهيري بين أهل المخَيَّم، وبدأ ذلك بحملات المساعدة في تشييد البيوت التي امْتلكَ أصحابُها بعضَ النقود لتحويل بيوتهم من الصفيح إلى الأسمنت، ولا أريدُ للقارئ أن يفهمَ أنها بيوت إسمنتية عادية، بل مجموعة من الاختلافات والتناقضات التي كانت تنتج عمَّا يُسَمَّى غُرفة أو مَطْبخًا، فهي أشدُّ بؤْسًا من الصفيح، وأكثر خطرًا؛ لأنَّها بغير أعمدة وبغير تموين أسمنتي يضمنُ وقوفَها لفترة من الزمن، وكم مِن بيتٍ انْهَار على أصحابه أو على نفسه أثناء وبعد البناء.

 

تطور الأمرُ إلى نقْل ثقافة النظافة بين الناس بتجنيد مجموعةٍ من الشباب والأطفال لكنْس الأزِقَّة، ونقْل أوساخها إلى المزابل الرئيسيَّة في المدينة، طبعًا من حقِّ القارئ تصوُّر الأرض الترابيَّة التي يتمُّ كَنْسُها، وكَمِّ الغبار الذي يُغَطي الوجوه والأجساد، وينتشر فوق البيوت وفي غُرفها، محاولات كلَّما تذكَّرْتُها، فاضتِ الدموع من عيني رغمًا عنِّي، لكنَّها كانتْ - وبطريقة غريبة لا يُمكن فَهْمُها أو تحليلُها حتى مِن أعْتى علماء النفس والاجتماع - تشعرُنا بآدميَّتنا وإنسانيَّتنا التي اغتالتْها المأْساةُ.

 

أضفْ إلى هذا تنظيف المقبرة من الحشائش الصفراء الملوحة من الموت والشمس، والأشواك التي تنغرزُ في الأقدام شبه الحافية، وتنقيتها من الأوراق وبعض الأوساخ، وأحيانًا زرع بعضِ الأشجار، وكان حفرُ القبور وصناعة الريش التي تغطِّي اللَّحْد كلها من مَهام العمل الاجتماعي المجَّاني الذي أرساه التعاضُد والتآزُر، كلُّ هذه الأمور كانتْ تُرَافق مسيرة المركز، وكانتِ التطورات الحياتيَّة والماديَّة تَدْفَعُ المركزَ إلى تطوير طُرقه وأساليبه، إلى أن دبَّتْ فيه نزعات الحزبيَّة، فتحوَّل المركز إلى ساحة متأجِّجة للصراعات من أجْل السيطرة عليه.

 

يُضاف إلى الأدوار السابقة الدورُ الثقافي الذي وطَّده المركز في نفوس أبناء المخَيَّم، وهو دور يُحْسب له عن جَدَارة، وإذا كانَ لجيلِنا والجيل الذي سبقَنا أن يعترفَ، فإنَّ الأثرَ الثقافي الذي أحدَثه المركز في نفوسنا وثَبَّتَه ووطَّدَه، هو أثرٌ يستحقُّ الاحترامَ والتقدير والإجْلال، وإذا كان علينا أن ننصفَ، فإننا بحاجة أولاً إلى تسجيل حقيقة واضحة وضوح الشمس، وهي أنَّ المركز قد أحدثَ ثوراته كلَّها دون الرجوع أو الانتماء أو التأثُّر بأيِّ تنظيمٍ سياسي فلسطيني، بل كان الدافعُ هو معالجة آثار التهجير التي رافقتْ مَن سكنوا وشكَّلوا المخَيَّم، فليس هناك أيُّ فضلٍ أو تأثيرٍ مَهْمَا دقَّ أو صَغُر لمنظمة التحرير الفلسطينيَّة بأيِّ فصيل من فصائلها في تلك الثورات، والعكس تمامًا هو ما حدَثَ، حين تدخَّلت الفصائليَّة والانتماءات السياسية في تشكيل الإدارات في المركز، هذه التدخُّلات هي التي خلَقَتِ الصراعات بين فئات المخَيَّم؛ فأثْقَلَتْ كاهلَهم بالعداوات والتفْرِقة إلى أنْ أصبحَ المركز بناءً خاويًا من أيِّ قيمة ثقافيَّة أو اجتماعيَّة أو أخلاقيَّة، رغم التطور الذي حصَلَ في البناء، وإضافة بعض الأقسام إلى المبْنى وتوسيعه، حتى وصلَ الأمرُ أحيانًا إلى تسليم الإدارة إلى أُناسٍ لا يعرفون عن جلدة الكتاب أيَّ شيءٍ، بل كانوا شبه أُمِّيين، وهذا ما نَزَلَ بدور المركز إلى حضيض لم نكنْ نتوقَّعه في الأيام الخوالي.

 

أسهمَ مركز الشباب الاجتماعي في نهضة فكريَّة رافقتْ مسيرة الأطفال والشباب والشيوخ، فقد افْتُتِحَ فيه قسمٌ تدريسي لمحو الأُمِّيَّة، وتطوَّعتْ مجموعة من النساء لتعليم الأُمَّهات والبنات اللواتي لم تسعفْهُنَّ الظروف في الانتساب للمدرسة، وكذلك بعضُ المدرسين والشباب مع الرجال، وقد أحدثَ هذا الأمرُ تغييرًا واضحًا في بِنْيَة المخَيَّم واتساع المعرفة فيه بين مَن كانوا أُمِّيين، وهذا ما فَتَحَ أمامَهم عَالَمًا ساعدَهم على التخلُّص من عار الجهْل والأُمِّيَّة الذي رافَقَ تهجيرَهم.

 

وفي أيَّام أخرى كان الشباب المتبرِّع من الجنسين يساعدُ طلابَ المدارس بفَهْم المستغلق عليهم من المنهاج المقرر، وكل ذلك مجَّانيًّا لا رِبْحَ فيه للنادي أو للمتبرِّعين، بل كان الربحُ جماعيًّا، حين ينهضُ الطلاب من قاع المخَيَّم ليصلوا إلى شهادات علميَّة ساهمت إلى حدٍّ بعيد بإحداث ثورة تعليميَّة ونهضوية في البلاد العربيَّة؛ حيث ساهم المثقَّف الفلسطيني في تحديث المجتمعات العربيَّة؛ بما قدَّم من كوادر أكاديميَّة وفنِّيَّة.

لم يكنِ المركز بمنأًى عن الحركة الطلابيَّة التي تتواصَلُ فيما بينها من المخَيَّمات الموزَّعة على امتداد الضفة الغربيَّة، فقد كانتْ تُجْرَى مباريات ومساجلات في الشعر بين مدارس المخَيَّمات، وكان التحضير لها يأخذُ وقتًا وحيِّزًا من إدارة المركز والأهالي، وكانتْ تُقَسَّم الأيام بين الذكور والإناث، وأحيانًا كانت تُجْرَى تلك المناظرات بين الشباب والبنات، وكانت النتائج تدفعُ المخَيَّم الفائز للزهو بطلابه وأساتذته، وبمركز الشباب التابع له الفريق؛ مما كان يدفعُ الجميعَ للتكاتُف والتآلُف؛ من أجْل الفوز ورفْع جَبهة الجميع للأعلى.

 

الجوائز التي كان يحصل عليها الفريقُ الفائز تدلُّ على نوعِ الاهتمامات التي كانتْ سائدة في ذلك الوقت، فهي عبارة عن كتاب لكلِّ مشارك مُرْفَق برسالة شُكْر مِن المدرسة ومركز الشباب، وكانتْ هذه الجائزة تشكِّل محورًا وفخْرًا في حياة مَن فازَ بها، وإذا ما أضفْنا لذلك البُعْد الاجتماعي الذي كان يتفاعلُ مِن خلال اللقاءات الثقافيَّة هذه، أمْكَننا فَهْم التواصُل الذي كانتْ تُحْدِثه الحركة الثقافيَّة في المخَيَّمات الفلسطينيَّة الموزَّعة على مساحات الوطن.

 

والأمر الذي اعْتُبِر مفْخَرة للمركز والمخَيَّم في تلك الفترة النشاطُ الديني الذي احتواه المخَيَّم من خلال مركز الشباب، وهذا الأمر وحدَه يحتاج إلى دراسة مُعَمَّقة وواعية لفَهْم التأثير الديني النقي المواكب للبساطة وللفِطرة في نفوس الناس وقناعاتهم، وما يُمْكنه أن يحدثَ في النفوس من مجموعة الأخلاق والقِيَم التي تتوافق مع ضرورات المجتمع في الوحدة والتلاحُم، وكذلك في اكتشاف القِيمة الحقيقيَّة للوطن، من خلال الْتِصاقها بجوهر الإسلام وتعاليمه.

وكان كمٌّ كبيرٌ من الدُّعاة على مستوى الضفة الغربية يأتون إلى مركز الشباب؛ لإلقاء مواعظَ ومحاضرات تستنهضُ الهِمَم والأخلاق والطموحات، ومن هؤلاء الدُّعاة مَن استُشهد فيما بعدُ، ومنهم مَن أصبح مِن علماء فلسطين، فمثلاً الشهيد "جمال منصور" كان أحدَ المحاضرين في تلك الفترة، وكان يملك أسلوبًا شائقًا ورائعًا في توصيل الفكرة وتنظيمها وتبسيطها إلى كلِّ المستمعين، وكان "حامد البيتاوي" ممن اهتموا بمثْل هذه الأمور كثيرًا، وكذلك "عبدالله نمر درويش" مِن "كفر قاسم"، لكنَّ الحركة الإسلاميَّة تبرَّأتْ منه لاحقًا؛ بسبب مواقفه التي لم تتوافقْ مع مُعْطَيَات الرسالة وتعاليمها.

 

في وقت لاحقٍ أُنشئت مكتبة خاصة بالنادي، لكنَّها جاءت في الوقت الخطأ؛ إذ كانت الفصائليَّة قد تمكَّنتْ من النادي فحوَّلتْه إلى مركز للصراع بين الفئات التي تحاوِلُ - وبكلِّ الطرق الخبيثة - السيطرة على الإدارة، ليس من أجْل تقديم الخدمات، وإنَّما من أجْل إظهار التنظيم، وإخضاع النادي لإرادة سياسيَّة قد لا تتوافَق مع مُعْظم الناس، الذين كانوا يَوَدُّون بقاءَ النادي تحديدًا خارج أيِّ صراعٍ سياسي أو تنظيمي.

 

اليومَ النادي لا يمثِّل شيئًا، بل هو مركز تطاحُن وجهْل وفصائليَّة تريد تسويق فِكْرتها من خلال استقطاب الناس عبر المصلحة إلى شباكِها، وهذا ما يجبُ الانتباه إليه لِمَن يَودُّون دراسة التاريخ الفلسطيني أو المجتمعي في أيام قادمة، قد تكونُ أكثرَ جُرْأة في مواجهة الحقائق من العصر الذي نحيا فيه نحن.

رافَقَ دورَ النادي دورُ المسجد، مسجد المخَيَّم الذي حاولتِ الأوقاف تغييرَ اسمه إلى اسم أحد الصحابة، فشعر المخَيَّم بهُوة سحيقة بين الاسم الجديد والاسم القديم، وإن أخْفوا امتعاضَهم؛ خوفًا من ارتكاب إثمٍ برفْض تغيير الاسم، إلا أنَّهم ظلُّوا حتى يومنا هذا يصرِّحون حين يتحدَّثون باسم مسجد المخَيَّم.

 

للمسجد علامات رائعة وفارقة في نفسي، فيه تربَّيْتُ، وعلى أعتابه خلعتُ نوازعي ونزواتي، تعلَّقْتُ به وبأجوائه منذ الطفولة، وكانت الصلاة فيه تريحُ نفْسي وتمنحُها سكينة لم أعهدْها قبل اتصالي به، وخاصة صلاة الصبح؛ لأنَّ لها مَذَاقًا خاصًّا؛ حيث الهدوء وسكينة الليل يترافقان مع رائحة الطيب الموزَّع بين مسامات السِّجَّاد، مع صوت الشيخ "حمدان" الذي ينفذُ إلى القلب بسهولة وصفاء، فيرفعُها للتحليق بين الخشوع المطلق والذوبان الكامل في حالة التوحُّد مع الآيات، وإذا ما غَابَ الشيخ "حمدان"، كان صوتُ "أبو العبد البلاص" الجَهْوري الرنَّان يقتحمُ النفوسَ فيرفعُها إلى مصاف المتبتِّلين الخاشعين المخلصين، لم يكنْ هناك مَن يستطيع الصمود أمامَ هذين الصوتين، إلا مَن قسَا قلبُه وتحجَّر.

 

المسجد بسيط جدًّا، لكنَّه يمثِّل مَعْلمًا مِن معالم المخَيَّم المهمَّة؛ ففيه كانتْ كلُّ الأشياء الدنيويَّة تتهاوَى، وترتفع الطهارة البِكْر الممزوجة مع الفِطرة، كان الناسُ طيِّبين بطبيعتهم، بسليقتهم، وهذا ما ساعدَ على تتويج العادات والتقاليد بمجموعة من الفضائل التي يمنحُها المسجد للناس.

لي فيه ذكريات طويلة، أهمها: مكتبته التي تأسَّستْ على يدي، فأنا أوَّلُ مَن حفَرَ أساساتها بساعِدَيه مع الشباب الذي كان مستعدًّا ليقدِّمَ كلَّ ما يستطيع مِن جُهْد وعَرَق من أجْل إنْجاز مشروعها، وحين استوت كان أوَّلُ كتاب يدخلها مِنِّي عن رُوح والدي "تفسير القرطبي".

 

في المسجد ترافقتْ أشياءُ كثيرة؛ فقد كان منبرًا للمساجلات الشعريَّة، والمسابقات الدينيَّة، وكان تحفيظُ القرآن الكريم مَنْهجًا أساسًا من مناهجه، وإنْ لم يكنْ بمستوى التحفيظ الكامل، إلا أنَّه استطاعَ أن يجعلَ جيلاً مِن الشباب يحفظُ أغَلبَ الأجزاء، إلى جانب ذلك كانتِ الدروس الدينيَّة التي تلي صلاة العصر أو المغرب، وكان الأستاذ "شريف فرحانة" قد ساهم بشكلٍ كبير في تقديم الدروس، أسلوبه في إلقاء الدرس عذْبٌ ومشوِّق، حتى إننا لم نكنْ نودُّ أن ينتهي، اهتمَّ باللغة العربيَّة وعلومها كمساعد في فَهْم القرآن والسُّنَّة النبويَّة، ومِن ميزاته التي لا تُنْسى أنه كان يحاولُ تلمُّسَ قُدْرات الأطفال، فإنْ وَجَد قدرة في طفلٍ، وضَعَه مكانه؛ ليعطي درسًا للباقين، دون النظر لسِنِّه، وهذا ما حفَّز الأطفال على التنافُس والتسابق في امتلاك قُدْرات إلقاء الدروس، وقد كنتُ أوَّل من تلمَّس الأستاذ به موهبةً، فدفعَني مكانَه؛ ليكسرَ حاجزَ الخجلِ الذي كان يتمكَّن منِّي بصورة ظاهرة، لكنَّه مع الدفْع المتواصِل استطاعَ أن يخلعَ هذا الحاجزَ من جذوره، واحترامًا له انتقلتُ لإلقاء الدروس في مسجد الروضة الواقع على شارع "نابلس طول كرم"، ومِن حُسْن الحظِّ أنَّ إمام هذا المسجد وإن كان كبيرَ السنِّ، إلا أنَّه كان يملكُ رُوحًا رائعة مع الأطفال المقبِلين على اندفاعة الشباب، وسيأْتي يومٌ للكتابة عنه؛ لأنه يستحقُّ أن يبقى اسمُه ما بَقِي فيَّ قدرة على الكتابة؛ وفاءً لإيمانٍ حَمَله، ولروعة خُلقٍ تَحَلَّى به، ولعذوبة في التعامُل مع مَن كان في جيلِنا.

 

لم يتوانَ المسجد عن تقديم الخدمات للناس، فكانتْ حملات النظافة التي يأخذها على عاتقه تشملُ الأزِقَّة والشوارع والحارات كلها، أضفْ إلى ذلك حملات التشجير للأراضي المحيطة بالمخَيَّم، وحواف الأرْصِفة، وحتى بين البيوت وداخلها أحيانًا، كان التشجير هَمًّا من هموم المسجد بشكلٍ ملحوظ؛ لذا فإنَّ صِلة كانتْ تتواصَلُ بين المدرسة وبينه من أجْل هذه المهمَّة.

 

المقابر والاعتناء بها؛ من حيث النظافة وإزالة الأشواك والنباتات الضارَّة، كانتْ تأخذُ من الناس والشباب بشكل خاصٍّ وقتًا طويلاً ومزدحمًا؛ بسبب سَعتها وصعوبة تضاريسها، لكنَّها في النهاية كانتْ تبدو نظيفة ومَهيبة.

 

الجنازات بشكلٍ طبيعي مُرْتبطة بالمسجد، وما يتصلُ بها أيضًا يرتبط بالمسجد، فغُسْلُ الميِّتِ كان مُهمة رجلٍ في المخَيَّم له اتصال بالمسجد، وتكفينه يتمُّ بواسطة نفْس الرجل، والصلاة تتمُّ في المسجد، وحين تخرج الجنازة يخرجُ المسجد برُمَّته معها؛ طلبًا للأجر، والمتعة من الدرس الذي يُلْقَى بعد دَفْن الميِّت على مسامع الناس من الشيخ المرافِق للجنازة.

 

ومن الأمور المهمة في المسجد جمْعُ التبرُّعات من الناس؛ لبناء مساجد في مدنٍ وقرًى مختلفة، وكذلك جمْعُ التبرُّعات لِمَن أُصيبَ بمرضٍ ويحتاج إلى علاج مكلِّف، وكذلك للعائلات المستورة في المخَيَّم وخارج المخَيَّم، وقد تحوَّلت المساجد فيما بعد إلى إنشاء لجنة الزكاة التي طَوَّرتْ نفسَها فأصبحتْ مؤسَّسة قادرةً على متابعة الكثير من الأمور في مجالات مُتعددة؛ من إنشاء المدارس الخاصَّة بالمتفوقين، إلى إنشاء رياض الأطفال بصبغة إسلاميَّة، إلى بناء مشفى في المدينة سُمِّي باسم لجنة الزكاة، حتى جاءت السلطة وأغلقتْ كلَّ تلك المؤسَّسات وغيَّرتْ أسماءَها ومنهجَ عَملِها.

 

بين المدرسة وبين المسجد كانت العلاقة حميمة، فالمدرسون كانوا يحضون الأطفالَ على الصلاة في المسجد بكلِّ ما يملكون من ترغيب وترهيب، حتى إنَّ الأستاذ "أبو جميل الخريشي" - رحمه الله - كان ينتدبُ بعضَ الأطفال كعيون له؛ لمراقبة مَن يصلِّي ومَن لا يصلِّي، وكنَّا كأطفالٍ نرتعدُ خوفًا مِن عدم التواجد في المسجد؛ لأن العقابَ في اليوم التالي يكون فوقَ مستوى الاحتمال.

 

وكما وُجِدَ تواصُل بين المدرسة والمسجد، وُجِدَ أيضًا تواصُل بين النادي وبين المسجد بصورة مؤثِّرة وواضحة، حتى إننا نستطيع أن ندَّعي أنَّ الكثيرَ من النشاطات التي كان النادي يقوم بها - كما أسلفنا - كانتْ بالاتِّفاق مع المسجد، وهذا ما منحَ العملَ الجماعي رُوحًا قادرة على الدفْع والدمْج في الجهود والمآثر.

 

وإذا أردْنا أن نجملَ الجهود التي بُذِلَتْ من المسجد، فإنها التي كانتْ تؤهِّل إلى قيام فترة ذهبيَّة في السبعينيَّات من القرن الماضي، شملت المدينة بمسجدها الجديد الذي كان في تلك الفترة منارةً من منارات العلم التي تجذبُ الشبابَ للتصارُع على خوض غمار لُجَّتِها العارمة؛ حيث انتشرت الكتب في البيوت بشكلٍ لم يسبقْ له مثيلٌ، وانتشرت المكتبات، وتعاظَم استيرادُ الموسوعات التي تهتمُّ بالدِّين والتاريخ والحضارة، واكتظَّت المقاعد لسماع محاضرات المشايخ القادمين من مُدن الضفة الغربيَّة وقُرَاها، وتمازجَت الحركة الثقافيَّة وتزاوجتْ مع كلِّ المدن، بحيث أصبحت الزيارات التبادُليَّة والمسابقات على مستوى المدن بعد أن كانتْ خاصة بالمخَيَّم والمدينة.

 

رافَقَ كلَّ هذا دورُ المدرسة التي كان أغْلبُ مدرسيها مِن سُكَّان المدينة، لكنَّ قُرْبَهم من أطفال المخَيَّم وعائلاتهم أضْفَى على نظرتهم نوعًا من التضامن والتعاضُد مع المأْساة لم يملكْه أهلُ المدينة بصفة عامَّة.

 

التدريس كان قاسيًا وزخمًا قياسًا بالظروف التي كانت سائدة؛ مِن فقرٍ وبؤْسٍ وحِرْمان، لكن المدرسين الذين أدركوا بحسِّهم عُمْق الضربة التي تلقَّاها المهاجرون، حشدوا طاقاتهم وقُدراتهم وقوَّتهم وبطْشهم في هدفٍ واحدٍ، وهو إلزامُ الطلاب بالنجاح رغْمًا عن إرادتهم ومشيئَتِهم، فكانوا نعمَ المدرسون لفترة كانتْ من الممكن أن تنتجَ أجيالاً جاهلة لمدة من الزمن لولا وجودُهم وتأثيرهم.

وقد سنَّت المدرسة مجموعة من القوانين ألزمتها بها ظروفُ الفقر والفاقة، فحلاقة الرأس على الصفر إلزاميَّة؛ حتى لا ينتشر القمل والصئبان في الرؤوس الذي كان منتشرًا أصلاً بين كلِّ أعمار الناس القاطنين في المخَيَّم، وكذلك تقليمُ الأظافر تقليمًا واضحًا؛ حتى لا تتراكم الأوساخُ تحتَها؛ فتنقل الأمراض وتنشرها، وكذلك وجودُ منديل مِن قماش للتمخُّط أو تنشيف اليدين.

 

وكنَّا في كلِّ صباح فورَ قرْعِ جَرْس المدرسة لبَدء اليوم الدراسي، نصطفُّ حسب الصف الدراسي في صفوف تُشبه الاصطفافَ العسكري الإجباري، فلا الْتواء هنا أو نشاز هناك، بل صفوف كحدِّ السيف، وقبل قراءة الفاتحة بصوتٍ جماعي نمدُّ أيدينا بشكلٍ مستقيمٍ كقضيب من الفولاذ أو الحديد، نضعُ المنديل تحت الأصابع الثمانية، ونضغط بالإبهامين عليه؛ ليبقى ثابتًا وواضحًا من بعض أطرافه، ويبدأ المدرسون التفتيش، والويل كل الويل لِمَن كانتْ أظافرُه غير مقلَّمة أو منديله غيرَ مغسول، وحين كان ينتهي التفتيشُ، كنَّا نقرأ الفاتحة بصوتٍ واحدٍ، ثم نبدأ الدخولَ إلى الصفوف بانتظام وحسب الدور المعهود.

 

رافَقَ كلَّ هذا نوعٌ من الإجراءات الوقائيَّة التي كانتْ تتمُّ بين فترة وأخرى، فقد كنَّا نخضعُ قسرًا للرشِّ بنوعٍ من المبيد يُسَمَّى "الدي دي تي"؛ حتى يتمَّ قتْلُ كلِّ الحشرات المنتشرة في أجسادنا من حيث لا ندري، كما كان المسؤول عن الحمام يقدِّمُ تقاريرَ للمدرسة بأسماء الطلاب الذين لا يستحمون فترة من الزمن بالحمَّام الرئيسي الذي سبقَ ذِكْرُه.

في كلِّ صباح كانت المدرسة تقدِّم لنا - وبشكلٍ إجباري - وجْبة إفطارٍ مكوَّنة من اللبنة، وهي مادة تُصْنَع من الحليب بعد تحويله إلى لبنٍ رائبٍ، ومن ثَمَّ يحول اللَّبنُ الرائبُ إلى مادة أشد تماسُكًا في قوامها؛ مما يجعلُها قابلة للدَّهْن على قِطَع الخبز، يرافق هذا شربُ حَبَّة مِن زيت السَّمك، ولكنَّنا كنَّا كأطفال نعاف تناولَ اللبنة أو زيت السمك، وكم مِن مرَّة وقفَ المدير "أنيس" - رحمه الله - ليأكلَ أمامَنا ويشربَ الحبَّة؛ من أجْل أن يُثْبِتَ لنا أنَّ ما نتناولُه يتناولُه هو والمدرسون أيضًا، كنَّا نأكلُ؛ ليس اقتداءً بهم، بل رهبة من مطارق الرُّمَّان والخيزران التي ستلهبُ أقْفيتنا وأقدامنا وأكُفَّنا إنْ رفضْنا.

 

الصفوف كثكناتٍ عسكرية، فلو ألقيتَ إبرة لسمعتَ رنَّتَها، والإخلاص في التدريس سِمة واضحة ومميزة في المدرسين، والواجبات التي كانتْ لا تُحَلُّ تعني نوعًا من عذابٍ قاتل تحتَ زخات العِصي والصفعات، وهذا ما جعلَنا نتوحَّد في إنجاز الواجبات وحَلِّها.

 

كُثُر هم المدرسون الذين عاصرناهم، لكن سأذْكُرُ منهم مدرس اللغة الإنجليزيَّة في الصف السادس الابتدائي، وهو "صادق بشناق" - تغمَّده الله برحمته - فهو مهاجر من "البوسنة"، أقامَ في فلسطين، ملامح أوروبا واضحة عليه وعلى أولاده وبناته، لم يحملْ مطراقًا من رُمَّان أو خيزران، بل كان يتعاملُ مع المؤشِّر الذي يستخدمه للشرْح لما هو مكتوب على الصبورة، وهو طويلٌ ومصقول، ووقوعُه على الرأْس إمَّا أنْ يدفعَ الدماءَ إلى الخارج، أو ينتج نتوءًا على الرأْس يؤْلِم لعدة أيَّام، كان مخلصًا ورائعًا، لم يكنْ يشتمُنا بصيغة المذكَّر، فعندما يودُّ نعتَنا بالكلاب، كان يقول: يا "كلبات"، لم نفهمْ سببَ ذلك، فهو يتْقِنُ العربيَّة بكلِّ أصولِها، لكنَّه بَقِي على ذلك إلى أنْ وافتْه المنيَّة.

 

مدرس العلوم "هشام عبيد"، رائع ورائق، لم يستخدم الضرب كثيرًا، تعلَّق به الأطفال بسبب المختبَر، كنَّا نرى فيه مخترِعًا جبَّارًا أو قوة خفيَّة، وهذا ما جعلَه يستعيض عن العصا بالهيبة، لكنَّه تميَّزَ بعُمْق إدراكه للطفولة، فلم يكنْ يتذمَّرُ من كثرة الأسئلة أو صعوبة الفَهْم لدى الطلاب، أُصيبَ بمرض السرطان، وتوفِّي في سنٍّ مبكِّرة.

 

مدرس الحدادة في القسم الصناعي "أسعد سعادة"، أبيض الرأْس من شدة الشيب، رفيق ورقيق، أحببْنا درْسَه؛ لأنه بغير واجبٍ وبغير حفْظٍ أو جُهْد فكري، دخائنه بغير عقبٍ، لم يكن يرميها إلا بعد أن تلسعَ إصبعيه؛ السبَّابة والإبهام؛ لذلك بَقِي لونهما غارقًا في الصفار المائل إلى البُنِّي، وكذلك شاربُه، وصلَ إلى سنِّ إنهاء الخِدْمة، وماتَ بعد ذلك بوقتٍ قصير.

 

"واصف الجلاد" مدرس التاريخ، كان مريضًا، حيث تَمَّ استئصالُ نصف معدته، أسلوبُه عذْبٌ، يدفعُ إلى الوقوع في حب المادة وتشويقها، كان نحيلاً كثيرًا؛ بسبب مرضه، وفي أواخر أيَّامه بدا الألمُ واضحًا كعذابٍ على محياه، توفِّي تحتَ ضغْط المرض، حزنتِ المدرسة عليه كثيرًا، لكنَّها الأقدارُ التي ترد ولا يُعترضُ على جريانها - رحمه الله رحمة واسعة.

كل مدرسينا كانوا ذَوِي تأثيرٍ علينا، لمسْنَا وفاءَهم للمخَيَّم، للعلم، للأطفال، للناس، كانوا يرددون كثيرًا على مسامعنا: يجب أن تنجحوا، يجب أن تثبتوا لأنفسكم وللناس أنَّكم لستم أولادَ مخَيَّم بالمفهوم الذي يعرفون، عليكم فورَ الانتقال من مدارس الوكالة إلى مدارس الثانويَّة في المدينة أن تكونوا أكثرَ عِلْمًا وتفوقًا عليهم، حين تنتقلون إلى هناك لا بُدَّ وأن تكونوا المتميزين؛ حتى نشعرَ بالراحة ونشعر أننا قدَّمْنا شيئًا لكم، والأهم من ذلك أنَّكم يجبُ أن تدركوا أنه ليس هناك من شيءٍ يمكنُه أن ينتشلَكم من المخَيَّم وتَبِعاته سوى العِلم، العِلم فقط.

 

كلماتُهم كانت تخرجُ من أعماق القلب؛ لذلك بطشوا بنا إنْ تكاسَلْنا بطشًا لا رحمة فيه، واستطاعوا فعْلاً إخراجَنا من دائرة الجهْل إلى دائرة المعرفة، وحين انتقلْنا إلى مدارس الحكومة، كنَّا نلاحظُ الدهشة التي ترتسمُ على وجوه المدرسين من المفاجأة، وهذا ما أسعدَ مدرِّسينا وحتى يومنا هذا.

 

كلُّ هذا تواكَبَ مع النشاطات التي كانت المدرسة تجريها بيننا؛ في المدرسة نفسِها أو مع المدارس الأخرى، فالاعتناء بالحديقة المدرسيَّة كان مهمة واضحة لكلِّ الطلاب بمراقبة المعلمين، وكذلك الاعتناء بنظافة الساحة والصفوف، حتى إننا كنَّا نخرجُ في بعض الأيَّام لكنْس الشوارع في المخَيَّم تحتَ إشراف مجموعة من المدرسين.

 

الرحلات المدرسيَّة إلى مناطق فلسطين كلِّها - وخاصة المناطق الأثَريَّة - متعة من المتَع التي لا تُنْسى؛ فهي تمنحُنا ركوبَ الباصات التي كنَّا لا نركبها إلا لضرورة أو في يوم عيد، كما أنَّها تفتحُ مداركَنا على مساحات من الوطن لم نكنْ نتصوَّر وجودَها أو جمالَها، وهي التي ربطتْنا بدموع المهجَّرين الذين كانوا يبكون وهم يذكرون أسماءَ المناطق دون أن نعرفَ عنها شيئًا، ولكن حين دخلْنا "حيفا، ويافا، وصبارين، وملبس، وغيرها"، أصبحْنا نربطُ الأشخاص بالأماكن، والدموع بالجغرافيا، فتلمسَّنا في سنٍّ مبكرة مساحات الوطن وروعته ووجعَه.

 

ارتبطت المدرسة كغيرها بمركز الشباب الاجتماعي والمسجد، فتداخلتِ الأدوار وتشابكتْ، وزادَ هذا على ذاك، وذاك على هذا؛ حتى أصبحَ العمل الاجتماعي يشكِّل نوعًا من التآخي بين المؤسَّسات كلِّها، وهذا ما ثَبَّت التلاحُم في تنشئة النفْس وتربيتها على ضرورة الاندماج بين مجموعة من الجهود؛ من أجْل النجاح والتقدُّم والعطاء.

 

 

 

 

 

 

 

" 5 "

 

مخيَّمُنا تأسَّس عام، لن أبحثَ في الأعوام؛ فهي لا تعني من الزمن سوى الإحصاء والتحديد، وأنا لا أستطيع ولا أقبل أنْ يكونَ هناك مدًى يحدِّد معنى المخيَّم، لا في الزمان ولا في المكان؛ لأن المأساة، الكارثة، النكبة، بل المآسي، الكوارث، النكبات - أرهقتْ قوانين الزمان، وأحنتْ قامَة المكان، كانت ولا تزال تطاردُ الناس الموزَّعين بين الألم والعذاب، بين الشتات والهجرة، بين التشتيت والتهجير، وما كان مأْساة لجيلٍ وشعبٍ، كان مَلْهاة لأجيال وشعوب، وحين كنَّا نبكي ونصرخ ونهزُّ زوايا الوجود، كانَ الآخرون يبتسمون، يقهقهون ملءَ أشداقهم، وكلَّما كان أَلَمُنا يتعاظَمُ ويكبر، كانتْ فرحتُهم تتوسَّعُ وتتمدَّدُ، كنَّا أصحابَ العذاب المطلق، دون أن يكونَ لنا من أُمَّتنا سندًا يكفكفُ دموعَنا، أو يهدهد آلامَنا.

 

سيقول الكثيرُ: أنني أحملُ على الأُمَّة أكثرَ مما يجبُ، وأنني أجانفُ الحقيقة وأجانبُها، وكأنني بهم يزرعون الرجاء ببُؤَرِ العجز، رغْم أنهم مَن شكَّلوا ووطَّدوا العجزَ ومنابته في أحلامنا التي كانتْ تسافر من بين طيَّات الأرض إلى عدل السماء وعدالتها، كنْا نحن مَن عاشَ الحياة، وحين تفحَّصْنا معنى الحياة، معنى الألَم والعذاب والضَّنْك والقُنوط، عَرَفْنا أنَّها مُسمَّيَات تخرجُ من عَرَقنا، من لهاثنا، من عيوننا التي أرهقتْها حدودٌ حالتْ بيننا وبين أهْلنا؛ من عربٍ ومسلمين، فبكَيْنا مرة أخرى وفُجِعْنا، وكانتْ نكبتُنا بأُمَّتنا أكبرَ من نكبتِنا بوطننا، ولكنَّنا بَقِينا بينهم، بين الناس التي تتحسَّس ألَمَنا وقهْرَنَا وعذابَنا، فاتُّهِمْنا، وسُلِخْنا، وجُزِرْنا، وذُبِحْنا، وكان علينا أن نمدَّ رقابنا للسكين، فيدُ الجزَّار الذي نرى ستعجز عن حزِّ رقبتِنا، هكذا اعتقدنا، لكنَّ الجزَّارَ زوَّد يدَه بقوَّة خفيَّة، وكانت السكين أكثرَ حِدَّة مما توقَّعْنا، فتهاوت الرقاب بين هذا البلد وذاك، وأُجْبِرْنا أن نكونَ أبواقًا لأنظمة، وكان الرفضُ يَعني التشريدَ والتهجير من جديدٍ، وأقدامُنا قد كَلَّتْ، أرهقَها الزحْفُ والركض والمشي بين الصحارِى حينًا، وبين الغابات في حين آخرَ، سلَّمْنا، واستسلمْنا، ازدرتْنا الأيامُ والأنامُ، فتحيرنا بين ما نحن فيه وما كنَّا فيه، وما سنكون عليه، وما زِلْنا حيارى رُبَّما لزمنٍ لا نعلم، ورُبَّما لزمنٍ لا ينتهي، مَن يعلم؟!

 

ولدت هناك في غرفة صغيرة خلف بقالة "المصيعي"، ومقابل حارة "الغانم" على بقعة يفترسها البؤسُ والفقر، كانت القابلة تُدْعَى: "أم هاشم"، رأيتُها حين كبرتُ، وسألتُها: لماذا لم تتركي رباط السُّرَّة فالِتًا؛ لتسيل الدماء كلها وينتهي العمر في اليوم الأوَّل، فينتهي الألم وتنتهي مأساة الفرد؟!

 

أم هاشم - رحمها الله رحمة تليق بما بذلتْ من جُهد - كانت امرأة بيضاء مشربة بحمرة، جميلة رائقة، كشراب الرمان أو خجل الكرز، بين الطول والقِصَر، على ساعديها وقعتُ من رَحم أمِّي، فكانت أول امرأة تحمل طفولتي الخارجة من رَحم الغيب المسطور على لوح الأبديَّة.

 

وحين بدأتُ أتحسَّس المكان والزمان، كنتُ أعشقُ الحياة والوجود، لم أكنْ أعْرف ما ستخرج الأيَّام من مجهولها أمامي، فعرفتُ كطفلٍ يخفق حُلمه بذرات الوجود، كل نقطة من نقاط المخَيَّم، كل منزل وكل بيت، كل سقيفة وكل مزنكية وبيت صفيح، وعرفتُ أزِقَّة المخَيَّم كلَّها، زقاقًا خلف زقاق، والْتواءً خلف الْتواء، حتى البقر والحمير والبِغال والخيول، الخِراف والأبقار والماعز، الكلاب والقطط، ومكامن ابن آوى، ومخافي الضباع، حُفر العقارب وجُحور الأفاعي بكل أنواعها، عرفتُ الأرانب والطيور، وعرفتُ الوجوه التي ما زالت راسخة بذاكرتي بطريقة تُثير الرعب والفزع من ذِكْرَى تهاجمني لحظة ما، أو يومًا غير مرتقب لذِكْرَى.

 

المخَيَّم الذي كان يبدو بعيني الطفل جميلاً جذَّابًا، وبعيني مَن وجدَ في وضع لم يرَ أفضل منه ليعقدَ مقارنة أو يقيم موازنة، هذا المخَيَّم - وبعد نضوج قليل مع أول تفتُّح الشباب - ظهرَ على حقيقته، بدا كوحش ضارٍ يلتهم الأحلام والطموحات، والمشاعر والأحاسيس، دون الاقتراب من جسد الفريسة؛ حتى يبقى الجسد اللوحة المتداخلة التي تظهرُ كلَّ أنواع الوجع والعذاب والقسوة والتلويح التي تسلطه عواملُ مختلطة؛ لإزهاق آدمية الناس واغتيال إنسانيَّتهم، كانت تنقلهم نحو نوعٍ جديد من المخلوقات التي لا نستطيع تسميتها، ولتكون هذه المخلوقات هي الشاهدَ الأزلي على عصر الانحطاط العالمي بكلِّ ما فيه من مبادئ وأخلاق وفلسفات مدَّعاة.

 

حين تقودك قَدماك نحو المخَيَّم من أطرافه جميعًا، تبدو الطبيعة المتوالدة المتشققة من عدم المجهول، وهي تضخُّ الخضرة والنماء والعطاء في الأرض، وفي الأجواء، فالبيارات التي تحاصرُ المخَيَّم من جميع مداخله ترسلُ أريجَها وعبقَها في الأجواء، وتدفع للاعتقاد بأنَّ هذه الأرض في هذا المكان قطعة من قطع الجنة، مزروعة لتكونَ مثلاً على الجزاء الذي يلقاه المؤمنُ يوم القيامة، ولكن ما أن تدلف قدمُك أول زُقاق من أيِّ اتجاه، حتى تنقلب الصورة تمامًا انقلابًا يخلعُ المتعة السابقة من جذورها؛ ليرسي مكانها أنَّ القطعة الموجودة في أول خطوة من الزقاق هي بداية جهنَّم التي تستعدُّ لاستقبال العُصاة والمارقين.

 

لكننا لسنا عُصاة أو مارقين، وليست هي قطعة من جهنَّم، بل هو مخَيَّم "طول كرم" المنزوع من ذاكرة الزمن ليبقى في ذاكرة المكان.

 

الطرقات والأزِقَّة كلُّها غير مرصوفة، والبيوت تتشابه مع شكل الطرقات؛ حتى إنك أحيانًا لا تستطيع التفريق بين مدخل بيت من البيوت أو استمرار الزقاق، الغبار والشمس يجتاحُ التفاصيل كلَّها في فصل الصيف، بحيث يكون من المستحيل - وأنا أعني المستحيل بعينه - أن تضمنَ بيتًا نظيفًا أو جسدًا لم يتحوَّل إلى مادة قاسية بفعل التمازج بين العَرَق والغبار، كانت الأُمَّهات يعانين معاناة شديدة وهنَّ يقلبْنَ الأرضَ بمكانسَ من قَشٍّ مجموع من السهول لحظة خلف لحظة، كُنَّ يخضْنَ حربًا ضارية بين شعورهنَّ بضرورة النظافة وبين استحالة ذلك، لكنَّهُنَّ لم يستسلمْنَ وواصَلْنَ المعركة دون تقديم أيِّ تنازل للطبيعة والشمس والرياح المحمَّلَة بالغبار، حتى إنَّ الكثير منهُنَّ قضيْنَ ورحَلْنَ وهنَّ يخضْنَ المعركة حتى اللحظات الأخيرة.

 

البيوت من الداخل أيضًا حارات مكشوفة، فليس هناك منزل واحد أرضُه مرصوفة بالأسمنت، كلُّ الناس كانت تفترشُ الأرض، وكان الفراش متواضعًا إلى حدٍّ لو عُرِضَ اليوم على حيوان لرفضه وتقزَّزَ منه، وكان على الأُمَّهات وبشكلٍ يومي نفْضُ التراب والغبار عن الفرشات أكثر من مرَّة، ليضاف إلى المعركة التي يخضْنَها عنصرٌ من العناصر الجديدة، المرهقة والصعبة، والتي كانت تدفع إلى تشكيل ملامحِ الشقاء والبؤْس على وجوههنَّ.

 

الصيف كان ثقيلاً جدًّا؛ فالمدينة قريبة من البحر؛ لذلك كانت الرطوبة عالية جدًّا، وكانت تتمازج مع الغبار في كلِّ شيء، فإذا ما عَرَف القارئ أنَّ منازلَ المخَيَّم لم تكنْ تحوي أيَّ صنبور للمياه، أو أيَّ بيت خلاء، عندها تقتربُ الصورة للاكتمال، فصنابير المياه كانت عامَّة وموزَّعة بين الحارات، وكان على الأُمِّ أو الأخت أنْ تحملَ فوق رأْسها "سخَّانًا" من الصاج مع بعض الأواني اليدويَّة، وتذهب إلى أقرب صنبور مياه؛ لتأخذ دورًا بين النساء اللاتي سبقْنَها، تعود لتفرغَ حمولتها، وتصطف على دور جديدٍ، وكم من خلاف ومعركة نشبتْ بين النساء؛ من ضيق الخلق، وعذاب الشمس، وخدوش الغُبار، حتى إنَّ بعض المعارك كانت تأخذ شكلاً آخرَ إذا ما تدخَّلَ الرجال فيها.

 

المياه المجلوبة كانتْ لكلِّ الاستعمالات؛ للحمَّام والطبخ والغسيل، وإسقاء الحيوانات والطيور، ورَشِّ التراب داخل المنازل وأمامها؛ لمنع التراب من التطايُر والتوزُّع بين البيوت وداخلها.

 

ولأنَّ المخَيَّم لا يملك أيَّ طاقة حراريَّة، كان على الرجال والنساء أن يحتطبوا أو يلملموا بقايا الأغصان والأشجار من السهول والجبال، وأحيانًا جمْع الملابس التالفة والأحذية التي لو اجتمع إسكافيو العالم بكلِّ خبراتهم، فإنهم سيُدْهَشون إن عرَفوا أنَّ القطعة التي يفحصون هي مِن أصل حِذاءٍ.

 

كل هذه الأشياء كانتْ تجمع؛ من أجل إيقاد النيران للطبخ والغسل، وغلي ماء الاستحمام، الدُّخَان كان في كلِّ لحظة ينتشر من أماكن متفرِّقة من المخَيَّم، فإذا ما توقَّفتْ نار بهذا المنزل، بدأتْ نار بذاك، وهذا ما جعلَ روائحَ الدُّخَان بكل نوعيَّاتها معهودة ومميَّزة ومفروزة بالنسبة للسكان، وهو ما يؤكِّد ظهور ملكات خاصة يخلقُها الواقع المعيش.

 

ولأنَّ المخَيَّم يقعُ على حواف البيارات والجبال والسهول غير المطروقة أو المأهولة، كانت الأفاعي والعقارب والضباع وابن آوى - قريبة من سكان المخَيَّم بشكلٍ دائمٍ، فلم يكنْ مستهجنًا أن تسمعَ بين يومٍ وآخرَ بوفاة فردٍ من لدغة أفْعَى أو عقرب، أو من مهاجمة الضباع.

 

الشتاء حالة عذاب من نوع آخرَ؛ فالبيوت كلُّها لا تملك أسطحًا تحميها من تدفُّق المياه إلى الغُرف، أو ما نحن مضطرون إلى تسميته غُرفًا؛ فقد كان لزامًا على كلِّ منزل أن يقتني مجموعة من الأواني البلاستيكيَّة والصفيحيَّة لتوضع هنا وهناك بالغُرف؛ حتى تحتوي المياه المتسرِّبة من شقوق الأسطح، ومن ثَمَّ تفريغها وإعادتها إلى مكانها، وكان البردُ يقتحمُ الأجساد بطريقة تُرجِف الجسدَ، وتتمكَّن من نخْر العِظَام والأعصاب، لتبدو الزُّرْقة على الشفاه والملامح كعلامة لازمة لجسد فقَدَ قُدْرته على المقاومة، وبسبب الفقر كان الناس يوقدون أغصانَ الشجر أو الفحْم إن تيسَّر، ونوى الزيتون المتكوِّن كناتج للعَصر، وقد كان يُسَمَّى "الجفت"، وكم من عائلة فقدتْ أولادَها بسبب البرد أو التفحُّم.

 

الخير في تلك الأيَّام من المطر كان يشكِّل نوعًا من العناء المُمِضِّ للناس، فقد كان الله يمنُّ علينا بمطرٍ متواصلٍ لعِدَّة أيَّام متتالية، مطر غزير لا يتوقَّف لمدة أسبوع كاملٍ، يجعل المخَيَّم بأزِقَّته الضيِّقة المنحدرة أنهارًا صغيرة تفيض على الشارع الرئيسي، فتحوِّله إلى نهرٍ يحتاج خوضُه إلى حذرٍ شديدٍ، وحين كنَّا نمرُّ من الزقاق كانتْ حواف السقوف الصفيحيَّة تغمرُنا بالمياه، فكنَّا نلتفُّ هنا وهنا بشكلٍ سريع؛ اتِّقاءً للمياه السائلة علينا، ولكن دون جدوى؛ فالمياه كانت تحتوي على أوساخ الصيف المتجمِّعة والمتراكِمة، وكذلك على الصدأ الذي يتحلَّل بفِعْل تواصُل المطر، وعلى الأرض كنَّا نغوصُ في الوحل حتى جوزة القدم، وكانتْ حركات القَدَمين الصعبة تناثر الوحْل حتى الرَّبلَتَيْن وما فوق، وكان مشهدُ الناس وهم يعتلون الأسطح لينشروا قِطَع البلاستيك؛ حتى تحميهم من تدفُّق المياه إلى الداخل - منظرًا مأْلوفًا، رغم ما فيه من عذاب ومن قَسْوة.

 

لكنَّ المطرَ رغم كل تأثيره الصعب على الحياة، فإنه يقدِّم خِدْمة هامَّة، فالمياه متوفِّرة بشكلٍ دائمٍ، فلا داعي لخروج الأُمَّهات والبنات إلى صنبور المياه الرئيسي في الحارات، فالسطول والأواني كلُّها تُمْلأُ من ماء المطر، وأهم ما كنَّا نسمعه من الأهل: أن الشاي المُعَد مِن ماء المطر لا يضاهيه شاي على الأرض، وكذلك الطبخُ المُعَد مِن ماء المطر هو طبخٌ لا يمكن إعدادُ مثله من ماء الصنابير العاديَّة، وحين امتلكْنا بابورًا يعمل على الكاز، وتخلَّيْنا عن النار بشكلٍ جُزْئي، كان الأهل يحنّون إلى الشاي والطبخ المُعَد على الحَطَب.

 

لم نكنْ نملك - كأطفال - أحذية تتناسب مع الصيف أو الشتاء، وجلُّ ما كان بين أيدينا صندل من البلاستيك للصيف، وحذاء من البلاستيك للصيف والشتاء، فالحذاء إذا اضطررنا للبسه في الصيف لأيِّ ظرف من الظروف، فإنه يتحوَّل إلى فُرنٍ صغير ملتصق بالقدَم، يشويه بتؤَدَة وبُطْء، وحين كنَّا نخلعُه؛ لتمرَّ النسمات الحارة من فوق القدَم، كنَّا نشعرُ بالغنيمة التي تقدِّمها لنا الحياة جرَّاء خَلْعه، وفي الشتاء كان يتحوَّل إلى مُجمِّد يجمِّد أقدامَنا، ويصدر ضراطًا متواصلاً مع رفْع القَدَم وخفضِها؛ لأنَّ القدمَ كانتْ تغوص في الوحل، فيمسك الوحلُ الحذاءَ، ومع رفْع القدم للانتقال إلى الخطوة الثانية، كانت القدمُ ترتفع، وحين نضغط للخطوة الثانية يتفاعلُ الوحْل مع الحذاء مع الماء، فيكون بذلك صوته وصوت الضراط واحدًا؛ مما كان يدفعنا للنظر حولنا حتى لا يظنَّ ظانٌّ أنَّ الضراط خارج من المؤخِّرة، الأمر الذي يشكِّل نوعًا من الخِزي والخَجَل.

لم يكن الأطفال بمنأًى عن عذاب البرد والقَيظ، فثيابُهم لا تصلحُ للصيف أو الشتاء كما الكبار، ولأن مقاومتهم للمرض كانتْ بسيطة ومحدودة، فإنَّ تعرُّضَهم للأمراض المنتشرة كان أكثر من الكبار، فقد كانتْ أمراض "الجُدَري والتيفوئيد، والسل والملاريا"، منتشرة بشكلٍ واسع، وكان تساقطُ الأطفال يشكِّل حَدَثًا يوميًّا وكأنه ضرورة من ضرورات الحياة في المخَيَّم، عائلتي وحدَها فقَدَتْ أخواتي: سهيلة وخالدية وميسون وصفاء، وإخوتي: باسمًا وقاسمًا ومحمدًا، وعلى هذا الأساس من الفقْد يمكنُ وضْع قياس واضحٍ لِكَمِّ الأطفال الذين فُقدوا في المخَيَّم بسبب الأمراض، ويمكن من خلال ذلك إضافة نوعٍ من عذاب لا يرحمُ كان يهاجم الناس؛ كي يُكملَ الحلقة التي كانت تضغطُ على النفوس والأعصاب، وكي تجعلَ من الوجع رحلة ترافِق كلَّ سنين عمرهم المتبقِّيَة.

نوع من عذاب آخرَ لا يعرفه الكثير من الناس، وهو بيوت الخَلاء، فليس هناك منزل واحد في المخَيَّم كان يحتوي على بيت خلاء، بل كانتْ كلها عامَّة موزَّعة بين الحارات، كل حارة لها بيت خلاء واحد، وكان يقعُ في منتصف الحارة بشكلٍ عام، غير مزوَّد بماء أو إضاءةٍ أو أبواب، وكان مِن المناظر المعهودة أنْ ترى الناس حاملين أباريق الماء ومتَّجهين نحو المرحاض، وكان من الطبيعي أيضًا أن تسمعَ مَن بالمرحاض وهو يتنحنحُ بشكلٍ متواصلٍ؛ كي يعرفَ القادم أنَّ هناك شخصًا يقضي حاجته، ولم يكنْ مستغربًا أن تجدَ أكثر من شخص يقفون بانتظار الدور ورُوحهم في حلوقهم؛ من شدة ضغط الحاجة عليهم، وإنْ كان للشتاء عذابُ برده للشخص المقرفص لقضاء حاجته، وهو عذاب لا يُوصَف؛ لأنه يؤثِّر وبشكلٍ كاملٍ على سرعة قضاء الحاجة، فإنه أقل تأثيرًا من عذاب الصيف الذي ينشر الروائح إلى مسافات بعيدة.

أصعبُ الأمور كانت تواجه الناس حين كانت الأُمُّ أو الأخت تودُّ قضاء حاجتها؛ سواء في الليل أو النهار، فلا بدَّ من مصاحبة الأخ أو الزوج لها؛ لينتظر باب المرحاض في البرد والقَيظ حتى تنهي حاجتها؛ لأنَّ دخول شخص بشكلٍ مفاجئ قد يقودُ إلى معركة يسقط فيها قتيلاً، وهذا لأنَّ النساء ممنوعة من التنحنح أثناء قضاء الحاجة.

وبعد أعوام وحين رافَقَ المخَيَّم بعضُ التطور، أقام الناس مراحيضهم داخل منازلهم دون ماء أو كهرباء أيضًا، وكانت الفضلات تخرجُ إلى قنوات مفتوحة في الطرقات والأزِقَّة، وقد أدَّى هذا الأمر إلى تفشِّي الأمراض بسرعة في المخَيَّم؛ حيث كان الأطفال يلعبون بمجاري القنوات دون أن يعرفوا الضررَ الناتج عن ذلك.

تقدَّم المخَيَّم قليلاً، فحفروا حُفَرًا امتصاصيَّة للمراحيض، وهذا ما ساعَدَ على تخفيف العِبء عن الناس، وشكَّلَ هذا حدثًا خارقًا للعادة في وقته؛ حيث كان حديثُ الناس بصورة واضحة ومبالَغ فيها، كما كان حديثُ العالم يوم الصعود إلى القمر.

في المخَيَّم ثلاث مقالب للنفايات "مزابل" رئيسيَّة، ومجموعة متفرقة فرعيَّة؛ الأولى كانتْ موازية لمنزل "أبو حسين المسكاوي" الذي مرَّ ذِكْرُه، وبالتحديد خلف حارة "الشيخ علي" وهي ضخْمة؛ حيث يتمُّ جمع النفايات من الحارات القريبة ووضْعها فيها لعدة أيَّام قبل حَرْقِها، وللقارئ أن يتخيَّل نوعَ القمامة التي تصدرُ عن فقْرٍ كالذي كان المخَيَّم فيه، ثم نوع الروائح المنتشرة في أجواء المخَيَّم قبل الحرْق، وحجم الجرذان التي تستوطن المكان لتقتاتَ منه، وله أن يتخيَّل الرائحة الناتجة عن الحرْق في نهاية الأسبوع.

سوق الحرامية - الذي مرَّ ذِكْرُه - كان قبل تحوُّلِه إلى سوق مقلبًا للنفايات أيضًا، وكذلك المساحة المقابلة لمدارس الوكالة.

ومن الطريف تسجيل حدثٍ غير عاديٍّ حول مقالب النفاية وما أنتجتْ، فقد كان المخَيَّم يعجُّ بالقطط إلى حد أنها كانتْ تشاهَد في كل مكان وفي كل وقتٍ، ورغم العراك الهائل الذي كان يدور بين الأهالي وبينها؛ بسبب السطو على الأرانب والزغاليل وغيرها، إلا أنها كانتْ عاملاً مساعدًا في تصفية الفئران من البيوت والساحات، وظلَّ الناس يحتفظون لها بهذا الجميل بامتنان كبير، إلى أن حَدَث تحوُّلٌ أثارَ دَهْشة الناس ودهشة القطط.

مع الزمن تحوَّلت الفئران إلى جرذان ضخْمة، وأصبحَ حجْمُها أكبر من حجْم القطط بكثير؛ فموارد تغْذِيتها ثابتة وخصبة، وأسباب تسمينها متوافرة، فإنْ حُرِقت المزبلة هنا، فإنَّ هناك المزابل الفرعيَّة، وهكذا بقي مورد غذائها ثابتًا، مما حوَّلها إلى صاحبة نفوذ وقوَّة، الأمر الذي قلبَ المشهد بشكلٍ كامل، ما تعوَّدنا عليه من هروب الفئران خوفًا وهلعًا من القطط أصبحَ عكسيًّا، فقطعان الجرذان تحوَّلتْ إلى قوَّة تهددُ القطط ووجودها؛ حيث أصبحَ من المعتاد رؤية القط مولِّيًّا الأدبار من الجرذان كجبانٍ أُعْطي فرصة الهرب والفرار، وتأثَّرتْ بسبب ذلك موارد رِزقها، فقلَّ عددُها بشكل لافتٍ، وحين أصبحت الجرذان تقتحم البيوتَ وتهاجِم الأطفال، كان لا بدَّ من إيجاد حلٍّ لها، فوزَّعتْ وكالة الغوث نوعًا من السموم على الأهالي الذين بدأوا بنشره بين الأزِقَّة والمزابل وعلى امتداد المخَيَّم، وبالتدريج بدأ عددُ الجرذان يقلُّ، ومعه يقلُّ عددُ القطط، حتى إنَّ بعض الكلاب وبعض الطيور الداجنة تأثَّرت بالسم؛ مما شكَّل نوعًا من الحيرة بين إكمال التعاطي معه أو لا، ولكنَّ الناسَ لم يملكوا الخيار فاستمروا، وكان الأمر اللافت للنظر، والذي شاعَ بين الناس أن الجرذان تتمتَّع بذكاء، فقد أدركتْ أنها تتعرَّض لهجوم شرسٍ من أجل إفنائها؛ لذلك فقد أخذتْ تتعاملُ مع الموضوع بحرص شديد، وقد أكَّد هذا الأمرَ التناقصُ الكبير في عدد القطط وغيرها، أمَّا الجرذان فلم يكن تناقصها بعد فترة من استخدام السموم يتشابه مع غيره، وهذا ما حدا بوكالة الغوث إلى تغيير لون السُّمِّ بين فترة وأخرى، لكن الجرذان بَقِيَتْ حتى يوم خروجي من المخَيَّم تتمتَّع بصمود قويٍّ أمام الحرب المشنة عليها.

المخَيَّم ما زال مكانه هناك؛ حيث الزمن، وحيث الأشياء، ما زال ينتظر مصيرًا مجهولاً كما تكوَّن بظروف كانتْ قبل تكوُّنه مجهولةً.

لكنَّه اليومَ يقفُ على عتبات تحول أكبر منه ومن حَجْمه وتاريخه، رُبَّما تقودُ إلى أحداث وأشياءَ لا يمكن للعقل تصوُّرها أو توقعها، لكن ما لم يتوقَّعه العقلُ ويتصوَّره قبل تكوُّنِ المخَيَّم أصبح اسمُه: "مخَيَّم طول كرم".

التحول القادم سيكون أكثر إيلامًا ووجعًا وعذابًا للمكان والزمان، والناس الذين يقطنون المخَيَّم انتظارًا لخلاص كانوا يتوقَّعونه فيما مَضَى، لكنَّهم اليومَ مرعوبون من قُدومه؛ لأنهم أصبحوا بحُكْم التجرِبة والزمن يعرفون كيف أنهم يُقدَّمون قُربانًا للغول الذي كانت أسطورة الجدات ترويه كترويعٍ أسطوري لطفولتنا المتوقِّفة عند تلك اللحظةِ من الروايات.

 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف