الأخبار
2025/7/3
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

عطاء الحياة أعلى مراتب العطاء

تاريخ النشر : 2023-07-20
عطاء الحياة أعلى مراتب العطاء

بقلم: الدكتور فيليب سالم

(نص كلمة في حفل تخريج أطباء في بيروت)

تعود بي الذاكرة إلى اليوم الأول الذي دخلت فيه كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت. كان ذلك منذ ثلاث وستين سنة. يومها لم أكن اعرف شيئا عن هذه الطريق الذي سأسلكها والى اين ستأخذني. كل ما اعرفه أنني كنت قد وعدت والدتي بان ادرس الطب لأعالجها، حيث كانت تشكو من آلام كبيرة نتيجة وجود حصى في الكلى. يومها كانت والدتي العالم كله بالنسبة لي. كان العالم يبدأ عند قدميها وينتهي هناك. كنت طفلا في أحلامي. وكان والدي يعظنا كل يوم ويردد: اذا كنت قديرا في العلم تدرس الطب؛ وان لم تكن على مستوى هذا التحدي؛ تدرس الهندسة؛ وان لم تكن سعيد الحظ عندذاك يمكنك دراسة المحاماة. هذه كانت التراتبية في العلم عنده. تراتبية واضحة المعالم. وكان والدي يعتقد ان الله يستجيب دائما لصلواته، فأعطاه في أولاده أطباء ومهندسين ومحامين. وكم فخور انا لأنني ابن هذا الاب وابن هذه الام. وكم فخور أيضا لأنني ولدت في لبنان. وأود في هذا اليوم ان انحني امام امي وابي اللذان يرقدان في الأرض على رجاء القيامة. اقبلهما، وأقول لهما، انني ما زلت على عهدي، وما زلت اطلب رضاهما صباح كل يوم.

منذ ثمانيةٍ وخمسين عامًا كُنْتُ متخرجا أُنتظرُ استلامَ شهادتي. منذُ ذلك اليّومِ إلى يومِنا هذا كانَتْ رِحلةٌ طويلةٌ امتزجَ فيها الفرحُ معَ الألم كما امتزجَ فيها النجاحُ معَ الفشل. بَدأتُ رِحلتي مع الأمراضِ السرطانية في مدينة نيويورك إذ التحقتُ في سنة 1968 بمؤسسة Memorial Sloan Kettering Cancer Center. وبعدَ ثلاثِ سَنَوات وفي سنة 1971 عُدْتُ إلى بيروت والتحقتَ بالجامعةِ الأميركية وكُنْتُ أوّلَ أستاذٍ متفرّغٍ لعلمِ السرطان ومعالجةِ الأمراضِ السرطانيةِ فيها.

لقد جئْتُ اليومَ لا لأسديَ المتخرجين النّصح، بل لأُخبِرَكم بما تَعلَّمْتُهُ من النجاحِ ومِنَ الفشل، لَعلَّ في ذلكَ ما يُضيئُ الطريقُ أمامَكُم. لقد تَعَلّمْتُ أنَّ المعرفةَ هي القوّةُ التي تُحرِّرُنا من العبودية فليسَ ثَمّةَ عبودِيةُ أشدُّ وأدهى من عبوديِة الجهل. فلا تقل "من علّمني حرفًا صِرْتُ له عبدًا" بل قُلْ من علّمني حرفًا أعتقني من عبوديتي. فليسَ هناك من قوّةٍ تفكِّكُ السلاسلَ التي تُقيدِكُم كالمعرفة. وجِئْتُ لأقولَ إنَهُ كلّما غُصْتُم عُمقًا في المعرفة كُلّما اقتربتُم مِنَ الله. وكلّمنا اقتربْتُم مِنَ الله كلّما أصبحتُم واحدًا، وزالَتِ الحدودُ التي تُفرّقُكم. لِذا كانَ عنوانُ كتابٍ من كتبي "المعرفةُ تَقودُكَ إلى الله".

وتَعلّمتُ أنَّ الطِبَّ ليسَ مِهنةً مثلَ المِهَنِ الأُخرى. إنَّهُ الرسالةُ التي تَعلو فوقَ كلّ الرِسالات. في هذهِ الرسالةِ يَرتفعُ الطبيبُ إلى أعلى ما يُمكنُ أن يَرتفعَ اليهِ الإنسان. يرتفعُ إلى ما فوقَ الجغرافيةِ والسياسةِ والدينِ والأيديولوجيةِ والفلسفة. يَرتفعُ إلى الإنسان. في الطِبّ يرتفعُ الطبيبُ أيضًا إلى ما فوقَ الشُهرةِ والقوةِ والنفوذِ والمال، يَرتفعُ إلى أرقى مراتبِ العَظَمة، إلى الرسوليّة. أما المريضُ فهو ليس زُبونًا كما يعتبرونَهُ في لبنان والعالم والعربي وهوَ ليسَ مستهلِكًا للعنايةِ الطبّيةِ كما يَعتبرونَه في الغرب. وكذلك فهوَ ليسَ شخصًا مسيحيًا أو مُسلِمًا، غنيًا أو فقيرًا. وليس شخصًا ذا سلطةٍ ونفوذْ أو شخصًا مُعْدَمًا. إنه إنسانٌ، فيه شيءٌ مِنَ الله.

قد يَكونُ المريضُ إنسانًا ضعيفًا لكنّهُ انسانٌ لهُ كرامتُه. وقد يكونُ إنسانًا مهزومًا لكنَه إنسانٌ يستحق كلَّ المحبة. فليسَ هُناكَ مَن يَحتاجُ إلى المحبةِ والحنانِ والكرامةِ كالمريض. وعلينا أنْ نتذكّرَ نحنُ الأطباءَ أنَّ هذا المهزومَ أمامَنا، يَقِفُ وراءَهُ أبٌ وأمٌ، إخوةٌ وأخوات، أصدقاءُ وأقرباءُ يُحبّونَه. فتعالَوا نَغمُرْهُ نحنُ بالمحبةِ أيضًا. لقد تَعلّمَتُ أنَّ الطبيبَ الذي لا يُحِبُّ مريضَه لا يُمْكِنُه شِفاؤُه. فالمحبَّةُ هي الرابطُ المقدَّسُ بين الطبيبِ والمريض وهيَ القوةُ التي تَصهَرُهما معًا. المحبّةُ تَرفَعُكَ دائمًا إلى فوق. "المحبةُ لا تَسقطُ أبدًا".

وأوَدُّ أَن أُذَكّرَكُمْ أنَّ اللهَ أعطاكُم فرصةً لم يُعطِها لِغيرِكم. لقد أعطاكُم فرصةً لِلعطاء. فرصةً لاعطاءِ الحياة. كثيرون تَكلَّمُوا عنِ العطاء. فجميلٌ أن تُعطيَ من مالِكَ، وأجملُ منهُ أنْ تُعطِيَ من نفْسِك، ولكن أعلى مراتبِ العطاءِ هُو عطاءُ الحياة. وإنّهُ لَشَرَفٌ عظيمٌ أنْ تَمتَلِكُوا بيدِكُم القوّةَ لإعطاءِ الإنسانِ حياةً. وهنا لا بُدّ أن نَتذكّرَ أنَّ أهمّ حقٍ للإنسان ليس الحقَّ في الحريِة أو الحقَّ في التعلُّمِ أو الحقَّ في اختيارِ الدين بل هو الحقُّ في أن يحيا. ولا يمكن إعطاءُ الإنسانِ الحقّ في الحياة دون إِعطائه الحقَّ في الصحة. لِذلكَ قُلْنا ونُكرّرُ إنَّ شرعةَ حقوقِ الإنسان يجبُ أن تُعدَّلَ ويَجبُ أن نَجعلَ أهَمَّ حقٍ للإنسانِ فيها هو الحقُّ في الحياة. لقد تَعلَّمّنا مِنَ العلمِ أنَّ كلَّ وثيقةٍ لا تَخضعُ للتطويرِ والتقييمِ والتغييرِ تَتجمَّدُ في التاريخ ثمَّ تَذبلُ وتَموت. يجب أن يَحيا الإنسانُ أوّلاً حتَّى يَتمكّنَ مِنْ أنّ يُمارِسَ الحقوقَ التقليدية التي جاءَتْ في هذهِ الشِرْعَة.

وقد يكونُ أهَمُّ ما تَعلّمُتُه في هذِه الرِحلةِ هو التواضع. وكيف لا تكون مُتواضعًا أمامَ هيبةِ المعرفة؟ هذهِ المعرفةِ التي تَسبَقُكَ إلى الأمامِ كلَّ يوم وتُشعِرُك بالتقهقرِ إلى الخلفِ كلَّ يوم. وَكَيف لا تَكونُ مُتواضعًا أمام هيبةِ الألمِ والعذابِ والمعاناة؟ وكيف لا تَكونُ متواضعًا أمام شجاعةِ هؤلاءِ المرضى الذينَ يواجهونَ الموت؟

وتَعلّمْتُ أيضًا أنَّ السعادةَ هيَ غيرُ ما كُنْتُ أَعتقدُ عندما كُنْتُ مِثْلَكُم. يومذاك كُنْتُ أَعتقدُ أنَّ السعادةَ هيَ النجاح، ولكنني عَرَفْتُ الكثيرينَ مِنَ الذينَ تمكّنُوا من الوصولِ إلى القمَّةِ في عَمَلِهِم أو القِمَّةَ في النفوذِ والشهرةِ إلاّ أنَّهم لم يَتمكّنُوا من الوصولِ إلى السعادة. فالسعادة في رأيي ليست سُلّمًا خارجيًا تَصَعَدُهُ دَرَجَةً دَرَجَة، وتزدادُ قوةً وشأنًا، بل هُوَ سُلَّمٌ داخليٌ في أعماقِكَ لا يراه أحدٌ غَيرُك، تَمتزِجُ فيهِ الحقيقةُ مع الصورةِ حتى يتطابقا. عندئذٍ تَصِلُ إلى أَعلى قِمَّةٍ يُمكِنُ أن تَصِلَ اليها. تَصِلَ إلى سلامٍ واحترامٍ في داخِلِكَ، بينَكَ وبينَ نفسِك. وتَعلمُ أنَّكَ وَصلْتَ، عندما تَحترمُ الشخصَ الذي تَراهُ في المرآةِ صباحَ كلِّ يوم.

وتَذكّرُوا أنّكُم تَعيشونَ في بَلَدٍ تُقاسُ فيهِ النساء والرجالُ بالألقابِ والمراكزِ والمال، كما يُقاسونَ بانتماءاتِهِمِ الدينيةِ والسياسيةِ والطائفيةِ وقَلَّما يُقاسون بِقُدرتِهِمْ على العطاء وبقُدرَتِهِمْ على صُنْع المُستقبل. فإياكُمْ أن تَنحدِرُوا وتَتأقلَمُوا.

إذهَبوُا واعملُوا وازرَعُوا في الأرضِ وطارِدُوا أحلامَكُم ولكن إياكم أن تَنْسَوا يَومًا مَنْ أنتُمْ، ومِنْ أينَ أتيتُم، ومَنْ هُمْ أهلُكُم، وأيُّ أرضٍ في الأرضِ هي أرضُكُم. وإنْ غادَرْتُم هَذِه الأرضَ خذوا حَفنةً من تُرابِها مَعَكُم. على بُعْدِ ثمانيةِ ألفِ ميلٍ من هنا. في مكتبي في مدينةِ هيوستن غُصنُ زيتونٍ من شجرتي، وزجاجةُ زيتٍ من كرمي، وحفنةُ ترابٍ من ضيعتي، لا لأتذكّرَ مِنْ أينَ أتيْتُ بل ليقول لي مَنْ أنا.

أيُّها المُتخرّجون لتُباركْكُمُ السِماءُ أمّا الأرضُ إن تَكلّمَتْ، فستقولُ لَكُمْ: أُثْبُتوا في مَحبّتي كما ثَبتُّ أنا في محبّتكم". لِيكُنْ سلامُ اللهِ عليكم ولتَكُنْ صَلَواتُ أهلِكُم مَعَكُم.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف