
قراءة في رواية مدينة للعناكب للكاتبة يسرا الخطيب
بقلم: أ.د. محمد صلاح أبو حميدة
يسرا الخطيب من الروائيين القلائل الذين يعرفون كيف يستمدون موضوعاتهم من عمق المعاناة، وواقع المجتمع الفلسطيني... يسرا الخطيب لا تكتب إلا وكتابتها محملةٌ برؤية عميقة للواقع المعيش، وكيفيةِ الخروج من هذا الواقع نحو الأفضل، أو كيفية تحويل هذا الواقع إلى ما هو أفضل.. وأنا شخصياً عندما أقرأ ليسرا شعراً أو رواية أو قصة قصيرة، أجدني منحازاً إليها شغوفاً بنصوصها الإبداعية مستمتعاً بها حتى الثمالة.. يسرا الخطيب تشوقك للقراءة والمتابعة.. تسحرك بكلماتها الرائقة العذبة، وتراكيبها المتماسكة، ولغتهاالساحرة، وصورها المبتكرة التي لا تجاري فيها أحداً إلا خيالَها ورؤيتَها وإحساسَها الأدبي الصادق، ودائما تفاجئُك بكل ما هو مبتكر ومخالف للمألوف؛ وتتخذ من التجريب نهجاً لإبداعاتها كي تستقلَ بعالمها، وتشقَ طريقاً بعيداً عن التكرار والذوبان في الآخر.. فهي لا تشبه ذاتها، بل تتمرد وتثور على ما انتهت إليه من طرائقَ للإبداع وتأتي بكل ما هو جديد .. تولي نصوصَها فائقَ العناية، وتقِّلب الفكرةَ على كل أوجهها، بحيث لا تدعُ لك مجالاً للبس أو التساؤل؛ باختصار إنها تكتب عن حياة الناس بنكهة الوطن.
ونحن وبصدد الاحتفاءِ بإصدار رواية " مدينة للعناكب"، أود أن أبوح بشيء ليس سراً، مرت به الكاتبة قبل الإقدام على طباعة روايتها ونشرها،وأشارت إليه في تمهيد(ماقبل الرواية)، وهو أنها عاشت حالة من الصراع الداخلي، والتردد بين الإقدام والإحجام، أو المد والجزر عن كتابة هذه الرواية، إذ انتابها شعور بالخوف والفزع من ملاحقة مَنْ قد تنطبق عليهم أحداثُ الرواية في الواقع الخارجي.. ولكنَّ تمسكَها بالفضيلة، ورغبتَها في علاج واقع مأساوي، يعيشه الإنسانُ العربي وخاصةً الفلسطيني، وتشجيعَ بعضِ الأصدقاء، دفعها إلى مقاومة كلِ عوامل الخوف والتردد التي تسللت إلى روحها الكاتبة؛ لتخرجَ لنا عملاً مميزاً وجريئاً على مستوى الشكل والمضمون، هو "مدينة للعناكب".
إن قوة الرواية تأتي من الجرأة التي تمتلكها الكاتبة، وهي تعري أحد التنظيمات الفلسطينية من بعض القيم الوطنية والإنسانية التي يتمسك بها ظاهرياً، ويتخلى عنها تماماً في ممارساته العملية.
العنوان:
بالاقتراب من عالم الرواية، فإن أول ما يلفت الانتباه عنوانُ الرواية "مدينة للعناكب"، وهو العتبة الأولى التي تواجه المتلقي، ولابد أن يكون له دلالةٌ واضحةٌ على مضمون الرواية وأحداثها. وهذا ما يدفعنا إلى تحليل العنوان، والكشف عن إيحاءاته ودلالاته الممكنة.
"مدينة للعناكب" عنوان يشير إلى الواقع المؤلم الذي يعيشه أهلُ هذه المدينة، الذين وصفوا بالعناكب، وهو واقع عنيف وقاس ودموي يقضي فيه القوي على الضعيف ويمحقه، على نحو ما يحدث –عادة- في أمَّة العناكب أو عالم العناكب؛ حيث يُعد بيتُ العنكبوت من أكثرِ البيوت شراسة ووحشية، وانعداماً لأواصر القربى، ومعاني المودة والرحمة, تقتل فيه أنثى العنكبوت" الأرملة السوداء" الذكرَ بعد تلقيحه إياها، وعندما تضع البيض ويفقُسُ، تخرج العناكب الصغيرة فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام، فيبدأ الأخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام، أو من أجل المكان، أو من أجلهما معاً، حتى تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العنيكبات.
وعلى الرغم من أن هناك رواياتٍ عديدةً حملت اسم العنكبوت مثل روايةِ “العنكبوت” للدكتور مصطفى محمود، وروايةِ “بيت العنكبوت” للكاتب المصري أحمد عبد العزيز، ورواية “أنثى العنكبوت” للكاتبة السعودية قُماشة العليان، وروايةِ “بلاد تركب العنكبوت” للكاتبة المصرية منى سلامة وغيرِها، فإن توظيف العنوان لدى يسرا الخطيب كان مختلفاً، ومتماهياً إلى حد التطابق مع المضمون الحكائي الذي تناولته الرواية.
وبالوقوف عند التركيب النحوي للعنوان، فإننا نجده يتماهى مع مضمون الرواية- أيضاً- ومقصدية الكاتبة؛ إذ إن التركيب النحوي لـ "مدينةٌ للعناكب"، يختلف في دلالته عن تركيب "مدينةُ العناكب"، فالتركيب الأخير يحمل دلالة التعيين؛ إذ إن كلمة مدينة معرفة بالإضافة، ومن ثم فهي تشير إلى مدينة بعينها دون سواها، وهذا ما لا تقصده الكاتبة، أي أنها لا تريد أن تجعل من غزةَ مدينةً معروفة بهذه الصفة دون غيرها من المدن التي يشوبُها مثلُ هذا الصراع.
أما "مدينةُ للعناكب" فإن كلمةَ مدينةٍ نكرةٌ تحمل دلالة العموم والشيوع لا التعيين، وعندما دخلت اللام على مَن لا يملك أي على غير العاقل "العناكب"، فإنها أفادت الاختصاص لا التعيين بالملكية؛ أي أنها مدينة مختصة بالعناكب، دون أن يعني ذلك اقتصارَ هذه الصفة عليها دون غيرها، لذلك تقول في ص 283 "غزة كغيرها من المدن التي تحتلها عناكبُ زعزعت أمنها واستقرارها واغتالت منها السلام".
فالفرق بين التركيبين كالفرق بين تركيب "شهر الصيام" و "شهر للصيام"، الأول يشير إلى شهر رمضان المبارك، والثاني يشير إلى تخصيص شهر ما للصوم من شهور السنة .
ومما يلاحظ أن الكاتبة قد حرَصت على أن تُلفتَ الأنظار إلى أمَّة العناكب لا إلى بيوتها، إذ أول ما يتبادر إلى الذهن قوله تعالى: " وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" لكن الوَهَنَ الذي تقصده الكاتبة ليس الوهن المادي لهذه البيوت، وإنما الوهن المعنوي الذي يتمثل في غياب أواصر القربى والمودة والأمان بين ساكنيه. ولذلك تقول " أنا أتكلم عن أمة العناكب لا عن بيوتها ونسيجها الجميل القوي المتين" 272" " أتحدث عن بيوت يفتقر ساكنوها لأواصر المحبة والحنان والأمان فهم لا يعتبرونا إلا مسكناً لهم ومصيدة ليصطادوا فريستهم كغداء لهم".
ملخص الرواية:
تدور أحداث الرواية حول حياة أسرة فلسطينية مناضلة، قدمت كثيراً من رجالها وشبابها فداء للوطن، وهي عائلة متماسكة اجتماعياً، تسودها أجواء من المودة والاحترام والثقة بالنفس، ولكنَّ حالَها تبدَّل بين ليلة وضحاها بعد اعتقال أحد أبنائها " شريف"، المشهود له بالأمانة والوطنية ومقاومة المحتل، ووفاتِه بعد عام من سجنه في ظروف غامضة دون معرفة السبب الحقيقي للوفاة، فتدخل الأسرة في صراع نفسي عنيف وطويل، بسبب تلوثِ سمعتها الطيبة، وتاريخها النضالي الحافل بالتضحيات، ومن ثمَّ تشقى في البحث عن الحقيقة التي تؤمن بها، وتحاول جمع الأدلة والبراهين التي تثبت براءة ابنها، وبطلان ما يدعيه المسؤولون عن قتله من اتهامات زائفة لا تمت إلى الحقيقة بشيء؛ كالانتحار أو العِمالة أو الاختلاس المالي أو الانتهاكات الأخلاقية والسلوكية أو غير ذلك..
ولكن بعد حصولهم على دليل البراءة، خشَوا أن يصدحوا به، كي لا يصيبَهم ما أصاب ابنَهم من ظلم أو نهاية مأساوية من القوى المتسلطة والمتنفذة في المدينة، فآثرت الكاتبة على لسان آسيا أن توثق تلك الأحداث في رواية أدبية، تثبت فيها براءةَ شريف وتحافظ على مجد العائلة من ناحية، وتعري أصحاب المصالح والانتهازيين الذين يبنون سعادتهم على حساب سعادة الآخرين، على نحو ما يحدث في أمَّة العناكب، من ناحية أخرى .
التحليل:
حاولت يسرا الخطيب في روايتها أن تجيب عن كثير من الأسئلة التي تثار حول الانتماء الوطني والفساد المجتمعي، وقتل الأبرياء، والهجرة خارج الوطن، وموقف الناس والمؤسسات الحقوقية من القضايا والمشاكل المجتمعية التي يعيشها الإنسان الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة.
أرادت أن تقول لنا الكاتبة: إنه ليس كل من يُقتَل في ظل الفوضى المجتمعية، وتسلط القوة الحاكمة، وغياب العدالة وانتشار الفساد والانتهازية، يكون مجرماً حقيقياً، أو متهماً يعاقبه القانون. بل كثير منهم يُقتَل ظلماً وبهتاناً، وهو أكثر انضباطاً وانتماءً ووطنية من قاتليه.
فقتل شريف داخل السجن، وهو المشهود له بتاريخه النضالي وبطولاته، ومقاومته للاحتلال، ليس إلا لأنه الشاهد على زلات من قتلوه، فألبسوه تهماً جاهزة وفبركوا له الأدلة لإنقاذ سمعةِ مَنْ هو أعلى منه منصباً في التنظيم، وإخفاء تورطه في كثير من قضايا الفساد والتزوير والسرقات بتواطؤه مع حاشيته. ص69." دوماً الصغار والغلابا هم ضحايا ووقود ليرتفع شأن الفاسدين في الأرض" 152وكأنها تقول: إن صدق الانتماء والتضحية من أجل الوطن لا يكفي ليحمي الإنسانَ من ظلم الآخرين أو من آذى الآخرين، بل لابد للإنسان أن يناضل من أجل الدفاع عن نفسه وحقه بكل قوة وإصرار، وهو ما يذكرنا بقول المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
وعلى الرغم من براءة شريف ووجود الأدلة القاطعة على عدم إدانته، فإن أسرة المقتول فقدت الثقة بالناس الذين لم ينتصروا لقضيتها، ولم يقفوا إلى جانبها، وكانوا يرددون ما تردده أبواق الظلاميين." فلاحق يرتجي من أناس تخاف المواجهة وترهب العقاب وقول الحقيقة " 276
حتى مؤسسات حقوق الإنسان لم تسع بجدية انتصاراً للحقيقة، بل ضعفت وتوارت خلف مبررات واهية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الكاتبة لا تدعو إلى اليأس والاستسلام للظلم والمستبدين بمصير الشعوب، بل لا بد أن نقاوم الظلم بكل ما نستطيع، وأن نسعى لكشف الحقيقة دون كلل أو ملل، على قاعدة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" ولذلك عندما خشيت آسيا أخت شريف وأخوه يوسف وابنُ عمه عزالدين وابنُ عمته كريم وغيرُهم من الجهر بالحقيقة، قررت أن توثق تلك الأحداث والأدلة والبراهين في رواية أدبية يشارك فيها كل الشخوص الذين أصابهم الأذى من مقتل شريف، وتنشرَها للعالم بأسره حفاظاً للحق وانتصاراً للحقيقة. ص 280"وكي يعرف الجميع هنا في غزة والعالم في الخارج بالظلم الذي وقع علينا زوراً وبهتاناً" 275.
- كذلك عالجت يسرا الخطيب في روايتها ظاهرة اجتماعية خطيرة في المجتمع الغزيّ، وهي هجرة الشباب وبعض الأسر الفلسطينية خارج الوطن. وبيَّنت أن تلك الهجرة كانت قسرية فرضتها الظروف الاقتصادية الخانقة، وعدمُ توفرِ فرص العمل، والقهرُ وتوالي الحروب والنكسات...كل ذلك وغيرُه فرض على الشباب الغزيّ البحثَ عن أماكنَ أخرى من أجل توفير لقمة العيش بعز وكرامة، والعيشِ في أمن وأمان. فكانت هجرةُ العم إسماعيل ويوسف ومجد، وأسدود وكريم إلى الخارج، وعلى الرغم من انخراطهم في المجتمع الخليجي إلا أن ذلك لم يقطع صلتَهم بأهلهم ووطنهم، والتواصلَ معهم عبر وسائل التواصل المختلفة، ومتابعةَ كلِ صغيرة وكبيرةٍ تجري في الوطن، وهو ما يؤكد فكرة الانتماء لديهم، وأن خروجهم لم يكن نزهة أو ترفاً. واستطاعت من خلال شخصياتها الروائية أن تدلل على أن الغربة لا تجلب لأصحابها السعادة، وإنما الشقاء والمعاناة التي لا تقل في قسوتها وعنفها عما يعانونه في الوطن، لذلك قرروا جميعا العودة إلى الوطن باعتباره الملاذ الآمن للإنسان، وما سواه شقاء وعذاب.
- وعلى مستوى السرد، فإن الكاتبة آثرت أن تقسَّم الرواية إلى ثلاثةَ عشرَ فصلاً، كل فصل منها يتم سردُه بلسان البطل فيه، باعتباره مشاركاً وشاهداً على الأحداث.
وقد آثرت الكاتبة استخدام السرد بضمير المتكلم/ البطل في كل فصل؛ لما في ذلك من تقنية مهمة تعين الكاتبة على نقل مشاعرها وأحاسيسها إلى القارئ بصورة أكثرَ واقعيةً وأكثرَ صدقاً. وفي الوقت نفسه تتيح لها أن تتوغل في أعماق الشخصية الساردة، من خلال البوح الذاتي في وصف مشاعرها وأفكارها بطريقة مونولوجيةاستذكارية أو اعترافية أو استشرافية، فتوصِّل إلى القارئ ما تريد إيصاله من مشاعرَ وأفكارٍ دون أن تُشعره بالتكلف.
وتعدد الأصوات في السرد يشكل نافذة يطُل القارئ من خلالها على أراء متنوعة حول الحدث المروي، ويضفي على العمل الأدبي دينامية خاصة، وتشويقاً ينأى بالسرد عن الرتابة المملة وهيمنة الراوي الأحادي.
في هذه الصيغة لا يكون الراوي خارج العالم الروائي، كما هو الشأن بالنسبة إلى ضمير الغائب، بل هو شخصية مركزية أو شخصية مشاركة في صنع الأحداث، وهذا يسمح بتأويل خطابه بوصفه خطاباً للمؤلف، وتحديد وجهة نظره بوصفها وجهة نظر المؤلف نفسه.
بقلم: أ.د. محمد صلاح أبو حميدة
يسرا الخطيب من الروائيين القلائل الذين يعرفون كيف يستمدون موضوعاتهم من عمق المعاناة، وواقع المجتمع الفلسطيني... يسرا الخطيب لا تكتب إلا وكتابتها محملةٌ برؤية عميقة للواقع المعيش، وكيفيةِ الخروج من هذا الواقع نحو الأفضل، أو كيفية تحويل هذا الواقع إلى ما هو أفضل.. وأنا شخصياً عندما أقرأ ليسرا شعراً أو رواية أو قصة قصيرة، أجدني منحازاً إليها شغوفاً بنصوصها الإبداعية مستمتعاً بها حتى الثمالة.. يسرا الخطيب تشوقك للقراءة والمتابعة.. تسحرك بكلماتها الرائقة العذبة، وتراكيبها المتماسكة، ولغتهاالساحرة، وصورها المبتكرة التي لا تجاري فيها أحداً إلا خيالَها ورؤيتَها وإحساسَها الأدبي الصادق، ودائما تفاجئُك بكل ما هو مبتكر ومخالف للمألوف؛ وتتخذ من التجريب نهجاً لإبداعاتها كي تستقلَ بعالمها، وتشقَ طريقاً بعيداً عن التكرار والذوبان في الآخر.. فهي لا تشبه ذاتها، بل تتمرد وتثور على ما انتهت إليه من طرائقَ للإبداع وتأتي بكل ما هو جديد .. تولي نصوصَها فائقَ العناية، وتقِّلب الفكرةَ على كل أوجهها، بحيث لا تدعُ لك مجالاً للبس أو التساؤل؛ باختصار إنها تكتب عن حياة الناس بنكهة الوطن.
ونحن وبصدد الاحتفاءِ بإصدار رواية " مدينة للعناكب"، أود أن أبوح بشيء ليس سراً، مرت به الكاتبة قبل الإقدام على طباعة روايتها ونشرها،وأشارت إليه في تمهيد(ماقبل الرواية)، وهو أنها عاشت حالة من الصراع الداخلي، والتردد بين الإقدام والإحجام، أو المد والجزر عن كتابة هذه الرواية، إذ انتابها شعور بالخوف والفزع من ملاحقة مَنْ قد تنطبق عليهم أحداثُ الرواية في الواقع الخارجي.. ولكنَّ تمسكَها بالفضيلة، ورغبتَها في علاج واقع مأساوي، يعيشه الإنسانُ العربي وخاصةً الفلسطيني، وتشجيعَ بعضِ الأصدقاء، دفعها إلى مقاومة كلِ عوامل الخوف والتردد التي تسللت إلى روحها الكاتبة؛ لتخرجَ لنا عملاً مميزاً وجريئاً على مستوى الشكل والمضمون، هو "مدينة للعناكب".
إن قوة الرواية تأتي من الجرأة التي تمتلكها الكاتبة، وهي تعري أحد التنظيمات الفلسطينية من بعض القيم الوطنية والإنسانية التي يتمسك بها ظاهرياً، ويتخلى عنها تماماً في ممارساته العملية.
العنوان:
بالاقتراب من عالم الرواية، فإن أول ما يلفت الانتباه عنوانُ الرواية "مدينة للعناكب"، وهو العتبة الأولى التي تواجه المتلقي، ولابد أن يكون له دلالةٌ واضحةٌ على مضمون الرواية وأحداثها. وهذا ما يدفعنا إلى تحليل العنوان، والكشف عن إيحاءاته ودلالاته الممكنة.
"مدينة للعناكب" عنوان يشير إلى الواقع المؤلم الذي يعيشه أهلُ هذه المدينة، الذين وصفوا بالعناكب، وهو واقع عنيف وقاس ودموي يقضي فيه القوي على الضعيف ويمحقه، على نحو ما يحدث –عادة- في أمَّة العناكب أو عالم العناكب؛ حيث يُعد بيتُ العنكبوت من أكثرِ البيوت شراسة ووحشية، وانعداماً لأواصر القربى، ومعاني المودة والرحمة, تقتل فيه أنثى العنكبوت" الأرملة السوداء" الذكرَ بعد تلقيحه إياها، وعندما تضع البيض ويفقُسُ، تخرج العناكب الصغيرة فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام، فيبدأ الأخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام، أو من أجل المكان، أو من أجلهما معاً، حتى تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العنيكبات.
وعلى الرغم من أن هناك رواياتٍ عديدةً حملت اسم العنكبوت مثل روايةِ “العنكبوت” للدكتور مصطفى محمود، وروايةِ “بيت العنكبوت” للكاتب المصري أحمد عبد العزيز، ورواية “أنثى العنكبوت” للكاتبة السعودية قُماشة العليان، وروايةِ “بلاد تركب العنكبوت” للكاتبة المصرية منى سلامة وغيرِها، فإن توظيف العنوان لدى يسرا الخطيب كان مختلفاً، ومتماهياً إلى حد التطابق مع المضمون الحكائي الذي تناولته الرواية.
وبالوقوف عند التركيب النحوي للعنوان، فإننا نجده يتماهى مع مضمون الرواية- أيضاً- ومقصدية الكاتبة؛ إذ إن التركيب النحوي لـ "مدينةٌ للعناكب"، يختلف في دلالته عن تركيب "مدينةُ العناكب"، فالتركيب الأخير يحمل دلالة التعيين؛ إذ إن كلمة مدينة معرفة بالإضافة، ومن ثم فهي تشير إلى مدينة بعينها دون سواها، وهذا ما لا تقصده الكاتبة، أي أنها لا تريد أن تجعل من غزةَ مدينةً معروفة بهذه الصفة دون غيرها من المدن التي يشوبُها مثلُ هذا الصراع.
أما "مدينةُ للعناكب" فإن كلمةَ مدينةٍ نكرةٌ تحمل دلالة العموم والشيوع لا التعيين، وعندما دخلت اللام على مَن لا يملك أي على غير العاقل "العناكب"، فإنها أفادت الاختصاص لا التعيين بالملكية؛ أي أنها مدينة مختصة بالعناكب، دون أن يعني ذلك اقتصارَ هذه الصفة عليها دون غيرها، لذلك تقول في ص 283 "غزة كغيرها من المدن التي تحتلها عناكبُ زعزعت أمنها واستقرارها واغتالت منها السلام".
فالفرق بين التركيبين كالفرق بين تركيب "شهر الصيام" و "شهر للصيام"، الأول يشير إلى شهر رمضان المبارك، والثاني يشير إلى تخصيص شهر ما للصوم من شهور السنة .
ومما يلاحظ أن الكاتبة قد حرَصت على أن تُلفتَ الأنظار إلى أمَّة العناكب لا إلى بيوتها، إذ أول ما يتبادر إلى الذهن قوله تعالى: " وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" لكن الوَهَنَ الذي تقصده الكاتبة ليس الوهن المادي لهذه البيوت، وإنما الوهن المعنوي الذي يتمثل في غياب أواصر القربى والمودة والأمان بين ساكنيه. ولذلك تقول " أنا أتكلم عن أمة العناكب لا عن بيوتها ونسيجها الجميل القوي المتين" 272" " أتحدث عن بيوت يفتقر ساكنوها لأواصر المحبة والحنان والأمان فهم لا يعتبرونا إلا مسكناً لهم ومصيدة ليصطادوا فريستهم كغداء لهم".
ملخص الرواية:
تدور أحداث الرواية حول حياة أسرة فلسطينية مناضلة، قدمت كثيراً من رجالها وشبابها فداء للوطن، وهي عائلة متماسكة اجتماعياً، تسودها أجواء من المودة والاحترام والثقة بالنفس، ولكنَّ حالَها تبدَّل بين ليلة وضحاها بعد اعتقال أحد أبنائها " شريف"، المشهود له بالأمانة والوطنية ومقاومة المحتل، ووفاتِه بعد عام من سجنه في ظروف غامضة دون معرفة السبب الحقيقي للوفاة، فتدخل الأسرة في صراع نفسي عنيف وطويل، بسبب تلوثِ سمعتها الطيبة، وتاريخها النضالي الحافل بالتضحيات، ومن ثمَّ تشقى في البحث عن الحقيقة التي تؤمن بها، وتحاول جمع الأدلة والبراهين التي تثبت براءة ابنها، وبطلان ما يدعيه المسؤولون عن قتله من اتهامات زائفة لا تمت إلى الحقيقة بشيء؛ كالانتحار أو العِمالة أو الاختلاس المالي أو الانتهاكات الأخلاقية والسلوكية أو غير ذلك..
ولكن بعد حصولهم على دليل البراءة، خشَوا أن يصدحوا به، كي لا يصيبَهم ما أصاب ابنَهم من ظلم أو نهاية مأساوية من القوى المتسلطة والمتنفذة في المدينة، فآثرت الكاتبة على لسان آسيا أن توثق تلك الأحداث في رواية أدبية، تثبت فيها براءةَ شريف وتحافظ على مجد العائلة من ناحية، وتعري أصحاب المصالح والانتهازيين الذين يبنون سعادتهم على حساب سعادة الآخرين، على نحو ما يحدث في أمَّة العناكب، من ناحية أخرى .
التحليل:
حاولت يسرا الخطيب في روايتها أن تجيب عن كثير من الأسئلة التي تثار حول الانتماء الوطني والفساد المجتمعي، وقتل الأبرياء، والهجرة خارج الوطن، وموقف الناس والمؤسسات الحقوقية من القضايا والمشاكل المجتمعية التي يعيشها الإنسان الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة.
أرادت أن تقول لنا الكاتبة: إنه ليس كل من يُقتَل في ظل الفوضى المجتمعية، وتسلط القوة الحاكمة، وغياب العدالة وانتشار الفساد والانتهازية، يكون مجرماً حقيقياً، أو متهماً يعاقبه القانون. بل كثير منهم يُقتَل ظلماً وبهتاناً، وهو أكثر انضباطاً وانتماءً ووطنية من قاتليه.
فقتل شريف داخل السجن، وهو المشهود له بتاريخه النضالي وبطولاته، ومقاومته للاحتلال، ليس إلا لأنه الشاهد على زلات من قتلوه، فألبسوه تهماً جاهزة وفبركوا له الأدلة لإنقاذ سمعةِ مَنْ هو أعلى منه منصباً في التنظيم، وإخفاء تورطه في كثير من قضايا الفساد والتزوير والسرقات بتواطؤه مع حاشيته. ص69." دوماً الصغار والغلابا هم ضحايا ووقود ليرتفع شأن الفاسدين في الأرض" 152وكأنها تقول: إن صدق الانتماء والتضحية من أجل الوطن لا يكفي ليحمي الإنسانَ من ظلم الآخرين أو من آذى الآخرين، بل لابد للإنسان أن يناضل من أجل الدفاع عن نفسه وحقه بكل قوة وإصرار، وهو ما يذكرنا بقول المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
وعلى الرغم من براءة شريف ووجود الأدلة القاطعة على عدم إدانته، فإن أسرة المقتول فقدت الثقة بالناس الذين لم ينتصروا لقضيتها، ولم يقفوا إلى جانبها، وكانوا يرددون ما تردده أبواق الظلاميين." فلاحق يرتجي من أناس تخاف المواجهة وترهب العقاب وقول الحقيقة " 276
حتى مؤسسات حقوق الإنسان لم تسع بجدية انتصاراً للحقيقة، بل ضعفت وتوارت خلف مبررات واهية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الكاتبة لا تدعو إلى اليأس والاستسلام للظلم والمستبدين بمصير الشعوب، بل لا بد أن نقاوم الظلم بكل ما نستطيع، وأن نسعى لكشف الحقيقة دون كلل أو ملل، على قاعدة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" ولذلك عندما خشيت آسيا أخت شريف وأخوه يوسف وابنُ عمه عزالدين وابنُ عمته كريم وغيرُهم من الجهر بالحقيقة، قررت أن توثق تلك الأحداث والأدلة والبراهين في رواية أدبية يشارك فيها كل الشخوص الذين أصابهم الأذى من مقتل شريف، وتنشرَها للعالم بأسره حفاظاً للحق وانتصاراً للحقيقة. ص 280"وكي يعرف الجميع هنا في غزة والعالم في الخارج بالظلم الذي وقع علينا زوراً وبهتاناً" 275.
- كذلك عالجت يسرا الخطيب في روايتها ظاهرة اجتماعية خطيرة في المجتمع الغزيّ، وهي هجرة الشباب وبعض الأسر الفلسطينية خارج الوطن. وبيَّنت أن تلك الهجرة كانت قسرية فرضتها الظروف الاقتصادية الخانقة، وعدمُ توفرِ فرص العمل، والقهرُ وتوالي الحروب والنكسات...كل ذلك وغيرُه فرض على الشباب الغزيّ البحثَ عن أماكنَ أخرى من أجل توفير لقمة العيش بعز وكرامة، والعيشِ في أمن وأمان. فكانت هجرةُ العم إسماعيل ويوسف ومجد، وأسدود وكريم إلى الخارج، وعلى الرغم من انخراطهم في المجتمع الخليجي إلا أن ذلك لم يقطع صلتَهم بأهلهم ووطنهم، والتواصلَ معهم عبر وسائل التواصل المختلفة، ومتابعةَ كلِ صغيرة وكبيرةٍ تجري في الوطن، وهو ما يؤكد فكرة الانتماء لديهم، وأن خروجهم لم يكن نزهة أو ترفاً. واستطاعت من خلال شخصياتها الروائية أن تدلل على أن الغربة لا تجلب لأصحابها السعادة، وإنما الشقاء والمعاناة التي لا تقل في قسوتها وعنفها عما يعانونه في الوطن، لذلك قرروا جميعا العودة إلى الوطن باعتباره الملاذ الآمن للإنسان، وما سواه شقاء وعذاب.
- وعلى مستوى السرد، فإن الكاتبة آثرت أن تقسَّم الرواية إلى ثلاثةَ عشرَ فصلاً، كل فصل منها يتم سردُه بلسان البطل فيه، باعتباره مشاركاً وشاهداً على الأحداث.
وقد آثرت الكاتبة استخدام السرد بضمير المتكلم/ البطل في كل فصل؛ لما في ذلك من تقنية مهمة تعين الكاتبة على نقل مشاعرها وأحاسيسها إلى القارئ بصورة أكثرَ واقعيةً وأكثرَ صدقاً. وفي الوقت نفسه تتيح لها أن تتوغل في أعماق الشخصية الساردة، من خلال البوح الذاتي في وصف مشاعرها وأفكارها بطريقة مونولوجيةاستذكارية أو اعترافية أو استشرافية، فتوصِّل إلى القارئ ما تريد إيصاله من مشاعرَ وأفكارٍ دون أن تُشعره بالتكلف.
وتعدد الأصوات في السرد يشكل نافذة يطُل القارئ من خلالها على أراء متنوعة حول الحدث المروي، ويضفي على العمل الأدبي دينامية خاصة، وتشويقاً ينأى بالسرد عن الرتابة المملة وهيمنة الراوي الأحادي.
في هذه الصيغة لا يكون الراوي خارج العالم الروائي، كما هو الشأن بالنسبة إلى ضمير الغائب، بل هو شخصية مركزية أو شخصية مشاركة في صنع الأحداث، وهذا يسمح بتأويل خطابه بوصفه خطاباً للمؤلف، وتحديد وجهة نظره بوصفها وجهة نظر المؤلف نفسه.