الأخبار
جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني تُنشئ مخيمات لإيواء النازحين العائدين إلى غزة وشمالهاعودة حرب الإبادة والتهجير"العمل لوقف حرب أوكرانيا".. تفاصيل مكالمة هاتفية بين ترمب وبوتين(حماس) تجري مشاورات في القاهرة بشأن اتفاق غزةمصر والأردن في موقف موحّد: رفض التهجير والتأكيد على ضرورة إعادة إعمار غزة فوراًمصر تعتزم طرح تصور لإعادة إعمار غزة يضمن بقاء الشعب الفلسطيني على أرضهالعاهل الأردني: مصر والدول العربية سيقدمون خطة بشأن غزة(حماس): مخطط ترحيل شعبنا لن ينجح.. وملتزمون بالاتفاق ما التزم الاحتلال بهصحيفة (معاريف): المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية ترى أن حماس لم تنتهك الاتفاق حتى الآناستمرار الخروقات.. شهيد وإصابة حرجة برصاص الاحتلال غرب رفح"الصحة" بغزة: الاحتلال يتعمّد عرقلة سفر الحالات المرضية عبر معبر رفح"الإعلامي الحكومي" بغزة: الجهات المختصة تتابع محاولات التلاعب بالأسعار وتحذّر المخالفينلابيد يوجه رسالة لنتنياهو: لقد نفذ الوقت اذهب إلى الدوحة وأحضر المختطفينمسؤولو مستوطنة (كيسوفيم) يعلنون مقتل محتجز في غزةلليوم 22 على التوالي: الاحتلال يواصل عدوانه على مدينة جنين ومخيمها مخلفاً شهداء ودمار
2025/2/13
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

روايةُ مقاش كما أراها

تاريخ النشر : 2023-07-15
روايةُ مقاش كما أراها

بقلم: مظهر عاصف
 
بإمكانكَ أن تجدَ صاحبةَ روايةِ «مقاش» مصادفةً في أحدِ شوارع أو مقاهي جبل اللّويبدة- عمّان نهارًا، أو أن تلتقي بها في إحدى النّدوات أو الأمسيات الشّعريةِ هنا أو هناك، غيرَ أنّك لن تلتقي بمن كتبَتْ «مقاش» حقًّا إلّا إذا امتلكتَ موهبةَ قراءةِ الوجوهِ الّتي تجزمُ هي في الرّوايةِ أنّها تمتلكُها؛ كي تدركَ أنّ مساحيقَ الهدوءِ والابتسامات الزّائفة لم تستطع إخفاء الألم الّذي يسكُنُ روحها قبل احتلاله ملامحَها.

في اللّقاءِ الأوّل قد تتساءل عمّا تخفيه هذه المرأة من حزنٍ عبرَ صمتها الطّويل وعباراتها المقتضبة! أو ابتسامتِها الباهتة؛ وبعد اللّقاء العاشر أو العشرين ورغم أنّك حدَّقت جيّدًا بعينيها الحزينتين واخترقتْ مسامعَك نبرتُها الهادئةُ ستغادر حاملًا السّؤال ذاته؛ دون إجابةٍ تمنحك الحق بسؤالٍ آخرَ قد يبدو أكثرَ فضولًا من السّابق وهو: هل فرَّغتْ هذه المرأة جميعَ أوجاعها في الرّواية عبر ثورةِ القلم ثمّ استكانت بعدها؟ بيد أنّ روايتَها ستفرضُ عليكَ ألفَ سؤال يشابههُ بسبب الكم الهائل من الأسئلةِ الّتي اشتعلت في جسد الرّوايةِ دون رحمةٍ أو رأفةٍ عبرَ وقودِ قلمها، حيث تنهالُ منذ البدايةِ دون إجاباتٍ واضحة أو استنتاجات منطقيّة لتستمرّ على مدار الرّواية دون توقّف؛ وكأنّها أرادت أن تبعثَ بالقارئ حيرتَها الدّاخليّة بالكامل ليهتدي عبرَ حَيرته أو حَيرتها إلى الحقيقة، معترفةً أمامه وإن لم تقل ذلك بأنّ وظيفتها اقتصرت على نقل الحدث والإحساس والصّورة الشّموليّة لما ترويهِ على حساب التّنظير الأدبي التّوجيهي؛ وتفسير ما لا يفسر، لذا انسلخَ قلمُها عن الورق لدى القارئ بينما لم يستطع أن ينسلخَ عن جلدها بين تلك السّطور المثقلةِ بالتّشتّتِ المُنسَّقِ عبر الأحداث، غير أنّكَ قد تتوقّف حائرًا بعضَ الشّيء قبل أن تتّخذ القرارَ بالقيامِ بشيء ما حينما تندفعُ من أرضيّة النّص أجوبةٌ كثيرةٌ كانفجارٍ مائيّ نيابةً عن أسئلةٍ أخرى لم ولن تُطرح في مواضع متقدّمة في النّص؛ لتجد أنّك بحاجةٍ لأطواقِ نجاةٍ متتالية خشيةَ الغرق في دوّاماتها وأمواجها العاتية، حتّى إذا وجدت جزيرةَ أمانٍ وسط هذا التّخبط لتلتقطَ أنفاسك عرفتَ أنّك في الجزيرة العائمة الفاصلة بين السّؤال والجواب، والّتي أوجَدَتْها الكاتبة من أمنيات وأحلام وحسرة وضياع "لو" دون أن تغرَقَ هذه ال "لو" أو تُغرِقَ مَن على ظهرها.

وما بين زخمِ "لو" وتكرارها وزخَمِ الأسئلة مُجدّدًا بكافّة أنواعها ومفاهيمها تستشعرُ نقاط ضعف الكاتبة الشّخصية؛ وصرَاعها الدّاخلي بين نقل ما كان أو ما أرادت له أن يكون، بل وقد تستشعر أنانيّتها أيضًا حينما تفرضُ نفسَها على حدثٍ لا بد أنّه أهمّ من تفاعلها الشّخصي معه، وعلى عباراتٍ كان يتوجّب أن نسمعها مِن على لسانِ قائلها مباشرةً لا منها، وعلى مشاعر مِن يتعرّض للقمعِ والسّجنِ والتّوبيخ لا مَن يراه ويراقبه رغمًا عنه، ولأنها آثرَت بقصدٍ أو دونما قصدٍ نقل تجربةِ الشّاهدِ على غيرهِ أكثر من نقل تجربةِ الضّحيةِ الرّئيسيةِ ذاتها فقد طغت الأحاسيس على التجرّد الكتابي، وطغى العقلُ القلبي على النّقلِ التّوثيقي، حتّى لكأنّك تشعرُ في كثيرٍ من الأحيانِ وفي أغلب فصول هذه الرّواية أنّك تجلسُ في عقلِ أو قلبِ سهام لا في الأماكن المحدودة الّتي ذكرتها وركّزتْ عليها، وجرَّاء هذا فقد تتفاعل معها كبطلةٍ للرّواية أكثر من الرّواية ذاتها؛ حيث إنّها تجبرُك طوال فصول الرّواية أن ترى بعينيها وتسمع بأذنيها فقط دون أن تكونَ حواسُّك كما جرت العادة مَن تتحكّمُ بتفاعلك وتذوّقك للنّص الّذي بين يديك.

ولأنَّ الرّواية أو أغلب الرّواياتِ سيرةُ الآخرين_ وإن لم نكن نعرفهم أو التقينا بهم_ ومذكّراتهم ومستقبلهم؛ بما يحتوي عليه من أوجهِ الحياة الّتي دوَّنها كاتبٌ ما عبر خياله أو واقعه على الأوراق بما حملته من أحداثٍ وحوارٍ ووصف ورسالةٍ وغير ذلك، فالسّيرة الذّاتيّة أو العائليّة تمتاز حينما نترجمها لرواية سواء تقصّدنا ذلك أم لا بأنّها الأقل اتّساعًا ممّا نحلم ونتخيّل، والأوسع جرحًا ممّا نتمنّى ونريد؛ بيد أنّ مقاشَ سهام جاءت بينَ بين، لا لأنّها لم تحمل أحداثًا ووقائعَ وتمهيدًا وخاتمةً وسردًا روائيًّا دافئًا أحاط بجميع أبطال قصّتها؛ بل لأنّها أسهبت وأطنبت بوصف ما وراء الحدث، وتوغّلت بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية بطريقةٍ تجعلك متعجّبًا من قدرتها على فعل ذلك دون أن تكسرَ إيقاع الرّواية بالملل المعتاد عند اللّجوء لهذا الأسلوب.

لقد وصَفَتْ كلّ شيءٍ حتّى ظننتُ أنّها ستصفُ الوصفَ نفسه، وولجَت إلى ذرّات فضاء النّص غير المرئيّةِ المحسوسةِ ممتطيةً قوارب المجاز تارةً وخيولَ الاستعارةِ تارة أخرى؛ شاقةً عبابَها لتجهزَ بأدواتها على لزومِ ما لا يلزم، ولعلَّ هذا ما دفعها لطيِّ وابتلاع الكثيرِ ممّا يجب أن يقالَ طالما أنّ ما يقالُ عبارةٌ عن ترجمةٍ حرفيّةٍ لسيرةِ عائلتها المكوّنةِ من أمٍّ وأبٍ وأخوة وزوج وأولاد وأحفاد.

غلوُّها بالوصف دفعها بعد الصّفحة مئة أن تقفزَ عن أحداثٍ لا أعرفُ أهميّتها رغم أنّها لا محالة قد تساعدُ على فهم ما لا يفهم، وتختصرَ السّنوات والأزمنة والأماكن بعد أن كانت قبل ذلك تصف صوتَ دبيبِ النّملةِ الّتي مرَّت بجانب مقعدها في قاعةِ المحكمة؛ الّتي تنتمي بصمَمِها وعُميها إلى محاكم العصور الوسطى، لكن من يمتهن الكتابة أيضًا يدرك جيّدًا أنّ الكاتبَ إن توحَّد بنصّهِ كثيرًا وتماهى فيه ظلمَ بعض شخوصه؛ وتعاطف مع البعض على حسابِ القارئ الّذي لا يكترث عادةً بكواليس النّص وكاتبه بل ما يُعرض على مسرح النّص أمامه، حتى إذا منح الكاتبُ دورًا صغيرًا لشخصيّةٍ جدليّة ما طالبَهُ القارئ المتعطّش للحدث والفهم أن يكون منصفًا بتوزيع مساحات الأدوار بالتّداور والتّساوي بين الشّخوص؛ حتّى وإن أدَّى ذلك إلى زيادة مدّة العرض الورقيّة، أو احتاج الأمر لجزء آخر من العمل لفهمه والوقوف على حقيقته وحقيقةِ مَن فيه.

وقد وقعت سهام بفخ التّماهي في «مقاش» على الرّغمِ أنّ أبطالَ سيرتها تداوروا بشكلٍ أو بآخر في الرّواية طوال مدّة عرضها، غير أنّهم مرُّوا وسلموا وغادروا على عجالة فلم يجلسوا في الوقتِ الّذي شعرتُ أنّهم سيجلسون تباعًا على كرسي الاعتراف أمام الجمهور ليتحدّثوا عن أنفسهم بطلاقة؛ كما فعلت البطلة سهام على مدار الرّواية حتّى وإن كان الحديث برمّته متعلّقًا ببطلة النّص الغائبة الحاضرة «أمها»؛ تلك المرأة المقاومِة الّتي تركَت يومَ اعتقالها نسخةً مصغّرة منها كانت قد أوكَلت إليها حقَّ الحديث على لسانها أمام الجميع، طالما أنّ ما يهمها مُذ قاومت المحتل قضيَّتَها لا شخصها، بيدَ أنّ سهام تقمَّصت أثناء السّرد دورَ الأم بالكامل الّتي من فرط حرصها على أولادها وخشيتها من تعرّضهم للأذى، أو خوفها من أن يضلّوا طريق الصّواب والنّجاح راحت تتصدّر الحديث عنهم، والتّعبير عن دواخلهم، ورسم ما يجب أن يقوموا به أمام القارئ كيلا يرى عيوبَهم وهنَّاتهم، وتوجيههم نحو ما تريده وتراه لا ما يريده القارئ ويتمنّى رؤيته، بل يتوجّب عليَّ القول أنّها بدت أمًّا لأمِّها الّتي كلّما تحدّثت عنها بوضوح جليّ بدا لك أنّها تخبِّئُها داخل السّطور كيلا يشي أحدٌ بما تقوم به؛ فيُفتضح بذلك سرٌّ من أسرارها المقدسة التي دأبت هذه الأم على أخفائها عن عيون المحتل، أمّا القارئ فقد يجلسُ لبضعِ صفحاتٍ أمامَ فراشاتٍ تطير وأماكن تتغيّر وأيّامٍ تتبدّل دون أن تظهر أمامه أيّ شخصيّة حتّى تستردّ الكاتبة أنفاسها أو نفسَها؛ وتعاود السّماح للقلمِ باستئناف حركة الأبطال أو أحدٍ منهم لاستكمال الرّواية، ولأنَّها سهام المولعةُ بالوصفِ فستقعُ بهذا الفخ مجدّدًا في رواية «أغويتُ أبي»، حيث تحدّثت وتحدّثت ووصفت وأطنبت متجاهلةً بالكاملِ أحد أبطال الرّواية تلك لتجيبني بعد أن سألتها عن السبب بأنها لم تطق رؤيته على الورق. قد يبدو الجواب طفوليًّا أو لا يمت للاحترافيّة بصلة، بيد أنّ طمسَ ملامح وأحداث شخصيّةٍ ما في أروقةِ نصّ جاد لإبراز شخصيّة أخرى يحتاج لاحترافيّة عاليةٍ؛ توهم القارئ أنّ صدارةَ الحدث ودور البطولة من نصيب هذا لا ذاك، غيرَ أنّ الفرق بين التّماهي هذا وذاك أنّها في «أغويت أبي» حجَّمت الأب ودورَه كرهًا به ونفورًا من آفاتهِ على الرّغمِ من كونها رواية من نسج الخيال، بينما في رواية مقاش ذات الوقائع الحقيقيّة الشّخصيّة قام بتحجيم أو تقنينِ أدوار الآخرين حبًّا بالأم وقضيّتها؛ فكأنّما استأثرتا بالسّرد كلّه مُدركةً ألّا أحد من الأبطال أو الجمهور سيغضب لذلك، أو يعترض على ذوبانهما شبه الكامل في المسألتين.
 
ولأنَّ خلافًا ما نشبَ أمامي حول هذه الروايةِ باعتبارها سيرةً شخصيّة أكثر من كونها رواية فمن الممكن القول إنّ «سهام» نفسها أصرَّت على تصنيفها ضمن أدب السِّير الذّاتية، فإن أقررنا بذلك لها فقد جاملناها من وجهةِ نظري للتّغاضي عن عيوب النّص حيثُ إنّ صفحةً واحدةً قد تضافُ لهذا النّص مع تغييرٍ لأسماء الأبطال قد يحوّلها لروايةٍ حداثيّةٍ بالكامل، في الوقتِ الّذي نحتاج فيه أمام كتابِ سيرةٍ حقيقيةٍ عند تحويلهِ لروايةٍ إلى كاتبٍ حقيقيّ متمرّس وتغيير شمولي يطالُ نصفَ تلك السّيرة المنتقاة على الأقل مع حذفنا للكثير وأضافتنا للكثير ممّا جاء فيها.

وقد أتبنّى قولها أحيانًا تعاطفًا معها معلّلًا ذلك بأنّ قصص الشّعب الفلسطيني بأحيائه وشهدائه وأبطاله وأسراه متشابهة؛ ثمّ أراني أرفض هذا الطّرح قائلا إن لكلٍّ من هذا الشّعب قصّة بطوليّة ملحميّة مختلفة جديرة بالذّكر والتّأمل والسّرد، ممّا يدفعني للاعتراف أنّ ضغطَها للنّهايات وطَيِّها لبعض الشّخوص خلل وهنّةٌ كبيرة في السّرد لصالحِ الوصف والإسهاب؛ بيد أنّي بعد هذا لا يسعني إلّا أن أغرقَ في شاعريّة الوصف والكلمات المتتاليّة كأنّني أمام نصٍّ شاعريّ نثريّ متين القواعد وباسق الرّقّة والحزن.
قلتُ: "كأنني"... الحقيقة إنّني أمام ثلثي نصٍّ جاء بهذا الشّكل لدرجةٍ قد تدفعني لحفظِ بعض جملهِ كنصوصٍ شعريّة لا سرديّة، فإن انتقيتُ مثلا هذه المقطوعة:
حملتُها معي إلى الشّوارع والحدائق
إلى الأنفاقِ تحت الأرض
حيث يسكنُ الميترو ويسير
قطعتُ لها تذكرةً هائمة على وجهها كي تضيع قليلًا
لتكتشفَ أكثر
جلست بها في حديقة هايد بارك
عزفت لها الموسيقا
إيادٍ انتشرت على طول شوارع تشيزيك
لكنها كانت تطلُّ قليلا من شرفتها على وجهي
تقبّلني
توشوشني بشيءٍ من الحكاية
ثمّ تختبئ كلّما سمعت هدير ساعة بج بن..

لقلتُ مجدّدًا إن هذا شعرٌ وإن لم تقصد الرّوائية ذلك، بل في الحقيقة هي لا تتقن كتابةَ الشّعرِ مطلقًا رغم شاعريّة النّص؛ إذ من خلالِ تحليلكِ للعبارات الّتي تحتوي على هذه الشّاعريّة ستجد أنّها تحتوي على الإيقاع لا الموسيقا، وتمتاز بالانسيابِ لا بالسجعِ المُقفّى، متحرّرةً من الحروف المتشابهة أو القريبة لفظًا _كالتّاء والدال والطاء مثلاً_ الّتي لم تختتم بها جُملَها المتتالية بعد هطولها دفعةً واحدةً من قلمها على الورق، وهذا ما يثبت صفةَ الشّاعريّة للنّص وينفي الشّعر عنه، وهذا يُحسب للكاتبةِ لا عليها حيثُ إنّ نصًّا يزخرُ بالأحاسيس والعواطف والذّكرياتِ المؤلمة لا بد أن يكون بهذه الرّقةِ المنغمسةِ بالسّلاسةِ البلاغيّة، في حين أنّ ذلك قد يُعاب عليها لو كان الحديث مثلا عن موضوعٍ جادٍّ أو واقعي بإطارٍ مجتمعي خارجي لا يمسّ الكاتب بشكلٍ خاص، فتفاعل القارئ ذاته مع قصيدةِ رثاء إن جهرَ بها بصوته يختلف عن تفاعلهِ مع قصيدةٍ حماسيّة، فكيف إن أراد ترجمة ما جاء فيها من أحاسيس لنصٍّ نثري نازعًا إيّاها من قالب الشّعرِ الّذي قيَّدَ حريّتها بالإفصاح عن مكنونها بالكامل، ولأنّها لم تتقصّد أن تكون لغتها بهذا الشّكل فقد لجأت لاستعمال اللّغةِ العاميّة واللّهجة الفلسطينيّة البحتة في بعض المواضع في الوقت الّذي كان بإمكانها تذويبها بالفصحى دون أن ينكر أحدٌ عليها ذلك، لذا فإنّ شاعريّة سهام تلاحقُها من ورقةٍ لأخرى مهما حاولت الفكاك منها، وهذا ما لاحظتُه أيضًا في روايتها «أغويتُ أبي» بيد أنّها في هذهِ فرضت نفسَها بسبب التّورية الّتي أحاطت بكامل أحداث النّص، وهربًا من خدش حياءِ القارئ إثر تناولها لأحدِ المُحرماتِ والخوض بخفاياه المرَضيّة؛ علمًا أنّ بطلتي الرّوايتين رغم اختلاف الطّرح والرّسالة بالكامل انطلقتا من داخل النّفس للحديث عن المحيط ووصفهِ لا الحديث عن المحيط للوصول إلى داخل النّفس.

وعليه فإن أحدَ الأسباب المهمّة الّتي حفّزتني للكتابة عن هذه الرّواية هي جملة أردتُ فورَ قراءتها الاتّصال بالرّوائية؛ والطّلب منها أن تقرأها على مسامعي طمعًا منّي بالانغراق أكثر في معانيها، فحينما تقول: "لا شيءَ يجعلك حرًّا كالأسر، وما من قوةٍ تجبرك على فرد جناحيك كالأصفاد" أجدني مُستحضرًا وجوهَ المقاومين الرّافضين للاحتلال الصّهيوني، ووجوهَ مَن بانتظارهم، ووجوهَ من ينتظر أن يكون أحد طرفيّ هذه المعادلة القاسية، لتبدو بعد ذلك الرّواية درسًا من دروس المقاومة ورفض الاحتلال معبّرةً عن سيكولوجيّة الإنسان الفلسطيني أينما حلَّ وارتحل، وأينما وضعَ نفسه أو وضِع، حتّى إذا وجدتُني صنّفتُها ضمن هذه الهُوية وجدتُ أنّها تصلح أيضًا أن تنتمي لأدب السجون، أو الفسلفةِ الذّاتية، أو حتّى الأدب الاجتماعي الأسري.

يحدث هذا اللّبس اللّذيذ حينما توهمُ الرّوائية في الصّفحات الأولى جمهورها أنّها تحملُ في أحشائها طفلة؛ قبل أن يكتشفَ أنّها حملت نَصَّها الّذي سيتمخّض عن ولادةٍ قيسريّة قريبًا ليرى الورق، بيد أنّها ستستدرك سريعا على نفسها وعلى القارئ حينما تُبيِّنُ أنّ لهذا المولود ظرفًا خاصًا يختلفُ عن أقرانهِ: "ففي بلادها تصبح الطّفولة خطيئةً كلّما تقدَّم بها العمر" حتّى إذا لمستَ السّودواية وترقّبتَ الصّراخَ والنّواح الّذي سينبعث من ألسنة الأبطال لا محالة؛ اعترَفتْ لك أنّ حكايا ما قبل النّوم الّتي كانت تسردها الأمّ لأطفالها تخلو من أي سوداويّة وخوف، فمِن أين قد تتواجدُ السّوداويةُ إن لم يكن لها جذورٌ طفوليةٌ في الأعماق؟ وهذا ما ستجده حينما تستدركُ على استدراكها الأوّل بجملة أخرى: "لا يمكن لمحتلّ أن ينالَ من عزّة أنفسنا وكرامتنا" وأمام كلِّ ألمٍ بعد ذلك في الرّواية ستجد نديّة المقاومة، وأمام كلّ مقاومة ستلمس الوجع، وستتوالى الأضداد والاستداركات ضمن محاور هُويّات النّص المختلفة المتشابكةِ والّتي ستتقاطعُ جميعها في النّهايةِ مع المحور الأهم في الرّواية وهي: القضيّة الفلسطينيّة. ولأنّ القضيّة ترسّخت في نفس الكاتبة منذ نعومة أظافرها، ولأنّ الرواية بدأت بسهام الطّفلة الصّغيرة فقد استدركَتْ على الاستدراكين السّابقين بثالث حين قالت: " فنحن جميعًا نشعر أنّ طفولتَنا مختلفة، طفولة لا تملك دمية، لكنّها تملك قضيّة".

أوجه القضيّة الفلسطينيّة في الرّواية هي أوجهُها في الواقع الحي المستمر حتّى اللّحظة، فكلَّ السّنوات هي سنوات عام 1948 وكلّ الأيّام هي أيّام 1967 فإن اختلفَ الفرد عمَّا كان عليهِ؛ فإن الواقع لم يختلف على شعبٍ ازداد نضوجًا وإرادةً مع تعاقب تلك السّنوات بأيّامها المكرّرة، وعليهِ فقد لجأت الكاتبة إلى إبراز صفاته وأهم مزاياه بمواضع عديدة؛ فظهرت الفقرات الّتي تتحدّث عن طبيعته على شكل قفلات هنا وهنا، أو مُقتبسات ذاتيّة الحياكة في أواسط الفقرات معتمدةً على تناول الفكرة الواحدة بأكثر من زاوية كيلا تُشعرَ القارئ بأنّها تكرّر نفسها أو فكرتها أمامه، فتراها تارةً تظهر الوجه القبيح للمحتل عبر كلبه لا عبر تصرّفاته حين تقول: " كلبٌ نسي ملامحه بأنّه حيوان جميل بالفطرة، فتقلَّدَ دور الكلب المحتل تماما مثلما نسي الكابتن فريد كلَّ إنسانيته" ثمّ تسخرُ من قبحة مجدّدًا من زاويةٍ أخرى حين تقول: "وجميعنا نحمل علامة بينجو ذاك الوشم الّذي تطبعه المخابرات الإسرائيليّة على هوية كلّ ناشط سياسي، لتميزه بكلِّ شيء حتّى بوحشية التّعامل معه، وهو الاسم الّذي أطلقتُه على دميتي الصّغيرة منذ تلك اللّيلة" ليجدَ القارئ بعدها أنّ هذه العبارات السّابقة وما شابهها ستتقاطع ضمنيّا مع صفة الصّمود والتّحدي والعناد الّذي يمتاز به الفلسطيني أمام المحتل، ولعلَّ هذا ما دفعَ سهام للمغالاة الرّقيقة بمدحِ جيناته بلغةٍ لا يفهمها إلّا مَن يرى المحتلَّ على حقيقته حيث لا تفرّق بندقيتَه الجبانة بين رضيع وكهل، وبين جنين في بطن أمّه وبين رفاتٍ مدفون منذ ألف عامٍ في أرضه، فتجدها قد خطَّت بثقة ما يلي: " فالطّفل الفسلطيني ينهض من رحم أمّه وهو مستعدٌ لخوض الحياة المحتلّة، والأيّام المحتلّة، والأحلام المحتلّة أيضًا، ويغمس الحليب بالتّراب ليصيرَ مولودَ الأمّ والأرض معًا". وهنا ستتوّحدُ هذه العبارات وما شابهها مع أهمّ ميّزةٍ من ميّزاته وهي الأمل، لذا فإنّ أكثرَ ما يميّز هذه الرّواية هو الحديث بنكهةِ الأمل وإن غَمسَت الكاتبةُ صوتَها بالمرارة قبل الإفصاح به. حدثّ هذا لأنّها لم تحاول مطلقًا خداع نفسها أو محيطها والتّعلق بحبال وهميّة مذ وجدَتْ نفسَها خسرت طفولتها جرّاء اعتقال والدتها، لا لأنّها تدرّبت على ذلك بل لأنّها اكتسبت هذا سريعًا من خلال عدوى الظّرف المتشابه في مجتمعٍ متشابه، ففلسفة الأمل لدى الكاتبة مستمدّة بالكاملِ من فلسفة الجموع بطرقٍ مختلفة، فهي تغضب أحيانًا من خلال الابتسامة كما قالت: "تعلّمت دائما أنّ الغضب يحمل خنجرًا أو سيفًا أو بندقية، لكن لم أدرك أنّ هناك نوعًا من الغضب يحمل ابتسامة" ثم يتوحّدُ الأملُ مع الإصرار والتّحدي حينما تخط: " قلتُ: سأجعل من علاماتي في المدرسة علامة فارقة، تبصق في آخر العام على وجهِ المارق الّذي ظن أنّه نال منّي ومن عقلي" أمَّا عن العابرين في الرّواية لا الواقع فقد تلبّسهم الأمل عبر رضيعٍ في حجر أمّه تحوَّل رغم خريف الأحداث للرّبيع، أو من خلال وجهِ طفلةٍ تحرّك فمها شوقًا لثدي فارقه منذ سنين، أو من خلال السّقوط إلى فوق كما ينصّ عليه قانون الانتماء للأرض المحتلة.

ومن الأرضِ المحتلةِ يتوجّبُ عليكَ أن تنظرَ إلى النّص من الأعلى بتجرّد لتدركَ أنّه عملٌ يضافُ لأحد رفوفِ مكتبةِ "الأدب الفسلطيني"؛ الّذي يتشابهُ مع الأدب العربي والعالمي إنسانيًّا برسالاته ويختلف عنهما بخصائصه، بيد أنّ الرّسائل الإنسانيّة البحتة الّتي وجّهتها الكاتبة في نهاية الرّواية للمجتمع الصّهيوني، وقبل ذلك إنصافها للمجنّدة الصّهيونية الّتي جاءت بصحبةِ من اعتقلوا والدتها تدفعُك للاستغراب والتّعجّب من هذا التّجرّد والتّصالح مع الغضب، فقد وصفَتْ المجنّدة الصهيونية ب: " كانت نظراتُها لي تشي برفضها لما يحدث، لكن هذا لا يغفر لها أنّها ما زلت تشكّل جزءًا من خوفي، تحديقها إلى عينيَّ ولَّدَ حوارا غريبًا بعض الشّيء، وبدت كأنّها تودّ الاعتذار دون أن تملك الجرأة لممارسته، أو ربما شعرت بوجعي فتخيّلت نفسَها مكاني للحظات، لا بد أنّها تعلم أنّ طفولتها كانت محاطة بالأمان، وأنّ طفولتي مهدّدة ومختطفة، وبلا شك هي تعلم جيّدًا أنّ طفولة كلتينا مليئة بالحب ذاته". وقد أصرُّ على تسمية هذا بالتّصالح مع الغضب لأنّها هاجمت بعد ذلك وفي فترةٍ زمنيّة قريبةٍ بقسوةٍ مجنّدةً أخرى ووصفتها بأقذع الصّفات، علمًا أنّ من كتبَ مقاشَ هي سهام المرأةُ النّاضجةُ لا سهام الطّفلة، أي أنّ الرّواية كُتبت بعد أعوامٍ طويلةٍ من تلك الأحداث القابعةِ في الماضي؛ متّكئةً على ما في ذاكرتها لا ككتابةٍ انفعاليةٍ آنيّة قامت على النّقل المتسرع لما تمرّ به لحظتَها من حدثٍ قائم ما زالت تعتاشه فعليًّا.

وقد أعزو ذلك لشخصيّة الرّوائية الطّفلةِ المرأةِ الّتي تشعرُ أنّها الطّرف الأقوى في النّزاع، الطّرف المنتصر، الطّرف ذو السيادة، الطّرف الّذي لا يقهر، الطّرف الّذي يملك كلَّ شيءٍ باستثناءِ الحريّة الّتي يجزم أنّه سينتزعها يومًا من هذا المحتل.
فسهامُنا تتشابهُ مع ذاك المُلثَّم الّذي يرمي الحجارة في وجهِ عدوه، ومع تلك المرأة الّتي تحتضن شجرة زيتون خشيةَ أن يقتلعها المحتلّ من أرضها، ومع ذاك الكهل الّذي يصرخ في وجهِ من يطلق النّار على شعبه الأعزل، ومع ومع ومع ومع؛ لكنّها تتشابهُ مع أمِّها فقط في الكتابةِ حيث امتلكت مثلَها أكثر من عينينِ لرؤيةِ ما يدور حولها بغيةَ تدوينهِ ونقلهِ للأجيال القادمة، فحاربت عدوَّهما بالذّاكرة الحيّة الّتي لا تنسى ولا تتغاضى عن أبسطِ الموروثات والمُكتسبات الصّمودية، فالأمُّ الّتي تملك عيونًا لا عينين وحيدتينِ كما أشارت لها الكاتبة في أغلب مواضع النّص قصدًا مانحةً لغيرها العينينِ الاثنتينِ فقط لن تحتاج ل "أل" التّعريف للتّعريف بمقاش، فجاءَ الاسمُ نكرةً وإن حملَ العنوان لأنّ الذاكرةَ الّتي تتناسى المقاش فورَ مغادرتها الأسر لما يعنيهِ من شقاء الجوعِ وحرب الأمعاء الخاوية، لن تحتاج لهذه ال "أل" كي تتذكّرَه طالما أنّ القشَّ الّذي سيصنعُ منه يُتقن لهجةَ " الكالِ وال كُلْنا".

والمتحدّث أو العارفُ بهذه اللّهجة الفلسطينيّة المتجذّرة المتوارثة أو المألوفةِ لمسامعهِ يعرف أنّ النّاطق بها من صفاته الاسترسال بالحديث، ودأبه على شدِّ المستمع له عبر أساليبَ وطرق تفاعليّة عديدة لعلَّ مِن أهمها إنكار الشّيءِ وإثباتِ ضدّه عند الوصفِ، وهذا ما لجأت إليهِ وعرَّبته سهام مرارًا بفُصْحاها في أكثرِ من موضعٍ في الرّواية، وعلى سبيل الذّكر لا الحصر فقد قالت في موضع ما: "ولم تبدُ لي كمن استيقظَ من النّوم، بل بدت كمن لم ينم أبدًا" وفي موضع ثانٍّ: " والكلُّ نكَّس راياتِ قلبهِ إجلالا لأسيره، ليس حدادًا، بل احترامًا" وفي موضعٍ ثالثٍ: " لأدثّر البرد الّذي تسلّلَ عبر فتحات معطفي المثقوب، ذاك الّذي لم تنخره الفئران، بل أصابع أطفالي الصّغار الّتي تتعلّق بي فأتعلّق بمهمّتي أكثر"، وقد نجد هذا الأسلوب البلاغي الّذي يُطلِق عليه البلاغيّون مصطلح: "التّغاير" قد استُعملَ بكثرةٍ في الشّعرِ لا السّرد لا سيما الجاهلي منه وهو قائمٌ على تضادِ المَذهبين ومن هذا أن يفضلَ القائلُ شيئا على شيء، ثمّ يعودُ فيجعل المفضول فاضلًا، أو يفعل ذلك مع غيره، فيجعل المفضول عند غيره فاضلًا، وبالعكس كما جاء مثلا على لسان امرئ القيس حين قال: " فإما تريني لا أغمِّضُ ساعةً ... من الليلِ إلا أن أكبَّ فأنعسَا"
فنجد أنّه نفى النّومَ وأثبتَ النّعاس، ولأنّني أؤمن بأنّه يحق للشّاعر ما لا يحق لغيره فلن أتساءل عن ليلةِ الملك الضِّليل وكيف قضاها؛ غير أنّني سأتساءل عن سبب جنوحِ الكاتبةِ لهذا الأسلوب في روايتها، سيما أنّه لا يُحدِث فرقًا كبيرًا في المعنى، ولا يخدم الدّهشة الّتي من الممكن أنّها حاولت إيجادها عبر هذا الأسلوب، لكنّني بالرّجوعِ للجمل المركبة الكامله أو الفقرات الّتي تحتوي على العبارات المعتمِدة على هذا الأسلوب؛ شعرتُ أنّ الكاتبة لجأت له لأنّها الطّريقة الوحيدة الّتي من خلالها قد تسلّط الضّوء على ما لم يتم ذكره من أشياء ومشاعر رغم أهميّتها لديها؛ فبدا ذلك كنوعٍ من الاعتذار عن ذكر ما هو أهمّ منها للقارئ أو لأبطال الرّواية الآخرين.

يحدث هذا بالتأكيد في روايةٍ ابتدأت باعتقال الأم فاطمة وانتهت باستشهاد يوسف الشّاب، فالأشياء والمُحيطات والمؤثّرات أكثر ممّا تستطيع الكاتبةُ حصرَه، تلك الّتي ستتساءل بعد أن تغلق آخر صفحةٍ من روايتها: هل تمارسُ هذه المرأةُ حياتَها الآن كما يمارس النّاس على اختلاف مصائرِهم حياتَهم؟ فهي مِن " أناسٍ لم يشبعوا من الفرح، وإن كان بعضهم لم يتذوّقه بعد"، وهي لا غيرها " مَن علَّقت جانبًا كلَّ أحلام بنت الرّابعة عشرة من العمر، وغلَّفتها كي لا تتطاولَ عليها السّنون، قائلةً لها: لن أغيب طويلًا"، وهي بالطّبع تلك الصّغيرة الّتي "في طريقها إلى البيت بصحبةِ «مها» لم يستوقفها شيءٌ سوى رائحة الطّعام المنبعثةِ من بيوت الجيران، تلك الرّائحة الّتي تحوّلها لطفلةٍ في الخامسةِ من عمرها، لتثِبَا معًا وتتسلقا شبابيك البيوت، لا لأنهن جائعات؛ بل لهفة باستشعار ذاك الدّفء القادم من خلف الجدران، فرائحة الطّعام تعني أنّ هناكَ أمًّا داخلَ البيت، وأنّ هناك أسرةً... وهناك كل ما ليس لدى الفتاتين".

ستتساءل لأنّها قبل أن تفتقد أمَّها وهي على قيد الحياة افتقدت صوت "تك" المنبعث من على لسان المقصِّ الّذي كانت تستعمله أمّها لقصٍّ ثوبٍ تعبَّق برائحةِ الأرض، لأنّها اعترفت أمامَك بوضوح " أنَّ بعض الأخبار لا تذاع إلّا بعد موتنا، كيلا تقتلنا مرّتين"، لأنها قد تجيبك على تساؤلك بسؤال مفاجئ: "هل يدفعُ الإنسان ثمن حبّه للوطن؟" لأنّها في روايتها أقسمت دون أن يطلب أحدٌ منها ذلك على أنّ ذاكرتها تعرّضت يومًا للعطب لساعات من هول الفاجعةِ، فهل من الممكن أن تقسمَ لك أنّ هذا الأمر لم يتكرّر بعد ذلك؟
لن تجدَ جوابًا شافيًا لسؤالك على ما أعتقد لأنّ الكاتبة ذاتها لم تجد جوابًا طوال الرّواية على أسئلتها، حتّى إنّها فشلت بذلك حينما لجأت إلى رأس «خالد» النّائم بعد أن حدّثت نفسها قائلةً: "رأسه كبير، لا بد أنّ فيه إجاباتٍ لسؤالي، أراني أقرّر نيابةً عنه أنّ لديه الإجابة". لن تجد جوابًا لأنّ الأمّ الّتي قالت ليوسف: "يا يوسف اشتقت للفرحة، بدي أفرح يمَّا" هي أمّ الكاتبة ذاتها الّتي خرجت من السجن ولم يخرج منها؛ أمّ الكاتبة الحقيقيّة في الرّواية وفي الواقع وفي الذّاكرة المُتعبة.

أمَّا ذاكرتي أنا فتستحضر الآن مقعدًا في منتدى تاجِ الثّقافةِ- اللّويبدة- عمّان، كنتُ قد جلستُ عليهِ أشاهدُ عرضًا مسرحيًّا أدَّت سهامُ كمتطوّعةٍ فيه دورَ مجنّدة صهيونية، بدت بارعةً بأداء دورها لدرجةِ أنّي كرهتها معتقدًا أنّها صهيونية بالفعل، حتّى إذا التقيتُ بها مصادفةً بعد ذلك عبَّرتُ عن مدى إعجابي وكرهي باتقانها ذاك الدّور البغيض، ثمّ وبعد سنواتٍ أدركتُ كيف استطاعت تقمّص ذاك الدّور؛ أو كيف استطاعت ترجمة كراهيّتها الشّخصيّة وبغضها للصّهاينة عبر تقليدِها المتقن لما شاهدَته بأمّ عينها أو تعرّضت له من عدوّها لسنوات طوال! فنحن عادةً نراقب جيّدًا مَن نحبُّ جدًا، ومن نبغض جدًّا وجدًّا، ولعلَّ مراقبتها الحثيثة للقاضي الغشوم المكرّر بنسخهِ العديدةِ في محاكم الاحتلال مَن حفَّزها لجعلهِ أحد أهداف الرّسائل الّتي بعثت بها للكثيرين في نهاية الرّواية؛ بيد أنّها لم تصفه كعادتها بل قالت له:
 
" أمَّا أنت أيّها القاضي البريء من كلِّ التهم الموجهة إلي، فإنّ الأرض تلد أطفالها، وعندما يغتالهم ضيق الحياة تعودُ لتبتلعهم" على الرّغم مِن ثقتي أنّها تستطيع أداء دوره أيضًا في عرضٍ مسرحي آخر قد يفضحُ حقيقةَ المَطرقة الّتي بين يديه؛ والّتي لا يضربُ بها على الطّاولةِ لإضفاء الهدوء في قاعة المحكمة بل لإضفاء السّكون التّام في قاعة الرّوح عبرَ تصفيته للأحرار من الأبرياءِ وقتلهم، على الرّغم أنّ هذا لا يهم مَن هُم تحت المقصلةِ في أغلبِ الأحيان، "فما أتعسَ الحياة حينما يصبحُ الخيارُ بين نصف الموتِ والموتِ هو أفضل الخيارات"، وعليهِ يا صديقي فإن قابلتَ يومًا سهام أبو عواد فلا تسلها من باب الفضولِ عن كيفيةِ تعاطيها وتعايشها مع الحياة، أو ما لم تُفصح عنه في الرّواية، بل سلها فقط ما دمتَ سائلًا: مِن أيِّ جزءٍ محتلٍّ أنتِ؟

 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف