
فاضل المناصفة
حرب لن تحسم بالمفاوضات
قبل الانتخابات الرئاسية الروسية في سنة 2000 أجرى بوتين حوارا مع الصحفي دافيد فروست لهيئة الإذاعة البريطانية قال فيه " روسيا جزء من الثقافة الأوروبية، وأنا لا أعتبر بلدي بمعزل عن أوروبا وعما نتحدث عنه غالبًا على أنه العالم المتحضر". ولذلك، فإنني أتخيل بصعوبة أن الناتو هو عدو "، أردت التذكير بمقتطف من هذا الحوار الذي قدمه بوتين لأضعكم أمام حقيقة مفادها أنه مهما حاول بوتين أن يقنع نفسه بأن روسيا تسير في الطريق الصحيح وأن ما تمر به روسيا سيجعلها أكثر قوة لا يمكنه اخفاء حقيقة أن روسيا اليوم تعيش عزلة إقليمية تبتعد فيها عن مكانها الطبيعي و تسير في نفق مظلم كان من الاحسن تجنبه قياسا بما خلفه من أضرار بالغة على الاقتصاد الروسي الذي تضرر بشدة بعد انسحاب المئات من الشركات الأجنبية وحرمانها من نظام سويفت ومن استقطاب السياح الأوروبيين، حصل كل هذا من دون أن تأتي تلك التضحيات بثمارها، أو أن تتمكن من اجبار الغرب على التراجع وترك أوكرانيا تواجه مصيرها بل العكس من ذلك فقد أصبحت مسألة دعم أوكرانيا مسألة شبه مقدسة لدى الحكومات الغربية وفي مقدمتها أمريكا رغم تعرضها لوابل من للمعارضة الشعبية التي ترى أن الدعم لا ينبغي أن يكون على جيوبها.
500 يوم من انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا والذي لايزال مستمرا بين كر وفر وتقدم سرعان ما يليه تقهقر لتبقى الأمور على حالها ويزداد إصرار الطرفين أي الغرب وروسيا على حسم المسألة حسما عسكريا في ظل غياب عملية سلام جدية من شأنها أن توقف الفاتورة الباهظة للعقوبات على روسيا وعلى الغرب الذي يدعم أوكرانيا بسخاء بدفتر شيكات على بياض تاريخها مفتوح.
غاص بوتين في الوحل وغاصت معه روسيا بعد أن أصبحت نقطة الانطلاق غير مرئية وقرار التراجع أمرا يعني " الهزيمة "، ثم قفز بريغوجين من القارب قبل أن يغرق في تمرد انتهى ظاهريا ولكن ارتداداته على الجبهة الداخلية ستبدأ بالظهور مع مرور الوقت مهما حاولت البروباغندا الإعلامية أن تضع مساحيق التجميل وتصف ما حدث بعملية التنظيف التلقائية لروسيا من الخونة، وبعد أن كان قرار بدء الحرب قرارا روسيا أصبح قرار انهاءها مرهونا بمدى قابلية الغرب لجلوس أوكرانيا على طاولة المفاوضات وهو أمر لا تريده الولايات المتحدة لأنها ترى في الخطأ الاستراتيجي الذي قاد بوتين الى أوكرانيا فرصة لا يمكن تفويتها لإضعاف روسيا ولإنهاء ما تبقى من مشروع عودة الدولة السوفياتية الذي يحلم به " القيصر ".
كان من الخطأ الكبير اعتبار أن موقف الغرب وتساهله مع عملية الغزو الأصغر على جزيرة القرم خشية من حجم الضرر الطاقوي الذي كان سيترتب عن معاقبة روسيا سيكون نفسه أثناء تنقيذ عملية الغزو الأكبر، المتعاطفون مع بوتين توقعوا أن جنوده ذاهبون في نزهة الى كييف، وأن مسألة سقوط نظام زيلينسكي ستكون سريعة وشبيهة بعملية سقوط صدام حسين، لم يتوقع المحللون العسكريون على اختلاف مدارسهم بأن تطول الحرب بمثل هذا السيناريو ولكنهم أجمعوا على أن العالم مقبل على حقبة سوداء سيدفع ثمنها البسطاء على بعد آلاف الكيلومترات، ذلك لأن الحروب دائما ما تأتي بانعكاسات سلبية على أسواق الغداء والطاقة يستفيد منها الأقوياء ويتضرر منها الضعفاء.
توقفت إطار العملية العسكرية لدى بوتين عند ضم إقليم دونباس وإعلان قيام جمهوريات الموز بعد استفتاء صوري ثم تحت تهديد السلاح، لكن ذلك لم يشفع بأن تنتهي الحرب من جانب واحد، ذلك لان المقاومة الأوكرانية المدعومة غربيا لا يمكنها أن تسمح لبوتين بأن يسترجع قواه مجددا ليخلق هو أو غيره بعد سنوات أسبابا جديدة للمضي في حرب جديدة ربما يتم الحديث فيها عن استرجاع يوغوسلافيا فالخسارة في أوكرانيا تعني إطلاق العنان لنزعة روسيا التوسعية المستوحاة من الفكر السوفياتي.
دائما ما تشن الحروب عندما تتوفر الأسباب أو تخلق الدولة المهاجمة تلك الأسباب لتبرير حربها، اما نتائج الحرب فقد تكون اما فوزا عندما يتم تسقط الدولة المهاجمة نظام " دولة العدو " أو فشلا عندما تتراجع الدولة المهاجمة ويصبح الهجوم عكسيا، أو لا غالب ولا مغلوب عندما تحسم المفاوضات الحل بين الطرفين، وفي حالة روسيا فانه وبالنظر الى الأسباب التي انطلق بها بوتين لتبرير غزوه والتطورات الميدانية الحاصلة في أوكرانيا فانه لا يمكن انكار بأن روسيا اليوم في ثوب الخاسر ذلك لأنها عمليتها العسكرية لم تثنى حلف الناتو على تزويد أوكرانيا بالسلاح ولا على نشر أسلحة هجومية بالقرب من حدود روسيا بل ان الناتو أقدم على توسيع حدوده مع روسيا من خلال انضمام فنلندا في عز الحرب الروسية في أوكرانيا، يتأكد لنا من خلال مجريات الحرب أن الطرف الأكثر حاجة الى مفاوضات لتجنب الهزيمة هو بوتين، وأن الغرب أصبح أكثر إصرارا على استمرار الحرب و هزيمة الروس بغض النظر عن التكلفة والمدة الزمنية.