الأخبار
علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيلإسرائيل ترفض طلباً لتركيا وقطر لتنفيذ إنزالات جوية للمساعدات بغزةشاهد: المقاومة اللبنانية تقصف مستوطنتي (شتولا) و(كريات شمونة)الصحة: حصيلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 32 ألفا و490 شهيداًبن غافير يهاجم بايدن ويتهمه بـ"الاصطفاف مع أعداء إسرائيل"الصحة: خمسة شهداء بمدن الضفة الغربيةخالد مشعل: ندير معركة شرسة في الميدان وفي المفاوضاتمفوض عام (أونروا): أموالنا تكفي لشهرين فقطأبو ردينة: الدعم العسكري والسياسي الأمريكي لإسرائيل لا يقودان لوقف الحرب على غزة
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قراءة نقدية في ديوان (أضغاث عتاب) للشاعر محمود البسيوني

تاريخ النشر : 2023-05-31
قراءة نقدية في ديوان (أضغاث عتاب) للشاعر محمود البسيوني

د. عبد الرحيم حمدان

قراءة نقدية في ديوان (أضغاث عتاب) للشاعر محمود البسيوني

إعــــداد: د. عبد الرحيم حمدان

تتغيا هذه الورقة النقدية دراسة ديوان (أضغاث عتاب) للشاعر محمود البسيوني([1])، والكشف عن مواطن الإبداع واستخراج الخصائص الأسلوبيَّة والسمات المبثوثة في النَّص، والتي يستحق بها المنشئ مظاهر التفرد، ويمتاز بها عن الآخرين، فضلاً عن رصد أهم خصائص خطابه الشعري، وقيمه التعبيرية والجمالية الكامنة فيه التي انعكست أسرارها في طرق أدائه للمعنى، أو الكيفية التي شكّل بها نصوصه الشعرية، وتتكون هذه الورقة النقدية بالجملة من بعدين هما:

البعد الأول: توطئة:

صدرت هذه المجموعة الشعرية التي تحمل عنوان:(أضغاث عتاب) عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع، مصر، بورسعيد عام 2021م، ويقع هذا الديوان في مئة وخمس صفحات من الحجم المتوسط، ضَمَّ بين دفّتيه (16) ست عشرة قصيدة تعبر عن تجارب شعرية متنوعة تحكي حكايات الشاعر في عتاب الحبيب ، وهو الديوان الشعري الثاني له، إذ سبقه ديوان حديث المجدلية سنة 2020م صدر عن دار الكلمة بغزة.

وأغلب الظن أن الذات الشاعرة قد نحتت من خيالها محبوبة مفترضة، حاول الشاعر ببراعة واقتدار أن يوهم المتلقي بوجودها، وأخذ يعاتبها على عدم مبادلته مشاعر الحب، ويبوح لها بحبه وقلقه ومعاناته وذكرياته؛ لعلها تلين أو تُنهي هذا الجفاء، ويجعلها تبادله مشاعر الحب وعواطفه، ولكن بلا جدوى وبلا فائدة ترتجى.

لقد تربّصت به الحياة، فناوشها بسكون داخلي، وعتاب طويل، ومناجاة حرَّى، امتد في عمق الأعماق، عبر عنها بعاطفة وجدانية صادقة، وأحياناً يشعر المتلقي أن لدى الشاعر قدرة مبهرة على الخروج من الخاص إلى العام، وتحويل إشكالية العتاب إلى قضية إنسانية، قضية الإنسان الفلسطيني اللاجئ الذي يعاني النفي والغربة عن وطنه المحتل، ويعاتبها لعدم التخفيف من معاناة شعبه وآلامهم.

ستة عشر عنواناً لست عشرة محطة عتاب السادس منها عنوان المجموعة، فكانت: مِنسأةُ الحب، حبل مشدود، أنصاف احتمال، أيقونة للوجع، سقوٌط ُحر، أضغاث عتاْب، ُطفوليةٌ، طعنة في الحب، يثقل الدمع، أشباح عارية وغيرها.

وعنوان الديوان واضح، ليس مضللاً للقارئ، وهو ينتظم قصائد الديوان بأسرها، فكان بمثابة خيط حريري رقيق وشفيف، يأخذ بخصلات القصائد في تجربة شعرية واحدة هي العتاب.

يُقصد بكلمة “أضغاث” أنها جمعٌ من أمور مختلفة، وهي أمور مختلطة ملتبسة لا يصحُّ تأويلها ومنها الأحلام؛ لأنها ليست برؤيا بَيِّنة.

أما العتاب، فهو نوع من اللوم للطرف الآخر الحبيب؛ لأنه لم يتصرف بالطريقة التي كان يتوقعها منه الشخص المُعاتِب، وهذا السلوك في الغالب نوع من طلب الاطمئنان على أنَّ المحب ما زال يحبه. أما عبارة أضغات عتاب، فتَعنِي أن الشاعر يحمل أنواعاً متعددة ومختلطة ومتنوعة من اللوم للحبيب، والتي لم يكن يتوقع أن يتصرف هذا الحبيب معه بمثل هذه الطريقة. ولعل الشاعر استمد عنوان مجموعته من التراث الديني لا سيما قوله تبارك وتعالى: )قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ* وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ( (سورة يوسف: ٤٤).

وقد زُين الغلاف الأمامي للديوان بلوحة الفنان التشكيلي محمد يوسف صافي صاحب الحسّ الرهيف، والخيال الشاعري، وقد جاء لوحة متناغمة بقدر كبير مع محتويات الديوان، وهو يضم كَمَّاً من العناوين التي قدم بها الشاعر من أضيق أبواب الشعر، معتمداً فيها على رسومات داخلية جميلة معبرة للفنانة بسملة البسيوني ابنة الشاعر.

أما الإهداء، فهو عتبة مهمة، وموجه دلالي كاشف لدلالات الديوان، يقول فيه:

إلى.. سيدة الحب حين تعتلي سقف أحلامها وتسقط على أرض الأضغاث.

إلى.. رجل الحقائق وكيف يعتلي أرض الخيال، ويُدفن تحت حروف التراب.

إلى.. أغصان الزيتون والبرتقال وهي تلوح للمارين في حقول الذاكرة. (الديوان: 5 ).

والإهداء مرتبط ومتلاحم بالمضمون الفكري الذي يسري في عروق قصائد الديوان، ويعكس أفكاره ومعانيه وصوره.

والعتاب بين الأحبة فن شعري وجداني ذو قيمة تعبيرية فنية كبيرة، إذ يبقى الود ما بقي العتاب، فالحبيب حين يعاتب أحبابه، فإنه يبوح بحبهم بحرارة، فعاتبه لهم هو عنوان الحب؛ إن العتاب بين الأحبة ضرورة لبقاء العلاقات العاطفية الوجدانية نقية لا تشوبها شائبة، فالعتاب باب مفتوح للحب والود والمشاعر الدافئة، يقول الشاعر في العتاب:

هي أُنثى الخواطر الباقيهْ

تسكن بين ضلوع الذاكرهْ

الطفولة … زادُها

عطر الورد… أنفاسُها

بين أحضان الطبيعة لاهيهْ

وفي جَوفِ المشاعر… كامنهْ

***

لا قصائد دونها

لا لوحاتٍ مُزيّنة

كل مناسك الجمال دربها

إنّها الفاتنه

فوق أرشفة المحطات القادمهْ

طفلة الحب الزاهدهْ (الديوان: ٤٨ ، ٤٩).

والمحبوبة في الديوان بدورها تعتب على الشاعر، وتبوح بمشاعرها تجاهه، ولكن المتلقي يسمع صوتها وشكواها، وهي تناجيه وتناديه من خلال صوت الذات الشاعرة، ويبدو أن الذات الشاعرة، وهي تعاتب الحبيب، كانت تعاني من صدوده هذا الحبيب وإعراضه ووعوده الكاذبة الخاطئة، فالشاعر يروي بمعانيه ظمأ الروح للوصال واللقاء، واستمرار العلاقة.

والحديث عن العتاب يستلزم استحضار الذكريات التي كانت تربط المحبين؛ لأن الذكريات الحلوة توقظ كل مشاعر الحب والألفة المدفونة في حياة المحبين، وهذه تشكل عنصراً مهماً في علاقاتهما.

والذكريات كلمة تشمل كل ما مضى من أحداث، وكل ما مر بالفؤاد من أفراح أو أتراح، وتشمل كل حدث خرج عن حدود اللحظة الحالية، وأصبح ماضيًا، والذكريات في حياتنا هي التي يمكن أن نحملها في حقائبنا، ونحن ماضون في رحلة الحياة؛ لأن الحاضر لا نملكه والمستقبل لا نعلمه. ومهما حاول الإنسان نسيان ذكرياته مع من أحبّ لا يستطيع ذلك؛ لأنّ الذكرى تبقى خالدة فينا، يقول الشاعر:

مَنْ غيَّر ملامح الشمس؟

وعادَ يَتبعُ الظَّل !!

يقف فوق الركام ينتظر الدفء !!

يا سيدة القلب…

أنا رجل باعَ التاريخ

لذاكرة الأمسْ

وأفرغ في تضاريس الحياة

أرقام من الغدْ (الديوان 43 ).

وما زال الشاعر يحمل في خلال تجربته المعيشة مع المحبوب ذكرياتٍ خصبة، إنه يتذكر الوعود الكاذبة بالوصال، إنه يستحضر من الذكريات ما كانت جنَّة للقلب، وسعادة له، ثم صارت جحيماً للروح وشقاءَها، فالذات الشاعرة / العاشقة تركض إلى تلك الذكريات، تناجيها، لعلها تعود إلى أيام الصفاء، يقول الشاعر:

بضعُ نِساء

يَحْكُمنَ… المدينة

وقفنَ على رصيفِ ذاكرتي

وأنا أكسر قوانين الورد

أقطف أنفاس الوعدِ

فتزج بي سنواتُ البعدِ

في سجن الصمت

لا سجَانَ يُطعم الشوق

لا ضوء يمسح الخوف

فقط أيقونة للوجع

تُعيد ترتيب الذاكرة ( الديوان ص: ٣٢ ، ٣٣ ).

فالشاعر في هذا المقطع يوقظ في المتلقي الإحساس بقيم الحب النبيل والمحبة، مع نبذ العنف والكراهية، إنه يبعث برسائل شاعرية تعيد ولادة المتلقي من جديد، وتحيي فيه القدرة على ربط المسافات، وتكسير لغة الصمت القابع فيه، بنفحات الفراق والتمرد على الذات كعاشق للأحلام والحرف. يقول في قصيدته التي جعلها عنوان ديوانه ” أضغاث عِتاب”:

مكسورٌ منذ أول قصيدةٍ

وآخرِ نبضة … للشوق

أحملُ فوق أكتافِ الغرام

تابوتَ ذاكرة

وبضعَ كلماتٍ في الحب أخبرتكِ…

أنّ الوعد

سرق كل خبايا الخلوة

وقبل أن أَشدُدْ بك وجعي

ضاعتْ مناسكُ العشق. (الديوان ص:٤١ ).

فالشاعر مسكون بلوعة الحرف وجماليته، حين يبوح بإنسانيته من رحم العشق، إنه يحاور خليلته ويناجيها، ويجعلها كأنها ماثلة أمامه، إنه كتلة مشاعر، محولا إياها للوحة حالمة مليئة بالصور والرؤى والأفراح والأتراح والأحلام والأشواق والحنين.

وعلى الرغم من صدود الحبيب، فإن الشاعر العاشق لم يضعف، ولم يفقد الأمل، ولم ينكسر، ولم تتطامن كبرياؤه، وظل صامداً أمام جفاء المحب وصدوده، فكثيراً ما يعلن في شموخ يقول الشاعر:

سأصنع من

ركام الدمع في صدري

بيتاً أعتزلُ فيه البكاء

أرسم على جدرانه

كل الأماني

تاركاً خلفي نافذة الدعاءْ

تُطلُّ على مشارف النداءْ فما سكنَ قلبٌ

ونبضٌ خطفتهُ البراري

ما استكان عُمرْ.

ومهجعٌ مسلوبُ الخواطر. (الديوان٥٦ ).

لم يقف الشاعر في عتابه عند الحبيب؛ وإنما يتجاوزه إلى عتاب الدنيا والأحداث والأزمنة التي جعلت منه وأهله لاجئين يعانون مرارة الغربة، ومأساة المنافي بعد أن كانوا في أرضهم ينعمون بالأمن والسلام، يقول في قصيدة (قتيل الغربة):

لأن جدتي فَلاحةٌ

تَسكُنُ حُقول الغياب

وأُمِي أَسْقَطَهَا الخَرِيفُ ربيعاً

فَلَمْ أمتلك مِنْهُمَا

إلّا… سُنبلةً في مفتاح

وبعض الحكايات الجائعة

عنْ خُبز العودة.

ولأنني كُنتُ حُضوراً

دون إياب

أبكيتُ الانتظار عُمرا

كَأنّي العائد من رحلة الموتِ

من زفير الأوطان لأستقبل التراب بالتراب

وأُدفن في مقابر النسيان (الديوان: ٩٥).

يجد المتلقي أن الشاعرَ يرصد في قصيدة ثانية معاناة أسير يعاني وزملاؤه الأسرى ألواناً من الغربة، يقضون زهرات أعمارهم وراء القضبان، وقد أضرب عن الطعام في أقبية أحد السجون الصهيونية متخذاً من أمعائه الخاوية سلاحاً للدفاع عن كرامته وحريته، فأخذ يعاتب الإنسانية بأسرها التي لم تبذل جهدا لتحريره من ظلم المحتلين، يقول: في (قصيدة ماء وملح):

تَخضّبتْ ذاكرةُ الوطن

جراد النسيان

يأكل حبات المطر

يلعق شمسَ الأكاذيب

فصولٌ مزدحمة

تتعاقب أسراً ويدٌّ مكبلة

بحديد لا يصدأ

***

أسيرٌ يلوّن قُضبان الظلم

يَغرقُ في ألوان الحرية

يكرر الغرق

كلما مرت مراكب التبادل

ويرفض النجاة بيد آلاف الغارقين

أعلن العصيان ماء وملحاً

ثورةً ضد جدران المحتل (الديوان: ٩٩ ، ١٠٠).

والمتأمل في ديوان الشاعر موضع الدراسة يرصد تطوراً ونضجاً طرآ على هذا الديوان موازنةً بديوانه الأول(حديث المجدلية) سواء في المضامين الفكرية أو في آليات التعبير الفني، ويأمل المتلقي في أن يستمر الشاعر في تطوير تجاربه الشعرية؛ لتكون قدمه راسخة في إبداعه الشعري، يقول وهو يرسم لوحة فنية لسجين فلسطيني يقبع في غرفة العزل في أقبية إحدى المعتقلات الصهيونية:

أُمضُعْ صُوَر ذَاكِرتي

سأَعْفُو قَليلاً

أراقب بطرفة عينٍ

خروج الظلامْ

الكلُ نِيَامٌ إِلَّا أَنا

ألهثُ خلف الضوء

أسكن محطة انتظار

أرسم على الجدران اسمي

أنا … غُرفةُ العَزلِ([2])

المحور الثاني – الخصائص الأسلوبية في ديوان (أضغاث عتاب):

تمثل الخصائص الأسلوبية في ديوان (أضغاث عتاب) سمات بنائية في تجربة الشاعر الشعورية، والتي تتبدى في جملة من الظواهر متمثلةً في ـظاهرة التناص القرآني، إذ ضمن الشاعر إنتاجه الكثير من النصوص القرآنية، وكان هذا التناص في خدمة المعنى الشعري، وفي تعميق الفكرة التي جاءت في سياقها، سواء أكان ذلك في التناص مع المفردة القرآنية أم التناص مع التراكيب القرآني، وظاهرة الصور الفنية، ويجد المتلقي في أشعار الشاعر الصور الفنية الموحية التي تعبر عن نفسية الشاعر في لحظة العتاب، وفي لحظة الشوق والفرح، وظاهرة الموسيقى الشعرية، إذ وظف الشاعر هذه السمة الأسلوبية؛ لإبراز أجمل الإيقاعات النغمية، وظاهرة المعجم الشعري، وهي إحدى التقنيات الأسلوبية التي وظفها الشاعر، لإبراز المعنى، وتوثيق الموضوع في نفس المتلقي، التي استثمرها الشاعر بتجلياتها الفنية، وأبعادها الجمالية، لتشكيل لغته الشعرية على نحو يكسبها طاقات إيحائية.

إن موضـوع الخصائص الأسـلوبية ينهض على تحليل النـص الأدبـي، والكشف عن بنيته العميقة للتعرف إلى السمات الأسلوبية، ويهتـم – أيضـاً- بالمتلقـي، فهـو شـرط ضـروري لاكتمـال عمليـة الإبداع، فالمتلقـي هـو الـذي يبعـث الحيـاة فـي النـص الأدبـي بتلقيه وتذوقه، وفي مكنة القارئ أن يعد معرفة الخصائص الأسلوبية منحـىً حديثـاً فـي قـراءة النـص بمـا يحمـل مـن ظواهـر صوتيـة، وصرفيـة تركيبيـة ودلاليـة.

إن المتأمل في الظواهر اللغوية والأسلوبية في شعر الشاغر يكتشف إنها وفيرة ومتنوعة، وتتميز بالبساطة والوضوح والأناقة، والبعد عن التعقيد، والتوحش اللفظي؛ مع الحفاظ على الرونق، ورقي التعبير، ومن الظواهر الأسلوبية التي سيتم مقاربتها فيما يأتي.

أولاً – التناص مع القرآن الكريم:

تبدت ظاهـرة التنـاص بشـكل ملحـوظ فـي الشـعر الحديـث، وقد انعكســت هذه الظاهرة فــي الخطــاب الثقافــي، الشــفاهي والتدوينــي البنائــي، وفــي أشــعار الديوان لا تكاد تخلــو قصيــدة مــن قصائده من هــذا الأسلوب التعبيري، إذ إن تنـاص الشاعر مــع آيــات القــرآن الكريــم أخــذ مجــالاً واســعاً، ولعـل اهتمـامه باسـتدعاء النصـوص القرآنيـة يعود إلى تعلــق الشاعر بالقرآن الكريم.

لعـل اهتمـام الشـاعر باسـتدعاء النصـوص القرآنيـة يعود إلى مــا يمثلــه القــرآن الكريــم مــن ثــراء وعطــاء متجدديــن للفكــر والشــعور فهماً وتأثراً واقتباســاً([3])، ومـع ذلـك يظـل القـرآن الكريـم دائمـاً نصـاً مقدسـاً عنـد الشـاعر المعاصـر يتعلـم منـه ويحلـم بـه، فهـو منتهـى البلاغـة ومسـتقبل الكتابـة مهمـا كان نوعهـا وتاريخهـا.

استلهم الشاعر معاني القرآن واستعار ألفاظه، واستعاد قصصه ليضمنها نصوصه الشعرية؛ بهدف إغنائها بالصور الفنية وإثرائها بالأبعاد الرمزية. ومن مواطن هذا الضرب من التناص مع القرآن قول الشاعر في قصيدة بعنوان: (يثقل الدمع) قوله:

وتلكَ كانتِ امرأة نوح

آمنتْ بكفرها… فغرَقَتْ

وأنتِ حسبتك طفلةَ اليم

تكبرين حُباً رغم فرعون

فأنجو من ذبح طفولتي

أو أنك تركبين سفينة النجاة

تؤمنين أن وجداني… بحر عميق.( الديوان: 61 ).

ففي هذا النص تقاطُعٌ مع النص القرآني بشكل مباشر مع قصة سيدنا نوح – عليه السلام- وامرأته الكافرة، وقصة امراة فرعون المؤمنة، وقصة نجاة سيدنا موسى- عليه السلام- من الذبح، وهو طفل على يد فرعون اللعين، وقد منح التناص هذا النص فضاء واسعاً من الدلالة والثراء والغنى.

وفي مواطن أخرى قام الشاعر بتوظيف النص القرآني عن طريق الإحالة المباشرة، وذلك يبدو واضحاً عندما يحيل الشاعرُ المتلقي إلى قصة مريم، ومولد عيسى – عليهما السلام- في قوله:

هُزِّي إليكِ بقصائدي

يتناثرْ عليكِ رطبُ الجروح..

فقول الشاعر في المقطع السابق يحيل إلى قوله تعالى: )وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا((مريم:25 )، فقد وظف الشاعر في نصه (هُزِّي إليك) للإحالة إلى قصة السيدة مريم – عليها السلام- عند ولادة النبي عيسى -عليه السلام- ، حيث ساهمت العبارة في إثراء النص وعمقه.

وعلى الرغم من أن حالة الشاعر في هذه القصيدة تتماهى مع حالة السيدة مريم – عليها السلام- من حيث التعرض للنعمة الإلهية في أثناء الولادة، غير أن موقف المخالفة بين الشاعر وموقف الحبيبة واضح جلي، فالمحبوبة يتساقط عليها رطبُ الجروح والألم، بدلاً من رطب النعمة، يبدو واضحاً هنا أن الشاعر يحيل المتلقي إلى قصة مريم، ومولد عيسى – عليهما السلام- إنه لا يقوم بالعتاب إلا لمن يستحق ذلك، أما من لا يستحق العتاب، فهو بالنسبة للمتلقي وله لا شيء.

ويجد المتلقي هذا التناص غير المباشر مع القرآن الكريم في مواضع متعددة في شعر محمود البسيوني، يتكون عن طريق الإيحاء، نتيجة استخدام ألفاظ وظيفية، ومن ذلك النوع الذي يكشف بقوة عن دلالات النص واتجاهاته الموضوعية والنفسية، فالإحالة هنا تكون دلالية أكثر منها تناصاً، من حيثُ إِنها تختزل الفكرة كسياق إلى كلمة تدل على السياق نفسه، فيختفي النص القرآني من القصيدة، في حين أن القصيدة تلمح إليه، يقول الشاعر:

يا صاحِبتَي الحُب

أما إحداكُما فتسقي

السنوات مرّ الحكايا

وأمّا الأُخرى فتصلبها

الدموع الحارة

وتأكل من رأسها الخطايا لستُ نبي الصدق

كي أَصْدُق الأحلام

ولا تشبهها زليخة

التي أبيضت عيناها

من شدة الفراق

وشاب شعرها من هول اللقاء (الديوان 56 ) .

وفي هذا المقطع الشعري يجد المتلقي تداخلاً واضحاً عن طريق الإيحاء مع أكثر من آية من الآيات القرآنية، ولكن بشكل غير مباشر؛ ومن ذلك قوله تعالى في سورة يوسف -عليه السلام-: )يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسقِي رَبَّهُۥ خَمرا وَأَمَّا ٱلأٓخَرُ فَيُصلَبُ فَتَأكُلُ ٱلطَّيرُ مِن رَّأسِهِۦۚ قُضِيَ ٱلأَمرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَستَفتِيَانِ( (يوسف: 41 ) .

وقوله تعالى حكاية عن النبي يعقوب-عليه السلام-: )وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ( ( يوسف 84 ).

وقوله تعالى حكاية عن النبي زكريا-عليه السلام- )وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ( (مريم:4)؛ الأمر الذي يعتمد على وعي المتلقي وإدراكه وسعة معرفته في تحديد العلاقة غير المباشرة بين النص الشعري.

لقد نجح الشاعر في إثارة انتباه المتلقي وجعله يعود إلى كتاب الله وما فيه من بلاغة وصفٍ، وإعجاز قرآني، ويجد المتلقي أن التناص في الديوان على الرغم من تنوع موضوعاته قد جاء منسجماً ومتلائماً مع تجارب الشاعر الشعورية المتعددة.

ثانياً – الصور الفنية:

عُني الشاعر عناية كبيرة بالصورة الفنية في أشعاره، وهذا الاهتمام يرجع إلى أهمية الصورة من حيث كونها تبرز القيمة الفنية للعمل الأدبي، والجوهر الثابت فيه، فالصورة الخيالية هي لمسة فنية يصبغ عليها الفنان من ملكته وخياله ويتفاعل معها بكل حواسه، ويحرك طاقته، حيث تحلّ روحه في لوحته أو قصيدته؛ لتظهر في نهاية الأمر بشكل يؤثر في النفس، كما هي إبراز للقيم المعنوية والروحية، وإدراك لحقائق الأشياء، وربط بين الأمور المتباعدة.

فمن الصور الفنية التي وردت؛ لوحتُه الشعرية الرائعة المكونة من تشبيهات خيالية، واستعارات مكثفة، قول الشاعر:

هاك مقلتي … منجلاً للقرب

ازرع خلف رؤياي مشتلاً للعمر

… أمّا تحت خُطاك

فبذور تُسقى بالدمع

تمتد كشريان النبض

وفزَّاعة الموت

ما عادت تخيف غِربان الشوق

فلا تخشَ صياح الصبر

أكملِ الزرع… ( الديوان: ١٩ ) .

فالمقلة منجل، والعمر مشتل، البذور تمتد كشريان النبض، الصبر كالصباح، والاستعارات الموحية: الدمع يسقي البذور، ولفظة الغربان رمز للسوء والشر.

وفي لوحة تصويرية أخرى يجسد فيها الشاعر غنى مشاعره وعواطفه وأفكاره، فيقول:

ولأنَّكِ تَأْتِين كطيف شمسٍ

سأحترق ليلاً

متوهج الأشواق

سَتَّكْسَرُ كُلَّ مَرايَا المحتل

وأَتَشَبَّهُ بِزجاجِ مَحْضَبِ الدِمَاءِ

كلاجئ ينفخ في بوق العودة

يصطف في طابور الصبر

ويعلم أن القلم لا يفيض حبراً

تَحتَ الركام

ولا يتنازَعُ الرِّمادُ اشتعالاً

فوق الدمار (الديوان 96 ، 97).

ومن اللوحات الفنية التي رسمها الشاعر؛ لينقل أحاسيسه وأفكاره للمتلقي ويحدث المشاركة الوجدانية معه، قوله:

صبرٌ جميل …

فقد أرهقني الدهر

أَكُل كَبِدَ التمني

ومضَغَ صُور الدمع

أصابني بالعجز وها أنا أقفُ بِعُكّازِ حبكِ

أعاند السقوط ووجع القلب

فلا تكسري منسأة احتمالي

فأنْهارُ معكِ في قعرِ الظلم

والله المستعان على القهر !!! (الديوان ص : 45 ).

من المشاهد التصويرية السابقة يتبين للمتلقي أن الشاعر البسيوني قد بَنى صوره الفنية المفردة والكلية في جو من ثيمة الديوان الرئيسة، وهي عتاب الحبيب ولومه، وأنه استقى مصادر مشاهده التصويرية عبر تصويره الفني من منابعها المختلفة المتمثلة في تجاربه الشعورية الذاتية، وتراثه الديني والأدبي، ومعرفته العميقة بالقرآن الكريم التي كانت نبعاً ثَّراً أفاد منها الشاعر.

ثالثاً – الخصائص الأسلوبية الموسيقية:

يلمس القارئ إيقاعاً نغمياً شجياً ينبعث من تكرار الأصوات الرقيقة المهموسة التي تنسجم وحالة الشوق للحرية والانعتاق؛ ليرتفع عما في الواقع من كذب وزيف، ولا يبالي إنْ عزَّ عليه ذلك، فله وجوده في مجال الشعر، وما يصدر عنه من قلق نبيل.

ومن هذه الخصائص النغمية؛ التدفقُ الشعوري الملازم لكل حروفه يراها المتلقي جلية ويشعر به منذ أول كلمة يقرأها في أيه قصيدة من قصائده، ولا يجد المُطّلِع على إبداع الشاعر الشعري صعوبة أو مشقة في سبر غور بعض أسرار العالم الإبداعي الخاص به؛ ذلك أنها يُلبس مشاعره ألفاظاً وجملاً قريبة المعنى، أنيقة الترتيب، راقية الدلالة.

ومن الظواهر اللغوية التي تتجلى في شعره؛ الرقةُ والانسجام والعاطفة الوجدانية المتقدة وصفاء الأسلوب، والترانيم الحلوة والموسيقى العذبة، يقول الشاعر في قصيدة (طعنة في الحب) :

هان على الشمس ظلَّها

وباعتِ السنابل قمحَها

حتى السمواتِ عاندتْ بدرَها

فما سكنتْ ليلُه

ولا استكانتْ مهجعاً لهُ

أيها الباكي

فوق أطلال الشغفِ

دمعُك حارٌ…

أحرق مدنَ العمر

وأنينُ الخريف

أصابَ شتاءً مريرَ الخوف

***

يا مقلةَ العين

يا نداءَ الروح

أنصتي لدقات القدر

اقرئي …

مكتوب على جبين اللقاء

أني لستُ لكِ (الديوان 53 ، 54 ).

وفي مقطع شعري آخر ينبعث منها نغم حلو رقيق ينساب في عذوبة متدفقة، يقول الشاعر:

دعيني أُقبَلُ عينيكِ

أمتص الحنين من جفن انتظارك

أقصُّ شريط الصبر

المترهل بين خبايا الحُزن

أكتُبُكِ قصيدةَ العُمر

دعيني…

أُدلّلُ القوافي كُلّما قرأتكِ. (الديوان: 53).

إن الشاعر وهو يبدع شعره بحاجة ماسة إلى انتقاء الكلمات والحروف والأصوات واختيارها بدقة وعناية؛ حتى يحقق ذلك التآلف والتناغم والتلاؤم؛ ليكسب شعره قوة ومتانة وتأثيراً في المتلقي، هذا التأثير ينتج من تكثيف الدلالات والمعاني التي تحمل في الوقت نفسه إيقاعاً موسيقياً داخلياً يطلق عليه الجرس الموسيقي.

يتبين للمتلقي أن الموسيقى في المقاطع الشعرية السابقة تنساب عذبة رقراقة من ترابط الأفكار وتسلسلها، وجمال الألفاظ ورقتها، وقوة إيحائها، ومن جمـــــــــال الخيال وروعته.



رابعاً – المعجم الشعري:

ومن السمات الأسلوبية في الديوان؛ المعجمُ الشعري، ويقصد به تلك الثروة اللغوية واللفظية التي تظهر في الخطاب الشعري، فلكل شاعر معجمه الخاص الذي ينفرد به عن بقية الشعراء، فالألفاظ هي التي تشكل الخطاب، والتنويع فيها هو أحد أبرز السمات الأسلوبية، حيث يعتمد فيها المبدع على مخزونه الثقافي وسعة اطلاعه تلك الثقافة التي تمنح الشاعر ركامًا لغويًا يختزنه في ذاكرته، ويستدعي منه ما يناسب عاطفته وتجربته الشعرية وقت ولادة القصيدة ، فالشاعر في كل قصيدة يعمل على رصد كم هائل من الألفاظ حتى يتمكن من التعبير عما يختلج بذاته، محاولاً التأثير في المتلقي بنقل تلك الأحاسيس فتتحول هذه الألفاظ إلى دلالات مشحونة بالمعاني([4]).

برز في ديوان الشاعر معجٌم شعري ثريٌ يتجلى في ترديد عدد من المفردات والتراكيب بطريقة تعبر عن مناحي التجربة الشعرية، وتتجلى كذلك بوضوح في عملية اختيار المفردات والتراكيب وترتيبها بطريقة معينة، بحيث تثير معانيها لدى المتلقي خيالاً جمالياً تعبيرياً.

من المفردات التي ترددت في أشعاره، وتردد فيها عتاب ولوم على طول الغياب، وتعكير صفو حياته مثل: شوق، وعشق، وحب، وحنين، لقاء، فراق، عودة، معاناة، مناجاة، غربة، نفي، ارتباك، خوف، قلق، شك ، الخيبة، العجز، التمني ،الصبر، الدمع، الشغف، البعد، الصبر.

يجد المتلقي أن أغلـب مفردات النص الشعري لا تتسم بمحدودية الدلالة، فهي قد تتعدى محمولها الدلالي الأساسي إلى مجالات دلالية أخرى، إذ لم يؤطرها الشاعر بما يقصر دلالتها على الهدف الـذي يرمـي إليه([5]).

أما التراكيب الأسلوبية المكونة من الصفات والإضافات، فهي متعددة منها، إذ ثمة ألفاظ تحتاج إلى مصاحبات لكي تتراوح دلالتها إلى دلالة موحية لا سيما الصفات، يقول الشاعر:

كأنها الأماني الضاحكة

قصصٌ… مفرغة الكلام

تتلوها الخفايا الضائعة

كشهريار الوداعْ

شهرزاد الرحيلْ

تدق ناقوس المواسم

بمطرقة الخذلان

بُوق حربٍ

وراياتٌ بيضاءُ

فوق توابيت الصبر

نموت انتظاراً

وندفن شغفاً

***

كأنها عقارب الفراق

أشواقٌ… مسلوبة المسافات

ترتصف فوق الخواطر

كممرات السفر

للباقيات الخائبات (الديوان 78 . 79 )

فالصفات التي وردت في المقطع الشعري السابق منها: الأماني الضائعة، الوعود الكاذبة، الخفايا الضائعة، الباقيات الغائبات، وأما الإضافات، فمنها: ناقوس المواسم، مفرغة الكلام، مطرقة الخذلان، مسلوبة المسافات، فوق الخواطر، ممرات السفر.

إن القارئ لشعر البسيوني يتوصل إلى أن معجمه الشعري ثري، فالمفردات قد تم انتقاؤها بعناية واقتدار، ثُّمَ تَمَّ قصر دلالتها؛ لتخدم غرضاً دلالياً محدداً في ثنايا النص فقط، ولعل مردّ ذلـك يعود إلى حـرص الشاعر على إيجاد مقاربة؛ لتحقيق شروط وَحدة النص، إنه يبعث بتراكيبه اللغوية المفاجـأة والحيويـة والدهشة في وجدان المتلقي، ويدفع سيرورة النص نحو عوالم لم تُكتشف بعد، ومن التراكيب الأسلوبية التي ترددت – أيضاً – في شعره قوله:

كأنها أشباح المدينة

تتعالى كنداء الجائع

ولهفة العطشان

يهرول باكياً

خلف أحلام السراب ( الديوان 77 ).

ومما يتصل بالأسلوب اللغوي ما لحظه المتلقي من شيوع أسلوب المزاوجة بين الأساليب الإنشائية والخبرية في ديوانه الشعري، من مثل: التوكيد، والمقابلة، والتضاد، والنعت، والإضافة، والاستفهام والتعجب، والنداء، والنهي، والنفي، ومثاله قول الشاعر في قصيدة له بعنوان (نداء جاف):

…بين أنامل الحب

أوتارٌ زائفة

تعْزِف قيثارة التحمّل

بأصابع الهروب تساؤلاً

مَنْ أسقط أوراق الحياة ؟!!

رجلٌ زرع الشوك أسواراً للورد!

أم امرأة زينت الشوك بمياسم الورد؟

أكلما أخذْتُ عهداً فارغ التمني

أمتلأ بضحكات الفراغِ

كيف أعتلي قوافل العودة!!

وقد خرَّبتْ رياح الرحيل

آثارَ الإيابْ؟!



أتذكرين صفعةَ الموت؟

حين سقط جسدي فارغ الروح

وفي عينيك خوفٌ أضاع البقاءْ (الديوان ٨٣ ، ٨٤ ).

استطاع الشاعر في المقطع السابق استغلال مراوحة الأساليب الخبرية والإنشائية استغلالاً غدا واضحاً في إبداعه، وأضحت من الملامح الأسلوبية التي تشكل بنية النص في شعره، فالأساليب الإنشائية لا سيما (الاستفهامية) مثل:

مَنْ أسقط أوراق الحياة ؟!!

رجلٌ زرع الشوك أسواراً للورد! أم امرأة زينت الشوك بمياسم الورد؟

أتذكرين صفعةَ الموت؟

استطاع الشاعر أن يوظف الإنشاء (استفهاماً) توظيفاً فنياً، حيث انتقل به إلى دلالات متعددة، وإيحاءات ثرية، تضفي على النص حيوية متجددة، وحضوراً لا يبلغه النص بدونه، ولا شك أن وجوده بهذه الصورة داخل بنية النص قد أدى إلى إحياء التجربة، وحضورها في ذهن المتلقي.

وفي المجال نفسه اعتمد الشاعر على الأسلوب الخبري الذي يتناسب وتقرير الحقائق، وتوكيد الدلالة في سياق الحكمة التي يزخر بها شعره مثل قوله:

بين أنامل الحب

أوتارٌ زائفة تعْزِف قيثارة التحمّل بأصابع الهروب.

توسل الكاتب الأسلوب الخبري؛ لأنه يتماهى مع طبيعة النص الوجدانية. وقد هيمنت الجمل الفعلية على النص؛ الأمر الذي خلق حيوية وحركية داخله .

وإذا كان الأسلوب الخبري يتسم بثبات المعاني وتقريرها، فالأسلوب الإنشائي يتصف بحركية الدلالة وحيويتها، وهذه المزاوجة تساهم في تنامى حركية الشعر، وتنشيط دلالته، وتبين دورها البارز في كشف جماليات العمل الإبداعي.

إن التنويع بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي في بنية القصيدة، يجعل القارئ يشارك الشاعر أفكاره ومشاعره، ويثير ذهنه وانتباهه، ويبعد عنه الملل.

ويلحظ المتلقي أن أغلـب مفردات النص الشعري لا تتسم بمحدودية الدلالة، فهي قد تتعدى محمولها الدلالي الأساسي إلى مجالات دلالية أخرى إن لم يؤطرها الشاعر بما يقصر دلالتها على الهدف الـذي يرمـي إليه([6]).

يلحظ المتلقي في ديوان الشاعر أن الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي لا يشغلان مساحة لها قيمتها الفنية والجمالية في الديوان إلا في حدود ضيقة، كما أن القارئ لا يسمع إلا صوتاً أحادياً هو صوت الذات الشاعرة –وحدها- التي تُعنَى بكشف دواخلها النفسية ومعاناتها، ولا يَستمع إلى أصوات شعرية أخرى يتمخض عنها صراع درامي، يعمّق المعنى، ويزيده ثراء، تُجسد فيه الأصواتُ لوعةَ الفراق ومرارة الحنين، وعذاب الخيبة.

وفي ختام هذه القراءة النقدية للديوان الثاني للشاعر محمود البسيوني (أضغاث عتاب) أعتقد بكل اقتناع واطمئنان أن هذا الديوان في تقديري إبداع شعري ذو قيمة ومكانة طيبة.

وهو ديوان يمثل بالفعل تراتيل أطياف عشق.. وترانيم عتاب.. يشدو بها شاعر عاشق مبدع، وقصائده ورودٌ يانعة أبدعها شاعر مقتدر؛ ففي كل قصيدة يجد المتلقي نفسه أمام لوحة نغمية قليلة الأصوات لكنها شديدة الإشعاع والبوح رسمها مبدعها بإتقان وبراعة؛ لتفتح أمام القارئ أبوابَ أمل وحب ووصال لا ينتهي، وأتمنى للشاعر مستقبلاً واعداً بعطاء ثري، وإبداع متجدد.



[1] ) هو أديب، شاعر وروائي، عضو اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين بغزة، صدر له ديوانان هما: حديث المجدلية2020، وأضغاث عتاب 2021 م، ورواية وحيدة بعنوان: (أعجازُ حبٍ خاويةٌ) مكتبة سمير منصور، ٢٠٢٢م بغزة.

[2] ) ديوان حديث المجدلية، محمود البسيوني، دار الكلمة للنشر والتوزيع ، غزة، ط أولى، ٢٠٢٠م، ص: ٨١ ، ٨٢.

[3] ) التناص مع القرآن الکريم في الشعر العربي المعاصر ، جربوع، عزه ، مجلة فکر وابداع،2004م العدد13 ، ص: 134 .

[4] ) ينظر: شعر إبراهيم ناجي، دراسة أسلوبية بنائية، سعد الجبار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008 ،ص: 109.

[5] ) ينظر: متتالية التجديد سوسيولوجيا الثبات والتحول دراسات في الشعر السعودي الحديث : الثبيتي أنموذجا، حسن مشهور ، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، ١٤٣٧ ه ٢٠١٦ م، ص: ١٢٦.

[6] ) الأسس الجمالية في النقد العربي: عرض وتفسير ومقارنة، عز الـدين إسماعيـل، دار الفكـر العـربي، ١٤١٢ه/ ١٩٩٢م، ص: ٩٦.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف